التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الفصل الأول السياسة العامة(1)


 

الفصل الأول

 

السياسة العامة

 

"الوزراء السوريين قد أثاروا قضية تحويل نهر الأردن، ووضعونا فى موقف حرج للغاية وان مهمتنا فى الشرق  الأوسط هى مكافحة الشيوعية، فإذا ما أثرنا هذه القضية الآن فى الصحف يكون الرأى العام فى الجمهورية العربية المتحدة وفى العالم العربى ضد التحويل وسوف تنضم روسيا لدعم هذا الموقف ولهذا يجب ألا يذكر  شىء فى الصحف عن هذا الموضوع "

 

                                                                                                   جمال عبدالناصر

                                                                                  

 


 

أولاً: القضية الوطنية

1- الجلاء تحت المظلة الأمريكية:

أوضحنا فى القسم الأول من هذا الكتاب كيف حلت الناصريةالمسألة الوطنية، وتوصلنا إلى أنها كانت مطالبة بحكم ظروف مجيئها بحل هذه القضية (قضية الاستقلال السياسى) بطريقة ما، بحيث لا تستفز الجماهير وبحيث تحقق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية للطبقة المسيطرة. وفى الوقت ذاته كانت مصالح الناصرية نفسها تنسجم تمامًا مع تحقيق هذا الاستقلال بأكمل صورة ممكنة، فإن  كل سلطة  تفضل، كأمر طبيعى، أن تكون حرة، فإذا كانت هذه السلطة بونابرتية صار هذا النزوع أكثر إلحاحًا. الا أن هذا التوجه العام للناصرية فرضه لا الطابع البونابرتى للحكم فى حد ذاته ، بل الظروف الخاصة للتوازن السياسى المحلى بشكل أساسى. ولننتبه إلى أنه كان هناك إجماع عام بين كل الطبقات – تقريبًا – على ضرورة تحقيق الاستقلال السياسى المباشر فى ذلك الوقت. ولكن القضية الوطنية كانت تواجه عدوًا قويًا (بريطانيا)، بينما كانت الولايات المتحدة تتلمظ على الشرق الأوسط وتخطط لانتزاعه منها . وقد شارك كرميت روزفلت، رجل المخابرات الأمريكية فى مصر، بدور فى دفع بريطانيا للموافقة على الجلاء عن مصر، أثناء المفاوضات بين الطرفين بعد انقلاب يوليو 1952[1]. وقد أسفر الدور الأمريكى فى النهاية عن نتائج فعالة، إذ تبادل الطرفان تقديم عدد من التنازلات الملموسة. ورغم محاولات الناصريين انتزاع أكبر كم من التنازلات البريطانية، فان موقفهم لم يكن يسمح لهم بالدخول فى صدام حاسم مع الغرب، ولذلك اضطروا إلى التفاوض بمرونة وتقديم التنازلات فقبلوا ما رفضوه فى أول المفاوضات. إذ كانوا يواجهون وقت بداية المفاوضات (27/4/1953) معارضة داخلية فعالة، فلم يكن بإمكانهم قبول العروض البريطانية إلا بعد تحطيم المعارضة الليبرالية والمعارضة الوطنية. وجاءت معاهدة الجلاء التى استحقت أن يتهكم عليها النحاس (باشا). كذلك لم يسمح الإخوان المسلمون للمعاهدة أن تمرالا على جثث زعمائهم[2].

وقد نصت المعاهدة فيما نصت على ما يلى[3].

1- يبقى جزء من القاعدة البريطانية فى القنال صالحًا للاستخدام وتسلمه مصر فورًا لبريطانيا عند حدوث اعتداء على إحدى الدول الداخلة فى معاهدة دفاع مشترك معها  من دول الجامعة العربية أو تركيا، وتتضمن التسهيلات المقدمة استخدام الموانئ المصرية (وهذا تنازل جديد بعد إلغاء معاهدة 1936).

2- فى حالة التهديد بالهجوم على تلك الدولة تبدأ المفاوضات بين مصر وبريطانيا.

3- يستمر الاتفاق سبع سنوات من تاريخ توقيعه، قابلة للمد بموافقة الحكومتين.

وقد أثارت المعاهدة سخطًا شعبيًا عامًا، ولكنه جاء فى وقت باتت فيه المعارضة الوطنية مضعفة وعاجزة عن الدخول فى معارك واسعة مع السلطة، اللهم إلا فى ظروف أشد كارثية. وهنا يتضح كيف ترتب على ضرب الحركة الوطنية لجوء الطبقة المسيطرة إلى التنازل عن أهداف سبق أن أقرتها، فقد كان إبرام مثل هذا الاتفاق فى عهد حكومة "الوفد" الأخيرة كفيلاً بتحويل البلاد إلى ساحة حرب أهلية. ولكن بعد مارس 1954 أمكن إبرامه، إذ باتت الطبقة المسيطرة فى شخص ضباط يوليو أكثر قدرة على استئناف التعامل مع المسألة الوطنية بمنطقها الخاص. وإذا أخذنا فى الاعتبار أن بعض تشدد" الضباط كان تحسبًا لرد فعل الجماهير أدركنا ان الإمكانيات المباشرة للنظام الاجتماعى كانت أقل من حدود هذا الاتفاق نفسه ، وإن الطموحات الكبيرة التى عبر عنها "الوفد" من قبل – رسميًا – كانت فى جانبها الأكبر ذرًا للرماد فى عيون الحركة الوطنية وعجزًا عن مواجهتها.

ويُلاحظ أن الاتفاق يحمل تناقضًا واضحًا، لأنه يعد أولاً خطوة إلى الأمام على طريق الاستقلال السياسى، إذ تقرر بموجبه جلاء الجيش البريطانى عن مصر مع بقاء بعض القوات فى "ملابس مدنية"، والجلاء التام عن جزء من القاعدة. ويعد ثانيًا خطوة إلى الخلف لأن وجود القاعدة البريطانية صار قانونيًا بعد أن كان قد فقد شرعيته بإلغاء معاهدة 1936، كما أصبحت مصر مرتبطة بشكل غير مباشر بحلف الأطلنطى عن طريق الفقرة الخاصة بتركيا.

وتعكس لنا الطريقة التى حقق بها الضباط الاستقلال السياسى إلى أى حد صارت السلطة حريصة على استبعاد أى دور للجماهير، بل ولم تعد تقبل حتى بفكرة استخدام حركتها كورقة ضغط فى المفاوضات بطريقة منظمة (كما كان يفعل حزب "الوفد" و حتى النقراشى) ومن الممكن لنا أن نعتبر تنازلات الضباط فى معاهدة 1954 بمثابة "تكتيكًا" أو مناورة تستهدف إخراج أكر عدد ممكن من الجنود البريطانيين. إلا أن الطريقة التى تم بها هذا تعكس لنا تراجعًا عن أسلوب نظام ما قبل الانقلاب، حيث كان "الوفد" يستخدم حركة الجماهير عن وعى وتخطيط مسبق حتى 1950أما فرسان يوليو فلم يلجأوا إلى هذا السلاح. وفى رأينا يعبر هذا التراجع عن تغير طبيعة حركة ومزاج الجماهير، إذ صارت أكثر راديكالية، متجاوزة" لطموحات الطبقة المسيطرة، بحيث لم يعد من الممكن إطلاقها بغرض الضغط على الاستعمار، بل أصبح النظام مضطرًا إلى مواجهتها بالعنف جزئيًا، وبالرشوة؛ بتحقيق بعض طموحاتها، مع الاستفادة من ضغطها التلقائى والمفروض على السلطة ذاتها. يضاف إلى ذلك ميكانيزم آخر بالغ التأثير، ولعب دورًا فعالاً فيما بعد فى تثبيت دعائم الناصرية، هو مزايدة السلطة على الجماهير نفسها على صعيد الدعاية الرسمية، ومحاولة – بقدر الإمكان – تجاوز أحلامها نظريًا مع إجهاضها عمليا. وقد وُقعت – مثلاً– معاهدة الجلاء تحت شعارات طنانة حول طرد الاستعمار وهزيمته، بل واعُتبر يوم 18 يونيو 1956 عيدًا قوميًا وهو اليوم الذى تستكمل فيه بريطانيا سحب قواتها من قناة السويس وفقًا لاتفاقية الجلاء.

وقد استأنفت الولايات المتحدة مساعداتها الاقتصادية لمصر بعد توقيع الاتفاق بأيام، كما بدأت فترة من التعاون بين الناصريين وحكومة نورى السعيد لمحاربة الشيوعية فى الشرق الأوسط، وتم على الأقل لقاء واحد بين عبدالناصر ونورى السعيد. كما زار صلاح سالم العراق بعد الاتفاقية، وتوقفت الحكومة الناصرية عن مهاجمة حلف تركيا – باكستان  والنظام العراقى وعن مهاجمة الدعم الأمريكى للعراق. ونذكر بالمناسبة أن صلاح سالم قد امتنع عن الإجابة على سؤال خاص حول سبب توقف هذه الهجمات. وأعلن نورى السعيد بعد زيارته للقاهرة فى 15 سبتمبر 1954: "وقد اتفقت وجهات النظر حول الخطوات المؤدية لخير العرب"، كما وصف وزير خارجيته معاهدة 1954 بأنها "فاتحة خير لمصر والعرب"[4]. كذلك صرح عبدالناصر – وفقًا لإحدى الروايات – بأنه "لو وقع عدوان على الشرق الأوسط فان هذا العدوان سيصدر عن العالم الشيوعى"[5]. وشهدت الفترة نفسها امتداد محور مصر – العراق ليشمل السعودية[6]، كما شهدت "انفتاحًا اقتصاديًا" وتطورًا متزايدًا لمختلف أنواع التعاون بين مصر والولايات المتحدة[7]. ويبدو أن توقيع معاهدة الجلاء كان مرتبطًا بتقديم العون الأمريكى للناصريين، بل ذكر بعض المراقبين أن الصفقة تضمنت مساعدة ناصر ضد نجيب[8]، وربما يفسر هذا جزئيًا التنازلات الناصرية، التى لم تصل أبدًا إلى حد الاستسلام كما سنرى. غير أن شهر العسل مع الولايات المتحدة لم يخل من الشوائب ؛ إذ كان عبدالناصر يرفض بإصرار مشروع الحلف الدفاعى مع الغرب – أو على الأقل-  كانت هذه تصريحاته الرسمية. واستمر غزله العلنى مع الولايات المتحدة ،بهدف الحصول على السلاح وتمويل مشروع السد العالى، أى، باختصار، أن تحل الولايات المتحدة محل بريطانيا دون أن يكون هذا الحلول مباشرًا، وإنما من خلال التمويل والتسليح وتدريب الجيش ورجال المخابرات، فكان عبدالناصر يسعى لاستغلال التناقضات داخل الغرب.

لكن الولايات المتحدة لا ترسم سياساتها الجزئية إلا فى إطار سياسة عامة تجاه العالم، كانت مصر تحتل فيها نقطة محددة. فمن وجهة النظر الأمريكية، كان حلولها محل بريطانيا يعنى بالدرجة الأولى إدماج المنطقة العربية فى حلف عسكرى معاد للاتحاد السوفيتى، فى سياق الحرب الباردة التى شنها المعسكر الغربى ضد موسكو، وفى وقت صار فيه خوف الولايات المتحدة من النفوذ السوفيتى مَرَضيًا  .. لذلك شهدت الفترة المذكورة سياسات أمريكية متطرفة ، مثل : "حافة الهاوية" و "العصا الغليظة" .. وبالنظر إلى موازين القوى السياسية على الساحة المصرية والعربية كان موقف الناصرية عسيرًا، فالمطرقة فى الداخل (الحركة الوطنية القادرة – رغم تفتتها – على الانبعاث إذا تطلبت ظروف كارثية) والسندان فى الخارج، متمثلاً فى المطالب الأمريكية المحرجة، خاصة أن ناصر كان يوقع اتفاق الجلاء تحت شعارات طنانة: "ليحمل الاستعمار عصاه ويرحل"، الخ .. إرضاء للمشاعر الوطنية. فلقد اضطرت الناصرية منذ البداية إلى وضع حدود لنفسها بما يراعى جزئيا مصالح ومشاعر مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية.

 

2- الخلاف مع الغرب:

بعد توقيع اتفاقية الجلاء وبدء تنفيذها رأى الضباط أنهم قد دفعوا الثمن المناسب لحصولهم على ثقة الغرب، خاصة أن ظروف المنطقة كما أسلفنا لم تكن تحتمل دخول مصر والدول العربية فى حلف عسكرى غربى، وهو المطلب الغربى الرئيسى طوال السنوات 45- 1958  كانت تكمن نقطة الخلاف بين الناصرية والغرب، وهو الخلاف الذى أرجعته أغلبية اليسار إلى وطنية وتقدمية "البورجوازية" المصرية متجاهلة أن الضباط كانوا قد فتحوا الباب على مصراعيه أمام رأس المال الأجنبى، وأن البلدان الرأسمالية قد باركت إصلاحهم الزراعى ومشروعهم الكبير ؛ السد العالى، ووعدت بتمويله، وأعلنت تشجيعها لسياساتهم بوجه عام، بل وأمدتهم الولايات المتحدة بالمعونات (40 مليون دولار سنويًا). ولا نظن أن الضباط كان لديهم ما يقدمونه للغرب على صعيد الاقتصاد أكثر مما قدموا بالفعل. والحقيقة انهم رفضوا – ولم يكن بأيديهم أصلاً – أن يقدموا تنازلات سياسية من نوع الاشتراك فى حلف عسكرى غربى، وهذا الرفض ينم فى رأينا عن تخوف الضباط بشكل أساسى من اشتعال الحركة الوطنية فى حالة قبولهم إياه، إذ ليس من الوارد أن يضر مطلب الحلف على نحو مباشر مصالح الطبقة المسيطرة، خاصة أنها فتحت "سوقها" على مصراعيه أمام رأس المال والسلع الأجنبية وكانت تبنى الآمال العريضة – بل ربما مجمل الآمال – فى هذه الفترة على ورود رأس المال الأمريكى. وقد عبَّر النحاس على نحو مباشر عن رأيه فى موضوع الحلف أثناء مفاوضاته مع بريطانيا فى عام 1951، فطرح شكلاً آخر للتعاون بين البلدين مثل تسليح مصر أو تواجد القوات البريطانية فى قطاع غزة، متحججًا برفض الشعب لأى وجود بريطانى مباشر على أرض مصر، أى أنه سجل خلافه على التكتيك فقط دون أن يعترض على الاستراتيجية، وهى ربط مصر بالغرب سياسيا و عسكريا[9].

هذا لا ينفى بالطبع تحبيذ الطبقة المسيطرة نفسها فى تحقيق استقلالها السياسى بقدر الإمكان، تلك الرغبة التى لا تعبر عن مصالح اقتصادية مباشرة، وإنما تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من حرية الحركة . ولعل هذا يساعدنا على تفسير تزامن الخلاف السياسى مع الغرب مع انفتاح اقتصادى كامل عليه، فالطبقة المسيطرة كانت  تطمع فى تحقيق استقلالها السياسى المباشر، مع الاحتفاظ و ربما مع تحسين الوضع التابع داخل السوق العالمى. باختصار، لم يكن الخلاف المذكور يتعلق بالتبعية من حيث هى كذلك وإنما يتعلق بالتبعية فى شكلها فحسب، أى التبعية السياسية المباشرة التى رفضتها الناصرية فى منطلقين، أولهما هو الأهم : خوفها من انفجار الحركة الوطنية، وثانيهما: مصلحتها السياسية الخاصة كحكومة محلية، وقد سارت الأمور بعد ذلك بحيث دفعتها إلى التمرد، بل والمواجهة مع الغرب،خاصة وأن الاتحاد السوفيتى كان يسعى لتحجيم نفوذ الغرب فى العالم المتخلف. عملت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية على إظهار نفسها فى هيئة قوة محبة للسلام فى الشرق العربى، بهدف الحلول محل بريطانيا دون استفزاز يؤدى إلى انتشار المد الثورى فى المنطقة، خاصة بين اللاجئين الفلسطينيين. لذلك طلبت وضع فلسطين تحت الوصاية فى عام 1947، أى قبل إعلان قيام دولة اسرائيل .. وحسب تعبير ترومان، كان يُخشى أن يتحول اللاجئون الفلسطينيون إلى "قوة هدامة" فى المنطقة. كما اشتركت مع فرنسا وبريطانيا عام 1950 فى إصدار "التصريح الثلاثى" الشهير الذى تضمن حق دول المنطقة (بما فيها اسرائيل) فى  الدفاع عن أمن الشرق الأوسط وعن أمنها الداخلى فى إطار نظام للدفاع المشترك، وتعهد الغرب بدعم كل منها عسكريًا بالقدر اللازم لتحقيق هذا الغرض[10]. وفى عام 1952 رفضت الولايات المتحدة مطلب اسرائيل بمدها بعون عسكرى، وقررت بدلاً من ذلك دعم الدول العربية واسرائيل اقتصاديًا، بل ولجأت بعد ذلك إلى وقف هذا الدعم عن اسرائيل بالذات بسبب إصرارها على تحويل مجرى نهر الأردن، كما أوقفت قرضًا قصير الأجل لها فى نفس الفترة بسبب إصرارها على تحويل مركز الحكومة إلى القدس. كذلك تقدمت بالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا بمشروع إلى الأمم المتحدة لإدانة اسرائيل بسبب هجوم قامت به قواتها على الضفة الغربية. كانت هذه المواقف كلها تهدف إلى تحسين صورة أمريكا فى المنطقة على حساب كل من فرنسا وبريطانيا و الأهم كسب ود الدول العربية فى سياق الحرب الباردة.  وتعكس هذه السياسة بالطبع تصاعد الحركة القومية العربية.

كان الهدف من هذا المدخل  إلى المنطقة إدخال البلدان العربية فى حلف عسكرى بقيادة الولايات المتحدة، يطوَّق الاتحاد السوفيتى من الجنوب ويربط البلدان العربية مباشرة بالولايات المتحدة، الأمر الذى كان تمريره مستحيلاً فى وقت شهدت فيه الحركة القومية فى البلدان العربية تأججا.

وقد رفضت الطبقة المسيطرة هذه الفكرة قبل يوليو 1952 تحت ضغط الحركة الوطنية من جهة واستغلالاً لظروف التوازن الدولى الجديد من جهة أخرى (التناقضات بين الاتحاد السوفيتى والغرب والتناقضات داخل الغرب ). وقد استمر الوضع نفسه بعد انقلاب يوليو فى الفترة 52-1954 سارت العلاقات بين مصر وأمريكا على ما يرام للطرفين باستثناء أمر واحد هو فكرة الحلف العسكرى كما أسلفنا. وكانت مصر فى ذلك الوقت من أقل الدول العربية عداء لاسرائيل[11]، بل كانت الناصرية على استعداد لعقد صلح  نهائى معها ، وقد جرت مباحثات سرية عام 1954 فى باريس بين مبعوث موشيه شاريت ومبعوث جمال عبدالناصر بقصد إحلال السلام على الحدود وفتح قناة السويس لمرور البضائع الاسرائيلية (دون السفن)[12]، كما اتفقت مصر مع الولايات المتحدة على مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة فى سيناء[13].

وقد أُجِْهضت هذه المشاريع بسبب رفض اسرائيل وتمرد الفلسطينيين فى قطاع غزة: فلم تكن اسرائيل ترغب فى تحقق الجلاء البريطانى عن مصر (كانت تعلم بأمر المباحثات الدائرة تحت إشراف الولايات المتحدة)، لأنها كانت تعتبر القاعدة البريطانية فى القناة بمثابة حزام أمن لها فى الجنوب، فى وقت كانت لا تزال فيه تبنى نفسها. كذلك رأت اسرائيل فى مصر الناصرية منافسًا لها على الصداقة الأمريكية التى كانت تنمو مع مصر بسرعة. ومن أجل وضع حد للمباحثات المصرية – البريطانية وتخريب العلاقة بين مصر وأمريكا، خططت اسرائيل للقيام بعمليات تخريب فى مصر ضد المنشآت الأمريكية والبريطانية فيما عرف "بفضيحة لافون" [14] ، التى كشفتها الحكومة الناصرية وفضحتها، واضطرت للانسحاب من مفاوضات باريس. والحقيقة أن القوى الصهيونية المتشددة فى اسرائيل لم تكن ترغب فى تحقيق "السلام" مع مصر، وقد أفشلت بعملية "لافون" محاولة االتيار الصهيونى المعتدل، بل وربما كان هذا ضمن أهدافها من العملية. وقد تصاعدت حدة السياسة الاسرائيلية تجاه مصر الناصرية بعد توقف المباحثات و سقوط لافون. أما بخصوص مشروع سيناء فقد احتج سكان القطاع وقاوموا المشروع مما أجبر السلطات على وقف تنفيذه.

وفى الحقيقة لم يكن انتصار اسرائيل فى عام 1948 ونجاحها فى إجلاء الجيش المصرى من النقب هو نهاية طموحاتها، فى الوقت الذى توالت فيه غارات الفدائيين العرب المنطلقة من غزة والضفة الغربية، الأمر الذى أقلق اسرائيل واستنفرها ضد الدول العربية المحيطة بها. ومن ثم شنت غارات انتقامية على قطاع غزة والضفة الغربية. كذلك لم تكن الأنظمة العربية المحيطة باسرائيل راغبة فى و لا قادرة على التسليم بوجود الدولة الصهيونية لسببين، أولهما خوف تلك الأنظمة من نمو قوة اسرائيل فى المنطقة، وهى الأنظمة التى كان كل منها يخشى الآخر أصلاً (العراق – السعودية، العراق – سوريا، الأردن … الخ)، و ثانيهما قوة الحركة القومية العربية التى اضطرت نظاما مثل نظام نورى السعيد  أن يرفض بشدة دخول اسرائيل حلف بغداد . غير أن هذين السببين لم يكونا كافيين لدفع الأنظمة العربية إلى القيام بعمل َجدِّى ضد اسرائيل، بل لم تسمح أية دولة عربية (عدا سوريا فى 66-1967) للفدائيين العرب للعمل ضدها انطلاقًا من أراضيها، أو حتى من الأرض الفلسطينية الواقعة تحت سيطرتها (كان نظام عبدالناصر على سبيل المثال يحمى الحدود بين اسرائيل وبين مصر وقطاع غزة ويعتقل الفدائيين ويصادر أسلحتهم من عام 1952 وحتى آخر لحظة فى حياة الناصرية، عدا لحظات قصيرة للغاية أطلق فيها العمل الفدائى تحت إشراف الحكومة).

إلا أن عجز الأنظمة العربية وعدم رغبتها فى القيام بعمل محدد ضد اسرائيل لم يمنع الأخيرة من السعى الدائب لتحقيق مصالحها فى المنطقة، فبدأت مبكرًا من عام 1952 فى تحويل مجرى نهر الأردن لصالحها (الأمر الذى عارضته الولايات المتحدة)، ولجأت إلى تجفيف بحيرة الحولة، كما شنت عددًا من الهجمات على غزة والضفة ردًا على غارات الفدائيين وضغطًا على الأنظمة العربية حتى تعترف بها، وإفسادًا للمخطط الأمريكى الذى يهدف إلى إدخال هذه الأنظمة فى حلف عسكرى غربى، ذلك أن اسرائيل كانت تخشى أن يقوى هذا الحلف الدول العربية ويوفر الحماية الأمريكية لها ضد أطماعها، وأن يقلص اعتماد الغرب عليها مما يؤثر بالسلب على قدراتها. وكان من أهم نتائج غارات اسرائيل المتكررة تصاعد المد القومى، المعادى للغرب فى الوطن العربى، واضطرار النظام الناصرى إلى التحول من أقل الأنظمة العربية عداءً لاسرائيل إلى واحد من أشدها.

كان السياسة الأمريكية تهدف إلى كسب اسرائيل والأنظمة العربية معًا، ولكنها تحطمت بين مطرقة الحركة القومية العربية (التى تمثلت فى ذلك الوقت فى حركة الانتلجينسيا بشكل أساسى) وسندان النزعة التوسعية الاسرائيلية، والتى ساهمت كثيرا فى حفز الأولى، التى راحت تضغط بدورها على الأنظمة العربية جاعلة قبولها الكامل للمخططات الأمريكية مستحيلاً. لذلك تصاعد الخلاف مع الغرب بسرعة ؛ ولنر كيف حدث ذلك:

شنت اسرائيل هجومًا عنيفًا على قطاع غزة فى فبراير 1955 قتل فيه 40 من الجنود المصريين والمدنيين الفلسطينيين، فردت جماهير القطاع بمظاهرات عامة استمرت ثلاثة أيام متتالية جرت فيها اشتباكات مع البوليس الناصرى أسفرت عن مقتل نحو 40 فلسطينيًا آخرين[15]. وكانت المطالب الأساسية للمتظاهرين تتلخص فى قيام الجيش المصرى بحماية القطاع وتسليح الشعب الفلسطينى والسماح للفدائيين بالعمل ضد اسرائيل. وقد تظاهرت الحكومة بالموافقة على حماية القطاع وتسليح الشعب، فتوقفت المظاهرات، ثم قامت باعتقال العديد من الشيوعيين والإخوان المسلمين فى القطاع وشرعت فى تشكيل وحدات فدائية فلسطينية تحت إشرافها. ولكن النتيجة الأساسية للغزو الاسرائيلى كانت إلحاح الحكومة المصرية فى طلب السلاح من الغرب، الذى أخذ يماطل ، فأفسد – دون أن يدرى – مخططاته نفسها؛ فإذا كانت المظاهرات العزلاء فى قطاع غزة قد أجبرت الناصرية على تشكيل فرق فدائية، فما بالك بما تستطيع أن تفعله الحركة القومية فى الشام والعراق على وجه الخصوص ؟ وفى هذا السياق تكون حلف شبه رسمى بين مصر وسوريا والسعودية فى مواجهة اسرائيل وحلف بغداد المقترح، الذى كان قد بدأ يتكون بالفعل ودخلته العراق وتركيا وباكستان، وانحل محور مصر – العراق . وقد طَرح الحلف الجديد بديلاً لحلف بغداد، هو تسليح البلاد العربية لتتولى الدفاع عن نفسها، بحجة أن الارتباط المباشر بالغرب يمكن أن يكون دعمًا للمد الشيوعى، لا العكس، كما زعمت الولايات المتحدة وبريطانيا. ويبدو مع ذلك أن الدبلوماسية الأمريكية كانت على درجة من الذكاء جعلتها تمتنع عن ممارسة ضغوط شديدة على الأنظمة العربية لإدخالها فى الحلف، فقد كان من الواضح أن نفوذ المنظمات الشيوعية آخذ فى الازدياد فى البلدان المرتبطة بالغرب بشكل مباشر (مثل العراق). غير أن الخلافات الموضوعية كانت تدفع بالعلاقة بين الأنظمة العربية والغرب إلى مزيد من التوتر؛ فطموحات اسرائيل لا يمكن إحباطها كلية ولا يمكن تقديم شىء محدد لها أو للأنظمة العربية إلا على حساب الطرف الآخر. ولقد سارت الأمور على ما يرام فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية الرسمية، أما فى السياسة فظلت مسألة الحلف العسكرى عقدة صعبة الحل، فبدلاً من الحلف كان النظام الناصرى يصر على طلب السلاح. ومن الواضح أنه كان يفهم موازين القوى فى الشرق الأوسط بشكل أفضل من الإدارة الأمريكية، فإقامة حلف دفاعى فى الشرق الأوسط كان يمكن أن يحفز – مباشرةً – انهيار الأنظمة العربية الداخلة فيه، كما حدث فى العراق بعد فترة قصيرة، وهذا الأمر الذى لم تقدره الدول الغربية ، بل قامت - على العكس – بتصعيد خلافها مع الناصرية إلى قمته، بتشجيعها الضمنى لغارات اسرائيل وتهديداتها، وبرفضها تزويد مصر بأسلحة دفاعية، إذ كانت السياسة البديلة – وهى تسليح مصر – بمثابة خطر أكبر من وجهة النظر الأمريكية، إذ ستدفع حتمًا إلى الحرب مع اسرائيل، لأن الأخيرة لن تقبل بوجود دولة عربية جيدة التسليح بجوارها. كذلك لم يكن من المسموح به فى ُعرف السياسة الأمريكية ألا تكون اسرائيل متفوقة عسكريًابشكل ساحق على الأنظمة المحيطة بها، لأنها تمثل بالنسبة لها القاعدة الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة. ومن ثم كان تسليح الأنظمة العربية يتطلب زيادة تسليح اسرائيل، أو وضع الولايات المتحدة فى موقف حرج، وقد رأينا كيف أثارت صفقة الدبابات الأمريكية للسعودية، التى عقدت عام  1955 أزمة للدبلوماسية الأمريكية عند تسليمها فى عام 1957. لهذا كله عملت الولايات المتحدة على الظهور بمظهر الطرف المحايد، بينما استمرت بريطانيا وفرنسا وكندا فى تسليح اسرائيل.

وقد تداركت الإدارة الأمريكية الأمر بعد قليل وبدأت تغدق المساعدات الاقتصادية على مصر الناصرية منذ 1958 – 1959، متقبلةً تمامًا لتدفق التسليح السوفيتى ومتفهمةً لدور الناصرية المحافظ فى الشرق الأوسط.

 

3- الصدام مع الغرب:

* رفضت الناصرية على نحو قاطع الانضمام إلى حلف بغداد، وكان من الطبيعى أن ينتج هذا الرفض رد فعل: الضغوط الغربية ممثلة فى العدوان الاسرائيلى المحتمل دائمًا. وفى الوقت ذاته لم تتوقف الحركة القومية العربية عند حد الرفض السلبى للحلف الدفاعى، بل امتد هذا الرفض إلى المطالبة باتباع سياسة "محايدة" على الصعيد العالمى. كانت هذه إحدى أهم أفكار "البعث" والحركة الوطنية المصرية. وقد عبر عبدالناصر بشكل واضح عن فهمه لهذه الحقيقة، فبعد أن حضر مؤتمر عدم الانحياز فى باندونج (1955) صرح بـ: " ان زيارتى للهند كانت نقطة تحول فى فهمى السياسى، لقد تعلمت أن السياسة الوحيدة الحكيمة بالنسبة لنا هى فى تبنى الحياد الإيجابى وعدم الانحياز. وبعد عودتى إلى الوطن أقنعنى الترحيب الذى استقبلت به هذه السياسة انها السياسة الوحيدة الممكنة التى يمكنها أن تستقطب أوسع دعم من الشعب العربى"[16].

ويوضح هذا التصريح أن سياسة الاعتماد المطلق على الغرب كانت مرفوضة من قبل الجماهير العربية، وأن الناصرية قد اتخذت طريق عدم الانحياز استجابة لضغط الحركة القومية – على الأقل كدافع جوهرى – فلم يكن عدم الانحياز مجرد خيار ناصرى، بل خيار مبنى على ضغوط حقيقية يمارسها الشارع العربى، بقيادة "البعث" والقوميين العرب" والانتلجينسيا المصرية[17].

وكان معنى حضور مصر مؤتمر دول عدم الانحياز هو أن الناصرية قد بدأت تعتمد على قوى خارجية فى مواجهة الضغط الامبريالى – هكذا كان مظهر الأمور على الأقل .

وقد اكتشف عبدالناصر فى باندونج قوة المعسكر الشيوعى، كما اكتشف قوة جديدة، هى الصين الشعبية (التى ستلعب بعد ذلك دورًا فى عقد صفقة الأسلحة التشيكية). كذلك اكتشف ان دول عدم الانحياز نفسها يمكن أن تلعب دورًا معضدًا لـه فى السياسة الدولية، خصوصا أنها لم تنتظر دعوة اسرائيل لحضور المؤتمر. والواقع أن الصراع الدولى بين الشرق والغرب قد منح الدول الصغيرة المتخلفة فرصة لتحقيق بعض المكاسب ولعب دورٍ ملموسٍ نسبيًا على الساحة الدولية.

التوجه إلى الشرق:

1- الاتحاد السوفيتى والشرق الأوسط:

بعد ثورة أكتوبر 1917 لم تتوان الدولة السوفيتية الفتية عن تقديم الدعم العسكرى لكمال أتاتورك والدعم الاقتصادى لأفغانستان فى عام 1920.

وقد قدمت حكومة لينين نفسها كحكومة ثورية، معتبرة أن الاتحاد السوفيتى ما هو إلا قاعدة للثورة العالمية ( أى اعتبار الثورة قبل الدولة). ولكن السياسة الفعلية لم تكن كذلك أبدًا، فمصلحة الدولة كانت فوق أى اعتبار آخر حتى ولو على حساب حركات ثورية فى الخارج .. هذا منذ أول لحظة .. ولكن مورست هذه السياسة على استحياء وتحت شعارات ثورية راديكالية فى البداية.. أما بعد نجاح ستالين، فقد بات شعار "الاشتراكية فى بلد واحد " هو الشعار المعتمد فى الكرملين: وباتت السياسة السوفيتية تضع فى اعتبارها بشكل علنى و رسمى  الدولة لا الثورة، ولا ترى فى البلدان و القوى الأخرى سوى أوراق للعب فى صراعها مع الغرب، صارت تحدد موقفها من الحكومات المختلفة على أساس موقفها من الغرب، لا موقفها من شعوبها، وكان هذا مغزى شعار " الاشتراكية فى بلد واحد ".

وبالإضافة إلى عقد الصفقات مع الحكومات، استخدمت البيروقراطية السوفيتية الأحزاب الشيوعية التى تطيعها فى البلدان الأخرى لخدمة دبلوماسيتها، بغض النظر عن مصالح الثورة داخل تلك البلدان نفسها. والأمثلة على ذلك لا تحصى، منها دعوة الكومنترن فى عام 1935 للأحزاب الشيوعية إلى اتباع سياسة "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الوطنية" فى مواجهة الفاشية – أى إقامة تحالف بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب الأخرى غير الفاشية  – ثم تراجعه عن ذلك فى عام 1939 بعد عقد المعاهدة السوفيتية – الألمانية وبدأت الدعوة إلى تشديد النضال ضد الاستعمار الأنجلو – فرنسى. أما فى عام 1941 – بعد هجوم قوات ألمانيا النازية على الأراضى السوفيتية – فقد عادت الدعوة مرة أخرى إلى التركيز على معاداة الفاشية، ودعت الحكومة السوفيتية حكومات أشباه المستعمرات إلى إعلان الحرب على دول "المحور" (وهاجمت حزب "الوفد" لعدم إعلانه الحرب). وكانت المنظمات "الستالينية" فى المستعمرات تتبع هذه التعليمات فورًا رغم عنف تقلباتها.

وحتى الخمسينات، كان الاتحاد السوفيتى يعتمد على الأحزاب التابعة له فى خلق نفوذه فى البلدان الأخرى ومده. ولكن نظرًا لضعف هذه الأحزاب فى الشرق الأوسط خلال الأربعينات، لم يتمتع الاتحاد السوفيتى بنفوذ يذكر فى هذه المنطقة. غير أن موقفيه فى مجلس الأمن من المسألة السورية واللبنانية بعد الحرب ومن المسألة المصرية فى عام 1947 منحاه نفوذًا معنويًا ما لدى الجماهير العربية ، عززه غياب أى تاريخ استعمارى له أو لروسيا القيصرية من قبل فيها، بالإضافة إلى حربه البطولية ضد الفاشية فى الحرب العالمية. أما منذ عام 1955 – 1956، فقد بدأ الاتحاد السوفيتى يصنع نفوذه ويمده عن طريق الحكومات القومية مباشرةً ، بالمساعدات العسكرية والاقتصادية [18].

يمكن إيجاز الاستراتيجية السوفيتية فى الشرق الأوسط فى هدف سياسى محدد: مواجهة النفوذ الغربى فى المنطقة لحرمان الغرب من فرصة تطويق الاتحاد السوفيتى من الجنوب (عسكريًا وملاحيًا)، أى أنها استراتيجية دفاعية بالدرجة الأولى.

2- الاتحاد السوفيتى والقومية العربية:

لا يختلف موقف الاتحاد السوفيتى من البلدان العربية عن موقفه العام من بلدان الشرق الأوسط. فهو لم يتعامل مع القومية العربية إلا من حيث علاقتها باستراتيجيته الشاملة، ولا يمكن تفسير موقفه من فكرة الأمة العربية إلا على هذا الأساس.  فلا تعترف الدبلوماسية السوفيتية بما تسمى "الأمة العربية" ولا بحقها فى إقامة دولتها القومية الموحدة[19].

 و بخصوص الحركة الصهيونية وقف الحزب الشيوعى السوفيتى موقفًا معاديًا منذ نشأته وحتى عام 1930، واستمر هذا العداء بعد ذلك وإن خفَّت حدته بالتدريج، فُسمح بإقامة مركز للوكالة اليهودية فى موسكو. وفى الأربعينات التقت الخطط الستالينية فى الشرق الأوسط مع الحركة الصهيونية ؛ إذ بدأت المنظمات الصهيونية فى فلسطين تهاجم الوجود العسكرى البريطانى، فى وقت كان فيه إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط يُعد أحد أهداف السياسة السوفيتية. ومن الواضح هنا أن الموقف من الصهيونية قد تحدد على أساس موقف الأخيرة المباشر من الاستعمار الغربى، بغض النظر عن موقفها من الحركة القومية العربية، بل وبغض النظر عن طبيعة الفكر الصهيونى نفسه. ومنذ بداية "النضال" الصهيونى ضد الحكم البريطانى فى فلسطين راحت الدعاية السوفيتية تركز على إبراز صورة تقدمية للصهيونية فى فلسطين، وراحت تهاجم الحكام العرب، لا لأنهم تقاعسوا عن حماية بلادهم ، بل لأنهم، على حد زعم الدعاية الستالينية، "أرادوا فى الحقيقة أن يجعلوا اليهود أقلية قومية فى فلسطين" [20]. وفى عام 1948 هاجم الاتحاد السوفيتى إعلان الدول العربية للحرب على اسرائيل، باعتبارها مجرد "عدوان عربى اسرائيل"[21] ! .

وقد تبنت الحكومة السوفيتية فكرة إنشاء دولة يهودية فى فلسطين. فعلى سبيل المثال أعلن مالينكوف فى يوليو 1944 أن المطالب الإقليمية للشعب اليهودى يجب أن ُتلبى، ووافق ستالين فى يالتا فى عام 1945 على تقرير وطن قومى لليهود فى فلسطين، ثم أعلن المندوب السوفيتى فى مجلس الأمن فى عام 1947 "أنه من غير المعقول أن يُنكر على الشعب اليهودى حقه فى تحقيق آماله فى إنشاء دولته الخاصة به"[22].

ولم تكتف الحكومة السوفيتية بذلك، بل راحت تزايد على الولايات المتحدة، فقالت إنها "ادعت مجرد إدعاء" أنها تؤيد اسرائيل، وإنها "عملت كل ما فى وسعها لإيذاء اسرائيل، واعترفت بها" اعترافًا واقعيًا فقط، على حين اعترف بها الاتحاد السوفيتى اعترافًا قانونيًا تامًا"[23]. وعلاوة على ذلك قدم السفير السوفيتى، أوراق اعتماده فى القدس عام 1954 باعتبارها عاصمة اسرائيل[24]. وقد امتنع المندوب السوفيتى فى مجلس الأمن عن التصويت على قرار بإدانة مصر لعدم سماحها لسفن اسرائيل بالمرور فى قناة السويس (عام 1951)، بينما توقعت منه الحركة الوطنية المصرية أن يستخدم حق الفيتو[25]، كما امتنع عن التصويت على قرار بإدانة اسرائيل لشروعها فى تحويل مجرى نهر الأردن بينما وافقت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على القرار.

كذلك عارض الاتحاد السوفيتى فى عام 1948 بحث قضية اللاجئين الفلسطينيين، إلا إذا بحثت معها قضية اللاجئين اليهود فى أوربا واستمر هذا الامتناع حتى 1955. و كان الاتحاد السوفيتى قد سمح  لحكومات شرق أوربا بتزويد اليهود فى فلسطين بالسلاح فى أواخر الأربعينات[26].

لكن الموقف السوفيتى بدأ فى التحول منذ أوائل الخمسينات، إزاء موافقة اسرائيل على التصريح الثلاثى الصادر عام 1950، وهى الموافقة التى حطمت بعنف الآمال التى علقها الكرملين على دولة اسرائيل. وجاءت اللطمة الثانية بعد قليل (51-1953) حين أيدت اسرائيل الغرب فى الحرب الكورية، فكان أن قُطعت العلاقات من جانب موسكو فى عام 1953، ولكنها أعيدت بعد أن تعهدت اسرائيل بعدم الدخول فى أحلاف معادية للاتحاد السوفيتى.

هكذا فضحت اسرائيل قصر نظر السياسة السوفيتية بإعلانها صراحة عن هويتها كحليف عضوى للغرب. ومقابل ذلك كانت الأنظمة العربية فى مصر وسوريا قد بدأت منذ أواسط الخمسينات فى إبراز خلافها مع مشاريع الغرب فى الشرق الأوسط، واشتد الصراع بينها وبين اسرائيل، فدفع هذا كله بالسياسة السوفيتية إلى أن تعيد النظر فى موقفها من الطرفين. وهنا "تنبه"(!)  الكرملين إلى أن اسرائيل تضطهد الأقلية العربية فى فلسطين وأنها تطرد العرب من ديارهم وتعتدى على الدول العربية المجاورة وعلى مياه نهر الأردن … الخ. والواقع أن الموقف السوفيتى قد تغير تدريجيًا وعلى استحياء، ربما تحسبًا لأية تغيرات أخرى. كانت البداية فى عام 1953 حين عارض الاتحاد السوفيتى مشروع قرار فى مجلس الأمن لإدانة مصر لامتناعها عن السماح لسفن اسرائيل بالمرور فى قناة السويس، ثم حين أيد سوريا ضد اسرائيل فى عام 1954 بخصوص مشروع تجفيف بحيرة الحولة الذى قامت به الأخيرة، ذلك أن مصر وسوريا حققتا للاتحاد السوفيتى بعض الرجاء برفضهما القاطع لمشروع الحلف العسكرى الموالى للغرب.

وهكذا أخذت خلافات السوفيت مع اسرائيل فى التفاقم، فشن الإعلام السوفيتى  عام 1955 هجومًا حادًا على اسرائيل بسبب هجماتها المتكررة على الدول المجاورة، خاصة بعد أن عقدت مصر صفقة الأسلحة "التشيكية". هكذا تبدل الموقف السوفيتى من اسرائيل (والصهيونية) من حال إلى ضده فى إطار ثابت، هو دفاع البيروقراطية السوفيتية عن نفسها فى مواجهة هجوم الغرب. لذلك لم تكن فترات العداء للصهيونية ثم تأييدها ثم العودة إلى مهاجمتها، تتميز باتساق كامل مع نفسها؛ فالعداء لم يحل دون إقامة مركز للوكالة اليهودية فى موسكو، والتأييد لم يرافق السماح بهجرة اليهود السوفيت إلى اسرائيل، رغم إلحاح الوكالة اليهودية ثم حكومة اسرائيل فيما بعد (لأن حدوث هذه الهجرة فى الوقت الذى كان يعلن فيه ستالين أنه قد حقق 99% من الاشتراكية، لهو أمر يسئ إلى اشتراكيته أيما إساءة)، بينما سمحت موسكو بالهجرة فى فترة "عدائها" الجديدة للصهيونية، تحت ضغوط الوفاق الدولى واحتياجاتها لشحنات القمح الأمريكى والقروض الغربية[27].

هكذا تحدد موقف الاتحاد السوفيتى من الصهيونية، وبالتالى من القومية العربية، فى كل هذه الفترات على أساس المصالح العليا للدولة "السوفيتية".

3- الاتحاد السوفيتى والناصرية:

 تغير تقييم الحكومة السوفيتية للناصرية غير مرة؛ ففى البداية اعُتبر انقلاب يوليو 1952 مجرد انقلاب أمريكى الهوية، ومن ثم أعلن الاتحاد السوفيتى عداءه للضباط وهاجم إعلامه قانون الإصلاح الزراعى على أساس أنه لا معنى له، وأنه أُعد لإنقاذ كبار الملاك من الثورة التى لا مفر منها[28] ، وهاجمت الصحف السوفيتية الحكم الصادر بإعدام خميس والبقرى والاعتقالات التى جرت حينذاك للشيوعيين، باعتبارها علامة على خوف رجال الانقلاب من حركة العمال والفلاحين [29]. ولكن ما أن أعلن الضباط بوضوح رفضهم لفكرة الحلف الموالى للغرب حتى أعلن السوفيت فى عام 1953: "وقامت ثورة الجيش وتألفت لأول مرة فى مصر حكومة اشتراكية قضت على الإقطاع (…) وصادرت أموال الاستغلاليين"[30].

هكذا انقلب الحال من وصف "الإصلاح الزراعى" بأنه أُعد لإنقاذ كبار ملاك الأراضى بالزعم بأن حكومة الضباط قد "قضت على الإقطاع"، ومن "الانقلاب الأمريكى" إلى "حكومة اشتراكية" (وسنرى بعد قليل كيف انقلب الصراخ من أجل الشيوعيين المصريين إلى الصراخ فى وجوهم).

وأثناء الصراع بين محمد نجيب و"الليبراليين" ضد الناصريين أيد الاتحاد السوفيتى فى البداية الطرف الأول .. ولكن بعد رفض الناصريين للحلف العسكرى انعكس موقف موسكو، وتم توقيع أول معاهدة تجارية بين الضباط والاتحاد السوفيتى فى مارس 1954، تقرر بموجبها توريد القمح لمصر فى مقابل القطن، ثم عُقدت صفقات أخرى لاستيراد البترول والأفلام السوفيتية، وبدأت الحكومة المصرية فى إرسال الدارسين إلى الجامعات السوفيتية بأعداد صغيرة[31].

وحتى ذلك الحين كانت المفاوضات بين الضباط وبريطانيا لا تزال دائرة، أما بعد توقيع معاهدة الجلاء انقلب الموقف السوفيتى من الناصرية مرة أخرى، ولكنه لم يعد يؤيد "الليبراليين" الذين لم يعد لهم وجود منظم، وإنما الإخوان المسلمين، الذين رفضوا المعاهدة، التى أدرك الكرملين أنها قد وُقعت تحت ضغط أمريكى. أما حين اتضح أن المعاهدة ليست بداية لشهر عسل طويل مع الغرب، عاد الاتحاد السوفيتى ينظر إلى الناصرية مرة أخرى كحكومة ثورية معادية للاستعمار، وخاصة بعد أن حضر عبدالناصر مؤتمر باندونج فى عام 1955 واعترف بالصين الشعبية. فأخذ يدعم حكومة الضباط اقتصاديًا، فوافق على شراء المخزون الراكد الضخم من القطن فى العام نفسه، وقدم للضباط قروضًا كبيرة (ولسوريا أيضًا)[32]. وبينما بلغت نسبة الصادرات المصرية إلى الاتحاد السوفيتى من جملة الصادرات نحو 50% فى عام 1957[33] ، أوقف الأخير علاقاته الاقتصادية مع اسرائيل[34].

وقد مثّل هذا التحسن الملموس فى العلاقات مع الاتحاد السوفيتى سندًا هامًا لعبدالناصر فى صراعه فى تلك الفترة مع الغرب حول مسألة الحلف الدفاعى. فبعد اتساع غارات اسرائيل وتكرارها راح يهدد بالحصول على السلاح من الاتحاد السوفيتى، خاصة أن شواين لاى وعده أثناء انعقاد مؤتمر باندونج بامكانية ذلك. وبدلاً من تزويد الناصرية بالسلاح، شددت الدول الغربية ضغطها، فراحت تتمنع فى مسألة تمويل السد العالى وتزود اسرائيل بالأسلحة والمعونات. وفى هذه الظروف لم يجد عبدالناصر سوى مخرج واحد هوالاتحاد السوفيتى، فكان أن عقد صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا فى مايو 1955.

أثارت الصفقة ذعر الغرب وابتهاج الشعوب العربية ، بل وأعربت الحكومات العربية أيضًا عن ابتهاجها (وضمنها حكومة نورى السعيد الوكيلة لبريطانيا !). وفى هذه الظروف لم تكن الحكومات الغربية لتحاول موازنة الصفقة بأخرى مماثلة؛  فحلف الأطلنطى لم يكن ليتهور بشحن الناصرية بمزيد من الزهو والطموح فى الوقت الذى استطاع فيه الاتحاد السوفيتى أن يكسب نقطة هامة ويقطع الطريق عليه، بينما ارتسمت الناصرية فى أعين الجماهير العربية فى هيئة حكومة ثورية، مما أكسبها ثقة فى النفس لا حدود لها. فى مثل هذه الظروف كان من غير المفيد  أن يتنازل الغرب أمام الناصرية.

بعد هذه الصفقة، أصبح الكرملين يعتبر الناصرية موطئ قدمه فى الشرق الأوسط (وتبعتها سوريا واليمن، إذ عقدت كل منهما صفقة مماثلة فى عام 1956). لذلك قامت الصحف السوفيتية بمهاجمة بعض الشيوعيين المصريين الذين استمروا يعارضون الناصرية بعد الصفقة . وعلى سبيل المثال نجد هذه الإشارة : "المشاغبين الذين يدعون أنفسهم بالشيوعيين فى مصر والذين يتجاسرون على معارضة حكومة الرئيس عبدالناصر"[35]. ولم يكن هؤلاء "المشاغبين" سوى قلة، إذ راحت فى ذلك الوقت بيانات التأييد لعبدالناصر تصدر من السجن تباعًا من جانب كافة المنظمات الرئيسية (سوف نعود فيما بعد إلى هذه المسألة بالتفصيل).

وجدير بالذكر أن الصفقة السوفيتية (التشيكوسلوفاكية شكلاً) قد أُبرمت فى الوقت الذى كان فيه الناصريون يواصلون حربهم المقدسة ضد الشيوعية، فكان كثير من الشيوعيين رهن الاعتقال. ولكن ذلك لم يعن حكام الكرملين فى شىء، إذ أعطوا كل الاعتبار للصراع الدولى فحسب.

 

الأزمة :

السد العالى

كانت العلاقة الجديدة بين مصر والاتحاد السوفيتى نتاجًا – أساسًا – للأزمة فى العلاقة بينها وبين الغرب. والى أن عقدت صفقة الأسلحة كانت الأزمة لا تزال ساكنة، وهى الأزمة التى تخص رفض مصر الناصرية لمبدأ الحلف الدفاعى المرفوض تمامًا من جانب الحركة القومية العربية. ولكن مع عقد صفقة الأسلحة بلغت الأزمة اللحظة المناسبة للتفجر.

وفى نفس السنة (1955) قدم الاتحاد السوفيتى عرضًا بتمويل مشروع السد العالى – دون أية شروط – إلى عبدالناصر، فى الوقت الذى كانت فيه الدول الغربية تتلكأ فى إبرام الاتفاق النهائى على تنفيذ المشروع. ومع ذلك لم يعلن عبدالناصر قبوله للعرض السوفيتى، بل أبلغ دالاس "إننا نفضل التعامل مع البنك الدولى بالرغم من أن الحكومة الروسية عرضت علينا شروطًا أفضل"[36] . هكذا استغل عبدالناصر بمهارة  التناقضات الدولية إلى آخر مدى بالتمنع والضغط بإحدى القوتين على الأخرى، وتجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة أو التخفيف منه بقدر الإمكان.

لذلك تم الاتفاق مع البنك الدولى على تمويل المشروع، بفائدة قدرها 5.5%، فضلاً عن إشراف البنك على الميزانية المصرية، ثم تم تعديل الشروط لصالح مصر. كذلك وافقت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على المشاركة فى التمويل، ولكن بدفع التمويل السنوى فحسب. ومع ذلك وافقت الحكومة المصرية.

وقد لقى المشروع مقاومة من جانب المعارضة الصهيونية فى الولايات المتحدة، والتى كان يهمها الا تتدعم العلاقات المصرية الأمريكية، ومن جانب مزارعى القطن الأمريكيين خوفًا من منافسة القطن المصرى الممتاز، بالإضافة إلى جماعات "أصدقاء الصين الوطنية" الذين أثارهم اعتراف عبدالناصر بجمهورية الصين الشعبية فى عام 1955. إلا أن عقد صفقة الأسلحة السوفيتية كان هو النقطة التى انقطعت عندها العلاقات الناصرية – الأمريكية (مؤقتًا). وقد بدأت الأزمة حين طلب مسئول أمريكى كبير من السفير المصرى فى واشنطن أن يعمل عبدالناصر على تحقيق الصلح مع اسرائيل وأن يوقف صفقة الأسلحة، فكان هذا بمثابة شرط غير معلن بصفة رسمية لإتمام صفقة السد العالى. ولكن الاستجابة للشرط الأمريكى – كما أسلفنا - لم تكن من الأمور السهلة فى ذلك الوقت، علاوة على أنها لم تكن أمرًا ضروريًا، لأن الاتحاد السوفيتى كان قد عرض نفسه كبديل قوى للدعم الأمريكى، ولم تكن مصر الناصرية عاجزة تمامًا عن المقاومة .. لذلك لم تقبل الشروط الأمريكية الفظة. ومن ثم أعلنت أمريكا ثم بريطانيا سحبهما لعرض تمويل السد العالى عقابًا لعبدالناصر، ثم حذا حذوهما البنك الدولى، لأن مساهمته فى التمويل كانت مكملة للمساهمة الأمريكية، وكذلك لأنه – فى الوقت نفسه – تابع للمصالح الأمريكية.

وتكمن أهمية معركة السد العالى فى كونها الشكل المباشر للأزمة بين النظام الناصرى والغرب. أما المشروع نفسه كمشروع اقتصادى فلم يكن يشكل أية خطورة على مصالح الغرب، ولم تثر بشأنه – كمشروع اقتصادى – أية خلافات حقيقية من جانب الغرب، خاصة وأن الضباط قد قبلوا الشروط الاقتصادية الأمريكية[37]. كان الخلاف إذن خلافًا سياسيًا بحتًا حول الحلف الدفاعى، يعبر عن خلاف حول الإطار الكلى للعلاقات بين مصر والغرب، وبالتحديد من حيث موقع مصر من الاستراتيجية الأمريكية.

وهنا ينبغى أن نرصد بدقة ذلك الطرف القوى فى ساحة الشرق الأوسط، الذى هدد مخططات الغرب ومن يقبل بها: الحركة القومية العربية، التى غالبًا ما يتناساها معظم المحللين المتعاطفين مع الناصرية، معتبرين أن رفض نظام عبدالناصر للخطة الأمريكية ليس إلا تعبيرًا مباشرًا عن طموحات اقتصادية وتنموية عظيمة (سيتضح لنا حجمها الحقيقى فى فصل خاص). ومن الطبيعى ألا يلاحظ هؤلاء – بالتالى – أن الضغط السياسى – الاقتصادى الأمريكى لم يضع فى اعتباره بالقدر الملائم دائمًا الضغوط المقابلة من قبل الحركة القومية على الناصرية أو الاعتبار الكبير لها من قبل حكومة الضباط .

كان رد فعل الناصرية القوى على وقف تمويل السد العالى هو تأميم قناة  السويس. وكانت حكومة الضباط تستعد لاستلام القناة منذ عام 1954، مما يشير إلى استعدادها لتأميم القناة منذ ذلك الوقت، فقد أصدر الضباط قرارًا سريًا بعمل مسح كامل لإمكانيات تشغيل القناة، وبدأت الحكومة فى مهاجمة الشركة وإعداد مرشدين مصريين لإدارة القناة منذ عام 1955، حين رفضت الشركة مطالبها بتحسين شروط العمل فيها  لصالح مصر. ومنذ عهد ما قبل الانقلاب كان تأميم القناة مطلبًا شعبيًا هامًا، إذ كانت شركة القناة – بغض النظر عن أرباحها الضخمة – تمثل تاريخا استعماريًا مفزعًا.

ومن ثم لم يكن تأميم القناة مجرد رد فعل مباشر لوقف تمويل مشروع السد، إذ كانت تدور حولها من قبل – كمشروع اقتصادى – خلافات محددة، ووجد عبدالناصر فى تأميمها فرصته للرد على ضغوط الغرب . كانت الخطورة الكبرى لتأميم القناة من وجهة نظر الغرب هى إمكان انتشار موجة التأميم إلى العالم الثالث كله، فقناة السويس، على حد تعبير صحيفة "لوموند" الفرنسية، "تمثل شيئًا آخر غير مجرد مصالح إحدى الشركات المساهمة أو مجرد مصالح أصحاب أسهم معينة .. إنها تمثل رمزًا .. وإذا سقط هذا الرمز فان السد سينهار، وسيتعاقب التأميم تلو التأميم، وستنهار جميع شركات البترول، وسيكون ذلك آخر ضربة موجهة لمكانة الغرب"[38].

لم يكن تأميم القناة إذن مجرد ضربة اقتصادية لهيمنة الغرب وإنما ضربة لرمز هيمنته السياسية ؛  لهيبته، رد سياسى على ضغوطه. وجاء هذا الرد فى وقت وجد فيه الضباط أنفسهم يتمتعون بدعم عسكرى واقتصادى سوفيتى كبير، وبتأييد شعبى هام بعد مؤتمر باندونج، كذلك كانت هذه الضربة نفسها كفيلة بجلب أقوى تأييد ممكن للناصرية من جانب الحركة القومية العربية فى المنطقة كلها .. فتكون الناصرية قد ضربت عدة عصافير بحجر واحد: الرد على الضغوط الأمريكية – البريطانية، ضمان مصدر لتمويل مشروع السد العالى وغيره، كسب ود ، بل حتى تبعية الحركة القومية، وأخيرًا، تأديب الشركة التى رفضت الاستجابة لمطالبها.

بالفعل كان لتأميم القناة دوى هائل على الصعيد العربى والعالمى، فكانت قمة الأزمة مع الغرب، وكان أن تبددت الصورة السوداء للناصرية فى الوطن العربى بشكل حاسم. إذ مثلت ضربة ساحقة لشىء بالغ الأهمية: هيبة الغرب، شىء يفوق قرار إلغاء معاهدة 1936 نظرًا لما مثلته شركة القناة من آثار الاستعمار البغيضة. وبذلك حققت الناصرية انتصارًا ساحقًا . كذلك كان التأميم مناسبة جديدة لكى يعلن خروشوف عن اشتراكية  الناصرية، كما كان مناسبة هامة لحصول النظام على تأييد الشيوعيين" الحاسم، كما سنرى لاحقًا.

 

 تأميم القناة : مقدمة حرب 1956:

كان تأميم القناة ضربة قاسية للوجود البريطانى فى الشرق الأوسط. فقد شهدت المنطقة منذ الأربعينات نضالاً شعبيًا شاملاً ضد نفوذها، ونجحت الحركة القومية فى تجميد مشروع حلف بغداد وإجبار بريطانيا على تغيير خططها فى مصر جزئيًا. ولكن الانقلاب البونابرتى  1952 أخذ  فى تقمص دور قائد الحركة القومية، ولكنه، ولهذا السبب بالذات أدى إلى مزيد من اندفاع الأخيرة ، التى كانت ضده، حتى منتصف الخمسينات، ثم وراءه، ابتداء من مؤتمر باندونج خاصة. ومنذ أن بدت الناصرية فى نظر الحركة القومية العربية كحكومة ثورية، بدا عبدالناصر لبريطانيا رمزًا لشقائها، ولذلك قررت إسقاط حكومة الضباط. فلم تتفهم الدبلوماسية البريطانية جيدًا حقيقة أوضاع الشرق الأوسط. فالسبب الحقيقى لشقاء بريطانيا هو الحركة القومية العربية لا نظام عبدالناصر، والتحليل الموضوعى كان يجب أن يقود هذه الدبلوماسية إلى فهم هذه الحقيقة، التى تضمنت حقيقة أهم: إن الناصرية نفسها لم تكن تستطيع أن تتصرف إلا على النحو الذى تصرفت به وأنه كان من الممكن التعامل معها بتفهم أعمق، وقد تحملت بريطانيا نتائج خطئها[39].

أما فرنسا قد سارت على الدرب نفسه، فعبدالناصر هو المسئول – فى نظرها – عن الثورة الجزائرية .. هكذا كان تحليل ساستها، الذين لم يدركوا أن عبدالناصر فى مساعدته لثوار الجزائر إنما كان يؤدى مهمة حيوية لنظامه هو: القضاء على الاستعمار المباشر فى المنطقة، حماية لاستقلاله هو، واحتواء للحركة القومية العربية القوية والضاغطة شرقًا وغربًا. علاوة على رضا الولايات المتحدة عن هذه المساعدة والأهم من ذلك أنه لم يكن المحرض على الثورة الجزائرية قط، بل كانت الدوافع والقوى الأساسية للثورة موجودة بالجزائر نفسها. لذلك قررت فرنسا التعاون مع بريطانيا (رغم تأييدها الضمنى للثورة الجزائرية) فى إسقاط حكومة الضباط، وقد راحت الصحافة الفرنسية والبريطانية تصف عبدالناصر بأنه هتلر جديد، وما شابه ذلك من أوصاف. وتصور ايدن أن عبدالناصر يريد تكوين إمبراطورية عربية تحت قيادته، وبلغت مخاوفه الشخصية حدًا خطيرًا بحيث بات شبح عبدالناصر كشخص يؤرقه للغاية.

أما اسرائيل فقد وجدت فى نوايا الدولتين ضالتها المنشودة، فقد كانت بدورها تعانى من مرض الناصرية العضال، فكانت تخشى بوجه عام من آثار معاهدة الجلاء البريطانية – المصرية وتفضل عودة بريطانيا إلى وضعها السابق فى مصر، وكانت تعانى بشكل خاص – منذ أن شنت هجماتها على قطاع غزة – من قرار عبدالناصر بإغلاق مضايق تيران فى وجه الملاحقة الاسرائيلية عام 1955، وكانت تخشى أيضًا من نمو قوة الجيش المصرى بعد صفقة الأسلحة السوفيتية الضخمة، كما ازدادت مخاوف بن جوريون بعد عقد اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا.

هكذا قررت البلدان الثلاثة إسقاط نظام عبدالناصر. وجاء قرار تأميم القناة ليثير المعسكر الغربى كله؛ فالقرار كان ضربة قوية لهيبة بريطانيا. وكانت اللحظة مناسبة من وجهة نظر البلدان الثلاثة لوضع خطة العدوان الثلاثى، رغم أنها لم تجد مبررًا لها أمام العالم، فالقرار المذكور لم يكن اعتداءً على أحد، وإنما كان ردًا منطقيًا وبسيطًا جدًا، ولم تستطيع البلدان المعتدية أن تستشف أثر عدوانها، الذى حولت نتائجه المعروفة الناصرية إلى أسطورة من وجهة نظر الجماهير العربية، على حساب مصالح بريطانيا وفرنسا، وبالضبط لصالح كل من اسرائيل والناصرية.

وقد وجدت الولايات المتحدة هى الأخرى فرصتها المناسبة لتحقيق هدفها: الحلول محل أوروبا فى الشرق الأوسط. ولذلك، أعلنت فى بيان مشترك مع بريطانيا وفرنسا تنديدها بعبدالناصر ومطالبتها بتدويل القناة، أى "أمركتها" من الناحية العملية. وللضغط فى هذا الاتجاه قررت التجميد الجزئى لأموال مصر فى الولايات المتحدة (بينما قررت الدولتان الآخرتان تجميدها بالكامل) وقطع المعونات الاقتصادية عنها، كما قامت بإنشاء ما أسمتها بـ "جمعية المنتفعين بقناة السويس" أما على الصعيد الشعبى، فقد أثار قرار التأميم تأييدًا جماهيرًا واسعًا وقويًا للناصرية فى الوطن العربى وفى العالم الثالث  والبلدان " الاشتراكية "،  بل وفى أوربا الغربية إلى حدٍ أقل. ذلك أن القرار خلق شعورًا بهزيمة كبيرة للاستعمار، كما أشعر الشعوب العربية  بالزهو وبامكانية النصر. والأمر الأهم، أن الناصرية باتت تتمتع بنفوذ لا ينكر على صعيد العالم الثالث  ككل، ونقصد نفوذًا معنويًا. أما التهديدات الامبريالية التى توالت، فكانت تزيد من اشتعال الحركة القومية العربية، الأمر الذى ترتب عليه دفع عبدالناصر إلى مزيد من التشدد. وهكذا أصبح ناصر يشعر بقوته وبضعفه فى آن واحد، فالجماهير العربية قد قررت أن تحارب، ولذلك فهو  الآخر مضطر لخوض المعركة … خاصة أنه كان من الممكن للناصرية أن تستغل موازين القوى القائمة لتحقيق مكاسب هامة.

 لقد بدأت الناصرية منذ 1955-1956 تنافس حزب البعث بعد أن استطاعت أن تتقمص دور الحركة الوطنية المصرية … بل وأصبحت حكومة الضباط هى المثل الأعلى لكثير من راديكاليىّ ما قبل 1952 فى مصر.

قرر عبدالناصر بناءً على قراءة موضوعية لموازين القوى المحلية والدولية الاستمرار فى تشدده، فهدد بإلغاء اتفاقية 1954 فى حالة حدوث هجوم عسكرى، وأخذ يقوى من اتصالاته بالاتحاد السوفيتى … أما الأخير فأعلن بالطبع تأييده المطلق لعبدالناصر ورفض فكرة تدويل القناة، بل وهدد بإرسال متطوعين فى حالة حدوث هجوم عسكرى، إذ كانت الفرصة لا ُتعوَّض لتعزيز نفوذه فى المنطقة، خاصة أن الولايات المتحدة كانت تعمل هى الأخرى على استغلال الموقف، كما كانت فرصته كبيرة فى تحطيم مشروع حلف بغداد.

 

حرب 1956

فور قيام الحرب  انفجرت الحركة القومية فى المشرق العربى كله وفى مصر بالطبع وحتى فى الخليج، فامتدت المظاهرات فى شتى أنحاء المنطقة تندد بالعدوان، وُقطعت أنابيب البترول فى سوريا ومُنع البريطانيون من استخدام قواعدهم فى العراق وفى ليبيا، كما قامت مظاهرات مؤيدة لمصر فى أوروبا وحتى فى الصين. وفى مصر، استعادت جماهير الحركة القومية روحها، ولكن بدون قيادتها القديمة، إذ بدأت ترى فى الناصرية قائدها الجديد.

بقيام اسرائيل بالهجوم واحتلال سيناء، واحتلال بريطانيا وفرنسا لقناة السويس، وجدت الناصرية نفسها فى حالة حرب وقد دخلتها منذ البداية وهى تعلم التوازنات الدولية الملائمة، وبالتالى لم تضع فى اعتبارها إشراك الشعب فى المعركة ، فلم تستعد للحرب على المستوى الشعبى، واكتفت بحشد الجيش فى المواقع الملائمة. وحين خرجت الجماهير تطالب السلطة بالسلاح إزاء عنف ضربات الجيوش التى استهدفت معنوياتها، كان رد الناصرية هو قمع المظاهرات، فقامت الشرطة بالاشتباك مع المتظاهرين فى مدينة بورسعيد، الذين استطاعوا التغلب عليها والاستيلاء على الأسلحة المرسلة إلى المدينة ثم وزعوها بطريقة عشوائية، مما أجبر السلطات على إعادة تنظيم العملية. وعلى احتلال مدينة بورسعيد لم ينس محافظها أن يسلم سلطات الاحتلال بجانب أسلحة الشرطة (قارن مع موقف الشرطة فى 1951) ملفات الإخوان، والشيوعيين (الذين حاولوا بدورهم دخول المدنية فى مجموعات بالرغم من محاولة رجال الأمن عرقلة اشتراكهم فى الحرب، وقد اضطرت الحكومة إلى إدخالهم فيما بعد فى ملابس صيادين بالتعاون مع المخابرات الحربية[40].

وبينما كان عبدالناصر يخطب فى الأزهر باسم النضال، عجزت السلطة عن إعادة قرار "الوفد" فى 1951 :" حق كل مصرى فى حمل السلاح"، وبالمقابل، سرعان ما قبل وقف إطلاق النار (كعادته فيما بعد) وبدأ مفاوضات الصلح. ولنفس السبب (اعتماده على التوازنات الدولية وحدها) لم يضع عبدالناصر فى اعتباره أن يحقق نصرًا عسكريًا على القوات المعتدية، فعلى الرغم من توقعه للحرب ، فقد اختار اللحظة غير المناسبة لجيشه لتأميم قناة السويس، وعلى الرغم من أن عبدالحكيم عامر قد عُيَّنَ قائدًا لجيوش مصر وسوريا والأردن معًا، رفضت مصر دخول سوريا والأردن الحرب، رغم أهمية ذلك فى الوقت الذى اندفعت فيه اسرائيل بقواتها الضاربة فى سيناء، وربما أتى هذا الرفض بناءً على نصيحة أمريكية خاصة[41].

وتجدر الإشارة إلى أن أخذ التوازنات الدولية بعين الاعتبار، لا ينفى، بل يؤكد على نحو غير مباشر أن التناقضات الداخلية كانت لها الأولوية الأولى، فما كانت الناصرية لتدخل معركة تأميم القناة التى توَّجت رفضها الدخول فى حلف غربى، لولا ضغوط الحركة القومية العربية، ولأن الناصرية لا تمثل هذه الأخيرة، فقد قررت خوض المعركة مع الغرب بالاعتماد على التوازنات الدولية، وبذلك تتحقق معادلتها الخاصة … فترفع شعار الحركة القومية بدون أن ترفع هذه الأخيرة نفسها، بل تحل محلها، وهى لعبة مارستها الطبقة المسيطرة فى مصر الحديثة دائمًا. وهى لم تلجأ إلى استغلال الصراعات الدولية لمجرد أنها موجودة (فهى موجودة دائمًا) ولكن لأن التوازنات الداخلية قد دفعت فى اتجاه معين، فرضت سياسة معينة، من ضمن توجهاتها تحقيق الاستقلال السياسى للبلاد، فى الوقت الذى كانت فيه هذه الطبقة تخشى إشراك الشعب فى معركة الاستقلال الذى أراده.

يظل فى سياق حرب 1956 للموقفين الأمريكى، والسوفيتى أهميتها الخاصة، فقد تسابقت الدولتان لوراثة فرنسا وبريطانيا (بمعانى مختلفة طبعًا)، الأولى بضغوط أيزنهاور والثانية بالتهديدات التى كان أهما "الإنذار" الشهير، وكان لتصاعد الحركة القومية العربية بشكل درامى أثناء العدوان تأثير بالغ على موقف الدولتين.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فقد لعبت دورًا هامًا فى إنهاء الحرب، بل وكانت ضد فكرة الحرب أصلاً، فقد أعلن دالاس (وزير الخارجية الأمريكى) أنه لا ينبغى استخدام القوة لمساندة جمعية المنتفعين بقناة السويس، حتى لو رفضت مصر الحل السلمى، وأن مهمة هذه الجمعية هى الإشراف على حرية الملاحة مع جمع الدخل المتأتى من القناة وتسليمه إلى الحكومة المصرية – وليس للشركة المؤممة (وهذا يتضمن بالطبع الموافقة على مبدأ التأميم)، كما قامت الولايات المتحدة بتعطيل عرض القضية على الأمم المتحدة من جانب بريطانيا وفرنسا، ثم قام دالاس بدور هام فى حمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على إدانة بريطانيا وفرنسا (وكان لأيزنهاور فيما بعد الدور الوحيد تقريبًا فى حمل اسرائيل على الانسحاب من سيناء، مستخدمًا فى ذلك مختلف ألوان الوعيد والتخويف)، فالحرب كانت من جهة، عاملاً دافعًا لنمو الحركة القومية فى المنطقة، كما فتحت أمام الاتحاد السوفيتى فرصة تثبيت أقدامه فى الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية حرمت الولايات المتحدة من اتخاذ إجراء فعَّال فى موضوع ثورة المجر التى اندلعت أثناء العدوان الأنجلو فرنسى، وسحقتها القوات السوفيتية، ذلك أن أحداث حرب السويس غطت على أحداث المجر وجعلت موقف الغرب أضعف من أن يمكنه من التدخل فى شرق أوروبا ، ومن جهة ثالثة كانت الحرب فرصة أمام الولايات المتحدة لإزالة الوجود الأنجلو- فرنسى من منطقة هامة فى الشرق الأوسط .

أما الاتحاد السوفيتى، فقد عارض الحرب بالطبع، محققًا مكسبًا سياسيًا هامًا، وبدا للحركة القومية العربية كسند لها، وكان إنذاره (الشكلى … لأنه صدر بعد توقف القتال فعليًا) ضربة معنوية قوية لنفوذ للغرب فى المنطقة، فقد مكنه –لأنه صدر كإنذار مباشر- من قطف ثمار الجهود الأمريكية لوقف القتال وإنهاء الحرب، حيث أن الولايات المتحدة كدولة تنتمى للغرب، قد ظهرت بمظهر العدو أمام الحركة القومية العربية خصوصًا وأنها لم تؤيد الخطة الناصرية بتأميم القناة على نحو صريح، بل وجمدت الأرصدة المصرية لديها، وأوقفت معونتها الاقتصادية عن مصر أيضًا، قبل بدء القتال. أما الاتحاد السوفيتى فوقف منذ البداية مع خطوة التأميم وكان حاسمًا فى تأييده للناصرية طوال الفترة التالية للتأميم وحتى اندلاع القتال، وليس من المؤكد أن الاتحاد السوفيتى كان ينوى تنفيذ تهديده، ولكن المخابرات الأمريكية كانت  تميل إلى الاعتقاد بامكانية تدخل سوفيتى فعلى فى القتال[42].

 

 نتائج الصدام مع الغرب :

انتهت حرب 1956 بإلغاء معاهدة 1954 وانسحاب القوات المعتدية من قناة السويس، وبجهود أمريكية فائقة انسحبت اسرائيل من سيناء مقابل تعهد أمريكى بحماية حقها فى المرور فى خليج العقبة ومضايق تيران، مما أنعش ميناء ايلات وساهم فى تغلغل اسرائيل فى أفريقيا. كما وافق عبدالناصر على وضع قوات الطوارئ الدولية على الحدود الدولية الشرقية لمصر، وفى قطاع غزة وشرم الشيخ، والتى ُوضعت بغرض حماية اسرائيل من غارات الفدائيين. وبهذه الخطوة تحقق لمصر استقلالها السياسى المباشر، بدرجة غير كاملة، وتلى انسحاب المعتدين، تمصير الشركات الإنجليزية والفرنسية فى مصر (ثم البلجيكية أيضًا وغيرها) على أثر ضغوط البنوك الأجنبية على أثناء فترة الحرب (انظر الفصل الثالث).

أما اسرائيل، فقد تدعَّم موقفها كثيرًا بفتح مضايق تيران التى كان عبدالناصر قد أغلقها فى وجهها عام 1955، وبحمايتها بواسطة قوات الطوارئ الدولية من نشاط الفدائيين. وكان مكسبها الثالث مكسبًا دعائيًا عندما قامت الحكومة الناصرية بطرد الجالية اليهودية من مصر (25 ألف) حيث توجه معظم أفرادها إلى فرنسا وتوجه البعض إلى اسرائيل، فقد وجدت الناصرية أنه من المفيد دعائيًا أمام الحركة القومية أن تقوم بهذه العملية ، فسلكت سلوكًا قصير النظر مقابل تحقيق مكاسب هزيلة على المستوى المحلى إذا ما قورنت بما حققته اسرائيل من هذه الخطوة على المستوى العالمى، والمحلى أيضًا بالطبع. ولم يكن هذا التصرف يحمل أى معنى اقتصادى، أو معنى سياسى آخر، فالجالية اليهودية فى مصر لم تكن صهيونية فى مجملها، ولم تحقق الحركة الصهيونية فى الأربعينيات نجاحًا كبيرًا وسط صفوفها، وحين هاجرت أقسام من اليهود إلى أوربا واسرائيل، كان هذا راجعًا  إلى قصر نظر بعض فصائل  الحركة الوطنية نفسها (حملات الكراهية ضد اليهود من قبل الجماعات الدينية وغيرها) وقد سارت الأنظمة العربية كافة على هذا المنوال بعد حرب 1956، من أجل الاستهلاك المحلى[43].

وحققت اسرائيل مكسبًا هامًا آخر، هو إثبات قوتها فى المنطقة والبرهنة على قدرتها على القيام بدور الشرطى فيها لصالح الغرب. وسوف يصبح هذا الأمر – لاحقًا – من الأمور المأخوذة فى الاعتبار من قِبل الولايات المتحدة.

وكان من أهم نتائج الحرب خروج الولايات المتحدة – رغم كل جهودها – من العملية بدون أى رصيد إيجابى لدى الحركة القومية العربية، مقابل تحقيق الاتحاد السوفيتى نفوذًا معنويًا هامًا لدى هذه الحركة بالإضافة إلى نفوذه لدى الأنظمة فى كل من مصر وسوريا واليمن (دول الوحدة المقبلة).

انتهت الحرب بتحقيق الاستقلال السياسى ناقصًا، فقد انهزمت بريطانيا وفرنسا – سياسيًا- ولكن انتصرت اسرائيل (وهذا أمر أغفلته الدعاية الناصرية). ومع ذلك لم يكن إلحاق الهزيمة ببريطانيا وفرنسا إنجازًا ناصريا خالصاً  بل تم كنتيجة لتوازنات محلية ودولية معينة أحاطت بعدوان 1956، وهى التوازنات التى لعبت فيها الحركة القومية العربية الدور الحاسم، فقد أجبرت الحكومات العربية، حتى العميلة منها (مثل حكومة نورى السعيد) على الوقوف مع مصر أثناء العدوان ،  فلبست هذه الحكومات لباس القومية العربية؛ وكان الدور الأهم للحركة القومية قد تجسد فى حفز استقطاب حاد فى المنطقة بين الشعوب و الدول  العربية ضد اسرائيل.. وكان هذا الاستقطاب هو  الذى حدد فى النهاية طريقة ممارسة الدولتين الكبيرتين إزاء المنطقة. باختصار كان تحقيق الاستقلال السياسى مرهونًا بقوة الحركة القومية العربية، وفى الفترة التى كانت فيها الناصرية تحاول أن تتخلص من ضغوط خصومها المحليين بما فيهم الحركة الوطنية فى مصر فانها قدمت تنازلات هامة للغرب فى معاهدة 1954، وبذلك شهد الاستقلال السياسى غير المكتمل الذى أنجزته الجماهير الثائرة فى  1945 – 1952 تراجعًا. إلا انه أمام إصرار الغرب على سياسة العصا الغليظة فى غير الوقت الملائم استطاعت الناصرية ان تستعيد معظم ما قدمته ، ببراعتها فى استخدام التناقضات الدولية و قراءتها الدقيقة للخريطة السياسية العالمية والأقليمية و المحلية .

من أهم النتائج الأساسية لحرب 1956، وللصدام مع الغرب بوجه عام، كان نمو الحركة القومية العربية بشكل لم يسبق له مثيل فى التاريخ العربى الحديث، ورغم أنها قد بدأت ترى فى الناصرية قائدها  وهذه نتيجة أخرى لمعارك 1955-1956 إلا أنها بهذه الرؤية أصبحت تشكل قوة ضاغطة عليها، فبتقديم شعاراتها وعرض أفكارها على الساحة العربية كانت تهدد – ضمنيًا – بتحقيق ثورتها الخاصة .. ولهذا السبب أصبحت الناصرية مدفوعة إلى العمل بشكل محموم على الساحة العربية ككل، كما سنرى فى الجزء التالى.

 


 

 [1]          محمد حسنين هيكل: سنوات الغليان: جريدة الأهرام، 24/10/1988.

[2]           لا شك أن أهم عامل دفع الإخوان المسلمين إلى الاصطدام بالضباط كان خيانة الضباط لوعودهم لهم فيما يتعلق بمسألة السلطة ... ولكن كان توقيع معاهدة 1954 هو العامل المباشر وراء صدام 1954.

[3]           ُنشرت نصوص المعاهدة بالكامل فى:

عبدالرحن الرافعى: ثورة 23 يوليو 1952 – تاريخنًا القومى فى سبع سنوات -  ص ص 54- 56.

[4]           كان وليام كافرى، السفير الأمريكى فى مصر فى أوائل الخمسينات يرى أنه ينبغى على الولايات المتحدة أن تؤيد عبدالناصر، وكان يشبههه بأتاتورك، كزعيم ثورى معتدل وكدرع ضد الشيوعية. وكان هذا السفير متعاطفًا إلى حد كبير مع صيغة الناصرية ومتفهمًا لها. انظر: أحمد عبدالرحيم مصطفى، الولايات المتحدة والمشرق العربى ، سلسلة عالم المعرفة ، أبريل 1978.

[5]           لورنس مارتى: الحياد وعدم الانحياز، الدول الحديثة فى مجالات الشئون العالمية. تعريب وتعليق: خيرى حماد، الدار القومية للطباعة والنشر، ص 178.

[6]           حتى 1958 ظل "الود" حميمًا بين الملك سعود "الناصرى" وقتها  ونظام نورى السعيد. وقد أصدرا بيانًا مشتركًا فى مايو 1957 جاء ضمنه: "إن الاتحاد بين السعوديين والهاشميين قدوة للعالم العربى وكل عدوان على العراق يعتبر عدوانًا على السعودية".

            أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص 150.

[7]           نحيل القارئ إلى قيس عبدالحميد الياسرى: الصحافة العراقية والحركة القومية – رسالة دكتوراه – كلية الإعلام – جامعة القاهرة. وقد قال عبدالناصر فى معرض رده على معارضة "الشيوعيين" لمعاهدة 1954: "أنهم يطبعون منشورات كلها كذب وتضليل وخداع، وهذه المنشورات من أين ينفقون عليها ؟ وهل يخدمون بها مصر أو دولة أجنبية. لقد تبينا أن الشيوعية فى مصر تعمل مع الصهيونية". كذلك اتهمهم  بحرق القاهرة فى 26 يناير 1952 "لبث الفوضى" على حد تعبيره. راجع:

د. فؤاد المرسى، العلاقات المصرية السوفيتية (1943-1956)، ص 138، ص 139.

[8]           محمد نجيب: كلمتى للتاريخ، ص ص 214-215، ص 221.

[9]           محاضر المحادثات السياسية والمذكرات المتبادلة بين الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة – مارس 1950 – 1951.

[10]         انظر نص البيان فى: صالح صائب الجبورى: محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية، بيروت  ط1  1970، ص ص 386 – 387.

[11] ارجع إلى الفريد ليلنتال: وهكذا ضاع الشرق الأوسط، دار القاهرة للطباعة، سلسلة "اخترنا لك"، عدد 38 ، ص 92.

[12]         دافيد داوننج وجارى هيرمان : حرب بلا نهاية وسلام بلا أمل ، ص 83 – مجلة "التضامن" ، عدد 5، مايو 1984 – مذكرات موشى شاريت – محمد نصر مهنا : السوفييت وقضية فلسطين، دار المعارف (صدر عام 1990 ، ص 23). وقد أشار البعض إلى قيام مصر بالتفاوض المباشر مع اسرائيل فى عام 1950، المرجع السابق، ص 19.

[13]         عبدالقادر ياسين: شبهات حول الثورة الفلسطينية، دار الثقافة الجديدة – القاهرة 1977، ص 101.

[14]         دافيد داوننج – جارى هيرمان: المرجع السابق، ص ص 83 – 84.

[15]         عبدالقادر ياسين: المرجع السابق، ص ص 53-54.

[16]         أنور عبدالملك: المجتمع المصرى والجيش، ص 229 ولم ُتطرح فكرة عدم الانحياز بعد انقلاب يوليو فقط، بل كانت وجهة نظر كتلة هامة من الطبقة المسيطرة منذ ما بعد الحرب الثانية، وقد تبناها "الوفد" بشدة من 45-1952. بل ودعا الحزب الاشتراكى إلى الانحياز للاتحاد السوفيتى ضد الغرب ووجد آذانًا صاغية وسط المثقفين، وهو نفس موقف المنظمات الماركسية. ويدلنا هذا على تبنى الحركة الوطنية لفكرة عدم الانحياز على الأقل ، وعلى أن الطبقة المسيطرة قد وجدت فرصة لتحسين شروط تبعيتها فى ظل الحرب الباردة باتباع هذه السياسة ، وهذه الحقيقة وتلك هما ما اكتشفه عبدالناصر كما ذكر بعد عودته من باندونج.

   [17]   كان جمال عبد الناصر صريحاً و واضحاً مع وزير الخارجية الأمريكية  ( دالاس)حين برر له رفضه لدخول حلف عسكرى مع الغرب ؛ بحجة أن ذلك يهدد وجوده فى السلطة من ِقبَل القوى الوطنية المصرية ، إلى الحد الذى أقنع دالاس بوجهة نظره كما يبدو .محمد حسنين هيكل: عبد الناصر و العالم ،دار النهار للنشر ، بيروت 1972 ، ص ص 66 – 68 . 

[18]         لاكور: المرجع السابق، ص ص 287 – 300.

[19]         كان الاتحاد السوفيتى معاديًا لحركة البعث العربى، وأعلن عن موقفه هذا فى أواخر الخمسينات. ولعلنا نذكر أن موقف المندوب السوفيتى فى مجلس الأمن فى عام 1947 من القضية المصرية كان أيضًا معارضًا لوحدة مصر والسودان، على أساس أنه "لا يعرف بالضبط رغبة الشعب السودانى" !

-           د. فؤاد المرسى : المرجع السابق، ص 89.

[20]         لاكور، المرجع السابق، ص 174، وهو يرى  ان الاتحاد السوفيتى قد تصور أن نجاح اليسار الصهيونى فى فلسطين كان يعنى إقامة دولة اشتراكية يهودية، أو - على الأقل – دولة أكثر تقدمية من البلدان العربية ، أى - بالمفهوم السوفيتى – دولة أقرب إلى موسكو من دول الملوك العرب الرجعيين . كان هذا التصور نتاج تحليل السوفيت للحركة الصهيونية خلال الأربعينات، فإنشاء الكيبوتزات وهيمنة اتحاد العمال على أكبر المشاريع الصناعية، لم يعتبره السوفيت اشتراكية إلا خلال الأربعينات، أى حين بدأ الصدام بين الصهيونية وبريطانيا بعد منح الهجرة اليهودية فى عام 1939 (انظر: بيجين : التمرد) ، أى بعد أن أصبحت الصهيونية تعمل – موضوعيًا- فى صالح السياسة السوفيتية على المدى القصير. وعلى العموم نحن لا نحاكم السياسة السوفيتية على أساس المبدئية واللامبدئية، إذ نرى فى الاتحاد السوفيتى دولة لا ثورة ، لها مصالحها الخاصة التى تفسر كل سياساتها. ونوجه الانتقاد للسياسة السوفيتية من حيث قصر نظرها، الناتج لا عن غبائها (الذى لا نستبعده أحيانًا)، وإنما عن ضيق أفق مصالحها ، التى تحدد استراتيجتها الدفاعية، وبالتالى قصر نفسها، فقد راهنت على الصهيونية ضد القومية العربية المعادية للاستعمار، لأن الأخيرة تتجاوز، بتدشينها معركة  جذرية مع الوجود الأجنبى فى المنطقة ككل، أفق الاستراتيجية السوفيتية، لأنه تشكل بذرة قوة مستقلة  لها مصالح ضخمة وطموحات هائلة، الأمر الذى لا يقارن بالصهيونية، كما تبدت فى الأربعينات بخاصة.

[21]         نسوق هنا تطور موقف الاتحاد السوفيتى من حرب 1948، وهو موقف له دلالته الواضحة:

            * 1948 – 1950 : الحرب عدوان عربى على اسرائيل.

            * 1950 – 1958 : الحرب عمل تتحمل مسئوليته اسرائيل والدول العربية،

            (وهذه هى فترة تدهور العلاقات بين موسكو وتل أبيب بعد موقف الأخيرة من الحرب الكورية واشتراكها فى عدوان

              1956 ضد النظام الناصرى المتقارب مع موسكو ).

            *          1958 وما بعدها: الحرب عمل عدوانى من جانب اسرائيل.

            (وهى الفترة التى شهدت تبلور خريطة العلاقات السوفيتية مع دول الشرق الأوسط). لاكور، المرجع السابق، ص ص 174-175.

            هذا التسلسل لا يمكن إرجاعه إلى جهل أو خطأ البيروقراطية السوفيتية، فكافة الوقائع كانت معروفة وواضحة .

[22]         محمد نصر مهنا: المرجع السابق ، ص 12.

[23]         لاكور: المرجع السابق، ص 175.

[24]         لاكور: المرجع السابق، ص 234، محمد نصر مهنا: نفس المرجع، ص21.

            ويبدو أن حذر الولايات المتحدة فى تعاملها مع اسرائيل حتى أوائل الخمسينات كان دافعًا إضافيًا لهذا التمادى من جانب الاتحاد السوفيتى فى إبراز عواطفه تجاهها .

[25]         فؤاد المرسى، المرجع السابق، ص ص 148 – 152.

[26]         ذكر قادة اسرائيل فى مذكراتهم أنه  لولا الدعم العسكرى من الكتلة الشرقية لما استطاعت العصابات الصهيونية أن تواصل "كفاحها" (!) فى فلسطين، بل ان الطائرات القليلة التى كانت لدى اسرائيل أثناء حرب 1948 كانت مستوردة من تشيكوسلوفاكيا. كما ذكر الفريد ليلنتال نفس المعلومة ، المرجع السابق، ص 26 ، ص 124.

[27]         إننا لا نعترض على حق اليهود أو غيرهم فى الهجرة من الاتحاد السوفيتى، باعتباره حقًا إنسانيًا عامًا، ولكننا نتناول هذه المسألة هنا من حيث علاقاتها بمنطق السياسة السوفيتية.

[28]         لاكور: المرجع السابق، ص 179.

[29]         فؤاد المرسى، المرجع السابق، ص 129.

[30]         نفس المرجع، نقلاً عن راديو موسكو فى 22/11/1953، ص 132، ويذكر هذا المرجع وقائعا أخرى عديدة توضح بجلاء تطور الموقف السوفيتى من انقلاب يوليو 1952، ص ص 121 – 140.

[31]         منذ عام 1958 دفعت أزمة السيولة فى العملات الحرة حكومة الضباط إلى زيادة عدد الدارسين فى الجامعات السوفيتية وجامعات دول أوربا الشرقية بدلاً من جامعات أمريكا ودول أوربا الغربية.

[32]         لاكور: المرجع السابق، ص ص 245-247، ص 292، ص 296.

[33]         نفس المرجع، ص 288.

[34]         نفس المرجع ، ص 292.

[35]         لاكور: المرجع السابق، ص 253.

ليس هذا فحسب، بل ان "الحزب الشيوعى المصرى الموحد" قد اتخذ موقفًا مماثلاً، ففى العدد 32 من جريدة "كفاح الشعب" وصُف الشيوعيون المعادون للناصرية بأنهم "شرذمة تدعى الشيوعية"، بل وتعهد الحزب بالوقوف لهذه الشرذمة بالمرصاد : " وندعو رفاقنا العمال والطبقة العاملة المصرية أن تكون على حذر من أى شخص يدعى الشيوعية ويحاول التشكيك فى وطنية قائد الحركة الوطنية اليوم الرئيس عبدالناصر". رفعت السعيد: منظمات اليسار المصرى (1950-1957)، ص ص 283-284.

            هكذا راح "الحزب الشيوعى" يدافع عن الناصرية  ، "مكفَّرًا" خصومها من "الشيوعيين" خارج الحزب .. متحولا بالتدريج إلى الناصرية .

[36]         د. فؤاد المرسى : المرجع السابق، ص 194.

[37]         حين رفضت الولايات المتحدة تمويل المشروع تعللت بأسباب اقتصادية تتعلق فيما زعمت بقدرة مصر على تحمل عبء هذا المشروع. وهى، كما هو معلوم، حجة واهية، قصد بها تبرير الموقف لا أكثر. أما خوف بعض المزارعين الأمريكيين من منافسة القطن المصرى، وهى حجة أخرى طرحتها بعض الدوائر الأمريكية، فهى بدورها حجة تافهة، لأن القطن المصرى كان يواجه آنذاك حالة كساد منذ نهاية الحرب الكورية، ولم يكن من المنتظر أن تتوسع الحكومة المصرية فى زراعة القطن، وقد اتجهت بالفعل إلى إحلال الأرز محله.

[38]         نقلاً عن ميشيل كامل: أمريكا والشرق العربى، وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر- دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، ص 118.

[39]         ذكر لورد "بيردوود" أن كل من بريطانيا وفرنسا كانت تنتظر فرصة لضرب نظام عبدالناصر بسبب موقفه من مشروع حلف بغداد، وكان قراره بتأميم القناة هو الفرصة. انظر: أحمد عبدالرحيم مصطفى، المرجع السابق.

[40]         رفعت السعيد: منظمات اليسار المصرى (1950-1957)، ص ص 293-295.

[41]         ذكر "مايلز كوبلاند" أن عبدالناصر اتفق مع الحكومة الأمريكية على عدم إدخال سوريا والأردن الحرب ضد اسرائيل مقابل تعهد الولايات المتحدة بإزالة آثار عدوان 1956 (لعبة الأمم). ومن المحتمل أن يكون موقف عبدالناصر قد تقرر بناء على قراءة موازين القوى فى ذلك الوقت وضمن ذلك الموقف المتوقع للولايات المتحدة، بدون اتفاق صريح ومباشر.

[42]         مذكرات جولدا مائير ، دايان، كذلك أحمد عبدالرحيم مصطفى: المرجع السابق. وهيكل: قصة السويس، بالإضافة إلى مذكرات انطونى ايدن.

[43]         قال ألفريد ليلنتال: "وقد كان انتصار بن جوريون فى الدعاية أكثر بكثير من أى انتصار عسكرى قام به فى سهول سيناء، عندما صفيت الجالية اليهودية فى مصر غداة الغزو الاسرائيلى"، المرجع السابق، ص 7. وجدير بالملاحظة أن النظام العراقى اكتشف بعد مدة طويلة أن قرار طرد اليهود كان خاطئًا من الناحية السياسية فأعلن عن "حق العودة" لليهود العراقيين إلى العراق. وطرحت نفس الفكرة بشكل عابر  على الصعيد العربى الرسمى ابان السبعينيات. ومن المفيد أن نتذكر أن كثيرًا من اليهود المصريين أبدوا أثناء ترحيلهم مظاهر الاحتجاج والحزن لطردهم مما اعتبره وطنهم.

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1