التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الباب الأول انهيار النظام

انهيار النظام

* الانهيار من الداخل:

الأزمة: كانت السياسة الإصلاحية على صعيد الاقتصاد هى أقوى دعامة مادية  للحكم الناصرى وللأفكار الناصرية. وقد قدمت الدولة فى أوائل الستينات كثيرًا من الخدمات للفقراء ، خاصة عمال الصناعة. إلا أن الرياح لم تسر بما تشتهى السفن. فرغم المعونات الخارجية الضخمة، لم تنجح خطة 1960-1965 فى تحقيق كثير من الآمال التى بنتها الحكومة عليها، وقد سبق تحليل ذلك. وقد انعكس الفشل الاقتصادى على مستوى المعيشة ، وأنهيت خطة 1960-1965 دون أن تنتهى، إذ لم يتم إنجاز كل مشروعاتها، وكانت قد مُدَّت ثلاث سنوات إضافية، إلا أن أزمة التمويل قد أجبرت الحكومة على وقف المشاريع التى لم تُستكمل، أو تأجيلها، وأُلغى بالطبع مشروع الخطة الخمسية الثانية.

خلال الخطة الخمسية حقق الناتج القومى زيادة سنوية بلغت فى المتوسط  5 %– 6 % ، أما فى 67-1968  فحقق الناتج الإجمالى نقصًا مقدارها –1% (وبالأسعار الثابتة يساوى –2.5%)[1]، كما تناقص معدل الاستثمار من الناتج القومى من 17.7% عام 64/1965 إلى 11.9% عام 67/1968[2]. ومع ذلك أخذ المخزون السلعى من المنتجات الحديثة يتراكم ابتداءًا من 1965:

 

المخزون السلعى من بعض المنتجات

فى أواخر 1966

20 ألف جهاز

تلفزيونات

3321 جهازًا

ثلاجات

5819 جهازًا

غسالات

    

ومنذ 1965 تدهورت إنتاجية الأرض سنويًا بمعدل 0.45% بسبب إهمال الدولة لمشاريع الصرف. كما ازدادت حاجة البلاد من المستوردات الغذائية بدرجة ملموسة، بينما راح استهلاك الفرد من المواد الضرورية يتناقص فى 66/1967:

 

معدل انخفاض استهلاك الفرد فى 1966[3]:

18.4   %

الأرز

17.7  %

العدس

5.2    %

الخضروات

2.3    %

كيروسين

9.5    %

منسوجات

 

وقد تدهور الاستهلاك فى العام التالى بنسبة ملموسة[4]، وكان من نتائج سياسة التشغيل الناصرية والتوسع السرطانى للقطاع غير المنتج أن ارتفعت القوة الشرائية النقدية للجماهير دون زيادة مماثلة فى الناتج السلعى، مما أدى إلى نمو السوق السوداء.

وشهد عام 64-1965 ارتفاعًا ملموسًا للأسعار، فحسب تقرير البنك المركزى، ارتفع الرقم القياسى لأسعار الجملة من 453.2 فى ديسمبر 1964 إلى 486 فى ديسمبر 1965 (1939 = 100)، أما الرقم القياسى لمستوى المعيشة فارتفع من 338.6 إلى 377.1[5]. وفى نفس الفترة بدأت نتائج سياسة الإسكان فى الظهور ثم استفحلت؛ إذ ظهرت أزمة المساكن. كما بدأ نصيب الفرد من الخدمات يتدهور أيضًا، خاصة فى مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، ولم تعد الدولة قادرة على مواصلة تقديم إعاناتها الاجتماعية بنفس القدر.

ومقابل هذا التدهور فى أحوال الفقراء  حقق رجال الأعمال أرباحا طائلة على حساب قطاع الدولة الاقتصادى. فشهد منتصف الستينات انتعاشًا كبيرًا فى تجارة الجملة ، كما انتعشت أعمال السمسرة، وحقق المقاولون أرباحا طائلة خلال الخطة الخمسية.  كذلك أخذ القطاع الخاص الصناعى فى النمو بمعدل يفوق معدل النمو الصناعى العام. وهذا يعنى أن الأزمة قد ألقت بأعبائها بدرجة أكبر على قطاع الدولة، ومن خلاله على الجماهير .

وبالإضافة إلى قطع معظم المعونات الغربية فى 1964-1965 وضخامة أعباء حرب اليمن ، نتج عن خطة 1960-1965 عجز ضخم فى ميزان المدفوعات والميزان التجارى، مما دفع الحكومة إلى التوقف عن تسديد ديونها للغرب، خاصة أن قطاع التصدير لم يستطع أن ينمو بشكل ملموس. وبذلك أصبحت البلاد مواجهة بعجز خارجى وداخلى ضخم ومتراكم ولا ينتظر نهاية، خاصة أن الدولة قد باتت مثقلة بالديون ومثقلة بقوانينها الإصلاحية (تشغيل العاطلين – تعيين الخريجين – تقديم خدمات مجانية عديدة …) . وقد اكتشفَت أخيرًا أن الإمكانيات الذاتية لرأس المال المحلى أعجز من أن تضمن له مواصلة السير، ولذلك بدأت – كما سنرى بعد – تفكر باهتمام فى استدعاء رأس المال الأجنبى الخاص من جديد.

 

عودة الصراع الاجتماعى :

فى الماضى كانت الناصرية تحمَّل رجال الأعمال مسئولية ضعف الأداء الاقتصادى. ولنتذكر عنف الهجوم على الرأسمالية فى بداية خطة 60-1965، والذى تم فى سياق تبرير فشل خطة 57-1960 وتدهور مستوى معيشة الجماهير فى ذلك الوقت. أما وقد قادت بنفسها عملية التنمية فى سنوات 60-1965، فقد أصبحت أقل قدرة على اتهام "الرأسمالية" بالمسئولية عن الفشل الاقتصادى. ومع ذلك لم تعترف أبدًا بفشلها، بل – على العكس – أصرَّت تمامًا على إدعاء نجاح خطتها الاقتصادية واشتراكيتها .

ورغم هذا وذلك كانت الوقائع المريرة واضحة للجميع، ذلك أن التناقضات الاجتماعية، التى خففت إجراءات 1961 من حدَّتها راحت تستعيد قوتها ، مضافًا إليها أزمة اقتصادية  كانت تزداد حدة، وتدفع بالصراع الاجتماعى مرة أخرى إلى مقدمة الأحداث. كما كان الجمهور  كان قد بدأ يتململ من التجربة ككل، ولا يرى فيها الحل المنشود، خاصة أن أخبار الفساد المستشرى داخل جهاز الدولة – وبخاصة فى الجيش – لم تكن خافية، بل بالعكس كانت واسعة الانتشار لدرجة أن بعض  قواعد النظام نفسها قد تصدت للفساد. وعلى سبيل المثال دفع اغتيال عائلة الفقى لعضو "الاتحاد الاشتراكى" صلاح حسين فى 1966 الدولة إلى تخفيف الرقابة على الصحف بضغط صحفىّ النظام أنفسهم ، فأثيرت قضايا الفلاحين على صفحات الجرائد ونشطت أقلام الكتاب الناصريين منادية بتصفية كبار ملاك الأراضى وتوزيع الأرض على الفلاحين، وتكشف عن معاناة عمال التراحيل وتفضح دور مقاولى الأنفار… الخ. وقد شهد منتصف الستينات عددًا من الهبات الشعبية: فى دمياط 1965، بورسعيد 1966، حلوان 1966، كمشيسن 1966، بالإضافة إلى جنازة مصطفى النحاس، التى رفع فيها المتظاهرون شعارات معادية للناصرية واشترك فيها – حسب تقدير رفعت السعيد – عشرة آلاف من المواطنين[6]. كما بدأ بعض أعضاء الحزب الشيوعى المصرى المنحل فى إعادة تنظيم أنفسهم، ونشطت حلقات يسارية عديدة حتى داخل "الاتحاد الاشتراكى" نفسه" كما انخرطت أعداد متزايدة من المتعلمين  فى صفوف "الإخوان المسلمين" كتعبير عن رفضهم للناصرية، بل و اتخذت الدعوة الإسلامية شعارات أكثر راديكالية من ذى قبل.

وعلى الشاطئ الآخر، بدأ رجال الأعمال يردون الصاع للناصرية. وكانت الستينات قد شهدت عملية تزاوج سريع بين رجال الدولة ورجال الأعمال، فتحول كثير من الناصريين إلى رجال أعمال والعكس بالعكس، مما خلق أساسًا ماديًا قويًا لانهيار الناصرية، و أدى إلى تغلغل الأفكار الليبرالية ( الاقتصادية طبعاً) داخل جهاز الدولة ذاته ، ولم يكن  هجوم عبدالناصر المتكرر على ما أسماه "بالثورة المضادة" و "اليمين الزاحف"، واتهامه لما أسماه "بحزب اليمين" بأنه ينظم نفسه جيدًا، إلا تعبيرًا عن إحساسه باتساع النفوذ السياسى لرجال الأعمال وقدرتهم على التأثير فى الجماهير. وقد انقسمت البيروقراطية الناصرية نفسها، مع عودة الصراع الاجتماعى إلى الاحتدام، إلى قطاعات " يسارية"، أى مؤيدة للسياسات "الاشتراكية" ، وتمثلت هذه فى كبار رجال الدولة من شاغلى أكبر المناصب، والى قطاعات ُأسميت  " يمينية" أخذت تنتقد السياسات الإصلاحية الفاشلة وطالبت بالتخلى عنها كلية لصالح ااقتصاد السوق المفتوحة. وعلى سبيل المثال ُقدمت فى جلسة للبرلمان فى ديسمبر 1965 مقترحات بإعادة النظر فى التعليم المجانى بالجامعة (لم يطبق إلا منذ عام 1962)، وفى سياسة تعيين الخريجين. واقترح البعض تخفيض الأجور ورفع الأسعار … الخ. إلا أن هذه المقترحات هوجمت بعنف من جانب أغلبية الأعضاء واستعيض عنها برفع سعر البنزين فقط. كما اقترح رئيس الوزراء، زكريا محيى الدين إقرار سياسة انفتاحية تجاه الغرب لحل مشكلة التمويل وعجز المدفوعات، واتباع سياسة اقتصادية عملية تؤثر المنفعة الاقتصادية على المكاسب السياسية. ولكنه اضطر للاستقالة بسبب المعارضة القوية داخل النخبة  . كذلك أعلن وزير الإسكان عام 1965 فى جلسة خاصة لمناقشة سياسة الإسكان عن رأيه فى ضرورة تشجيع القطاع الخاص على بناء المساكن، بعد استفحال الأزمة.

 وقد أشار عبدالناصر نفسه مرارًا إلى تغلغل ما أسماه "بالثورة المضادة" فى الاتحاد الاشتراكى، ذلك أن الكثير من أعضائه قد باتوا من رجال الأعمال، كما استولى كبار ملاك الأراضى على أجهزته فى الريف بالكامل تقريبًا. ومع تَشكُّل منظمة الشباب، أصبح شائعًا فى قواعد الناصرية أن "اليمين" يحكم "الاتحاد الاشتراكى" و "اليسار" (قواعد الناصرية) يحكم منظمات الشباب.

موقف الدولة: إزاء هذا الاستقطاب الاجتماعى الواضح، والاستقطاب السياسى الآخذ فى الظهور استمرت القيادة الناصرية تلعب على التناقضات، محاولة إحكام سيطرتها على مجرى الأمور. وحيث أنها لم تعد تستطيع أن تقدم الكثير على الصعيد الاقتصادى، فقد بدأت تهتم أكثر فأكثر بأجهزتها السياسية وبأدوات القمع. وقد اضطرت تحت ضغط الأزمة  الاقتصادية والتوازنات الاجتماعية الجديدة، إلى التخلى – إلى درجة كبيرة – عن سياستها الإصلاحية، فأوقفت عمليات التأميم  وفرض الحراسات منذ 1964. وبالإضافة إلى هذا، لجأت الحكومة إلى رفع الأسعار، فحتى ديمسبر 1965 رُفعت الأسعار بـ 100 مليون جنيه، ورغم هذا أعلن عبدالناصر فى خطابه فى 23 ديسمبر 1965 أن هذا غير كاف، وأنه يريد 150 بدلاً من 100 مليون جنيه. وزعم أن ارتفاع الأسعار هو ظاهرة عالمية، وأنه من المستحيل فى ظل أزمة الدولة أن تعود الأسعار إلى ما كانت عليه فى 1961 (ألا يذكرنا هذا بخطاب الساداتيين فيما بعد ؟!). كما أعيد رفع ساعات العمل (عمليًا) لعمال قطاع الدولة. كذلك قررعبدالناصر ممارسة سياسة انفتاحية- و لكن على استحياء - من جديد، فأعلن فى حديث صحفى معه عام 1966 ترحيبه برأس المال الأجنبى وأنه لا يمانع فى وروده إلى مصر، وتقرر فى العام نفسه إنشاء منطقة حرة فى بورسعيد تكون مفتوحة أمام رأس المال الأجنبى وبدون رسوم جمركية، وقد مُنِحت الأولوية لمشروعات الفرز والتنظيف والخلط، وتقرر توجيه اهتمام خاص لتجارة الترانزيت. وكان الهدف هو تحسين ميزان المدفوعات، وقد أوقف المشروع بسبب حرب 1967. وإزاء المعارضة القوية التى وُوجه بها المشروع من قِبل الاتجاه الإصلاحى داخل النظام والرأى العام الناصرى نفسه (قواعد الناصرية)، أعلن عبدالناصر بنفسه أن إنشاء المنطقة الحرة "ليس خروجًا على الاشتراكية كما جاء فى بعض المنشورات، وان باب الاجتهاد مفتوح فى الاشتراكية وان المحظور الوحيد هو استغلال الإنسان للإنسان". كما أعلنت الدولة ترحيبها بالتعاون مع البنك الدولى من جديد، وقام "جورج وودز" مدير البنك بزيارة القاهرة فى 1966، وأعلن أن فترة الجفاف مع مصر قد ولَّت، وأن البنك يمكنه المساهمة فى تمويل المشروعات الجديدة، كما قال إنه "يتفق مع حكومة القاهرة على ضرورة الإجراءات الاقتصادية الأخيرة لمستقبل الاقتصاد المصرى"[7]. وفى المباحثات التى أُجريت تم بحث المشروعات التى سيمولها البنك بفوائد تتراوح بين 3/4 % (مشاريع البنية الأساسية) و5.5% للمشاريع المنتجة.

ومع ذلك لم تستطع الحكومة أن تسحب دفعة واحدة كافة المكاسب التى حصل عليها الفقراء من قبل، إلا أنها لم تقدم شيئًا يذكر كذلك، بل راح عبدالناصر يصرخ فى عمال حلوان (1966): "أريد كثيرًا من الإنتاج قليلاً من الفلسفة"[8]، وقامت السلطات بالقبض على كثير من العمال والمثقفين الناصريين ومن مدرسى "المعهد العالى للدراسات الاشتراكية" وبعض أعضاء منظمات الشباب فى 1966. وكانت قد حلت اتحادات الطلاب فى 1965 ولم يُعاد تكوينها إلا فى 1968. كذلك اُعيد اعتقال عدد من أعضاء الحزب الشيوعى، الذين لم يوافقوا على قرار حل الحزب لنفسه، وُصِّفيت فى نفس الوقت جماعة الإخوان المسلمين عام 1965 بطريقة بشعة، مما أدى إلى انخفاض اسهم الناصرية إلى حد ملموس وسط الجماهير.

ورغم هذا التراجع عن سياسة يوليو 1961، وممارسة قمع مباشر ضد المعارضة الشعبية غير المنظمة، سارت الدعاية الناصرية فى نفس الوقت يسارًا؛ فاشتد الهجوم على ما اُسميت بـ "الثورة المضادة" و "الرجعية"، وأقيمت منظمات الشباب على أساس ميثاق 1962، وسُمح لبعض الماركسيين بالعمل داخل "الاتحاد الاشتراكى" والمؤسسات الإعلامية والصحفية. كما شهدت تلك الفترة سيطرة ما يسمى باليسار الناصرى على قيادة كثير من أجهزة الدولة بشكل لم يوجد من قبل (بعد تصفية عدد من أعضاء "مجلس قيادة الثورة" المعارضين). وتم هذا جنبًا إلى جنب مع تغلغل العناصر المعارضة للإصلاحية ( اليمين الناصرى ) داخل نفس الأجهزة، فقد دفع التراجع الملموس للسياسات الفعلية سلطة الدولة إلى القيام بتغطية تراجعها بغبار من الدعاية اليسارية، وبدت كأنها تقيم توازنًا بين الممارسة والدعاية، وكانت المبالغة فى هذه اللعبة تدل على اتجاه النظام إلى التفكك. فالدعاية أخذت تستقطب مزيدًا من الشباب المتحمس ضد السياسة العملية للنظام نفسه، مما دفع هذا الأخير إلى تصعيد إجراءاته القمعية. وليس من الغريب أن امتلأت صفحات الجرائد والمجلات بالحديث عن الجنة الاشتراكية التى أقيمت فى مصر الناصرية، وبأشد الانتقادات الموجهة ضد البيروقراطية وما أُسميت "بالطبقة الجديدة"، وضد الفساد …الخ، فى نفس الوقت. ويتضح لنا هذا التناقض فى موقفين:

الأول: بعد مقتل صلاح حسين  ونمو نفوذ عائلة الفقى فى المنوفية، أثيرت المسألة الزراعية فى الصحافة الناصرية، فوجَّهت انتقادات لعلاقات الملكية ولقوانين الإصلاح الزراعى التى طُبَّقت من قبل، وطُولبت السلطة بتصفية طبقة كبار ملاك الأرض وحل مشاكل عمال التراحيل ..الخ. وتحت تأثير هذه الحملات وتذُّمر قواعد النظام نفسها قرر عبدالناصر تشكيل "لجنة تصفية الإقطاع" التى مثلت بعائلة الفقى، ووضعت 100 ألف فدان تحت الحراسة، وامتدت أعمالها إلى قطاع الدولة الاقتصادى أيضًا. ولكن جاءت النتائج النهائية لأعمال اللجنة بالغة الهزال وتوقف عملها قبل حرب 1967، بل وبدأت الدولة تعيد الأراضى مرة أخرى لأًصحابها.

والثانى: اضطر عبدالناصر تحت ضغط قواعد النظام (وهو عمومًا ضغط معنوى يعكس إمكانية حدوث تذمر شعبى أو تفكك النظام فى المدى الطويل)، إلى إصدار قرار بتأميم تجارة الجملة عام 1966 خلال ثلاث سنوات، ولكن لم يُنفذ هذا القرار، فاضطر إلى تجديده فى أكتوبر 1967 على أساس أن يُنفذ خلال 18 شهرًا، ولكنه لم يُنفذ أيضًا.

وإزاء تمزقها الداخلى اتجهت الناصرية إلى تشديد هجماتها الإعلامية على القوى المعادية فى الخارج: "الرجعية والامبريالية" وراحت تهتم أكثر فأكثر بتحقيق إنجازات خارجية، كآلية تعويضية لفشلها فى الداخل.

ويمكننا الآن تحديد اتجاه الناصرية إلى الأفول كالتالى: أثبتت السياسة الاقتصادية  فشلها فى تحقيق الأمانى التى بنيت عليها، بل وادت – على العكس- إلى ركود الاقتصاد وتفاقم عجزه. وأثبتت فى النهاية عجز النظام القائم حتى عن الاندماج فى السوق العالمى بالشكل الأمثل، وظهر للعيان مبلغ حاجته إلى دماء جديدة (حسب تعبير كبار رجال الدولة وقتذاك، وبالضبط وفقًا لتعبير السادات فيما بعد) ، واشتدت هذه الدعوة داخل أجهزة الدولة نفسها، ابتداء من منتصف الستينات خاصة. وقد أدى فشل الناصرية إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية: تدهور مستوى معيشة الطبقات الأدنى  وقوة قبضة كبار الملاك ورجال الأعمال وشعورهم بأن الوقت فى صالحهم وبأنهم – بالتالى – يحملون الرأى "الأصوب" الأكثر اتساقًا مع مسار ومصالح النظام الاجتماعى. وقد ترافق مع هذا تحول جوهرى أصاب البيروقراطية، وهو الاندماج القوى بين كثير من رجالها ورجال الأعمال، كما أشرنا من قبل. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية عادت الطبقات الفقيرة تعبر عن نفسها بقوة، وبدأ الصراع الاجتماعى يطفو على السطح، بل وبدأت الناصرية نفسها تتمزق بفعله؛  فتشترك فيه جماعاتها المختلفة (البيروقراطيون الصرف، رجال الدولة – رجال الأعمال، قواعد النظام المتحمسة، المثقفون الناصريون). وإزاء هذا راحت القيادة تبحث عن انتصارات خارجية ومعارك تستطيع أن تلجم بها الصراع الداخلى الآخذ فى التصاعد.


 

* الانهيار من الخارج:

حرب 1967

لا شك أن الناصرية لم تكن فى حال انسجام تام مع الغرب، كما لم تكن فى حالة حرب معه دا ئمًا. وهى قد حققت أو – بمعنى أصح – جاءت فى سياق تحقق الاستقلال السياسى المباشر لمصر ولدول الشرق الأوسط عن الهيمنة الفرنسية والبريطانية  دون أن تحل محلها الهيمنة الأمريكية المباشرة كاملة. وبهذا تحقق للولايات المتحدة نصف هدفها، خاصة أن الأنظمة المحلية لم تستطع بنفسها ملء "الفراغ".

ولهذا بالذات لا يمكن النظر إلى حرب 1967 خارج إطار الموقف الأمريكى، فالحرب، كما تشير كافة المعطيات المتاحة، قد تمت بمباركة أمريكية مباشرة . فمسار العلاقات بين اسرائيل والولايات المتحدة منذ منتصف الستينات يدلنا على مباركة الولايات المتحدة للضربة الاسرائيلية. هذا بغض النظر عن الوقائع المؤكدة  للتأييد الأمريكى لاسرائيل[9].

وهذا لا ينفى أن قرار الحرب المباشر كان قرارا اسرائيليا – كما سنرى بعد – إلا أننا لا نستطيع أن نفهم أحداث الشرق الأوسط إلا على ضوء فهم استراتيجية ومصالح القوى العظمى، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، بوجه عام وفى الشرق الأوسط نفسه، وبدون فهم طبيعة علاقة هذه الدول بالقوى المحلية .

وقد جاءت الحرب فى ذلك الوقت بالذات فى سياق محدد للعلاقات الدولية ولتطور الأوضاع فى الشرق الأوسط عموماً بالإضافة إلى دوافعها المحلية فى اسرائيل.

 

الأوضاع العالمية فى أواسط الستينات:

     سارت خطة الولايات المتحدة فى سياستها الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وعلى ضوء النتائج التى تمخضت عن الحرب على أساس :

1- الحلول محل الاستعمار القديم فى العالم الثالث، والسيطرة على أوربا نفسها.

2- إسقاط الأنظمة  "الاشتراكية" ، خاصة فى الاتحاد السوفيتى.

3- منع قيام ثورات شعبية أخرى.

     ولهذا مثلا لم تساعد فرنسا فى حرب الهند الصينية وفى حربها فى الجزائر، كما كان موقفها المعروف فى حرب 1956 كذلك خططت لإعادة توحيد ألمانيا تمهيدا لضرب الاتحاد السوفيتى، وأقامت الأحلاف العسكرية لنفس الغرض، واتخذت سياسة العداء المطلق للصين الشعبية.

     ولكن التفوق الأمريكى المطلق على أوربا والاتحاد السوفيتى لم يستمر. ففى الفترة الممتدة من نهاية الحرب وحتى أواخر الخمسينات كان هذا التفوق قد انكسر. فقد استطاع السوفيت إنتاج السلاح النووى والتفوق فى مجال الصواريخ الموجهة، كما أصبح حلف وارسو قوة عسكرية هائلة. أما أوربا الغربية فقد نجحت فى إزالة آثار الحرب وتحولت إلى قوة اقتصادية منافسة للولايات المتحدة. كذلك حققت الصين تطورا ملحوظا فى الاقتصاد وأصبحت قوة عسكرية يحسب حسابها.

     وقد أدت هذه التغيرات فى موازين القوى إلى عدة نتائج هامة:

1- الانفراج الدولى: أخذت الحرب الباردة تضع أوزارها منذ 1959، مع زيارة أول مسئول سوفيتى للولايات المتحدة ثم تبين ذلك عمليا فى أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، حيث ثبت أن سياسة الردع الشامل " الأمريكية غير ممكنة ولا مجدية، بل بالعكس ثبت أن درء الحرب النووية ممكن وأنه إيجابى لكل من الطرفين واستبدلت الولايات المتحدة هذه السياسة بسياسة " الهجوم المرن "، التى تضمنت إمكانية شن حرب نووية محدودة فى أوربا، أما فى العالم الثالث، فتعتمد على قوى محلية أساسا، مثل اسرائيل وجنوب أفريقيا وإيران وفيتنام الجنوبية، وراحت أمريكا تسلح هذه الدول . أما فى أوربا فأرجئ تسليح ألمانيا بل وبدأ الحوار بين الدولتين الألمانيتين عام 1966 كما أخذت العلاقات الاقتصادية بين شطرى أوربا فى النمو.. وباختصار انتصرت مبادئ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى[10].

2- الانشقاق فى حلف الأطلنطى : ابان سنوات الحرب الباردة، كانت فرنسا هى أكثر دول الغرب عداء للسوفيت، فهم الذين قدموا أكبر مساهمة لدعم الحركات الوطنية فى المستعمرات الفرنسية ؛  فى الهند الصينية خاصة. وقد هددت فرنسا مثلا بقطع علاقاتها مع الاتحاد السوفيتى إذا اعترف بحكومة الجزائر المؤقتة، ونفذت تهديدها بالفعل، كما قامت بتدريب قوات من ألمانيا الغربية فى أراضيها، وهذا تصرف كان فى حينه يعد عدائيا للغاية تجاه السوفيت. إلا أنه بعد تحرر معظم المستعمرات الفرنسية وانكسار التفوق الأمريكى المطلق فى أواخر الخمسينات تغير موقف فرنسا تماما، فقد عادت ألمانيا من جديد قوة اقتصادية جبارة، وأصبحت تمثل مرة أخرى قوة احتمالية مناوئة لفرنسا (التى سقطت فى أيدى الألمان ثلاث مرات خلال سبعين سنة). أما بريطانيا فلم تفقد فى الحرب كل شيىء إذ بقى فى أيديها بعض أوراق اللعب، وشكلت تحالفا  مع الولايات المتحدة . وفى مواجهة هذه التطورات راحت فرنسا تسعى لتكوين قوتها النووية الخاصة، رافضة التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ( وهو نفس موقف الصين) وظهرت الديجولية كدعوة لاستقلال أوربا عن الولايات المتحدة، ولذلك راح ديجول يتخذ إجراءات وسياسات متوازنة تجاه القوتين العظمتين وسياسية معتدلة تجاه العالم الثالث، فعارض التدخل الأمريكى فى فيتنام والدومنيكان والكونغو وقبرص، بل وأعلن انسحاب فرنسا من الجناح العسكرى لحلف الأطلنطى عام 1967، ثم أقام علاقات قوية مع شرق أوربا والبلدان "غير المنحازة"  فى العالم الثالث، مثل مصر وسوريا والعراق... الخ.

3- الانشقاق الصينى– السوفيتى : بسبب أوضاع شبيهة – بوجه عام – بوضع فرنسا تجاه الولايات المتحدة اضطرت الصين عام 1964 إلى شن سلسلة من الهجمات الإعلامية على الاتحاد السوفيتى، مما أدى إلى انشقاق كبير داخل الأحزاب الشيوعية فى أنحاء العالم، والى أزمة أيديولوجية عميقة داخل الحركة الشيوعية ككل.

فى ظل هذه النتائج الثلاث شنت الولايات المتحدة فى منتصف الستينات هجوما واسع النطاق داخل العالم الثالث، بهدف استعادة تفوقها المطلق المفقود. وقد قررت الاستفادة من الشقاق الصينى السوفيتى وجو التعايش السلمى مع السوفيت، لاستكمال وراثة مستعمرات أوربا ( خاصة فرنسا المتمردة )، واستكمال الحصار حول الصين، وإزالة آثار الحرب الباردة التى وضعت أوزارها، بإزالة الأنظمة المعتدلة فى آسيا وأفريقيا. وقد تمثل الهجوم الأمريكى فى :

- التدخل المباشر (عسكريا) فى الكونغو.

- تنظيم انقلابات عسكرية فى نيجيريا، داهومى، فولتا العليا، أفريقيا الوسطى، عام 1965 – 1966. وقد قامت ثلاث من هذه البلدان بقطع علاقاتها مع الصين بعد الانقلاب مباشرة. كذلك نظمت الولايات المتحدة انقلابا فى الكونغوكينشاسا ضد الحكومة الموالية لفرنسا وبلجيكا ( تشومى) بقيادة موبوتو . وكذلك فى غانا. كما نظمت المخابرات الأمريكية انقلابا عسكريا دمويا فى إندونيسيا ( ضد سوكارنو) عام 1966، قتل فيه مئات الألوف من الشيوعيين الماويين. وشهدت جواتيمالا هى الأخرى انقلاباً موالياً للولايات المتحدة عام 1965، وتبعتها اليونان (1967).

- أقيمت فى روديسيا عام 1965 جمهورية بيضاء بواسطة بريطانيا، مؤيدة من الولايات المتحدة، كما تزايد التسليح الأمريكى للبرازيل وفيتنام الجنوبية واسرائيل وإيران وجنوب أفريقيا، من أجل تنفيذ تكتيك " الحرب المحدودة ".

- تم تصعيد حرب فيتنام منذ 64 – 1965، فتزايد عدد القوات الأمريكية تدريجيا من 32 ألف حتى بلغ 527 آلف جندى عام 1966.

وقد وصفت صحيفة الايكونويست طبيعة وهدف هذا الهجوم الأمريكى قائلة : " إن شكل العالم فى 1945 لم يكن يدعو إلى الرضا وأنه كان دائما ينطوى على خطر التحالف بين الشرق الشيوعى والجنوب المتخلف ضد غرب معزول. ومهمة أواسط الستينات أن تصل إلى توازن جديد للقوى ، إنها فرصة لا يجب أن تمر" .

ولما كان الشرق الأوسط ضمن أهم مناطق الصراع الدولى، فقد قررت الولايات المتحدة إعادة ترتيب الأوضاع فيه، وقد أطلق تعبير " المثلث المضطرب" على المنطقة الواقعة بين طهران والدار البيضاء ومقديشيو منذ مارس 1967. وكوَّن الرئيس الأمريكى جونسون لجنة للإشراف على إخضاع هذا المثلث للولايات المتحدة.

فى هذا السياق بدأ الهجوم الأمريكى فى الشرق الأوسط.

 

اتجاهات الصراع فى الشرق الأوسط :

     تناولنا من قبل تطور علاقة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى بالشرق الأوسط ابان فترة الفوران القومى فى المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد خفتت حدة الصراعات العنيفة  بين مختلف التيارات والقوى فى الخمسينات بإقامة الوحدة المصرية السورية عام 1958 فتم بذلك إضعاف شديد للحركة الشيوعية العربية، كما وجهت لحزب البعث ضربات موجعة، كذلك سويت الأوضاع فى لبنان لصالح النظام الشهابى ، وبذلك سادت الناصرية على التيارات الأخرى فى المنطقة.  وبالنسبة للقوى الكبرى ، تم تحجيم النفوذ السوفيتى فى مصر والمشرق العربى واليمن، بينما لم تتخل الولايات المتحدة عن نفوذها القوى فى كافة بلدان الشرق الأوسط تقريبا وحين استقرت أحوال المنطقة نسبيا عام 1958 زال الخطر على مصالح الدولتين ، فمن جهة فشل مشروع حلف بغداد، وبذلك تخلص الاتحاد السوفيتى من خطر محاصرة حدوده الجنوبية عسكريا، ومن جهة أخرى فشلت محاولات إقامه أنظمة راديكالية فى الشرق العربى، خاصة العراق، وقد لعبت الناصرية بالذات دوراً هاما فى هذا الصدد، موفرة بذلك " الاستقرار" (بالمعنى الاستعمارى للكلمة) فى الخليج العربى. وبالرغم من عدم حل القضية الفلسطينية، تحققت حالة من السلام بفضل وجود قوات الطوارئ فى سيناء. وباستثناء صفقة الصواريخ (هوك) الأمريكية لاسرائيل (1962) حاولت السياسة الأمريكية إقامة نوع من "العدل" فى علاقاتها مع الدول العربية واسرائيل، أى العطاء بنفس القدر، فلم تتبن مثلا الأهداف الاسرائيلية الخاصة، بل وكانت قد لعبت دوراً مباشراً فى إفشال مخططات اسرائيل تجاه سيناء عام 1956 – 1957.

     ويمكننا إيجاز الإستراتيجية الأمريكية خلال - الفترة المذكورة - فى الشرق الأوسط فى ثلاثة أهداف.

1- ضمان بقاء أمن اسرائيل كحليف محلى رئيسى.

2- التخلص من كل من النفوذ السوفيتى ونفوذ الدول الأوربية الغربية فى المنطقة.

3- ضمان تدفق البترول إلى الغرب.

وكان قد تم تقليص النفوذ الأنجلو- فرنسى فى الشرق الأوسط كثيرا، خاصة بعد 1956.

 

الشرق الأوسط فى أواخر الستينات :

1-            صعود جديد للحركة القومية العربية:

شهدت المنطقة فى أواخر الستينات موجة جديدة للحركة القومية العربية، خاصة فى سوريا. ففى مواجهة إتمام اسرائيل لعملية تحويل نهر الأردن فى 1964، قامت سوريا بتحويل عكسى فى أراضيها، مما دفع اسرائيل إلى القيام بضرب مناطق التحويل فى سوريا، فتوقف العمل بها [11]. ومنذئذ راحت الحدود بين سوريا واسرائيل تشهد صدامات متزايدة. وفى الوقت نفسه كان النظام السورى يتحرك تدريجيا نحو اليسار، ففى أوائل 1965 صدر قرار بتأميم 160 شركة ومؤسسة، كما أممت التجارة الخارجية، وردا على إضراب قام به كبار التجار وكبار ملاك الأراضى ورجال الدين قام الجنود والعمال المسلحون بقمعهم، ونفذ حكم الإعدام فى 8 منهم . وفى أواخر العام قامت القيادة القومية لحزب البعث بطرد بعض الوزراء ممن أسموا أنفسهم بعد ذلك بالقيادة القطرية،  إلا أن الجناح اليسارى للحزب قام- بتأييد الحزب الشيوعى – بانقلاب مضاد فى فبراير 1966، واعتقل أعضاء القيادة القومية للحزب. و شكل الحكام الجدد حكومة بها وزيرين من الحزب الشيوعى، كما تم السماح لخالد بكداش بالعودة إلى دمشق[12]. وقد تمتعت الحكومة اليسارية بتعاطف شعبى بالغ[13]. وضمن إجراءات هذه الحكومة أن فرضت على شركات البترول أسعارا جديدة، فازداد دخلها من عمليات نقل البترول (وحصل لبنان على زيادة مماثلة)[14]. كما أعلنت الحكومة تبنيها لفكرة حرب التحرير الشعبية ضد اسرائيل، وقامت فعلا بفتح مئات من مراكز التطوع والتدريب العسكرى وأعلنت أنها ستتحول من الدفاع إلى الهجوم على اسرائيل. كذلك تبنت القيادة فكرة شن حرب فورية ضد اسرائيل لتحرير فلسطين، وفى هذا السياق سمحت لرجال المقاومة الفلسطينية بالعمل من أراضى سوريا، كما أمدتهم بالسلاح. ولإنجاح خطتها العسكرية، دعت الدول العربية للمشاركة فى الحرب، بل وراحت تهاجم الناصرية متهمة اياها بالتقاعس عن تحقيق هذا الهدف.

وقد تعرضت سوريا بعد انقلاب البعث اليسارى إلى تحرش معظم الدول المجاورة ومنها اسرائيل، التى قامت بشن غارات متكررة ضدها طوال عام 1966- 1967 جوا وبحراً وبرا (يوليو 1966، أغسطس 1966، إبريل 1967) وتكرر التهديد الاسرائيلى بإعلان الحرب على سوريا طوال 1966- 1967 وبالفعل قامت بحشد قواتها على الحدود السورية فى سبتمبر 1966.

وفى ظل هذه الظروف قامت الحكومة الناصرية بشن حملات إعلامية مستمرة ضد حكومة يسار البعث فى سوريا، بل راح عبد الناصر بنفسه يشهر بحزب البعث واصفا إياه تارة بالرجعية وتارة بالمغامرة.  

 فى نفس الفترة جرت محاولات عدة من قبل الأردن لضرب سوريا من الداخل، بل وحشدت قواتها بعد انقلاب يسار البعث ( كذلك فعلت تركيا، كما تحرك الأسطول السادس قرب ساحل البحر المتوسط ). وبالإضافة إلى ذلك مولت السعودية حركات المعارضة اليمينية فى سوريا، ولكنها فشلت فى إزاحة يسار البعث من السلطة، فتم اعتقال عدد كبير من المعارضين اليمينيين فى يوليو 1966، كما أحبطت محاولة انقلاب فى أواخر 1966 .و فى نفس الوقت حشدت كل من الأردن واسرائيل قواتهما على حدود سوريا، وقام الكولونيل "بروميدج" الذى كان يقود الجيش السعودى فى ذلك الوقت، وهو أكبر مساعدى الجنرال جلوب، بزيادة الأردن .

أما الأردن فقد شهد هو الآخر تصاعدا واضحا للمعارضة الوطنية. فقد بدأ سكان الضفة الغربية يتسلحون، وزادت هجمات الفدائيين ضد اسرائيل كما سارت المظاهرات احتجاجا على تجديد رئاسة "وصفى التل" للوزارة. وكان من تصاعد المعارضة أن هدد اشكول عام 1966 بدخول الأردن إذا وقع فيها انقلاب ناصرى، كما أرسلت السعودية 20 ألف جندى إلى هناك فى منتصف 1967 لحماية الملك من الجماهير الأردنية – الفلسطينية، ثم تم طرد السفير السورى من الأردن، ردا على تشجيع سوريا ودعمها للمعارضة الوطنية.

وللرد على غارات الفدائيين من الأردن شنت اسرائيل هجوما عليها فى
13/11/1966 بقيادة شارون، وتم تدمير قرية كاملة. ومما يدل على تصاعد المعارضة الشعبية أن سكان قرى الحدود رفضوا المعونات التى وردت إليهم من الحكومة وطالبوا بدلا منها بالسلاح، كما شهدت الضفة الغربية مظاهرات عديدة واسعة تطالب بالسلاح لمواجهة اسرائيل، بل وانضم إليها عدد من رجال الجيش والشرطة، مما اضطر الحكومة ذات مرة إلى إعلان حظر التجول فى نابلس.

وشهدت ليبيا صعودا مماثلا للمعارضة الوطنية، تمثلت فى مظاهرات الشوارع، ونسف أنابيب البترول وأعمال احتجاج أخرى متعددة، وقد طالبت الجماهير بإلغاء القواعد الأجنبية[15].

وفى 1964 أعلنت "الجبهة القومية" فى جنوب اليمن الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطانى وأخذت عملياتها تتصاعد بسرعة. كما شهدت الجزيرة العربية عددا من النشاطات الثورية الأقل حدة.

ومن الأمور الطريفة أن بعض حركات المعارضة اليونانية قد برزت، رافعة " شعار " الطريق الناصرى - اليونانى"[16]. رافضة للقواعد العسكرية الأمريكية ولاستمرار اليونان فى حلف الأطلنطى.

وكان من أهم علامات الصعود الجديد للقومية العربية هو الإعلان عن تكون منظمة " فتح " وبدء العمليات العسكرية فى يناير 1965. وقد كان لهذا تأثير كبير على المنطقة كلها، فهاهم الفلسطينيون يكونون قيادة خاصة ترفع لواء الكفاح المسلح، وتتحدى كل من اسرائيل والأنظمة العربية  التى لم يسمح أى منها للفدائيين بالعمل من أراضيه (باستثناء نظام الأتاسى فى سوريا فيما بعد فى 1966– 1967).

وكان لظهور " فتح " وبدء العمل المسلح باسمها ضد اسرائيل دور ملموس فى حفز الحركة القومية فى المشرق العربى، بل وكانت العامل الأساسى الذى دفع اسرائيل إلى الاعتداء المتكرر على لبنان والأردن وسوريا، كذلك سببت " فتح " إحراجا شديداً للناصرية، التى كانت لا تزال تعلن للعالم العربى أنها آخذة فى تجهيز نفسها لتحرير فلسطين ولكن لم يأت الأوان المناسب بعد. وفى الواقع كانت عمليات فتح ضد اسرائيل تجر الناصرية جرا إلى الحرب.

 

2- نمو نفوذ كل من الاتحاد السوفيتى وفرنسا :

شهدت العلاقات العربية السوفيتية فى أوائل الستينات نموا ملحوظا، وذلك بعد استقرار الأوضاع فى الشرق الأوسط فى 1958 – 1959. فتطورت العلاقات التجارية مع مصر وسوريا خاصة، كما استمر وازداد إمداد مصر وسوريا أيضا بالسلاح. وقد ارتفع حجم الوجود البحرى السوفيتى فى البحر المتوسط ، فحتى عام 1963 لم يكن يوجد للسوفيت أية قطع بحرية، وفى 1966 أصبح لهم 20 قطعة، ارتفعت فى 1967 وقبل حرب يونيو إلى 30 قطعة[17]. وقد ازدادت العلاقات مع مصر قوة منذ 1964 بفضل موقف الناصرية من أزمة الكونغو.

كذلك شهدت العلاقات العربية – الفرنسية تطوراً ملموساً فى أواسط الستينات، خاصة أن اسرائيل كانت قد اتخذت موقف الولايات المتحدة من الديجولية وشهرت بالرئيس الفرنسى وهاجمته. وقد شهد الشرق الأوسط زيادة فى عدد الدول المؤيدة للديجولية ضد سياسية الهيمنة الأمريكية، مثل مصر، وسوريا، الجزائر، قبرص. أما على صعيد التبادل التجارى فقد أصبحت الدول العربية تحتل المرتبة الثانية فى تجارة فرنسا، بينما احتلت اسرائيل المرتبة 49[18].

3- اسرائيل :

حتى أواسط الستينات، لم تكن اسرائيل قد حققت الكثير من أهدافها الاستراتيجية. وقد حرمتها الولايات المتحدة من تحقيق الكثير من جراء انتصارها فى 1956 على مصر وراحت، باستخدام المعونات، وبالتعويضات الألمانية تبنى اقتصادا متطوراً. إلا أنها بدأت تعانى من صعوبات ملموسة منذ 1965، خاصة مع انتهاء التعويضات الألمانية. فبلغ عجز الموازنة عام 1966 نحو 300 مليون دولار، كما بلغ عدد العاطلين 70 ألفا ( قدرهم البعض بأكثر من ذلك[19] )   ، بالإضافة إلى هجرة أعداد كبيرة إلى الخارج و تدهور حجم الاستثمارات مع انخفاض معدل ورود رأس المال الأجنبى، وشهد عام 1966 انخفاضا ملموسا فى معدل النمو[20]. هكذا عانت اسرائيل من الأزمة الاقتصادية. وقد ترافق مع هذه الأزمة (أو ربما ترتب عليها جزئيا) ازدياد قوة اليمين على حساب اليسار العمالى ويتضح ذلك من مراجعة نتائج انتخابات نوفمبر 1965، حيث أعيد انتخاب ائتلاف الماباى – أحدوت هاعفودا بأغلبية ضئيلة (49% بعد أن كانت 72%)، بينما حقق اليمين تقدما كبيراً، فحصل حزب حيروت والحزب الليبرالى على 26 مقعدا. وكان اليمين ينادى بشن حرب وقائية ضد العرب، بل أعلن  حزب حيروت ضرورة توسيع رقعة اسرائيل من النيل الفرات. وحسب ما رصدته الصحف والمراقبون السياسيون، ارتفعت نغمة الحرب فى اسرائيل فى 1966 – 1967، مع نمو هجمات " فتح " وبعد انقلاب الأتاسى فى سوريا. والملاحظ أن التصريحات المهددة بالحرب كانت موجهة ضد سوريا بالذات. فأعلن بيريز على سبيل المثال " إن الهدوء لن يعود إلى منطقة خط الهدنة بين سوريا واسرائيل إلا إذا سددت اسرائيل ضربة قوية بالقدر الكافى لإقناع السوريين بأنه لا جدوى من إثارتنا "، كما صرح أشكول فى مايو 1967" إنه من المحتم أن تحدث مواجهة خطيرة بين سوريا واسرائيل"، وبعد قليل صرح رابين : " إن رد فعل اسرائيل سيكون مختلفا عن الأعمال الانتقامية التى قامت بها فى الماضى ضد الأردن ولبنان " كما أطلقت تهديدات أخرى باحتلال دمشق وإسقاط النظام السورى.

وقد اعتادت اسرائيل أن تواجه الأخطار الخارجية بأعمال انتقامية حادة – نظراً لشعورها بالضعف الفسيولوجى كمجمع وكدولة - وفى منتصف الستينات باتت مدركة لضرورة الحرب لأمنها الداخلى بالذات . ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن اسرائيل كانت تهتم كثيراً بمسألة مياه نهر الأردن، وكانت قد بدأت مشروع تحويل مجرى النهر منذ الخمسينات، وفى الستينات استمر زعماؤها يعلنون إصرارهم على استمرار عملية التحويل حتى لو أدى الأمر إلى صراع مسلح [21] . كما حاولت مراراً الاستيلاء على الأراضى السورية المتاخمة لها، لضمان استمرار إمدادات المياه، ففى 1964 مثلا أرسلت جراراتها إلى تلك الأراضى المنزوعة السلاح  لزراعتها، كما زادت من أعمالها الاستفزازية ضد سوريا بعد قرار مؤتمر القمة العربية فى يناير ثم فى أغسطس 1964 تحويل مجرى نهر الأردن، وخاصة مع نمو العمليات العسكرية من قِبل سوريا وقيام الأخيرة بمحاولة فعلية لتحويل مجرى النهر.

أصبحت اسرائيل تتجه من جديد إلى الحرب، وقد هضمت القليل الذى  حصلت عليه من مصر فى 1956، وأصبح من الممكن لها أن تحقق قفزة جديدة على الطريق إلى أهدافها الاستراتيجية، خصوصا أنه قد تبين لها أن خطوة جديدة ليست أمرا ممكنا فحسب بل وضروريا أيضا لاستمرار نموها وتطورها واستقرارها. إذن كانت هناك أشياء كثيرة تدعو اسرائيل إلى شن الحرب : أهدافها الاستراتيجية فى الدرجة الأولى، أزمتها الداخلية، الأعمال الفدائية ، النظام اليسارى فى سوريا، وأخيرا التغيرات العالمية التى تمخضت عن الهجمة الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط فى أواسط الستينات.

 

4- الولايات المتحدة والشرق الأوسط :

مثلت اسرائيل للولايات المتحدة أهمية بالغة منذ تبنت الأخيرة نظرية الحرب المحدودة. فاسرائيل هى أكثر الأنظمة استقراراً فى الشرق الأوسط، كما أنها الأكثر كفاءة من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية بالإضافة إلى قدراتها الخاصة على القيام بدور عالمى " قذر " لصالح الولايات المتحدة .

وفى أواسط  الستينات حان الوقت الملائم من وجهة النظر الأمريكية لامتحان اسرائيل، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت قد قررت اقتحام الشرق الأوسط بالكامل. وقد بدأت – بالتعاون مع ألمانيا الغربية – بتزويد اسرائيل بشحنات ضخمة من الأسلحة، كما منحت الدول العميلة لها ودول الحلف الإسلامى أسلحة، فقدمت أسلحة للأردن عام 1964 بشرط تعهد الأخيرة بعدم عبور دباباتها للنهر، مقابل عدم اعتراض اللوبى الصهيونى فى الكونجرس على الصفقة[22]، كما منحت صفقة للسعودية وأخرى لإيران.  وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة قد أيدت مشروع الحلف الإسلامى، ان لم تكن هى التى أوعزت به . وقد أثار هذا المشروع حفيظة كل من مصر وسوريا، مما اضطر السعودية للتراجع. 

ويتضح لنا مدى عمق تغير موقف الولايات المتحدة من تعديل موقفها من حرب اليمن، ففى 1962 اعترفت إدارة كنيدى بجمهورية اليمن، ولم تعارض التدخل المصرى رغم اعتراض السعودية والأردن. أما فى 1965 فبدأت  تهاجم الوجود المصرى فى اليمن و تقدم المساعدات العسكرية للسعودية لمواجهة الناصريين، كما قدمت أسلحة للملكيين ، وذات مرة قامت الطائرات الأمريكية باستعراض قوة فى سماء السعودية لإرهاب الناصريين [23]، وبدا أنها قررت تصعيد القتال لتوريط الناصرية أكثر واستنزافها.

كذلك يمكن أن نتلمس مدى التغير فى المقارنة بين موقف الولايات المتحدة إزاء مصر فى 1956 وفى مايو 1967، ففى 1967 اقترحت تكوين قوة دولية لاقتحام مضايق تيران وإجبار عبد الناصر على التراجع (سبق تناول موقفها فى 1956).

 

5- الناصرية فى أواسط الستينات :

خلال نحو عشر سنوات أقامت الناصرية شبكة من العلاقات مع الحركات الوطنية المعتدلة، ومع الحكومات " المستقلة" فى العالم الثالث. كما أقامت سياستها على أساس الاستفادة من الحرب الباردة بين العملاقين، فاعتادت أن تحصل على المعونات من الشرق والغرب، وأن تحافظ على موقفها الدقيق فى الشرق الأوسط بين الاتجاهات العربية المختلفة .  وبالنسبة لاسرائيل، رسمت الناصرية سياستها على أساس أنها لا تعترف بهذه الدولة ولكن لا تحاربها سوى بالكلمات. وفى ظل السلام  تمتعت بالدلال فى علاقتها بالدول الكبرى من 1956 حتى 1965 ، مما ساعدها على القيام بدور كبير فى الشرق الأوسط، مساهمة  بذلك فى تحقيق نوع من الاستقرار والتوازن بين مختلف القوى السياسية فى المنطقة.

وقد استطاعت خلال الفترة المذكورة أن تنتزع ولاء الجماهير العربية وكافة التيارات القومية و الشيوعية، وذلك بتصدرها لقيادة الحركة القومية العربية والثورة العربية بلا منازع على حساب هذه الحركة نفسها، طارحة على نفسها مهاما لا تستطيع إنجازها، وعلى رأسها مهمة تحرير فلسطين .

إلا أن متغيرات كثيرة كانت قد جرت فى المنطقة خلال السنوات العشر المذكورة، بالإضافة إلى انهيار السياسة الاقتصادية الناصرية فى الداخل وتفشى الضعف فى نظامها السياسى. ففى مقابل عجز الناصرية عن تحقيق أحلام الثورة العربية، برزت قوى بديلة، أهمها منظمة " فتح "، التى رغم ضعفها العسكرى  عبرت بظهورها عن ضعف الأنظمة العربية، وعلى رأسها الناصرية. وكذلك لعبت حكومة الأتاسى فى سوريا دورا ملموساً فى فضح ضعف نفس الأنظمة. ومن الأمور الملفتة للنظر أن الناصرية كانت متخاذلة للغاية فى مواجهة هذا التحدى لقيادتها، فعلى سبيل المثال واجهت قيام اسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن بالدعوة لعقد مؤتمرات القمة (التى أشرنا إليها من قبل)، ملقية  بالمسئولية على عاتق العرب بوجه عام، رغم ادعاءاتها قيادتهم جميعا،  وفى مقابل ذلك كانت حكومة الأتاسى تدعو للحرب الشعبية وتقصف مستوطنات اسرائيل بالمدافع وتسمح " لفتح " بالعمل من سوريا، منتزعة بذلك قيادة القومية العربية من الناصرية. كذلك خلق قيام منظمة فتح بعمليات عسكرية من جبهة الأردن وسوريا، ومطالبة سكان الضفة الغربية بالسلاح، وضعا أوقع الأنظمة العربية جميعا فى حرج بالغ. وكان من الواضح أن ظهور " فتح " قد دفع الناصرية إلى تشديد هجومها الإعلامى على اسرائيل تدريجيا، كما كان الضغط السورى على مصر يتزايد بشدة، حتى داخل مؤتمرات القمة[24]. ومما له دلالته أنه بعد المعارك الدامية بين سوريا واسرائيل فى مارس 1967، أعلن عبد الناصر أنه لن يحارب " من أجل حادث جرار على الحدود" وفى أبريل 1967 أسقطت اسرائيل 6 طائرات سورية فى معركة جوية واسعة النطاق، فكان رد عبدالناصر " لن نحارب إلا إذا شنت اسرائيل هجوما شاملا[25]. ومن الطريف أن الحكومتين "الصديقتين" للغرب  فى السعودية والأردن مارستا ضغطا إعلاميا على الناصرية لدفعها إلى اغلاق مضايق تيران[26]. ولقد كان لهذا "الإحراج" دور هام فى دفع ناصر إلى القيام بمظاهرته العسكرية فى مايو 1967 كما اضطر فى النهاية إلى عقد اتفاقية للدفاع المشترك مع حكومة الأتاسى التى كثيرا ما وصفها بالمغامرة، ومنذ ذلك الوقت خفت حدة مهاجمته لحزب البعث، ثم توقفت.

وقد نجحت اسرائيل بدورها فى توريط الناصرية ؛ فهجماتها على سوريا والأردن لم تترك سوى الاختيار بين المواجهة أو التقهقر وراء الأحداث، وهو ما لم تكن الناصرية لتسمح به حتى النهاية.

وقد تزعمت الناصرية فكرة إقامة منظمة التحرير الفلسطينية ومنحتها إذاعة خاصة بالقاهرة فى مارس 1965. ورغم اقتراب الخطر، لم تحاول  تجهيز نفسها للحرب القادمة، رغم اعتراف عبد الناصر مراراً بأنه غير جاهز لمواجهة اسرائيل، إذ أن فساد الجيش كان فى أوجه وكانت القيادات العسكرية غير مستعدة لإجراء أية إصلاحات، فهى لم تتصور أصلا طبيعة الحرب المقبلة مع اسرائيل ومدى اقتراب ساعتها.

وقد أشرنا من قبل إلى انتصارات الملكيين فى اليمن عام 1964، وارتفاع الخسائر المصرية. وبدلا من أن تلجأ الناصرية إلى دعم القوى الراديكالية فى شمال اليمن وجنوبه، وجدناها- على العكس – تتبع سياسة تزيد موقفها نفسه حرجاً. وكان أن عرضت الصلح على السعودية عام 1965 دون جدوى، ذلك أن الأخيرة وجدت أن فرصتها قد حانت لتوريط الناصرية أكثر، بتأييد أمريكى واضح.

ورغم الاعتدال الواضح، ظهرت صعوبات حقيقية فى علاقة الناصرية مع الغرب فى 1964 – 1965. فقد بدأت الولايات المتحدة هجومها الكبير على البلدان المستقلة فى العالم الثالث، ومنها بلدان الشرق الأوسط، خاصة مصر وسوريا، وحتى على البلدان التابعة لانجلترا وفرنسا. ولم يكن من الممكن للناصرية أن تقف على الحياد إزاء هذه الهجمة الأمريكية فى العالم الثالث، بل ولم يكن من الممكن أن تفلت هى نفسها. باعتبارها نظاما يتمتع بالاستقلال السياسى- من الهجوم الأمريكى.

وقد شهدت أواسط الستينات تدهوراً فى العلاقات بين مصر الناصرية والولايات المتحدة، خاصة بعد تدخل الأخيرة  فى الكونغو. ففى 1964 قدمت الناصرية أسلحة للكونغو، كما قامت مظاهرة فى القاهرة، تتكون من عناصر الاتحاد الاشتراكى، بإحراق المكتبة الأمريكية، ثم قامت القوات المصرية بإسقاط طائرة أمريكية دخلت الأجواء المصرية "خطأ"، مما دفع جونسون إلى التهديد بقطع المعونات الغذائية عن مصر. وفى 23 ديسمبر 1964 رد عبدالناصر بأعنف هجوم له على الولايات المتحدة، فهاجم دورها فى الكونغو بشدة، كما دافع عن وجوده ودوره فى اليمن. وكان رد مجلس النواب الأمريكى بقطع معونات القمح عن مصر فى 26 يناير 1965، إلا أن الرئيس جونسون ألغى القرار فى اليوم التالى مباشرة بحجة التريث فى التعامل مع عبد الناصر، وُأرسلت بالفعل صفقة كبيرة من القمح فى أواخر 1965، بل ووافق جونسون أيضا على بيع القمح لمصر وفقا لبرنامج الطعام من أجل السلام، لمدة 3 سنوات أخرى. وقد أثار هذا القرار موجه عدائية ضد مصر فى الولايات المتحدة. ولكن انتهى الأمر بعد تصاعد المعارك الإعلامية بوقف معونات القمح تماما فى 1966.

وفى نفس السياق تدهورت العلاقات مع ألمانيا الغربية، اذ اعترفت الأخيرة باسرائيل فى مايو 1965 وعقدت معها صفقة أسلحة، فقامت الدول العربية بقطع علاقاتها مع ألمانيا، كما هدد عبد الناصر بالاعتراف بألمانيا الشرقية إذا تمت الصفقة، وقام فعلا بمقابلة مستشار ألمانيا الشرقية فى القاهرة، وكانت النتيجة قطع المعونات الألمانية عن مصر[27].

هكذا تدهور مركز مصر الناصرية لدى بعض من أهم بلدان الغرب .

يمكننا الآن تلخيص وضع الناصرية فى منتصف الستينات كالآتى :

1- أدى الفشل الاقتصادى ونمو التذمر والمعارضة الداخلية إلى حفز نزعة الناصرية إلى تحقيق انتصارات خارجية، رغم ضعف إمكانياتها فى هذا الصدد. وهذا يفسر- جزئيا على الأقل – ارتفاع نبرتها المعادية للغرب.

2- أدت التغيرات الدولية سابقة الذكر إلى ضغوط شديدة من جانب الغرب : اقتصاديا ثم عسكريا ( من خلال السعودية فى اليمن، ثم اسرائيل).

3- سبب تصاعد النـزعة القومية فى المشرق العربى إحراجا شديدا للناصرية وأجبرها على التعهد بمساندة سوريا ضد هجمات اسرائيل، رغم محاولات التنصل من ذلك مرارا والتهجم على الحكومة الراديكالية فى دمشق ( عام 66 – 1967) دون جدوى .

4-  استنزفت السعودية الجيش المصرى فى اليمن بشكل بالغ. 

5- قررت اسرائيل كما رأينا توجيه ضربتها، خصوصا إلى سوريا، بينما قررت الولايات المتحدة تصفية النظم المستقلة فى الشرق الأوسط ومنها الناصرية.

 

الحرب والهزيمة :

فى أوائل عام 1967، طلب الرئيس جونسون من السفير "جوليوس هولمز" إعداد دراسة عن التغلغل السوفيتى فى الشرق الأوسط، وجاءت الدراسة مشجعة لتوجيه ضربة فى هذه المنطقة[28]. والحقيقة أن تحول موقف الولايات المتحدة خلال عشر سنوات من محاولة إقامة علاقات متوازنة بين اسرائيل والأنظمة العربية (حتى المعتدلة منها)، إلى ترجيح كفة اسرائيل والمراهنة عليها دائما، هو أبرز تحول فى السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وكان هذا نتيجة تغيرات مهمة جرت فى العلاقات الدولية كما أسلفنا، ومع ذلك لا يمكننا أن ننظر إلى حرب 1967 دون الأخذ فى الاعتبار مصالح وظروف اسرائيل نفسها، التى أصبحت تملى عليها توجيه ضربة للدول العربية، ولسوريا بالذات فى ذلك الوقت. ولا ينبغى الاكتفاء برصد أحدث الفترة من أبريل حتى يونيو 1967، التى شهدت آليات اتجاه المنطقة إلى الحرب، ذلك أنه كانت تكمن وراء هذه الآليات مسائل عميقة فى استراتيجية كل من اسرائيل والولايات المتحدة. ورغم أن الناصرية قد ورطت نفسها، وساهمت فى توريطها حكومات عربية أخرى ، بدعوتها إلى سحب قوات الطوارئ وإغلاق خليج العقبة، إلا أنها كانت تعلم علم اليقين أنه لا تستطيع أن تحارب اسرائيل، بل وكانت الأخيرة تعلم هى الأخرى ذلك  [29]. وبغض النظر عن وجود حشود اسرائيلية على سوريا؛ تلك المسألة التى جرى الجدل بشأنها، فإن اسرائيل كانت قد هددت سوريا مراراً، كما دارت بينهما معارك عسكرية، واسعة النطاق أحيانا، خلال الشهور السابقة على حرب 1967. وكانت التحركات السورية تثير مخاوف الناصريين أكثر مما تثير مخاوف اسرائيل، مما اضطر عبد الناصر إلى مهاجمة حكومة الأتاسى كثيراً، ومع ذلك اضطر فى النهاية إلى عقد اتفاق دفاع مشترك معها والى إطلاق التصريحات الثورية فى أواخر عام 1966، حفاظاً على نفوذه المعنوى فى العالم العربى، وذلك بإثبات قدرته على استمرار القيام بدور زعامة الأمة العربية [30]. هكذا بدأت مخاوفه من اندفاع حكومة " البعث "  تتحقق . وبغض النظر عن مدى صحة  عنصر التآمر من جانب اسرائيل والسعودية والأردن، لتوريط الناصرية فى حشد الجيش وطرد قوات الطوارئ.. الخ، ينبغى أن نلاحظ عدم التناسب إطلاقا بين التصريحات (والشعارات) الناصرية والقدرة على تحقيقها، فإذا رجع المرء إلى الخطابات النارية والتصريحات الحادة لعبد الناصر ورجالاته قبيل الحرب، لعرف مدى عمق هذه الحقيقة. فالزعيم الذى هدد بضرب اسرائيل ومن هم وراء اسرائيل، كان يحتكم على جيش يبدو وكأنه ُأعد خصيصا لكى يهزم!. وهذه الفجوة بين الشعارات والقدرة على تحقيقها تبرز لنا على نحو صريح دور الناصرية الفعلى، فقد برزت فى حرب يونيو 1967 إلى أقصى حد حقيقة الناصرية أمام الجماهير (وحتى إذا اعتبرنا المظاهرة العسكرية فى مايو 1967 مجرد ورطة، فان وقوع الناصرية فى مثل هذا الفخ، وعجزها عن التخلص منه بأية طريقة، إنما يعبر عن مدى استعدادها الداخلى ونزوعها الخاص للانخداع بهذه الطريقة، خاصة أنها لم تكن أول ورطة من نوعها، إذ سبقتها ورطة اليمن). ويتضح لنا الدور الكبير الذى لعبته الهيبة والشعارات والخداع إذا تأملنا موقف الملك حسين من أزمة مايو 1967؛ فلم تكن للملك أية قدرة ولا مصلحة، فى ذلك الوقت، فى محاربة اسرائيل.ورغم الضغوط التى تعرض لها فى الداخل منذ منتصف الستينات، ظل مدة طويلة متسقا مع نفسه، بل وقطع علاقاته بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1966، وبذل أقصى جهده لإسقاط نظام الأتاسى، إلا أنه مع تصاعد المعارك بين اسرائيل وسوريا، وما صحابها من تأجج المشاعر الوطنية فى البلاد العربية ، بل واضطرار عبد الناصر لركوب الموجة الوطنية الجديدة، عرض الملك مساعداته على سوريا، ثم قرر إقامة تحالف مع الناصرية فى مايو 1967 خوفاً من عواقب الأمور[31].

ورغم هذا لم يكن الناصريون يعلمون تماماً أنهم سيهزمون بهذا الشكل، بل تصور زعيمهم أن الظروف الدولية ستخدمهم مرة أخرى، كما حدث عام 1956، أو أن المظاهرة العسكرية سوف تنتهى على حافة الهاوية مثلما جرى عام 1960. كما اعتقد  أنه يستطيع فى ظل ظروف 1967 بمظاهرته العسكرية أن يعوض نجمه الآفل، بل وربما تصور إمكانية إزالة آثار حرب 1956 بهذه الطريقة .  إلا أن كل الظروف – التى وضع نفسه فيها لمدة عقد كامل – كانت تدفعه لاستفزاز اسرائيل. لقد اضطر أن يبتلع شعاراته حتى الثمالة. وقد تجرع آخر قطرة بطريقة تلخص كل ما ذكرناه منذ قليل : إذ طلب سحب قوات الطوارئ من الحدود الدولية فقط وليس من قطاع غزة أو شرم الشيخ ، فُرفض الطلب بهذا الشكل على أساس أن مهام تلك القوات واحدة و هى مراقبة الحدود و ليست مهمه قتالية ، و على هذا الأساس فلا معنى لسحب أو إعادة توزيع جزء منها . و بذلك ُوضعت الناصرية أمام خيارين كلاهما مر ؛ فاما سحب قوات الطوارىء كلها أو سحب طلب إنسحابها الجزئى .. و كان من المستحيل الأخذ بالخيار الثانى بعد كل ما أطلق من تصريحات و ما تم من تعبئة القوات و الرأى العام ..الخ 

وفى الحقيقة تتحمل الناصرية مسئولية هزيمة 67 ؛ فالطريقة التى عولجت بها أزمة مايو 1967 بالصياح والتهديد والرغبة فى إيهام الجماهير بقرب تحقيق النصر والرغبة المحمومة فى تحقيق انتصارات خارجية ولو وهمية لتعويض الفشل الداخلى، كذلك اضطرار النظام لابتلاع شعارات رفعها دون أن  يكون قادرا على تنفيذها  .. تنم عن " المنطق الداخلى " لتكوين  النظام السياسى ، وبالتحديد عن التناقض بين مضمون وشكل الفكر الناصرى. كذلك كان الفساد المعمم الذى شهده الجيش، وعجزه عن خوض معركة عسكرية أصلا – بغض النظر عن هزيمته فيها – يعبر عن طبيعة الحكم الناصرى مباشرة. كان أن استجابة الناصرية لضغوط كل من القوى الوطنية العربية والحكومات المحافظة  وتورطها فى الحرب هو نتيجة لانتزاع الناصرية لزعامة الحركة القومية العربية دون امتلاكها للأساس المادى لتحقيق شعاراتها ( بالإضافة طبعا لتشوش الحركة القومية الضاغطة نفسها ) .  وأخيرا اتضح فى الحرب والهزيمة بشكل جلى ذلك التناقض العميق بين الدعاية الناصرية وممارستها الفعلية، فافتضاح الضعف العسكرى وربما ديماجوحية الدعاية، بل وكذبها المكشوف، والفساد المعمم، أدى إلى انهيار أسطورة عاشت عليها الجماهير لسنوات. وهذه الأسطورة كانت ناصرية خالصة . و كانت لحظة القمة لتناقض الناصرية قد تبدى فى البيانات العسكرية أثناء الحرب ؛ و التى كانت مخالفة ، بل مضادة للوقائع على طول الخط ، حتى ظهرت علامات الهزيمة مجسدة .

 

* النهاية :

تمهيد :

     رغم بذل الناصرية  كل جهدها لتجنب الحرب عمليا، فإن كل الظروف قد أجبرتها على تمثيل دور المناضل ضد اسرائيل. وقد فوجئت وهى تلهو بتحضير العفاريت بظهور هذه الأخيرة فى الواقع لا فى الخيال.. وهى تكون بذلك قد قادت نفسها إلى خسران جسيم، فهى لم تقاتل بحق ولم تنتصر، ففقدت كلا من الشهادة والنصر!.

     ومع إعلان هزيمة الناصرية فى يونيو 1967، خيم الحزن على مصر. إلا أن  كبار الملاك ورجال الأعمال، قد شعروا أن لحظتهم قد حانت، فانطلقت الإشاعات تدين موقف الاتحاد السوفيتى، وانطلق الهجوم على الناصرية ككل وسط الجماهير من منطلقات أكثر رجعية، وأصبحت هذه مطالبة بالتنازل عن العرش، خاصة أن الكتلة الأساسية من البيروقراطية الناصرية قد فقدت هيبتها فى الحرب، وسقطت معها هيبة النظام ككل.

     وإذا دققنا النظر بما أحدثته الهزيمة على الصعيد المادى المباشر، نجد أنها لم تدمر البيروقراطية الناصرية تدميراً ماديا، وإنما أضعفت – إلى حد كبير – جناحها العسكرى، وهو الجناح الأساسى. والأهم من هذا و ذاك أنها قد حطمت هيبتها فى العالم العربى ،  إذ أنها أثبتت فشل النظام كفكرة ؛ إذ انتصرت الصهيونية على الناصرية فى قمة نضجها، أى فى صورة دولة "الاشتراكية العربية" ، و لم تكن محض هزيمة عسكرية؛ فالأهم  كانت هى الطريقة التى هُزمت بها الناصرية و ما كشفته من اهتراء النظام و عظمته الزائفة .

     ولنعد قليلا إلى الماضى، فمنذ أوائل الخمسينات كانت عناصر البيروقراطية الناصرية تندمج عضويا برجال الأعمال وملاك الأراضى، بحيث أصبحت مجموعات رجال الدولة- رجال الأعمال، مع منتصف الستينات، تتحكم فى معظم أجهزة الدولة القاعدية، وتتغلغل فى الجيش والتنظيم السياسى. الا أن القيادات العليا للنظام لم تنغمس فى الفساد وجمع الثروات لأسباب تناولناها من قبل، كذلك لم ينغمس كثيرون من الناصريين العاديين فى هذه الأنشطة. وبذلك بات النظام منقسما من الداخل إلى يسار (ناصريين) ويمين (ناصريين – رجال أعمال، أو ساداتيين فيما بعد). وقد أدت هيمنة رجال الأعمال الناصريين المتزايدة- مع فشل الإصلاحات الاقتصادية للناصرية – إلى اشتداد الدعوة داخل الزمرة الحاكمة نفسها، إلى تصفية الاشتراكية الناصرية.. وقد تبينت قوة هذا الاتجاه فى توقف عمليات التأميم والمصادرة منذ 1964، وعجز الناصريين عن إجراء إصلاحات جديدة على نطاق واسع. كما أدت السيطرة المتزايدة والمباشرة لرجال الدولة – رجال الأعمال إلى نمو هيمنة الاتجاه الضاغط لحساب المصالح المباشرة للطبقة المسيطرة. وقد التقى هذا النـزوع مع حقيقة موضوعية جديدة وذات دلالة هامة، إذ أن المصالح العامة للطبقة المسيطرة كانت آخذة فى الاقتراب من مصالحها المباشرة، ذلك أن الطبقة المسيطرة راحت تعيد تنظيم نفسها وتطرح أفكاراً بديلة للأفكار الاشتراكية الناصرية التى فشلت، بدأت تجذب الجماهير ،التى راحت  تتخلىتدريجيا ً عن الأفكار الناصرية، بل وأصبحت تميل جزئيا إلى الالتقاء مع شعارات رجال الأعمال فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، والخلاصة أن الطبقات الأدنى لم تعد قادرة – كما كانت قبل انقلاب 1952 – على لعب دور مستقل مؤثر  كما فعلت من قبل، أى أنها لم تعد تمثل ضغطا  بالغا على النظام. وباختصار يمكن أن نقول إن الصراع الاجتماعى – السياسى قد عاد، ولكن توازن القوى عام 1952 قد اختل الآن لصالح الطبقة المسيطرة. ولم تعد الإصلاحية وشعار " المستبد العادل" يجدان كثيرا من الأنصار. لذا لم تعد المصالح الكلية لرجال الأعمال تتناقض كثيراً مع مصالحهم الفردية، وبالتالى لم تعد البونابرتية فى طبعتها الناصرية  تجد أرضا صلبة.

و كان للهزيمة تأثيرها الكبير ؛ فقد تعرضت الناصرية إلىاختبار عملى بالغ الصعوبة، وُهزمت هزيمة منكرة.. بل  كان الجانب العسكرى من هزيمتها من أسهل الهزائم فى التاريخ الحديث.

     لقد وجد رجال الأعمال و ملاك الأراضى  فرصتهم فى الهزيمة لتشديد هجومهم على الناصرية، واستطاعوا أن يجدوا الأرضية المناسبة، ذلك أن الجماهير قد فقدت الثقة فى النظام السياسى بكافة توجهاته، وأصبحت أكثر تقبلا لانتقادات أعدائه.. الذين تمثلوا أكثر ما تمثلوا فى رجال الأعمال ، بينما راحت جماعات اليسار الماركسى "الجديد"  تنمو  ببطء خارج الاطار الناصرى .

     وبعد الهزيمة جلس دايان ينتظر سماع  قرار عبد الناصر باستسلام نظامه.. أما فى الداخل، فقد راحت الطبقة المسيطرة تفرك أيديها طربا.. إذ بدا أن الناصرية قد سقطت إلى الأبد. ورغم أن عبد الناصر لم يتحدث إلى ديان مباشرة، إلا أنه قدم رداً أكثر ذكاءً. ففى خطاب  يوم 9 يونيو 1967 [32]. أعلن تنحيه عن كافة مناصبه الرسمية، موصيا بتولية زكريا محيى الدين رئيسا، وهو الشخص المعروف بميوله اليمينية، ولجأ " الزعيم " إلى الكذب  فى خطابه : فزعم أن العدو قد حارب بأكبر من إمكانياته، كما زعم أن أمريكا وبريطانيا تدخلتا مباشرة، وأن الجيش قد حارب " معارك رهيبة بالدبابات والطائرات".. " تحركت قواتنا المسلحة إلى حدودنا بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق " ولقد كانت الحسابات الدقيقة لقوة العدو تظهر أمامنا أن قواتنا المسلحة بما بلغته من مستوى فى المعدات وفى التدريب قادرة على رده وعلى ردعه" .. " كانت أمامنا عوامل عديدة وطنية وعربية ودولية... الرئيس جونسون.. الاتحاد السوفيتى.. طلب منا ألا نكون البادئين بإطلاق النار ".. " انتظرنا العدو من الشرق فجاء لنا من الغرب ".. " العدو حشد على الجبهة الأردنية وحدها ما لا يقل عن أربعمائة طائرة " !!.. " ولم تكن طبيعة الصحراء تسمح بدفاع كامل، خصوصا مع التفوق المعادى فى الجو".. " اضطرت قواتنا المسلحة فى سيناء إلى إخلاء خط الدفاع الأول ".. " استجبنا لقرار وقف إطلاق النار أمام تأكيدات وردت فى مشروع القرار السوفيتى الأخير المقدم  إلى مجلس الأمن وأمام تصريحات فرنسية بأن أحدا لا يستطيع تحقيق أى توسع أقليمى على أساس العدوان الأخير ".. " الأمة العربية قادرة على إزالة آثار العدوان ".. " وإنى لأعتز بهذا الجيل من الثوار ( يقصد جيله هو).. لقد حقق جلاء الاستعمار.. الثورة الاجتماعية.. السد العالى.. الانطلاق الصناعى.. " وما يزال هناك دور كبير مطلوب من العمل العربى العام، وكلى ثقة فى أنه يستطيع أداءه ".

     وعلاوة على كثير من الأكاذيب الفاضحة  التى تضمنها ذلك الخطاب، تضمن أيضا وعودا بتحقيق النصر، وألقى بالمسئولية على قوى أجنبية، أما النظام فعُدَّ سليما تماماً !! والأهم من هذا كله كان مغزى تسليم الحكم لزكريا محيى الدين.. أى الاستسلام الكامل للعدو كما كان مفهوما لدى الجماهير فى ذلك الوقت .

     وتفاصيل خروج الجماهير فى 9، 10 يونيو معروفة تماماً. أما مغزاها فهو الأمر الأهم : لقد خرجت الجماهير تطلب عودة عبد الناصر وهى فى الحقيقة لم تطلب عبد الناصر كشخص، أو عبد الناصر المهزوم، بل طلبت الاستمرار فى مواجهة العدو . أى عبد الناصر الشعارات.. عبد الناصر الصورة.. وهنا نلمس تماما كيف كان التناقض بين مضمون وشكل الناصرية يتحقق، فالجماهير راحت تتمسك بالشكل، لأنه شكل ثورى إلى حد ما، بينما كانت ترفض المضمون : نمو التخلف ..الديكتاتورية.. التخاذل أمام اسرائيل .  وهى بهذا كانت فى حقيقة الأمر قد خرجت محتجة على المضمون، وهى فى تمسكها بشكل الناصرية إنما كانت تحمل أشد العداء للناصرية فى حقيقتها الباطنية .. الرجعية .. الثورة المضادة . فعودة عبد الناصر مشروطة الآن بتحقيقه لشعاراته، وهى قد طالبته بهذا بالذات.  ولذا نقول أن جماهير  9 ، 10 يونيو قد خرجت ضد عبد الناصر الحقيقى، القائد المهزوم والمضلِل. ومن الأمور التى تبرز هذه الحقيقة أن جماهير 9، 10 يونيو هى نفسها قد وجهت، فور سماعها بأنباء الهزيمة، نقدها المرير للنظام الناصرى من حيث هو مؤسسات وسياسات واقعية.. إنها تريد الشعارات  متحققة، وتريد إزالة مضمون النظام الناصرى بالذات.

     ورغم افتضاح التناقض بين الشعارات والممارسة على نحو عميق للغاية غداة الهزيمة، أعادت مظاهرات 9 ،10 يونيو الطبقة المسيطرة إلى رشدها، اذ عادت حالة التوازن السياسى التى تحققت فى 1952 مرة أخرى، ولكن فى سياق مختلف تماماً، فى سياق الاستقطاب السياسى المتزايد بين القوى الاجتماعية ونمو قوتها المستقلة على حساب النظام السياسى، على حساب الناصرية، التى سعت دوما لقمع الاستقلال السياسى لكل طبقات المجتمع.

ولهذا استمرت الأخيرة فى الحكم.. ولكن على برميل من البارود.

وبالنسبة للانتلجينسيا و الطبقات الأدنى ، فقدت الناصرية كل هيبتها، فلم تعد تصلح للعب دور قيادى فى المجتمع.. ونقصد هنا بالضبط الناصرية كممارسة.. أى كسياسة متحققة وكفئة حاكمة، وما كان تمسكهم بعبد الناصر إلا لأنه كان القائد الذى رفع الشعارات الثورية طوال عقد كامل، ولأنه – وهذا هو الأهم – لم تكن توجد على الساحة المصرية أو العربية قيادة  تقدم نفسها كبديل. 

     أما بالنسبة للطبقة المسيطرة، فقد أصبحت الناصرية فى نظرها عظاما نخزة، خصوصا بعد تصفية النخبة العسكرية المترفة والفاسدة وإعادة بناء الجيش على أساس قتالى حقيقى، وعلى جبهة القتال بشكل أساسى، وانغماسه فى الإعداد النشط للحرب القادمة . وفى نفس الوقت أخذت أجهزة الدولة تزداد تفسخا وتتعرض للنقد المرير[33]. وفى النهاية لم تعد النخبة الحاكمة تحوز الكثير من أوراق اللعب.

 

تفاقم الصراع الاجتماعى ومحاولة تجاوزه :

     لم تعن عودة عبد الناصر إلى الحكم فى 10 يونيو 1967 نهاية الانتفاضة، بل على العكس، كانت هذه نقطة تحول هامة فى مجرى الصراع الاجتماعى - السياسى الذى كان قد بدأ يحتدم منذ منتصف الستينات. فكانت انتفاضة 9 ، 10 يونيو بمثابة ضربة مجهضة لرجال الأعمال[34]، ولكنها لم تنته بعودة الجماهير إلى أعمالها، كما لم تنه أحلام الطبقة المسيطرة فى استعادة السلطة. فمنذ الهزيمة لم تعد الطبقة المسيطرة ترى فى الناصرية بديلا مؤقتا عن الثورة، بل عقبة كؤود أمام مصالحها المباشرة، ذلك لأن عصر الثورة قد انتهى فى المدى المنظور.. أما الشعب فلم يعد يجد فى الناصرية بديلا حقيقيا لحكم الباشوات القدامى، بل بديلا ميتا لحكمه هو، ولكنه أفضل – على وجه العموم – من حكم الباشوات الوشيك. وبالرغم من تمسك الجماهير بعبد الناصر شخصياً كان الدافع الأساسى للانتفاضة هو رفض الهزيمة ورفض الاستسلام ، بطريقة لا واعية وعاطفية ، فقد أعيد عبد الناصر إلى الحكم لكى ُيجبَر على تنفيذ شعاراته، وكان هذا واضحا تماما فى لغة انتفاضة 9 / 10 يونيو، فعاد ناصر فى أضعف موقف لـه منذ انقلابه، ولم يعد  هامش المناورة واستغلال التناقضات الاجتماعية لديه كالسابق. وفى يونيو لم تكن الجماهير بقادرة على سد الفراغ الذى راح يتكون مع هزيمة الناصرية، ولذا كانت إعادة عبدالناصر بمثابة سد مؤقت ضد حكم الباشوات الجدد، فقد كان يمكن للناصرية أن تبتلع شعاراتها الثوروية من خلاله – كشخص - بالذات.

     وقد ذكرنا من قبل أن النظام الاجتماعى فى مصر قد بات يتحرك منذ يوليو 1952  بقصوره الذاتى. ونضيف الآن – بناء على التحليل السابق – لقد  باتت البيروقراطية الناصرية نفسها بعد يونيو 1967، تتحرك هى الأخرى بقصورها الذاتى ؛ بمعنى أنها لم تعد تملك المبادرة.

 

     بعد الهزيمة أصبحت الناصرية مضطرة إلى التخلى عن الكثير من شعاراتها الثوروية لصالح سياسات اعتبرتها " واقعية ". وكان التغير الأساسى يتعلق فى الحقيقة بتفادى التورط فى مواقف لا تتناسب مع سياستها و أهدافها  الحقيقية . يضاف إلى هذا أنها  قد اضطرت إلى أن تصبح أكثر تواضعا، حتى على صعيد أهدافها الفعلية، فقد أصبحت أضعف من أن تدافع عن وجودهاعلى جهة واسعة كما كانت تفعل قبل الهزيمة.

     ورغم أن الهزيمة وانتفاضة 9 ، 10  يونيو ادتا إلى تقوية الوجود السوفيتى المباشر فى الشرق الأوسط، خاصة فى مصر وسوريا، إلا أن هذا الوجود كان يرتكز على أنظمة مهزومة وما تـنفك تضعف، بل كان أهمها آخذا فى الانهيار (الناصرية).  وبالعكس صارت  الكفة أرجح  لصالح الولايات المتحدة، على الأقل من خلال اسرائيل المنتصرة، بالإضافة إلى ارتفاع أسهم الأنظمة العربية الأكثر محافظة  (السعودية مثلا)، على حساب الأنظمة المستقلة، التى قدمت (خصوصا الناصرية) تنازلات سياسية هامة، وبموافقة الاتحاد السوفيتى نفسه[35]. كذلك توثقت علاقة اسرائيل بالولايات المتحدة، واتخذت الأخيرة موقف التأييد السافر وغير المشروط – تقريبا – لاسرائيل، وتحققت درجة غير مسبوقة من التعاون بينهما.

     ومن الأحداث ذات الدلالة الهامة ما تم فى مؤتمر الدول العربية الذى انعقد فى الخرطوم فى أغسطس 1967. إذ تنازل عبد الناصر عن شعار " وحدة القوى التقدمية " الذى رفعه قبل الهزيمة بعام واحد، وعاد إلى خط " التضامن العربى "، بغض النظر عن طبيعة الأنظمة. كما تكون من جديد محور مصر – السعودية، وطالب عبد الناصر الملك حسين بالتعامل مع الولايات المتحدة والسير معها حتى النهاية على أمل أن تعيد له الضفة الغربية المحتلة، كما دعا الدول العربية إلى إعادة ضخ البترول الذى أوقفته بعد الحرب وذهب إلى حد مغازلة المصالح الأمريكية على طول الخط، محاولا تحييد [36]. أمريكا ( ومعنى هذا طبعا أن تقوم الأنظمة العربية – بشكل مباشر – بدور يعادل دور اسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة ). وفى الخرطوم، صفى عبد الناصر موضوع اليمن، فتوصل إلى حل وسط مع السعودية، يتم بمقتضاه انسحاب القوات المصرية من هناك مع عدم تدخل السعودية فى شئون اليمن[37]. كما تم الاتفاق على أن تدفع السعودية والكويت 110 مليونا من الجنيهات الاسترلينية  سنوياً لدول المواجهة.

 أما فى نوفمبر 1967، فقد وافق عبد الناصر على قرار مجلس الأمن 242، متراجعا عن قرارات مؤتمر الخرطوم، وقام وزير الخارجية بتبرير هذا القبول أمام البرلمان بحجة أن مصر قد اعترفت باسرائيل فعليا عام 1949 حين وقعت معها اتفاقيات الهدنة، ثم كرر نفس الفكرة أمام أحد الصحفيين الأجانب بعد ذلك[38]. وكان ضمن نتائج قبول مصر الناصرية للقرار 242 هياج الصحافة العربية الرسمية واليسارية ضدها وتردى نفوذ الناصرية فى الوطن العربى بشكل حاد، خصوصا فى الشام والعراق، وحتى تعرض هذا الموقف لانتقادات من قبل العناصر الراديكالية فى مصر بما فيها بعض قواعد الناصرية نفسها .

     منذ ذلك الوقت ُأسقط من القاموس الناصرى شعار تحرير فلسطين وحل محله شعار أكثر "واقعية"‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ هو: " إزالة آثار العدوان" ! أما عن رفض استخدام الدين فى السياسة الدولية فقد تنازلت عنه الناصرية، وبعد التحالف الجديد مع السعودية بدأ عبد الناصر ينادى بوحدة المسلمين مع المسيحيين ضد اسرائيل، ويتحدث عن خطر الصهيونية على الإسلام والمسيحية.

     وعلى الجانب الآخر، كانت حركة المقاومة الفلسطينية تنمو بسرعة، وحققت منظمة التحرير الفلسطينية درجة كبيرة من الاستقلال عن الأنظمة العربية، واستطاعت أن تتصدر العمل العربى ضد اسرائيل خلال عام 1967 – 1968 ( قدمت مثلا مساهمة مهمة مع القوات الأردنية فى معركة " الكرامة " فى مارس 1968)، مسببة إحراجا شديدا للناصرية، مما كان أحد أهم دوافع شن " حرب الاستنـزاف " فيما بعد .

     وفى الداخل بدأت قوى جديدة تخرج من تحت عباءة الناصرية ومن خارجها كذلك فتكونت عشرات  من الحلقات الماركسية واسترد الماركسيون القدامى بعض أنفاسهم، وانضمت لمنظمات الشباب أعداد غفيرة من الطلاب والمثقفين الناصريين اليساريين ، وقد لعب هؤلاء الشباب دورا مؤثرا للغاية فى التصدى لأفكار اليمين الزاحف، بل وفى الضغط على عبد الناصر نفسه . وعلى الجانب الآخر راحت أقلام "الليبراليين"  يتصدون للشعارات " الاشتراكية" وللاتحاد السوفيتى ، ونشأت حلقاتهم أيضا وانتشرت فى التنظيم السياسى وغيره (كان هذا واضحا تماما فى نادى القضاة ونقابة المحامين). كما أفرجت السلطات عن عدد من أفراد " الإخوان المسلمين " الذين راحوا ينتشرون مبشرين بنظام جديد ومتعاونين مع الفرس العربى الصاعد : العربية السعودية، ومدعومين بـنزوع دينى أخذ ينمو وينتشر وسط الجماهير عموماً، وبانتشار الخرافات والنزعة السلفية بين أفراد المجتمع عامة [39]. وقد تركزت دعاية اليمين ( بمفهوم ذلك العصر ) بوجه عام حول ضرورة  الانحياز  للغرب والتخلى عن الاشتراكية والقومية العربية.. ولم تكن قضية القومية العربية أو الاشتراكية قد ترسخت فى وجدان الجماهير ، خاصة أنها شعارات لم تتحقق ولم تكن مفيدة لهم. إذ فشلت الاشتراكية الناصرية.. ما فى هذا من شك، ولم يكن أحد ليستطيع إثبات عكس ذلك، خاصة أن أزمات السلع وارتفاع الأسعار والبطالة كانت ظواهر واضحة للعيان. يضاف إلى ذلك أن موقف الاتحاد السوفيتى لم يكن متفقا مع ما انتظرته منه الجماهير، مما أفقده الكثير من سمعته فى المنطقة.

     ولأن الجماهير قد تمسكت بعبد الناصر رئيسا، ووضعته أسيراً لشعاراته، فقد حبس الجميع أنفاسهم انتظارا لأول موقف منتظر : نتائج محاكمات قادة الطيران ؛ كبش الفداء الذى تم تقديمه لتحمل مسئولية الهزيمة. وجاءت الأحكام لا تتفق مع جسامة الاتهامات  فخرج الطلاب والعمال فى فبراير 1968 وجرت صدامات دموية مع الشرطة.. ضربت الجماهير مقر عبد الناصر بالحجارة لأول مرة، يوم 25 فبراير، وحققت انتصاراً "عسكرياً" على الشرطة ولم تسكت إلا بعد أن وُعدت بالاستجابة لكل مطالبها، وهى :

1- إعادة محاكمة رجال الطيران.

2- تحقيق الحريات السياسية العامة.

3- تسليح الشعب.

     جرت فوراً إعادة محاكمة لرجال الطيران، ثم صدر برنامج 30 مارس الشهير، وتم حل الاتحاد الاشتراكى وأعيد تكوينه بالانتخاب لأول مرة، كما تقرر جعل اتحادات الطلاب بالانتخاب الحقيقى لأول مرة أيضا منذ 1952[40]. وخففت الرقابة على الصحف، وبدأ لأول مرة اعتماد مبدأ الانتخاب فى النقابات العمالية منذ انقلاب 1952. إلا أنه لم تنفذ معظم بنود البرنامج تنفيذا فعليا قط.. وظل  - فى معظمه - حبرا على ورق.

     ولم تمض أشهر قليلة حتى جاءت انتفاضة أوسع فى نوفمبر 1968، إلا أن عبد الناصر كان قد أنشأ فرقا خاصة للقمع (الأمن المركزى)، مما مكنه هذه المرة من تحقيق انتصار " عسكرى " على العمال والطلاب. وقد تركزت شعارات المتظاهرين هذه المرة حول الحرب الشعبية (وهذا يعكس نفوذا قويا لجماعات اليسار الجديد) وإصلاح الاقتصاد، ومن أهم ما حيته الجماهير كان نضال الفدائيين الفلسطينيين. إلا أن الناصرية رغم انتصارها عسكريا اضطرت- درءا لانتفاضات أشد – إلى تقديم تنازلات هامة : حرية أوسع للصحافة، فتح حوار عام داخل التنظيم السياسى وفى الجامعات.. الخ [41]. ولم يخل الأمر مع ذلك من اعتقال وتعذيب بعض الشيوعيين القدامى و الجدد وعدد من أعضاء منظمات الشباب وغيرهم.

     وذرا للرماد فى العيون، قامت الحكومة بإنشاء لجان للدفاع الشعبى وما أطلقت عليه " لجان المواطنين من أجل المعركة" ، بديلا عن شعار تسليح الشعب.

     ومثلما استفادت القوى اليسارية  الشابة من إطلاق الحريات (جزئيا)، استفاد الباشوات الجدد والقدامى أكثر؛  فتم رفع العزل السياسى والإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين الذين اعتبروا يمينيين  ولعب الإخوان المسلمون دوراً فى تقوية دعاية هؤلاء ضد الحكومة. وصارت أفكار رجال الأعمال أشد قوة داخل أجهزة السلطة أيضا، فتبنى عديد من كبار رجال الدولة شعار " تصحيح الأخطاء"، قاصدين  ضرورة تغيير السياسة الاشتراكية  وإطلاق يد القطاع الخاص... وفى نفس الوقت تعرض قطاع الدولة الاقتصادى  للنقد الشديد على صفحات الجرائد، من الزاوية الاقتصادية، فتم كشف الكثير من أوجه القصور الإدارى والفساد ، هكذا.. كضربة فى الصميم لأهم الأسس المادية " للاشتراكية " الناصرية. كما تبنى الاقتصاديون الرسميون علنا الدعوة لتحرير القطاع الخاص من أجل زيادة الدخل القومى، ورُفع شعار " ضرورة إخضاع كل شىء لنمو الإنتاج " بما يعنى إنهاء السياسات الإصلاحية. وقد تحقق لرجال الأعمال كثير من المكاسب :

1- السماح للقطاع الخاص بتصدير كل السلع التقليدية منذ 1968.

2- السماح له بالقيام بعمليات استيراد مستقلة ( ومنحت لـه تسهيلات أخرى كثيرة فى هذا الشأن).

3- السماح للبنوك بفتح حسابات بالنقد الأجنبى للعاملين بالخارج (8/5/1968).

4- السماح لجهات أخرى غير البنوك فى التعامل فى النقد الأجنبى والشيكات السياحية.

5-  السماح لحائزى شهادات الاستثمار الصادرة مقابل أسهم بعض الشركات بالاقتراض من البنوك التجارية بضمان هذه الشهادات.

6-  التصريح للأفراد باستيراد سيارات الركوب  .

7- التصريح للأفراد بالاستيراد بدون تحويل عملة فى حدود 3000 جنيها للاستعمال الشخصى ( مصاعد – قطع غيار سيارات – آلات زراعية، وغيرها).

8-  صدر قرار بتسهيل استيراد سيارات الركوب للاستعمال الشخصى أو الهدايا.

9-  خفضت التعريفات الجمركية على بعض السلع الاستهلاكية، وخففت إجراءات الحراسة كثيرا، خاصة على الأراضى التى خضعت لإجراءات " لجنة تصفية الإقطاع". وتم الإفراج عن بعض أفراد عائلة الفقى سابقة الذكر .

10- تم تخصيص 80% من مقاعد الجمعيات التعاونية الزراعية لمن يملكون 10 أفدنه فأقل بدلا من 5 أفدنه فأقل، بينما  حظرت عضويتها على الأميين (80% من الفلاحين) (صدر هذا القرار عام 1969).

11-        أوقف النظر فى عديد من القضايا التى رفعت على أشخاص متهمين بإعداد وتنفيذ أعمال الانتقام من أعضاء الاتحاد الاشتراكى .

12-        السماح بدخول رأس المال الأمريكى والايطالى للاستثمار فى قطاع البترول بشروط أيسر مما فى السابق. كذلك اشتركت مصر فى البنك العربى الفرنسى عام 1970 وهو مخصص لتمويل التجارة بين فرنسا والدول العربية.

     أما الطبقات الأدنى فلم تحصل على مكاسب مهمة على الصعيد الاقتصادى، باستثناء قانون الإصلاح الزراعى فى يوليو 1968 ( تخفيض الحد الأقصى للملكية الزراعية إلى 50 فدانا للفرد، ( و مائة للأسرة ) وقد نفذ عام 1969. كما أصدر قرار عام 1968 بتأميم شركات المقاولات بالكامل وتجارة الجملة لم ينفذ أى منهما. وبضغط المثقفين اليساريين  تم تغير تعريف الفلاح واعتباره مالك 10 افدنة فأقل بدلا من 25 فدانا فأقل .

     والمعنى الجوهرى لهذه التنازلات للقطاع الخاص هو صعود رجال الأعمال " الناصريين " (الساداتيين فيما بعد)، وبوضوح أكثر تنامى النفوذ المباشر لأصحاب الثروات بصفتهم كذلك داخل جهاز السلطة وعلى حساب البيروقراطيين ، أى على حساب الناصرية، خاصة أن هذه الحرية الاقتصادية قد ارتبطت بحريتهم السياسية أيضا ونمو نفوذهم فى البرلمان (المؤثر، رغم ضعفه من الناحية الدستورية). فالصراع قد أصبح واضحاً بين البيروقراطيين الملاك والبيروقراطيين الصرف ( أو بين السادتيين فيما بعد والناصريين أو ما أسماه البعض اليمين البيروقراطى واليسار البيروقراطى).

     ويكمن المغزى الجوهرى لإطلاق الحريات السياسية – جزئيا– فى تقلص سلطة الناصريين لحساب كل الطبقات، وبالأخص الملاك ورجال الأعمال، لأنهم كانوا الأقوى سياسيا والأكثر تنظيما وهم الذى تغلغوا داخل أجهزة السلطة نفسها وكان فشل الناصرية سياسيا واقتصاديا، متبلورا فى الهزيمة والأزمة الاقتصادية، يفتح الباب أمام حلول أخرى ويمهد بقوة لظهور أيديولوجيا بديلة. وكان الحل الذى يتزايد قبوله على صعيد الشارع (وطبعا على صعيد النظام الاجتماعى وأصحابه ككل) هو حل رجال الأعمال : الانفتاح المباشر على السوق الدولى، التسوية مع اسرائيل، والليبرالية الاقتصادية، مع الأيديولوجيا الإسلامية.

     ومن الأمور التى تستحق الرصد أن النضالات الشعبية أصبحت تصب أكثر ما تصب لصالح الطبقة المسيطرة نفسها، فبقدر ما عملت هذه النضالات على إضعاف الناصرية وهز قواعدها وهيبتها، لم تعمل على تحويل هذا النفوذ لصالح الجماهير نفسها ، خاصة أنها لم تشكل  حزبا  فعالا ، كما أن – وهذه حقيقة ذات مغزى – قطاعا ملموسا من الطبقات الأدنى أصبح يميل مزاجيا إلى شعارات رجال الأعمال، عكس الحال فى الفترة السابقة على انقلاب 1952، التى شهدت نمو حركة جماهيرية مستقلة عن أحزاب النظام. فكان هذا التغير ضمن أهم " منجزات " الناصرية نفسها !، إذ أعادت قطاعات عريضة من الشعب  – قصدا وعمدا – إلى أحضان النظام الاجتماعى.. ذلك الذى كانت هى نفسه (أى الناصرية) ابنته غير الشرعية . ومن الملاحظ مثلا أنه حتى قضية الصراع ضد اسرائيل لم تطرح من قبل اليسار الراديكالى طرحا راديكاليا ً وتبلورت أساسا فى مسألة أراضى 1967 ، وخاصة أن الهزيمة العسكرية كانت قاسية جداً ،  كما نجحت الدعاية الرسمية إلى حد ملموس فى توجيه وعى الجماهير هذه الوجهة. ولم يتأخر اليسار الرسمى والسرِّى عن السير فى نفس الوجهة. فالحرب والسلام راحا يتوجهان منذ 1967 نحو استعادة الأرض وإزالة أثار العدوان " لا أكثر ! ورغم ذلك فقد شكلت تلك المسألة  ضغطا بالغا على الناصرية (خاصة أن اسرائيل لم تستجب لمبادرات التسوية السلمية)، دافعة إياها إلى الإعداد النشط للحرب. وكان فشل المحاولات السلمية المتوالية يؤدى إلى إثارة الطلاب ودفعهم إلى رفع شعارات وطنية متطرفة، مطالبين السلطة بالقتال، كمخرج وحيد من آثار الهزيمة وقد دفع ذلك -  بالإضافة إلى نمو دور المنظمات الفلسطينية – السلطة الناصرية إلى شن ما عرف بحرب الاستنزاف، التى تحققت خلالها بعض الانتصارات على العدو (مع هزائم عديدة بالطبع )، بل لقد بات مجرد قيام الجيش بشن هجمات على العدو – بغض النظر على نتائجها – يعد من قبيل الجماهير بمثابة نصر.

     ورغم انتشار نزعة جَلْد الذات  ارتفعت دقات طبول الحرب وسط الطلاب، بدافع اليأس أكثر مما كان بدافع الأمل، بل ان قيام المظاهرات بمناسبة الاحتفاء بدفن جثث قتلى المعارك كانت مناسبات لانطلاق ذلك الشعار المخيف للناصرين: الحرب الشعبية وتسليح الشعب [42]. ومن أكبر هذه المظاهرات جنازة عبد المنعم رياض، رئيس الأركان، وقد وصفها راديو اسرائيل كالآتى : "انقلبت جنازة عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصرى إلى مظاهرة كراهية ضد اسرائيل، وذلك حتى سار مئات الألوف من المصريين فى قلب القاهرة يهتفون بالانتقام، وقد ذهبت أدراج الرياح جميع جهود سلطات الأمن لإحلال النظام فى الجنازة واخترقت الجماهير صفوف الشرطة العسكرية مرة بعد أخرى. وسار عبد الناصر فى مقدمة الجنازة وبجانبه القيادة العليا بجيش مصر، ومثل الدول العربية كل رؤساء أركان جيش الأردن والعراق وسوريا.. وبعد الاحتفال الدينى الذى أقيم لرياض بالقاهرة، استمر الآلاف فى التظاهر فى الشوارع والهتاف : جمال.. جمال.. أعطنا السلاح.. نريد الذهاب إلى القناة"[43].

     وفى نهاية حرب الاستنزاف قَبِل عبد الناصر. - كما هو معروف – مبادرة روجرز الشهيرة، دون أن يحتج الطلاب، ولكنها أثارت موجة  استياء جديدة فى العالم العربى ضد الناصرية، وربما  كان هذا نفسه  ضمن أهداف الولايات المتحدة من طرح المبادرة[44]. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الجماهير فى مصر لم تقم باحتجاج يذكر فى مواجهة قبول قرار 242 لمجلس الأمن ولا لقبول مبادرة روجرز ولا لمشروع السادات عام 1971.. ولا لأية خطوة " سلامية " بما فى ذلك اتفاق  "كامب ديفيد"  فى 1979. وهذا أمر لـه دلالته اذا ربط  بعنف المظاهرات الوطنية المنادية بالحرب فى 68 – 73 ؛  فالمظاهرات الوطنية كانت تخفى وراءها مشاعر الإحباط واليأس، وكانت تعبر عن الغضب على النظام الاجتماعى برمته دون وجود تصور واضح عن بديل أفضل  ، فالاستياء كان موجها أكثر ضد عجز السلطة عن إيجاد حل سواء سلما أم قتالا لقضية احتلال الأرض، بدليل انه بمجرد توقف المدافع فى اكتوبر 1973 دون نصر حقيقى ظهر مدى التحول الحقيقى فى مشاعر الجماهير، التى باتت – فى مجموعها – أكثر محافظة  إلى هذا الحد أو ذاك.


 

[1]           مابرو – رضوان: المرجع السابق، ص 67.

[2]   Radwan S. : op. cit., p.208

[3]           ط. ث. شاكر: المرجع السابق، ص 122.

[4]           نفس المرجع، ص 123.

[5]           مجلة الطليعة، عدد فبراير 1967، تقارير الشهر ، ص 76.

[6]           مجلة "الطليعة"، عدد سبتمبر 1975: مصطفى النحاس .. السياسى .. والزعيم.. والمناضل.

 وقد قدر محمود حسين عدد المشاركين فى الجنازة بعشرات الألوف ، الصراع الطبقى فى مصر، ص 243 ( سبق ذكره ) .

[7]           الطليعة، فبراير 1966، تقارير الشهر ، ص ص 103-105.

[8]           محمود حسين : الصراع الطبقى فى مصر، ص 244.

[9]           أعلن أشكول بعد الحرب أنه كان مطمئنًا لحماية الأسطول الأمريكى، الذى تحرك قبيل الحرب قرب شواطئ اسرائيل. وأن هذا قد تم بناء على تأكيدات مباشرة من الرئيس الأمريكى جونسون. كما أن جونسون قد أمر ريتشارد هيلمز مدير الـ CIA قبيل الحرب بالتعاون مع اسرائيل فى ترتيب العمليات العسكرية ضد مصر.

[10]         نحيل القارئ إلى : د. السيد أمين شلبى : الوفاق الأمريكى السوفيتى 1963 – 1976 الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981.

[11]         منذر الجبورى : محنة فلسطين – أسراها ونتائجها، ص 447.

[12]         محمد نصر مهنا : السوفيت وقضية فلسطين، ص 39.

[13]      Arie Bober : The Other Israel, Anchor Books, Doubleday & Company , inc., Garden City, New York, 1972, pp. 215- 218

[14]         فؤاد مرسى : الاقتصاد السياسى الاسرائيلى، دار المستقبل العربى، ط2 القاهرة 1983 / ص 67.

[15]         مجلة "الطليعة" – عدد يونيو 1965، تقارير الشهر، ص ص 119 – 120.

[16]         لطفى الخولى : 5 يونيو – الحقيقة والمستقبل ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1974، ص 52.

[17]         عاطف الغمرى : خفايا النكسة – من المؤامرة إلى الوفاق، كتاب الإذاعة والتليفزيون، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973، ص 103.

[18]         المرجع السابق، ص 251.

[19]         قدرت البطالة بأكثر من 10% من قوة العمل عام 1966، وبـ 20% فى مناطق التنمية وبين اليهود الأفارقة والآسيويين. دافيد داوتنج – جارى هيرمان : حرب بلا نهاية وسلام بلا أمل، ص 127.

[20]         د. محمد المجذوب: أعمال اسرائيل الانتقامية ضد الدول العربية، منظمة التحرير الفلسطينية – مركز الأبحاث، بيروت 1970، ص ص 150 – 151.

[21]         على محمد على : نهر الأردن والمؤامرة الصهيونية ، الدار القومية للطباعة والنشر ( صدر عام 1963 )، ص ص 223 – 225.

[22]         مذكرات اسحق رابين.

[23]         أحمد عبد الرحيم مصطفى، المرجع السابق.

[24]         فى الحقيقة كانت سوريا هى الأخرى تنجر جرا إلى الحرب، تحت تأثير طوبوية وعصبية يسار البعث (حكومة الأتاس)، ولم تكن جاهزة " بأية حال لمواجهة اسرائيل ولا حتى جادة فى دخول المواجهة. وقد اتخذت موقفا مخزيا أثناء الغارة الاسرائيلية على الأردن فى نوفمبر 1966، فلم تتحرك قواتها قيد أنملة، مما دفع وصفى التل لمهاجمة سوريا ومصر ( وعدتا بتقديم حماية جوية فى مثل هذه الحالات ). (تريفور ن.  دوبوى : النصر المحيِّر  ، ص 265 – سبق ذكره).

[25]         مذكرات اسحق رابين.

[26]         كان موضوع وجود قوات الطوارئ الدولية فى شرم الشيخ وعلى حدود سيناء الشرقية أحد موضوعات حرب الكلمات بين الأردن ومصر الناصرية طوال عام 66  - 1967، وقد أرسل الملك حسين  لعبد الناصر رسالة حاويتها : " برغم أنك عبد الناصر فأنت لا تقوم بشن غارات على أيدى الفدائيين من الأراضى المصرية وأنت تعلم أن قوات الطوارئ تفصل حدودك عن الاسرائيليين، وبجانب ذلك فإنك ترسل إلى رجالا من منظمة فتح ليقوموا بعمليات من حدود الأردن، ومع ذلك لا تريد أن تساعدنى، بل لا تريد أن تغلق مضيق تيران فى وجه الملاحة الاسرائيلية ".

[27]         فى الحقيقة لم يعترف عبد الناصر بألمانيا الشرقية إلا عام 1969 . وجدير بالذكر أن صفقة الأسلحة الألمانية لاسرائيل لم تتم بسبب خوف ألمانيا من اعتراف الدول العربية بألمانيا الشرقية .

[28]         يبدو من متابعة الأحداث أن الولايات المتحدة كانت تشجع توجيه ضربة عسكرية ضد مصر ولكنها لم تكن تريد القيام بضربة ضد سوريا أو الأردن . وبالعكس كانت اسرائيل مهتمة أكثر بضرب سوريا والاستيلاء على الضفة الغربية ويبدو أن اسرائيل قد وجهت الضربتين معا ، كصفقة شاملة مع الولايات المتحدة.

وللاطلاع  على موقت الولايات المتحدة نحيل  القارئ إلى : مروان بحيرى : السياسة الأمريكية والشرق الأوسط : من ترومان إلى هنرى كيسنجر . فى: السياسة الأمريكية والعرب ، ص ص 47 – 71 (سبق ذكره ) . كذلك مصطفى علوى : السلوك الأمريكى فى أزمة مايو و يونيو 1967 . فى المرجع السابق ، ص ص 113 – 124 . و قد نشر محمد حسنين هيكل عددا من الوثائق التى تؤكد ذلك فى : الانفجار – حرب الثلاثين سنة -1967 ، مركز الأهرام للترجمة و النشر – مؤسسة الأهرام ، ط1 ، 1990 .

[29]         فى حديث صحفى مع اسحق رابين فى 22 ديسمبر 1967، صرح لصحيفة ها آرتز أن عبد الناصر قد نشر قواته إلى حافة الحرب دون أن ينوى دخول الحرب فعلا ، وإن اسرائيل كانت على علم بذلك .

Arie Bober :  op. cit. ,pp.  69 –80

[30]         علق دافيد داوننج وجارى هيرمان على هذا السلوك قائلين " وفجأة أصبحت الوحدة العربية حقيقية ماثلة : فاعترفت حتى الأردن والمملكة العربية السعودية بزعامة ناصر " ... " اكتشف الرئيس المصرى ناصر الذى كان قد أسكرته نشوة ظهوره المفاجئ من أغوار اليأس ، حياة جديدة فى الخطابة البلاغية القديمة " .. " وكان فى قراره نفسه يصلى لكيلا تحارب اسرائيل وألا ينخسها أحد للقيام بتوجيه الضربة الأولى على الرغم من أنه ينخسها هو باستمرار" . المرجع السابق ، ص 138 .

[31]         صرح الملك لأحد رجاله عند هبوط طائرته فى الأردن بعد مصالحته مع عبد الناصر : " اننى اليوم انتهيت من التأمين على حياتى". دافيد داوننج – جارى هيرمان : المرجع السابق ،ص 140 .

[32]         نُشر الخطاب فى : مصر والعروبة وثورة يوليو- سبق ذكره .

[33]         ضمن أهم الفئات المعارضة كان القضاة . وقد اشتد انتقادهم للناصرية بعد هزيمتها ، فهاجموا الفساد وشكل الحكم .. رافعين شعارات ليبرالية ، وتبلورت معارضتهم عام 1969 فى نجاح المرشحين لإدارة نأدى القضاة من بين الليبراليين وسقوط القضاة الناصريين ، مما دفع عبد الناصر لارتكاب ما عرف فيما بعد باسم مذبحة القضاء ، وجعل عضوية إدارة نأدى القضاة بالتعيين .

[34]         لا يمكن فى الحقيقة الحديث عن الطبقة المسيطرة فى مصر الناصرية كحزب منظم كما وصفها عبد الناصر مراراً ولكن من المؤكد أنها كانت تعبر عن نفسها سياسيا من خلال أشكال غير منظمة بالكامل ؛ كتلتها الضخمة فى البرلمان ، خاصة منذ 1964 ، وتجمعاتها المتماسكة للغاية فى التنظيم السياسى ، خاصة فى الريف ، ونفوذها القوى كمافيا فى مؤسسات الدولة ، بما فيها الجيش ووسائل الإعلام والقضاء بالإضافة إلى "شِللها" فى النوأدى . أما الطبقات الأخرى  فرغم أنه لم يكن لها أشكال سياسية مستقلة ، فقد عبَّرت عن نفسها من خلال تجمعات عمالية وطلابية غير منظمة تماما ، و حلقات صغيرة ، كما وجدت معبرين عنها داخل الاتحاد الاشتراكى وبالذات فى منظمات الشباب ، وكذلك فى اتحادات الطلاب بعد 1967 بالإضافة إلى الحلقات اليسارية شبة العلنية .

[35]         كان الاتحاد السوفيتى  يخشى" التطرف " فى الوطن العربى ، خاصة من اليسار " ويؤيد الناصرية فى مطلبها " للحل السلمى" ، وفى سياستها الكابحة لجماح الأنظمة العربية الأكثر راديكالية ، خاصة حكومة الأتاس . ذلك أن " التطرف " اليسارى – يحمِّل السوفيت مسئوليات أكبر ويورطهم فى مواقف لا تلائم استراتيجيتهم . لذلك أيد الاتحاد السوفيتى مجمل السياسة الناصرية لما بعد 1967.

[36]         فكرة محمد حسنين هيكل . وهى فكرة تبناها ودافع عنها كثيرا . ارجع إلى الطريق إلى رمضان ، ص 110 .

[37]         قبل انسحاب القوات المصرية ، قامت هذه بإيقاف الجماعات الراديكالية المؤيدة " لعبد الله جزيلان " ، لصالح " السلال " الأقل تطرفاً . وبعد الانسحاب وقع انقلاب عسكرى جاء بالايريانى بدلا من السلال ، وقد أيدت الناصرية الانقلاب فور وقوعه ، رغم أن السلطة آلت إلى نخبة من الجمهوريين القبائليين . ويبدو أن هذا كان المحتوى الضمنى على الأقل – للحل المتفق عليه فى مؤتمر الخرطوم.

            للتفاصيل نحيل القارئ إلى :

 Fred Halliday : op . cit, pp. 114 – 126

[38]         وقد علق بريما كوف وبيليايف على صلح مصر الناصرية والسعودية فى مؤتمر الخرطوم كآلاتى : " كان الملك فيصل يبتسم ابتسامة متحفظة ويملى شروط تقديم العون المأدى الذى كانت تحتاجه القاهرة بشدة، هى وعمان ودمشق . ولم يحاول فيصل أن يخفى أنه طار إلى العاصمة السودانية من أجل أن يحصل على استسلام المصريين فى اليمن " . المرجع السابق ، ص 307 .

[39]         فلنتذكر الحادث الشهير : ظهور العذراء ! والإشاعة التى امتلكت قلوب الناس وعقولهم لعدة أسابيع حول موقف النبى من الهزيمة ووجود شعيرات من رأسه فى كل مصحف ، كذلك الخرافة الواسعة الانتشار التى قالت بأن هزيمة 1967 إنما هى عقاب للنظام من الله على تعذيبه للإخوان المسلمين فى 65 – 1966 .

[40]         حُلَّت اتحادات الطلاب بعد انقلاب 1952 بأشهر وحتى 1959 كان يتم تكوينها بالتعيين ، ومن 1959 – 1970 كان يتم انتخابها ولكن بإشراف رواد من هيئة التدريس الأعضاء فى التنظيم السياسى كما حُِرمت من حق ممارسة النشاط السياسى وفى 1969 فقط تقرر تخفيف هذه الوصاية .

[41]         فى 1968 شكل البرلمان لجنة خاصة لمراجعة القوانين والتشريعات التى تتضمن ما يمس الحريات السياسية ، وأوصت بالآتى :

1-         أن يكون للهيئات القضائية دور بارز فى رقابة المسائل التى تمس الناس .

2-         اقترح البعض ضرورة إلغاء قوانين أمن الدولة ، بينما اقترح آخرون تعديل القانون 119 لعام 1964 وتحديد مدة الاعتقال وتحديد حالات الاعتقال مع كفالة حق التظلم .

3-         تحديد المدة التى تفرض خلالها حالة الطوارئ

[42]         طُرح هذا الشعار من قبل جماعات اليسار ، ولكن بمفهوم تقنى ، بمعنى حرب العصابات والميليشيات الشعبية ، وهو مفهوم يختلف عن المعنى السياسى، الذى استُخدم به هذا الشعار فى فيتنام مثلا ، بمعنى تعبئة كل الإمكانيات وإشراك كل الجماهير فى النضال بمختلف الأشكال العسكرية والسياسية والاقتصادية ، بمعنى محورة كل نشاط الجماهير حول قضية التحرر الوطنى . ومع ذلك كان شعار الحرب الشعبية بمعناه التقنى مخيفا للسلطة الناصرية ، لأنه كان يتضمن مباشرة تدريب وتسليح الجماهير .

[43]         لطفى الخولى : المرجع السابق ص 391 .

[44]         أحمد عبد الرحيم مصطفى . المرجع السابق  .قبل ذلك قدم عبد الناصر تنازلا أخر بالغ الدلالة ، إذ صرح الملك حسين بأنه يتحدث باسم عبدالناصر واعدا اسرائيل بالمرور فى قناة السويس ، وذلك فى حالة إزالة آثار العدوان ( صدر هذا التصريح فى منتصف 1969) - نقلا عن محمود رياض ( مذكرات ) .

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1