التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الباب الثانى: حكومة الضباط 

                                                

جاء الضباط إلى الحكم فى ظل جو مشبع بروح ثورة الجماهير العفوية العاجزة، وبروح حرب محبطة للطبقة المسيطرة والاحتلال ضد هذه الثورة .. جاءوا فى ظل طموحات الطبقة المسيطرة فى نظام مستقر وفى ظل أمانى الانتلجينسيا و الطبقات الأدنى فى حياة أفضل، بالاستقلال  والإصلاح الاجتماعى.

جاء الضباط فى ظل توتر اجتماعى إلا أنه كان فى إطار حالة من التوازن السياسى، فالاتجاه نحو التجذر والاستقطاب كان قد انعكس منذ 26 يناير 1952 وصارت كل الأطراف المتصارعة تسير شيئًا فشيئًا إلى التحلل والشلل.

لم يكن لدى الضباط أيديولوجيا، ولا برنامجا واضح المعالم ولا خطة لإعادة بناء المجتمع .. لم يشكل "الضباط الأحرار" حزبًا سياسيًا، وإنما اكتفوا بتكوين منظمة من ضباط الجيش فقط من ذوى الرتب الصغيرة والمتوسطة التى يختلف أعضاؤها فكريًا، بل ويحمل بعضهم  أيديولوجيات متناقضة، وإنما جمعهم هدف واحد هو إيجاد مخرج للنظام من الحالة السائدة، التى تعتبر فى قاموسهم الخاص حالة من الفساد العام ، الذى لمسوه جيدا حين ضحى بهم النظام فى حرب هزلية عام 1948 . ويتضح ذلك من منشوراتهم ثم من برنامجهم ذى النقاط الست الشهيرة[1]، وقد تربى زعيمهم فى مدرسة "الكل فى واحد".. َنبَذ الأحزاب مبكراً   وكان يحلم بأن يصبح ذلك "البطل الذى ينتظره الشرق" على حد تعبيره الشخصى، وبلغة المصريين كان يرى فى نفسه "ابن البلد".. لم يكن يؤمن أبداً بالجماهير و لذلك انحصر نشاطه داخل الجيش و لم يحاول بناء منظمة جماهيرية و لم يسمح بدخول أى مدنى فى تنظيمه ولا حتى جندى واحد، و لم يحاول مطلقا حتى تشكيل جبهة ثورية من أى  نوع .. و بالطريقة التى أقام و أدار بها تنظيمه و دبر بها انقلابه  حدد كيف  سيدير المجتمع كله .

وبغض النظر عن مدى حسن نواياهم فهم فى النهاية قد اقتنصوا سلطة فارغة، وبدلاً من أن يقبعوا فى ثكناتهم تحت إمرة يد مرتعشة وجدوا أنفسهم يزيحون هذه اليد بسهولة ويسر، ولسان حالهم يقول: لماذا لا تُسيَّر الأمور كما نقرر ونحن القوة الوحيدة فى البلاد القادرة على الحركة ؟

لقد استطاع مائة ضباط يسيرون على رأس جيش مهلهل أن يستولوا على السلطة، رغم وجود أحزاب عريقة، وجيش الاحتلال فى القناة وجماهير ثائرة … مثبتين عجز الجميع[2]. وفى الحقيقة فقد منحت حالة التوازن السياسى لهؤلاء الفرصة لكى يتحولوا من أداة فى يد الطبقة الحاكمة إلى سادة للمجتمع كله[3]. ولم يكن "الضباط الأحرار" يشكلون قوة سياسية قبل الانقلاب، ولكنهم .. فقط .. لم يجابهوا بأية قوة حقيقية .. لقد غرقت القوى السياسية فى صراع لا جدوى منه، إذ لم يكن من بينها من يستطيع أن يحسم الصراع الاجتماعى والسياسى لصالحه. والأمر الذى كان آخذًا فى البروز منذ عام 1947 هو بداية انسلاخ أداة الدولة نفسها من أيدى الطبقة المسيطرة دون أن تستقطبها أطراف أخرى. وقد صارت الآلة العسكرية التى لم تشكل- كمؤسسة- أحد أطراف الصراع الاجتماعى  السياسى المحتدمة آنذاك، أقوى قوة سياسية فى البلاد، ويعود الفضل فى ذلك إلى كونها المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التى وقفت خارج الصراع المذكور، بل إنها قد ظهرت أمام الشعب كضحية للنظام فى حرب 1948، مما منحها احترامًا خاصًا من قبل الجماهير. وقد كان "الضباط الأحرار"  يحملون برنامجًا يناسبهم، برنامجًا مشوشًا ومجرَّدًا. وقد طرحوا على أنفسهم مهمة تحقيق هذا البرنامج المشوش والذى اكسبه تشوشه – وهذا أمر لـه مغزاه – قوة كبيرة .. فالمعانى المجردة لا تزال تقبل الجدل، وبالتالى تحِمل آمال الجميع، وبرغم تضمنه مشروعًا لتقديم كبش فداء كبير إلا أن هذه النقطة الأكثر تحديدًا من بقية النقاط قد أنعشت آمال أعرض القوى على الساحة المصرية  لم يكن من الممكن للضباط أن يحكموا البلاد فى ظل الخريطة السياسية التى كانت عليها. فالنظام القائم بتشريعاته ونظمه المختلفة لا يستوعب الحكم العسكرى. فالدستور لا ينص على ذلك والقوانين لا تعطى العسكريين أية حقوق سياسية، وكافة القوى السياسية تريد السلطة لنفسها لا للعسكريين. وإذا كانت هذه القوى لم تعارض الانقلاب فذلك لأن كل منها نظر إليه على أنه جسرها الخاص إلى السلطة. أما الضباط فرغم أنهم كانوا قد اكتسبوا قدرًا من التعاطف الشعبى، إلا أنهم لم يحصلوا على هذا التعاطف لصالح الحكم العسكرى فى حد ذاته، بل للآمال الغامضة التى مثلوها؛ تلك الآمال التى لم يكن من الممكن تحقيقها أبدًا فى ظل النظام السياسى القائم، ولم يكن من المتصور أن تتحقق فى ظل موازين القوى القائمة.

لقد  طرح الضباط عدة مبادئ لا ترقى إلى مستوى البرنامج، وقد غلب عليها طابع العمومية. وقد أعطاهم هذا الطابع المطاط "لبرنامجهم" فرصة كبيرة لضم صفوفهم أولاً، ثم لتجميع الجيش حولهم ثانيًا، ثم جذب الشعب ناحيتهم ثالثًا ثم تفادى استعداء الطبقة المسيطرة أو الدوائر الغربية وهذا رابعًا، ثم لتبربر أية تصرفات فى المستقبل .. وبدلاً من المزايدة على الجميع اكتفوا بطرح نقاط عامة لا تثير غضب الكثيرين ؛ بحيث يمكن كسب ود مختلف الأطراف بقدر الامكان  بدلاً من كسب عدائهم. والحقيقة أن ما مكنهم من القيام بهذه اللعبة هو انهم ظهروا أمام المجتمع كقوة محايدة اجتماعيًا ولم تكن هذه الامكانية متوفرة من قبل لأية حكومة سابقة على الانقلاب أو لأى حزب قائم.

ولقد جاء الضباط إلى الحكم فى ظل الملكية ودستور 1923 والبرلمان والنظام الحزبى، ولم يكن من الممكن لهم اتخاذ أية إجراءات ذات واجهة شرعية إلا بقدر ما يمكنهم تقنين سلطتهم الخاصة، وقد تم هذا من هذا من خلال سلسلة من الصراعات الشائكة ابتداء من 23 يوليو 1952 إلى آخر مارس 1954 على الأقل .

فى 23 يوليو تم اعتقال جنرالات الجيش وأصبحت الآلة العسكرية بنفسها على رأس السلطة ونفضت أيديها من مهمة لعب دور الحارس الأمين للملك  .. كذلك أعلنت صراحةً أنها منذ الآن فصاعدًا ستلعب دورها الخاص وأنها سوف تعيد صياغة النظام وفقًا لما تراه، "باسم الشعب"، كما وعدت بالعودة إلى الثكنات بعد تنفيذ هذه المهمة.

طلبت آلة الانقلاب من الشعب أن يركن إلى الهدوء والسكينة وخرجت مدافعها إلى الشوارع منذرة متوعدة كل من لا يحترم إراداتها الخاصة ( اذ بات لها إرادة خاصة) والتى أسمتها "إرادة الشعب" كما أعلنت للشعب الذى دعته إلى السكون.

وفى ظل المدافع راح الضباط يزيلون كل ما اعترض سبيلهم إلى الانفراد بالسلطة وأولها أدوات  الصراع الاجتماعى. لقد جاءوا إلى الحكم بفضل هذا الصراع عينه، ومع ذلك كان تجميده شرطًا لعدم تكرار الانقلاب نفسه، ولكن إزالة مثل هذا الصراع – التوازن كانت فى الوقت نفسه إزالة للشرط الأول لبقاء حكومة بيروقراطية عسكرية، ولذلك كان على الآلة العسكرية وهى تزيل ذلك الشرط الذى كان مبررًا موضوعيًا لانقلابها، أن تعيد بناء نفسها بحيث يصبح وجودها فى حد ذاته مبررًا لحكمها. وبدلاً من أن تعتمد على ظرف استثنائى مر به المجتمع كان عليها أن تخلق شروطًا دائمة للحكم البيروقراطى. باختصار أصبح عليها أن تكتسب شرعية وجودها فى السلطة، ليس من القانون فحسب، بل ومن الشعب والنظام أيضًا. وكان عليها ليس فقط أن تزيل بل وأن تبنى أيضًا، أن تأخذ من طرف لتعطى أطرافًا، و أن تحقق الحد الأدنى من الإنجازات الذى تستطيع أن تبرر به وجودها ..

شكّل الضباط وزارتهم الأولى، من الباشوات والبكوات[4]، التكنوقراط والإداريين البعيدين عن الفكر والسياسة[5] ، وراحوا يعيدون تشكيل النظام بما يلائمهم :

 

1- طرد الملك :

كانت كل القوى السياسية الهامة قد أصبحت لا تطيق بقاء الملك، ولم يكن لدى الأحزاب "الليبرالية"[6] الصغيرة من النفوذ ما تستطيع به أن تؤيده (بل كان هو نفسه الذى كان يؤيد من يريد منها !). بينما أصبح "جيشه" فى السلطة، فوق رأسه بالذات بعد أن ُصِّفيت أهم العناصر الموالية لـه. ولم يعد رجال الأعمال وملاك الأراضى يجدون غضاضة فى التعريض بالملكية، لأن الفضائح الملكية كانت قد أصبحت وصمة فى جبين النظام كله، فكانت إزالة المؤسسة الملكية بالتالى بمثابة تطهير ضرورى للنظام ، وقد برهن الملك فى الشهور التالية لحريق القاهرة أنه سوف يعارض أية إجراءات إصلاحية تهدف إلى تجديد عمر النظام، وأنه بضيق أفقه – أو أفق مصالحه المحدود جدًا – سوف يشكل عقبة كؤود أمام ترميم النظام المتصدع .. وبسبب ذلك فقد فاروق نهائيًا تأييد الدوائر الغربية كذلك[7].

وبالنسبة للضباط كان الملك فاروق هو أضعف حلقات النظام؛ فهو أسوأ ممثل للطبقة  المسيطرة فى ذلك الوقت، كما كان أكبر عقبة قانونية أمام الحكم العسكرى، فكانت إزالته كفيلة بإكساب السلطة الجديدة نفوذًا شعبيًا كبيرًا فى يوم وليلة، خاصة أن السراى قد أصبحت بالغة الضعف على الساحة السياسية بعد أحداث الشهور الأخيرة. ولم يعد النظام الملكى يتمتع  بتعاطف خاص على المستوى الشعبى العام، كذلك لم تقدم الأسرة الحاكمة شخصًا يصلح "كمستبد عادل" بحيث يستطيع أن يدعو إلى التمييز بين فساد الملك فاروق وفساد النظام الملكى نفسه. وهذا العامل أعطى ميزة إضافية للضباط، فكان يمكنهم الإعلان عن إلغاء النظام الملكى من أول يوم، ولكنهم كانوا فى البداية يتحسسون الطريق، فاكتفوا بإبعاد فاروق دون إلغاء الملكية – رسميًا – وتم تنصيب ابنه الطفل ملكًا جديدًا مع مجلس للوصاية عيَّنه "مجلس قيادة الثورة".

وبعد عام واحد تم إعلان الجمهورية فى 18 يوليو. إلا أن السلطات الدستورية للملك كانت قد تولتها الوزارة ابتداء من 29 يوليو 1952. وخلال العام نفسه تم طرد العناصر الموالية له فى الجيش والبوليس.

وقد اتبع الضباط مع الملك مسلكًا متهادنًا؛ فلم يتم إبعاده بصورة مهينة ولم تجر بالطبع محاكمته أو إعدامه، رغم مطالبة بعض الضباط بهذا. كما أُديت له التحية العسكرية وأطلقت لـه المدفعية إحدى وعشرين طلقة، وودعه محمد نجيب شخصيًا من ميناء الاسكندرية[8]، كما سُمح لـه بحمل كل ما يريد من متاع ، و رافقه السفير الأمريكى حتى دخل يخته. إذ لم يكن وضع الضباط فى أول أيام نظامهم مستقرًا بما فيه الكفاية وكانت قبضتهم لا تزال ضعيفة، فكان من الأنسب لهم  أن يبدأوا حياتهم الجديدة ببعض الوداعة، كما كانوا يخشون من سريان روح الانتقام – وهذا ما كان يمكن أن يؤدى إليه إعدام الملك أو إهانته – مما يفتح بابًا  للمبادرة الجماهيرية التى حاربوها منذ اللحظة الأولى.

                 

2- تصفية المعارضة العمالية وضرب المنظمات الماركسية:

فى الوقت الذى أعلن الضباط فيه عن مشروع الإصلاح الزراعى، وإلغاء الألقاب وخلع الملك، كان العمال يرون فى السلطة الجديدة صورتهم، إلا أنهم لم يلحظوا بعد  أنها صورة معكوسة، فانتفضوا فى كفر الدوار (أحد أهم المناطق الصناعية المتطورة نسبيًا فى ذلك الوقت) واحتلوا بعض المصانع واستولوا على إداراتها وطردوا مديريها رافعين عدة مطالب:

1- انتخابات لنقابات حرة وتقنين حق الإضراب.

2- المساواة فى المنح بين العمال والموظفين وزيادة الأجور.

3- منع الفصل التعسفى.

4- إبعاد محامى الشركة فى كفر الدوار.

      

    بالإضافة إلى مطالب أخرى.

 

     لقد انتفض العمال ضد الإدارات وأصحاب رأس المال وليس ضد "الضباط الأحرار". إذ كان برنامج حكومة "الانقلاب هو الذى شجع العمال على الانتفاضة وربما كانوا ينتظرون من الحكومة العسكرية أن تنصفهم، ولكن كانت مفاجأتهم كبيرة ؛ إذ أثار اعتصامهم ذعر النظام كله؛ فأطلقت الطبقات الحاكمة صيحات الرعب من كل صوب، مطالبة بأشد العقاب للعمال، وقام النحاس باشا بنفسه بلوم العمال وطالبهم باللجوء إلى الطرق القانونية – كما سيلجأ هو عما قليل - . بل اتهم  "الوفد" رجال القصر بتدبير الإضراب "للقضاء على الثورة". وقد علق عبدالرحمن الرافعى بلهجة توحى بنفس هذا المعنى بقوله : "إن عمال كفر الدوار (10 آلاف) يتمتعون بمزايا تفوق كل عمال مصر وإن طريقة حركتهم توحى بمخطط ما"[9]. كما أصدر "الحزب الوطنى" بيانًا يهاجم فيه العمال. وكان من الطبيعى أن ينزعج رجال الصناعة مطالبين بسحق حركة العمال. وكان هؤلاء (رجال الصناعة) هم أكثر الجميع رعبًا، إلا أن "الضباط الأحرار" كانوا الأكثر عملية؛ فاقتحم رجال الجيش والبوليس بأمر السلطات المصانع مطلقين الرصاص على العمال واحتلوا المصانع بالقوة بعد معركة كبيرة مع المضربين، الذين تم اعتقال عدد كبير منهم وُقدم البعض للمحاكمة العسكرية وصدر الحكم بالإعدام شنقًا وفورًا على محمد البقرى ومصطفىخميس، دون أن يُسمح للعمال بمحام، كما رُفضت إعادة المحاكمة . ثم أصدرت الحكومة بيانًا إلى : "جميع طوائف الشعب وخاًًًًًًًصةًًًًًًًًًًًًًًًًًًََ العمالانها ستعتبر أى خروج على النظام أو إثارة الفوضى خيانة ضد الوطن وجزاء الخيانة معروف للجميع"[10]. وكان هذا هو أول إعلان للحكومة الجديدة يتعلق بمسألة الحريات الديمقراطية. ورغم ذلك سمحت السلطة "بإثارة الفوضى" فى الجامعة حين قام أفراد من "الإخوان المسلمين" بالاعتداء على الشيوعيين بالضرب بالخراطيم والعصى والسكاكين وإصابة عديد منهم بعد إعدام خميس والبقرى مباشرة.

وقد عاد الهدوء إلى كبار الملاك ورجال الأعمال بينما استمر الضباط فى اتخاذ إجراءات مطمئنة لهم؛ فصدرت عدة قرارات تحرم الإضرابات وتضع النقابات العمالية بأموالها تحت هيمنة الدولة وتحرمها من النشاط السياسى[11]، كما صودرت الصحف اليسارية وجرى اعتقال عدد كبير من الشيوعيين. ولضمان عدم حدوث ردود أفعال أخرى أصدرت الحكومة قرارًا يمنع الفصل التعسفى للعمال وذلك فى مارس 1953. كما تم رفع الحد الأدنى للأجور بالنسبة لعمال الصناعة من 12.5 قرشًا إلى 25 قرشًا فى اليوم[12]، بجانب منح ضمانات أخرى للعلاج والاجازات المختلفة .. ولكن لم تنفذ هذه القرارات بشكل كامل.

فى الحقيقة لم تعد الطمأنينة إلى الطبقات المالكة فحسب، بل وعادت أيضًا إلى القطاع الأكبر من الانتلجينسيا اليسارية (الذى سيصير ناصريا فيما بعد ) و التى كانت تزعم تمثيل العمال ( و الفلاحين أحيانا ). ففى حين قام صحفى شيوعى بريطانى بمهاجمة حكومة الانقلاب، قام زعماء "حدتو" و "حستو"( الحركة السودانية للتحرر الوطنى ) بالرد عليه[13] دفاعًا عن الضباط، باعتبارهم ممثلى "الثورة الوطنية الديمقراطية". وقد رأت المنظمتان أن تصُّرف الضباط هو أمر ينسجم مع "طبيعة الثورة". وقد كان موقف "حدتو" من الحركة العمالية بعد الانقلاب عدائيًا بشكل خاص؛ نجد بذرته فى بيان صدر فى 31 يوليو 1952 "للجنة التأسيسية للاتحاد العام لنقابات العمال" التابع لها يؤيد هبة "جيش الشعب"، ويؤكد أن الجيش هو "حامى الدستور" أما بعد هبة كفر الدوار فقد تنصلت الهيئة من الحركة العمالية، فأصدرت بيانًا جاء فيه: "وصل إلى علم الهيئة التأسيسية للاتحاد العام للنقابات المصرى أن أفرادًا من أعداء العمال والوطن أرادوا أن يسيئوا إلى وطنية الطبقة العاملة محرَّضين من بقايا وأذناب الرجعية والاستعمار … والهيئة التأسيسية باسم العمال تستنكر هذه الأعمال الإجرامية التى لا تفيد الا أعداء الوطن كما ترجو أن يؤخذ هؤلاء المجرمون بشدة حتى تضمن تحرير الوطن وتوحيد صفوفنا فى ظل حياة دستورية كريمة"[14].

وقد وصف رجال "حدتو" الانتفاضة بأنها من تدبير عملاء البوليس السياسى (غير الموالى للضباط ؟!!)‍[15]. واستمرت "حدتو" بعد ذلك فى مهاجمة الحركة العمالية ونسبتها إلى العملاء والمباحث كما راحت تدعو  العمال إلى الهدوء والسكينة، متهمة رجال الأعمال باستفزازهم  لكى يقوموا بأعمال الإضراب، داعيةً العمال لعدم الاستجابة "لاستفزاز" أصحاب المصانع الذين كانوا يقطعون من أجورهم فى حماية السلطة الجديدة التى راحت تسحق إضرابات العمال بقسوة.

وقد أصاب الندم الشديد "حدتو" بعد ذلك.

وفى أواخر العام بدأت الكتلة الرئيسية للحركة الشيوعية المصرية، أى "حدتو"، تغير موقفها من الضباط تحت تأثير الضربات المتتالية الموجهة لها بالذات ، فقد جرت مواجهة عنيفة بين الطرفين .. إذ فاض الكيل بكوادر المنظمة المحافظة وتحطمت الأطر التقليدية التى حاصر بها قادة التنظيم ثورة الكوادر، فشارك أعضاء "حدتو" فى هبات عمالية وفلاحية ضد الضباط: مصنع إمبابة، مصانع شبرا الخيمة وبولاق، قرى الجعفرية والدروتين ونواج، وفى الجامعة. وقد راحت "حدتو" تعوَّض موقفها العدائى من إضراب كفر الدوار بالتشدد البالغ فى الهجوم على السلطة وبتقديم تضحيات كبيرة من الكوادر فى المواجهة التى جرت مع الضباط، وبدأت أيضًا فى تغيير موقفها السلبى من فكرة وحدة الشيوعيين، بل لعبت دورًا كبيرًا فى توحيد بعض المنظمات فى "الحزب الشيوعى المصرى الموحد"، كما وافقت على أطروحات أكثر المنظمات المشتركة فى الوحدة راديكالية (حدتو – التيار الثورى)، كما نجحت فى تكوين ما يشبه الجبهة مع عناصر من "الوفد" وبعض ضباط الجيش وراحت تنادى من جديد بالكفاح المسلح ضد الاحتلال.

ولكن هبة "حدتو" جاءت فقط كرد فعل عصبى على هجمات الضباط. ولم تنجح إلا فى إرضاء ضمائر أعضاء التنظيم الثائرين، كما لم تخرج أبدًا عن الخط الأساسى لليسار ككل وانتهت بخسائر فادحة من الكوادر.

أما بقية المنظمات الماركسية  فقد اتخذت موقفًا عدائيًا من الضباط منذ البداية، وخصوصًا بعد أحداث كفر الدوار. ولكنها اكتفت باتهام السلطة بالفاشية، بينما استدارت لتأييد الأحزاب "الليبرالية"، فإعدام اثنين من العمال كان أمرًا كافيًا – من وجهة نظرها – للتأكيد من الطابع الفاشى للسلطة الجديدة. و بغض النظر عن مدى صحة ذلك ، إلا أن اطمئنان هؤلاء إلى صحة تحليلهم قد دفعهم إلى أحضان الطرف الآخر: "الليبراليين" ؛ أى  "الوفد"  تحديدا .

وحين اشتدت موجة اعتقالات الشيوعيين (بمن فيهم أعضاء "حدتو") ومصادرة صحفهم، وبعد حل الأحزاب، قدم يوسف صديق، أحد أهم قادة الضباط، وهو ماركسى، استقالته من "مجلس قيادة الثورة"، وهو لم يكن فى موقف يمكَّنه من الدخول فى مواجهة ناجحة مع الناصريين، الذين نفوه إلى الخارج وحين عاد سرًا حددوا إقامته[16]. ولكنه كان على العموم أكثر اتساقًا مع فكره اليسارى من رفيقه ( خالد محيى الدين )، الذى قَبِل – فى النهاية -  قواعد اللعبة الجديدة واضعًا نفسه تحت تصرف "الزعيم" بعد مقاومة محدودة فى مارس 1954.

استخدم الضباط أسلوبًا تقليديًا لتصفية الحركة العمالية: العصا والجزرة، مع تكثيف الدعاية المعادية للشيوعية[17]. ويدل نجاح هذا الأسلوب على أن الحركة العمالية كانت قد تدهورت سياسيًا وتنظيميًا إلى الحد الذى حرمها من القدرة على المبادرة والتمسك ببديل لإصلاحات الضباط، بحيث صارت حركة رد فعل إزاء الآخر .. وبذلك راحت تفقد استقلاليتها تدريجيًا .. فى اتجاه الخضوع لحكومة الضباط.

وخلال الشهور التالية للانقلاب نجح الضباط فى توجيه ضربات قاتلة للمنظمات الشيوعية بحيث أُصيبت الأخيرة بخسائر فادحة من الكوادر وأدوات الطباعة، ، وأصبحت فى النهاية بالغة الضعف.

 

3- الإصلاح الزراعى:

 

   " نعتبر من الضرورى اتخاذ إجراءات لمنع الطرد الجماعى لملاك ومزارعى المساحات الصغيرة، وهى طبقة مفيدة وعاجزة فى المجتمع، ويتعارض طرد أبنائها من ملكيتهم الصغيرة التى يعيشون عليها هم وعائلاتهم مع المصالح الأساسية لدولة زراعية كمصر"

 

لورد كتشنر

 

 

     لم تكن فكرة إصدار قانون للإصلاح الزراعى وليدة انقلاب الضباط ولكنها كانت دعوة أطلقت من قبله بسنوات. كما لم تكن حكومة الضباط هى أول حكومة فى مصر تفكر فى تحقيق بعض الإصلاحات الاجتماعية فى الريف. إذ يعود الفضل إلى لورد "كيتشنر" فى إصدار قانون يحرم نزع ملكية الأرض التى تقل عن خمسة أفدنة لتسديد الرهونات، وذلك فى مواجهة عمليات نزع الملكية التى كانت تجرى فى ذلك الوقت (1912) لصالح المرابين الأجانب، وكانت وجهة نظر لورد كيتشنر تتلخص فى أن المحافظة على طبقة الفلاحين الصغار تعد أمرًا حيويًا للنظام حيث أنها – بحسب تعبيره – طبقة "عاجزة" و "مفيدة"[18]، وكانت هذه هى نفس سياسة كرومر[19].  و كانت أحوال الريف المصرى فى الفترة السابقة على انقلاب يوليو 1952 تدفع الكثيرين من مختلف الاتجاهات السياسية إلى المناداة بإجراء إصلاح زراعى بشكل ما أو آخر؛ فنجد محمد خطاب بك[20] مثلاً يدعو فى مجلس الشيوخ إلى تحديد الملكية الزراعية (ولكنه كان يرى قصر ذلك على المستقبل فقط) بـ 50 فدانًا كحد أقصى، ولكنه يُهاحم ويُتهم بالشيوعية من قِبل أعضاء المجلس[21]. كما طالب الإخوان المسلمون بتحديد الملكية أيضًا. وقد وصف سيد قطب مشروع محمد خطاب بقوله: "إن محمد خطاب يفكر كرأسمالى واع، فهو يدرك أن تركيب الملكيات العقارية يجب أن يتعدل من أجل إيقاف العواصف المتجمعة فى الأفق"[22]. أما الدوائر الغربية فأطلقت دعوتها لإجراء إصلاح زراعى فى مجمل البلدان المتخلفة بعد الحرب العالمية الثانية واشتعال الحركات الثورية فى تلك البلدان، فاستجاب للدعوة 92 دولة فى العالم[23]. ونجد الدوافع الكامنة وراء هذه الدعوة فى إعلان لجنة استشارية عينها الرئيس الأمريكى بعد الحرب:

" فى بعض البلدان لا يمكن محاربة الجوع والاشتراكية إلا بالإصلاح الزراعى". أما وجهة نظروزارة الزراعة الأمريكية فكانت : "إن توفير قطعة صغيرة من الأرض وبعض الظروف الملائمة له تأثير فعال على السلام، إنه شىء ينمو فى كيان الإنسان الداخلى، شىء يستعصى استقطاعه وانتزاعه"[24]. وقد وجهت حكومة الولايات المتحدة عبر منظمة الأمم المتحدة نداء إلى حكومات البلدان المتخلفة يدعوها لتطبيق نوع من الإصلاح الزراعى[25]. كما وجدنا عددًا من الاقتصاديين البورجوازيين الأجانب يؤيدون إجراء إصلاح زراعى فى مصر، بل ووجه بعضهم انتقاداتٍ لقصور قانون الضباط[26].

لم يكن يعارض فكرة الإصلاح الزراعى الذى يمس ملكية الأرض سوى كبار ملاك الأراضى، بينما وافق حزب "الوفد" على فرض ضرائب تصاعدية على الدخل الزراعى بدون تحديد الملكية. ومع ذلك لم تصدر حكومة "الوفد" الأخيرة (ولا حتى الحكومة الناصرية بعد ذلك) أى قانون ينص على فرض ضرائب على الدخل الزراعى. وعلى العكس فرضت حكومة "الوفد" مزيدًا من الضرائب على رجال الصناعة.

وقد كان قانون 9 سبتمبر 1952 من أهم القضايا التى ثار حولها صراع سياسى حاد بعد الانقلاب وساهم كثيرًا فى تدعيم سلطة الضباط ونفوذهم الجماهيرى كما أنه ألهب خيال الانتليجينسيا؛ ذلك الخيال الذى لم يهدأ تمامًا حتى عهد قريب بخصوص الإصلاح الزراعى.

وقد أيدت معظم المنظمات الماركسية القانون فور صدوره، بل وتوجه بعض أفرادها إلى الريف بغرض شرحه للفلاحين[27].

والرأى السائد لدى الكتاب الماركسيين ، المنظِّرين الأهم للناصرية فى مصر ينظر إلى القانون كلحظة فى سياق عملية انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية [28]. فالقانون وفقًا لهذا الرأى قد ُوضع فى إطار دعم الصناعة وذلك بتوسيع السوق الريفية، وتدعيم نمط الإنتاج الرأسمالى فى القرية. أما الدعاية الناصرية فلم تهتم إلا بالجانب الذى يفيدها فى جذب تعاطف الفلاحين . وقد صرح جمال عبدالناصر بأن : "أهم شىء فى تحديد الملكية هو الذى يعبر عن معنيين أساسيين: الأول هو الحرية السياسية والثانى هو التخلص من النفوذ السياسى[29]، "وأن مطلبنا لم يكن اقتصاديًا بل هو تحرير الفلاح من نير السيد"[30]. وكان شعار "القضاء على الإقطاع" يعنى الإصلاح الاجتماعى ولم يجر التركيز على وجود أثر لذلك على النمو الصناعى إلا بشكل عابر. ولم يكن مطلب بعض رجال الصناعة بتحديد ملكية الأرض ناجمًا عن شعور بثقل اقتصادى خاص "للمسألة الزراعية" بل  بخطر الثورة الاجتماعية. إذ لم تشكل علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية معوقًا جوهريًا للنمو الصناعى، حيث كان الاقتصاد منقَّدا لدرجة كبيرة.

وقد رحبت دوائر رجال الأعمال فى مصر بصدور القانون، خاصة رجال البنوك الكبرى، فنجد رئيس بنك مصر يصرح بأن القانون "قد جنب البلاد ويلات الحلول العنيفة"[31]، كما رحب البنك الأهلى المصرى أيضًا بالغ الترحيب : "إن مصر تستطيع أن تهنئ نفسها، فبعد العديد من الوعود البراقة والأحاديث الفارغة لم يفلت الأمر من أيدى حكومة نظامية تتعامل معه فى إطارالقانون ولم تهو الأمور إلى دائرة المبادرات الجماهيرية والعنف والفوضى وإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية فإن أى إصلاح يتم – بغض النظر عن مدى جذريته – هو أفضل من فوضى الجماهير وأن على الناقدين – خاصة الناقدين الأجانب – أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار"[32].. أما الأحزاب الليبرالية الأساسية فعارضت القانون فى البداية واقترحت بدلاً منه فرض ضرائب تصاعدية على الدخل الزراعى ثم اضطرت للموافقة أمام تصميم الضباط[33].

وقد تناولنا بالتحليل فى مكان آخر من هذه الدراسة موضوع السياسة الزراعية لحكومة يوليو وتطورها، ولكننا نتناول هنا قانون 1952 بشكل خاص، رغم أنه قد مثل أحد أهم الإجراءات المكوِّنة للسياسة الزراعية للضباط. ذلك أننا نرى أن سياقه (أو الإطار الذى تم فيه) يتعلق بالإطار نفسه الذى جرى فيه انقلاب الضباط. وسوف نحلل هذا الرأى فيما يلى:

يمكننا أن نوجز فى البداية محتوى القانون كالآتى:

1- يُعد أهم البنود ذلك الذى يقرر جعل الحد الأقصى لملكية الأرض الزراعية 200 فدانًا للفرد. وقد ترتب على ذلك عند التطبيق تأميم 370 ألف فدان من أراضى كبار الملاك (تمت كذلك مصادرة أراض الأسرة المالكة عام 1953).

2- يتم دفع تعويض عن الأرض والمبانى والآلات والأشجار بسندات تسدد بعد 15 سنة وبفائدة سنوية تبلغ 3%.

3- يحدد إيجار الأرض بسبعة أمثال الضريبة المفروضة عام 1952.

4-  يتم تسليم الأرض المؤممة للمستأجرين بواقع 2- 5 فدان لكل مزارع (لم تسلم أية أرض لعمال الزراعة) ، بشرط أن يزرعها بنفسه على أن يسدد ثمنها خلال 30 سنة فى شكل أقساط سنوية بفائدة تبلغ 3% سنويًا.

5- لا تؤجر الأرض إلا لمن يزرعها بنفسه، ويتم تحرير عقد ايجار بين المالك والمستأجر.

6- تحدد أجور عمال الزراعة بـ 18 قرشًا فى اليوم للرجل البالغ و10 قروش للمرأة والطفل كحد أدنى. كما يسمح لعمال الزراعة بتكوين نقابات خاصة[34].

تأثيرات القانون :

1-          لا تحمل عملية تحديد الملكية التى تمت أى تأثير مباشر أو غير مباشر على علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية. وكان الأمر الأكثر اتساقًا مع الانتقال المزعوم من الإقطاع إلى الرأسمالية أن يصدر قانون (وينفذ) بإلغاء أشكال  القنانة : الإيجار بالمشاركة ونظام خدمة العمل وغيرها . وكان هذا جديرًا بأن يصنف ضمن الإطار المذكور. أما نقل الملكية الجزئى الذى تم فلم يميز بين أراض تزرع بطريقة رأسمالية وأخرى تزرع بأنماط إنتاج أخرى، وفى بعض الحالات تم تفتيت مزارع رأسمالية وتحويلها إلى مزارع صغيرة (نمط إنتاج سلعى صغير وعائلى !). والقانون كما هو معروف لم يلغ الإيجار بالمزارعة. وحين تم إلغاء الأخير عام 1961 لم يطبق ..لا كليًا ولا جزئيًا (سنتعرض لتركيبة أنماط الإنتاج فى الريف المصرى فى منتصف القرن ضمن الفصل الخاص بالسياسة الاقتصادية للناصرية).

2- ان القانون قد أعطى فترة سماح قدرها خمس سنوات للملاك الكبار للتخلص من الأرض (الفائضة)، فكان أن بيع 145 ألف فدان اشتراها أغنياء الريف الأكثر ميلاً لاستخدام العمل المأجور من الأرستقراطية الزراعية. فما كان من الحكومة إلا أن أنهت فترة السماح فورًا، إذ كان من المؤكد أنه خلال عدة شهور أخرى سوف يتم بيع كل الأرض المقرر تأميمها، مما يحرم الضباط من تحقيق أهدافهم من اصدار القانون ، خاصة توسيع قاعدة الملكية الصغيرة. ذلك رغم أن الطريق الأول كان فى صالح النمو الرأسمالى (بعكس الطريق الثانى الذى أدى إلى مزيد من انتشار نمط الإنتاج العائلى والسلعى البسيط)،  .

4-  من الواضح مما سبق أن القانون كان موجهًا – موضوعيًا – نحو تنمية عدد الملكيات الصغيرة بأى ثمن، بغض النظر عن موضوع أنماط الإنتاج.

5-  لم تنخفض قيمة الإيجار السنوى الكلى، الإيجار الذى كان فى أغلبه قبل رأسمالى:

الإيجار بالمليون جنيه (القيمة السنوية)[35]

السنة

140.9

35-1939

150.6

1952

151.4

1953

164.5

1956

163.1

1957

161.2

1958

    

وهذا النمو المطلق – و لو بالأسعار الجارية - لقيمة الإيجارات يعكس لنا حجم الدور الذى استمر يلعبه الفائض قبل الرأسمالى، والذى يعد مقتطعًا جزئيًا على الأقل، من الأرباح الصناعية.

6-  لم يكن القانون مصاغًا ومطبقًا بحيث يدعم الصناعة المحلية، أى – بمعنى ما – النمو الرأسمالى فى المدينة، فتوزيع 6- 7 % من الأرض ( 10 % شاملةً أراضى العائلة المالكة التى صودرت عام 1953  )على صغار المزارعين بالإضافة إلى التخفيض الرسمى لايجار الأرض بنسبة لا تذكرلا يكفلان تحقيق زيادة ملموسة فى القوة الشرائية للفلاحين.

-   كما رأينا ازداد ريع الأرض الذى يدفعه الفلاحون.

-   وما استمر الفلاحون يدفعونه حتى 1964 للحكومة (أقساط الأرض الموزعة) لم يقل كثيرًا – بل  زاد أحيانا – عما كان يُدفع إيجارًا لنفس المساحة من الأرض. ونقلاً عن أنور عبدالملك [36] فقد أُجريت دراسة فى قرية "بلتاج" بعد تطبيق قانون 9 سبتمبر بواسطة جريدة "الجمهورية"، فوجد أن الفلاح الذى أخذ اربعة فدادين من الإصلاح الزراعى يدفع 125 جنيها فى السنة للحكومة  ويتبقى لـه 115 جنيها. وكما ذهب آخرون إلى أن ما كان يدفعه الفلاح كقسط سنوى للحكومة يفوق ما كان يدفعه إيجارًا للأرض[37]. وقد اضطرت الحكومة للحفاظ على "فائدة" طبقة الفلاحين !– التى أشار إليها  لورد "كتشنر"عام 1912 – إلى تخفيض الفوائد على الأقساط ثم مدت أجل السداد، ثم ألغت الأقساط  تمامًا عام 1964.

-   ويضاف إلى ذلك أن انتشار الملكيات الصغيرة ليس بالعامل الذى يؤدى فى كل الظروف  إلى زيادة الإنتاج. فقد ضاعت نتيجة للتفتيت أجزاء جديدة من الأرض[38]، بالإضافة إلى أن توزيع بعض الأراضى على الفلاحين لا يمكن بهذا الشكل أن يكون فى حد ذاته دافعًا لهم على زيادة الإنتاج، فمصلحة الفلاح فى زيادة الإنتاج لم تزدد بتوزيع الأراضى، لأنه كان يدفع إيجارًا متفقًا عليه من قبل وأية زيادة كانت تعود إليه فى النهاية، كما أن إنتاجية الأرض فى مصر كانت مرتفعة وأية زيادة جديدة كانت تحتاج لتكنيك متقدم وليس إلى مزيد من عناية الفلاحين بها.

-   أما تحديد الإيجار فلم يؤد إلى زيادة كبيرة فى دخل الفلاحين الصغار، فالإيجار الرسمى الجديد للفدان لم يقل كثيرًا عن الايجار القديم، كما أنه لم يطبق بشكل شامل، وقد بلغ بعد ذلك فى الستينات مائة جنيه[39]. إن طريق إجراء الإصلاح الزراعى ضيق الأفق قد حجمت كثيرًا من إمكانية تحسين أوضاع الفلاحين واكتفت بمد قاعدة الملكية العقارية الصغيرة.

-   وإذا كانت قد حدثت إعادة توزيع للدخل الزراعى لصالح فقراء الفلاحين (وهذا ما نشك فيه) فإن الإصلاح الزراعى لم يحرم طبقة كبار الملاك من الدخول اللازمة للإنفاق الترفى على السلع المستوردة، وهو الأمر الذى كان يشكو منه رجال الصناعة …

           كذلك يستحيل أن نضع قانون الإصلاح الزراعى فى سياق عملية تشجيع الاستثمارات فى الصناعة :

-   فتدل الوقائع على تنامى ميل أصحاب رؤوس الأموال وخاصة من كبار ملاك الأراضى ذوى الدخول الريعية إلى الاستثمار فى العقارات والمضاربة فى الأوراق المالية، ولم يجر أبدًا تحول فى هذا الميل ، بل بالعكس (مع أنه ليس الإصلاح الزراعى هو المسئول عن ذلك بالطبع). ومن المفيد أن نلاحظ أن ثروات كبار الملاك لم تكن من قبل تستثمر فى الزراعة بمعدل ملموس – رغم تأخرها الشديد - ولا حتى فى شراء الأراضى. ويمكن أن نستدل على هذه الواقعة الأخيرة من الجدول الآتى:

مجموعة أراضى ملاك 50 فدان فأكثر[40]

% من الأرض الزراعية

السنة

43.5  %

1900

34.2 %

1952

     كما أن السندات التى دفعتها الدولة لكبار الملاك لم تكن قابلة للتداول الحر، ويجوز التصرف فيها فقط للوفاء بثمن الأراضى البور التى تُشترى من الحكومة، وفى أداء الضرائب على الأطيان التى لم يسبق ربط ضرائب عليها قبل القانون، وضريبة التركات[41].ولكن القانون (قد نسى !!) أن ينص على قصر استخدامها ( أو حتى إمكانية ذلك) فى شراء أسهم وسندات صناعية. فى الوقت الذى كانت الحكومة فيه تشجع القطاع الخاص الصناعى[42]. وكان حرمان كبار الملاك من التعويضات مع إعفاء الفلاحين من دفع أية أقساط كفيلاً بزيادة دخول الفلاحين كثيرًا مما يشجع الإقبال على شراء السلع المصنعة محليًا، وهو ما لم يحققه قانون سبتمبر 1952.

-   أما ما يخص حاجة الصناعة وقتها إلى الخامات الزراعية، فأمر لا يفيد فيه كثيرًا تغيير علاقات الملكية، وإنما تغيير نظام الدورة الزراعية المعمول به، والذى تغير على العموم على حساب زراعة القطن ابتداء من انتهاء الحرب الكورية وطوال الفترة اللاحقة، ولحساب الأرز كمحصول تصديرى، وليس لسد حاجة الصناعة المحلية.

ونسجل ملحوظة أخرى، هى أنه ليس من الضرورى أن يؤدى تغيير علاقات الملكية بهذا الشكل - فى حد ذاته – فى ظل حالة عامة من التخلف إلى نمو الإنتاج السلعى وتوسيع السوق بالتالى . و قد توسعت الأرستقراطية الزراعية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من هذا القرن فى الزراعة التصديرية بفضل وجود طلب فعال فى الخارج على القطن المصرى، ونجد على العكس أن صغار المزارعين يستهلكون نسبة كبيرة من إنتاجهم. وقد اتبع الضباط نظام الدورة الزراعية والتوريد الإجبارى لضمان إنتاج سلع التصدير وضمان إمداد المدن بالحبوب ولم يكن لتغير علاقات الملكية علاقة بهذا النظام.

تبين لنا بهذا الشكل أن الإصلاح الزراعى قد أنتج على الصعيد الاجتماعى مفعولين أساسيين: أولهما: تصفية الأرستقراطية الزراعية، وثانيهما: توسيع قاعدة الملكية العقارية الصغيرة تلك التى قال عنها ماركس بحق: "تشكل قاعدة مناسبة لبيروقراطية كلية الجبروت ".

كانت القرية المصرية فى 50 – 1952 قد بدأت تصبح قادرة على التمرد. وكان بؤس الفلاحين يدفع بمئات الألوف منهم إلى المدن [43]، ليضيفوا مزيدًا من الوقود للصراع الاجتماعى. وحين تغلى المدينة وحدها فى بلد فلاحى فان الأمر – بالنسبة للطبقة المسيطرة – يكون ما يزال قابلاً للعلاج بشكل أو بآخر، ولكن حين تتفجر القرية مع المدينة فإن هذا يكون دليلاً على أن النظام يتعرض لأزمة كبيرة. فثورة الطبقة "العاجزة" و "المفيدة" هى خير الأدلة على ذلك ، ولذلك كان استقطابها أمرًا ضروريًا. وكان ممثلو الطبقة المسيطرة الأبعد نظرًا على وعى تام بهذا الأمر.

لذلك كان إصدار قانون 9 سبتمبر بعد الانقلاب بأسابيع، والحديث عن قرب صدوره فور الانقلاب خطوة ضرورية لتثبيت أركان السلطة الجديدة. أما توزيع (أو بيع) جزء صغير من الأرض للفلاحين الفقراء تحت شعار براق مثل الإصلاح الزراعى فكان  أمرًا عظيم المفعول على الجماهير، إذ أعطى مؤشرًا (كاذبًا) لسياسة السلطة الجديدة، فى غياب بديل جذرى، ولم يكن الدوى الشعبى للقانون يتناسب مع هزال المكاسب الحقيقية للفقراء – التى نشك فيها – والمؤقتة، التى تضمنتها مواده. وهذا التناقض نفسه يؤكد بوضوح الهدف السياسى لإصدار القانون، والذى أدى إصداره حتى قبل أن يعرف الشعب بعض تفصيلاته إلى تدعيم كبير لمركز السلطة الجديدة.

ولم يمس الإصلاح الزراعى بشكل ملموس – ناهيك عن أن يكون بشكل جذرى – الفوارق الطبقية فى الريف، فلم يؤد إلى القضاء على أصحاب الملكيات الواسعة، وإن كانت نسبة الأرض التى بحوزتهم قد تقلصت ( بحسب الإحصائيات الرسمية غير الواقعية ) من 34.2% عام 1952 إلى 20.3% من مجمل مساحة الأرض الزراعية عام 1953[44]. فقد سمحت الحكومة ببيع جزء غير يسير من الأرض لأغنياء الريف وبعض صغار المستأجرين (145 ألف فدانًا)[45]. كما لم يطبق القانون على أراضى البناء، مما مكن بعض كبار الملاك من فرصة إثبات بعض أراضيهم كأرض بناء (فعل ذلك مثلاً أحمد عبود فى أرمنت ومحمد سلطان فى المنيا)[46]. كما استثنيت الأرض المباعة قبل 23 يوليو حتى للأبناء والأحفاد، فاستغل كبار الملاك هذه المادة فى تزوير عقود بيع بتواريخ قديمة لأبنائهم وأحفادهم. وبذلك تمكن كثير من كبار الملاك من الاحتفاظ بمساحات واسعة من الأرض، وعلى سبيل المثال اكتشف المكتب التنفيذى "للاتحاد الاشتراكى العربى" بمحافظة كفر الشيخ فى أواسط الستينات أن عشرة من كبار الملاك قد احتفظ كل منهم بخمسة آلاف فدان[47].

ولم يؤد قانون الإصلاح الزراعى إلى تمليك نسبة هامة من صغار المزارعين، فبلغ عدد الأسر التى  حصلت على أرض  146.496 ألف أسرة فقط[48]، بينما فقدت أسر أخرى من صغار المزارعين أجزاءً من حيازاتها المستأجرة لأنها دخلت فى الإصلاح الزراعى باعتبارها من أراضى كبار الملاك، مما أصاب هؤلاء المستأجرين بأضرار؛ إذ انخفضت مساحة حيازاتهم. وقد حللنا فى موضع آخر مدى سلبية القانون تجاه أجور عمال الزراعة.

خلاصة القول ان الإصلاح الزراعى لم يؤد إلى تذويب حقيقى وراديكالى فى الفوارق الطبقية فى الريف [49]. ولم يكن دوره فى رشوة الفلاحين هو مصدر تأثيره المعنوى الكبير، إذ أنه مس أكثر ما مس وجود العائلات الأرستقراطية الكبرى وحطم معظمها لصالح توسيع نطاق الملكية العقارية الصغيرة. وبغض النظر عن هزال تأثيرات القانون الاقتصادية من وجهة نظر الفلاح الفقير، إلا أن آثاره السياسية فى الريف وحتى فى المدينة كانت هامة للغاية  .ففى المدينة كان القانون فى نظر الرجل الفقير و أيضا المثقف مؤشرًا على اتجاه أكثر عدالة لحكومة الضباط من الحكومات السابقة، وخلق هذا القانون لدى مختلف الفئات الفقيرة آمالاً فى التغيير إلى الأفضل، هذا الأمل كان بالتأكيد أكثر تأثيرًا من الحقيقة التى لمسها الفلاحون بأيديهم، ومن الطريف أن كثيرًا من المتعلمين فى مصر حتى الآن يعتقد أن الضباط وزعوا على كل فلاح خمسة أفدنة!!

. فلقد استُخدمت الأرستقراطية الزراعية ككبش فداء للنظام من أجل حل أزمته السياسية، أى لإعادة جمهرة واسعة من الشعب إلى أرض النظام. وكان مجرد تحطيم الأرستقراطية العقارية؛ تلك الأسر التى اشتهرت باحتقارها البالغ للشعب وبتحالفها مع الاستعمار  أمرًا كفيلاً بتوسيع نفوذ الضباط الجماهيرى. ولا شك أن توزيع بعض الأراضى وتحديد الإيجارات وإجراءات من هذا القبيل، رغم ضعف تأثيرها الاقتصادى الفعلى، قد أضافت إلى تحطيم الأرستقراطية معنى جديدًا، فقد فتح القانون أمام الفلاح الصغير وكل الطبقات الفقيرة بابًا جديدًا للأمل، (وان كان بابًا وهميًا)، وهذا هو الأمر الأهم على الإطلاق، ففى ظل حالة الركود واليأس التى كانت قائمة، يحمل هذا العمل معنى بالغ التأثير. فتعديل هيكل الملكية – وإن لم يكن جذريًا – وعلى حساب الأرستقراطية بالذات فكان شيئًا مثيرًا فى مصر الحديثة. إذ لم توجه إهانة ملموسة للملكية الخاصة منذ محمد على إلا بواسطة ضباط يوليو وان كان هذا قد تم فى سياق محافظ.

وقد أدى توسيع قاعدة الملكية الصغيرة إلى تزايد نفوذ الدولة فى الريف من الناحية الاقتصادية كذلك، فأصبحت أقدر على مشاركة كبار ملاك الأراضى فى إدارة القرية بعد زوال العائلات الأرستقراطية  القوية واتساع قاعدة الملكية الصغيرة.

ولم يكن ضرب الأرستقراطية الزراعية يستهدف بالدرجة الأولى تصفيتها كمنافس سياسى، فقد أثبتت الأحداث السابقة على الانقلاب، كما برهن نجاح الانقلاب نفسه، أن الطبقات المسيطرة قد هزلت سياسيًا وفقدت معظم قواعدها الشعبية. وان كان للأرستقراطية قواعد تذكر فكان الأحرى بها أن تناضل ضد القانون بدلاً من أن تؤيده أو تصمت كما فعل معظم أفرادها بالفعل. فى الحقيقة كان الهدف والسياق الذى تم فيه الإصلاح الزراعى هو محاولة الضباط إزالة السخط الشعبى، خروجًا من الأزمة السياسية التى عاشها النظام، واكتساب تأييد الجماهير.

وأخيرًا ليس لدينا شك فى أن الإصلاح الزراعى قد ترك آثارًا ما ذات طابع اقتصادى فى الريف والمدينة. وهذه نتيجة طبيعية لأى حدث يمس النشاط الاقتصادى للبشر. ولكن هذا لا يضيف شيئًا إلى جوهر تحليلنا لطبيعة الإصلاح المذكور.

وفى حالة الإصلاح الزراعى الناصرى لم يكن الإطار (أو السياق) الذى جرى فيه تحقيقه بأى حال من الأحوال – كما ذهب كثير من منظِّرى الناصرية – هو التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، أو مرحلة الثورة البورجوازية، ولكنه كان إطار رد الطبقة المسيطرة فى شخص أداتها على تمرد الجماهير. وبغض النظر عن وجود أية آثار مباشرة أو غير مباشرة (حتى لو افترضنا جدلاً أنها آثار فى صالح نمو الصناعة )، فإن فهم الإصلاح الزراعى فى هذا الإطار يفسر ويكشف لنا حدوده أيضًا. ومن أهم الأمور التى يتطلبها تحليل التاريخ، أن يتخلص المرء أولاً من البديهيات والدوجما. وفى حالتنا هذه على المرء أن يكف أولاً عن افتراض أن كل إصلاح زراعى هو ثورة برجوازية !

 

4- الأحزاب والدستور:

     فى فترات الانعطاف السياسى عادة ما تتعرض الأحزاب السياسية لخطر الانشقاق. أما إذا كانت هذه الأحزاب علاوة على ظرف الانعطاف قد أجدبت وفقدت نفوذها الجماهيرى، أو – فى حالتنا - شُل سندها الأساسى : الاستعمار والملك، فتكون معرضة للتحلل الذاتى. وقد بدأ كل من الأحزاب "الليبرالية" فى مصر يسير مع تصاعد أزمة النظام إلى الاعتماد وبشكل متزايد وسلبى على التناقضات بين الآخرين، وهذا يعنى أنها قد باتت فى موقف الدفاع عن مجرد البقاء، بل وباتت تستمد وجودها من عجز الآخرين عن القضاء عليها دون أن تكون مرتكزة على ذاتها الخاصة، فإنها لم تعد قادرة على المبادرة، إذ فقدت وضوح الرؤية وبالتالى فقدت الإرادة الفاعلة. وفى المقابل كانت حكومة الضباط تعتمد على تناقضات الآخرين، ولكن بشكل إيجابى، لأنها كانت قادرة على المبادرة وكانت تملك الإرادة . فكانت، رغم أنها تعرف مدى ضعفها، تعمل على استغلال تناقضات الآخرين فى تفتيتهم ودفع الجميع إلى الصدام معًا، ومن ثم التحلل، فاحتدام القتال بين الوحوش المحتضرة يعجل بفنائها جميعًا. ولم تكن حكومة الضباط تحمل من الشرف أكثر من شرف التمرد على تلك الطبقة ضيقة الأفق، ولقد نجح الضباط فى لطم الطبقة المسيطرة حين كانت كل القوى المعارضة تقف مشلولة وعاجزة عن القيام بفعل مؤثر، ولذلك اكتسبوا أمام الشعب هالة البطولة. وهم لم يحتلوا هذا الموقع الممتاز بفضل مبرر تاريخى للحكم، بل بفضل القدرة على التمرد التى دفعتهم إلى الثورة على وضع سئم منه الجميع : التوازن السياسى، ذلك الذى منحهم فرصة التمرد نفسها. وقد اكتسب الضباط روح التمرد من عجز أسيادهم . وكانوا فى موقع المراقب الجيد، ومن هذا الموقع بدأوا فى صناعة تاريخهم بأنفسهم، دون أن يحملوا على ظهورهم  وزر جرائم وخيانات من تلك التى كانت تحملها تقريباً كافة المؤسسات السياسة المؤثرة الرسمية وغير الرسمية . وقد منحهم هذا الوضع ميزة هامة فى لعبة الصراع القادم، إذ مثَّلوا أمام الشعب دور البطل الذى جاء ينقذ الوطن، ولذلك حرص الجميع على اكتساب رضاهم منذ البداية: الأحزاب "الليبرالية" والكتلة الرئيسية من اليسار[50] والتنظيمات الدينية، ولو بثمن باهظ. ولكن الضباط لم يكن ليرضيهم إلا سحق الجميع، ولذلك أُجْبر الليبراليون وحلفاؤهم على سحق أنفسهم بالتدريج لكسب ذلك الرضا المنشود – ذلك الذى لم يكن ليأتى أبدًا – عسى أن تحدث معجزة على طريقة الأفلام المصرية. ولم يصب رجال الأحزاب باليأس بسهولة، فاليأس نفسه كان ترفا بالغ التكلفة ؛ إذ كانت لديهم مصالح حقيقية واسعة معرضة للخطر، ولذا فقد انخرطوا فى الصراع  مجبرين على السير فيه حتى النهاية .. وحين حانت لحظة إعلان وفاة أحزابهم رسميًا، أصبح أمامهم خيار واحد هو أن يفيقوا. ولكنهم اكتشفوا حينئذ أنهم كانوا قادرين فحسب على صحوة الموت.

هكذا شهدت البلاد فترة صراع بالغ التعقيد فى الفترة من يوليو 1952 وحتى مارس 1954.

 

بعد أسبوع واحد من الانقلاب، قرر الضباط إلغاء الألقاب .. ومن يستطيع الآن أن يعلن معارضته أو يحتج ؟ من يستطيع إلا أن يمنح بركاته لحكومة تصدر مثل هذا القرار ؟ هكذا بدأ الضباط معركتهم مبكرًا جدًا وبدهاء، فقد كان ضمن أصحاب الألقاب كبار رجال الأحزاب "الليبرالية"، فانتهى بذلك رسميًا عصر الباشوات وسط بهجة الشعب بأكمله. وفى الوقت نفسه أصدر الضباط دعوة بريئة فى مظهرها: تطهير الأحزاب. ومن يبغض التطهير؟ كيف يمكن أن تُرفض هذه الدعوة ؟ وكان يمكن أن تمر بلا أى رد فعل و دون أية مشاكل، ولكن فى غير هذه الظروف التى مرت بها الأحزاب الليبرالية المتصدعة، والمتهافتة فى نفس الوقت على كسب رضى الضباط، وهكذا كانت الاستجابة سريعة وذليلة أيضًا بكل معنى الكلمة. فأين ذلك الحزب الذى لم يكن يحتاج إلى "التطهير" بمعنى ما فى تلك اللحظة بالذات، طالما أنه لا يزال يحلم بالسلطة ؟ وكان "الوفد" هو بالذات من ابتلع الطعم .. حتى مزق أحشاءه : تقرر طرد البعض من الهيئة الوفدية بدون ذكر الأسباب، فتصاعد هجوم وهجوم مضاد داخل الهيئة وارتفعت الأصوات بالاتهامات الخطيرة ضد قيادات الحزب من جانب المطرودين. ومع ذلك أعلن محمد نجيب أنه "لا تعجبه طريقة "الوفد" فى تطهير نفسه". وراح أحمد أبو الفتح – وهو وفدى أصيل و كبير– يحذر الحزب ويدينه لتقاعسه عن "تطهير" نفسه، وحذر من أن الجيش قد يحل الأحزاب.

أما الحزب السعدى فقد حاول أن يواجه الدعوة، فأعلن رئيسه أن "الحزب ليس به من يستحق التطهير". ولكن الحزب قرر أن " يطهِّر" نفسه من رئيسه بالذات !! ومن ثم دخل فى دائرة من التفكك انتهت بتحلله.

أما حزب "الأحرار الدستوريين" فقد قاوم الدعوة قليلاً، ولكنه لم يكن لـه من النفوذ ما يشكل خطورة على السلطة وأخذ فى التفكك تلقائيًا بعد طرد الملك وإجراء الإصلاح الزراعى. و قد أدى صدر قانون الإصلاح الزراعى الذى ضاعف من تصدع "الليبراليين"، وخصوصًا "الوفد" الذى عارض القانون فى البداية كرر فعل تلقائى من جانب قيادته الأرستقراطية العقارية، مضيفاً صفحة سوداء جديدة إلى تاريخه وفاقدًا نقطة هامة أمام الضباط هو وبقية الأحزاب "الليبرالية".

ثم تبع ذلك اعتقال 74 شخصية حزبية كبيرة، "لمساعدة الأحزاب على تطهير نفسها"، كما زعمت الحكومة[51]. ومن يعترض ؟ أليست فى غالبيتها العظمى شخصيات مرفوضة من الشعب؟

ومع الإصلاح الزراعى صدر قانون تنظيم الأحزاب، فقُدَّم 16 إخطارًا إلى الحكومة. وهنا حاولت الأحزاب استرضاء الضباط مرة أخرى، وخاصة "الوفد" الذى أعلن نفسه حزبًا اشتراكيًا ديمقراطيًا، وقدم برنامجًا[52] أكثر راديكالية إلى اليسار من برنامج حكومة الضباط وقتها. وقد برهنت نتائج الصراع بين الضباط والأحزاب فيما بعد على أن المسألة لا تتعلق بالبرامج السياسية بل بالقوى السياسية ذاتها و بتاريخها. فالجمهور لا يختار برامجاً مجردة، لأن البرنامج لا يطبق نفسه ولا يفرض نفسه على أحد بنفسه. ولذا فالحزب نفسه كمؤسسة سياسية فاعلة هو أول نقاط برنامجه، بنشاطه الفعلى، بموافقة المعلنة، تضحياته، وبكل تاريخه. وقد فشل البرنامج الجديد للوفد فى تحويله من جديد إلى حزب الأغلبية، فلم تنهال عليه طلبات العضوية ولم ينفض جمهور محمد نجيب. ومع ذلك أعلن الضباط عدم رضاهم أيضًا، فطالبوا بإقالة النحاس بالذات زعيم "الوفد" وأكثر رجاله شعبية، فحاول الحزب هنا أن يعارض، ولكن إلى حين، إذ  قام محمد نجيب بزيارة مسقط رأس النحاس، فاستقبله الأهالى بحماس بالغ برهن للوفد أن نحاسه لم يعد زعيمًا بلا منازع. كما بدأ يتضح منذ الآن أن مشاعر الجماهير قد تحولت بالفعل ناحية الضباط . حينئذ تقرر جعله رئيسًا شرفيًا للحزب، لتنهال استقالات عدة على الهيئة الوفدية. ولكن الضباط امتنعوا للمرة الثالثة عن منح رضاهم وطالبوا بالإقالة النهائية للنحاس. وكان هذا هو أكثر المواقف حرجًا للوفد، فخروج النحاس فى هذه اللحظة من الحزب كان يعنى أن الحزب يصبح خارج ذاته، فالنحاس كان قد أصبح روح الحزب، خصوصًا فى تلك اللحظات العصيبة، ولم يكن هناك زعيم يحمل من الماضى أى قدر يستطيع أن يساوم به الضباط سوى النحاس، رغم كل مواقفه المحافظة. ولكن ماذا يفعل "الوفد" المريض ؟ ليست لديه أيه أوراق للعب .

تقدمت الهيئة الوفدية برفع قضية على الضباط بعدم دستورية (كذا !) قانون تنظيم الأحزاب، فكان الدستور هو آخر ورقة فى جعبتها. وكأنها استندت – كما يقول المثل الشعبى – إلى حائط مائل. فالدستور نفسه لا ينص على حق تنظيم  الضباط فى الاستيلاء على السلطة وخلع الملك "الشرعى" .. الخ. ومع ذلك وقف أحد محامىّ "الوفد" يقول فى المحكمة: " لم تكن ثورة على دستور 1923 بل كانت الثورة من أجل هذا الدستور" [53]. لقد أخذ المحامى يهاجم إجراءات الضباط بإيقاظ ضمائرهم. وكان رد الضباط منطقيًا جدًا وبسيطًا للغاية: إلغاء دستور 1923 فى العاشر من ديسمبر1952  (بحجة التمكن من محاكمة الوزراء السابقين الذين يمنحهم هذا الدستور حصانة).

وفى 16 يناير 1953 صدر قرار حل الأحزاب؛ صدر فى صمت رهيب، وتلته اعتقالات واسعة لكبار رجال الأحزاب والشيوعيين. ثم صدر "إعلان دستورى" لفترة انتقالية قُدِّرت بثلاث سنوات يتم بعدها وضع دستور جديد.

حينئذ لم يعد من الممكن لأحد أن يرفع قضية على الحكومة باسم الدستور !

 وجاء تقنين الحكم الجديد فى 18 يونيو 1953: إعلان الجمهورية، وعُيَّن محمد نجيب رئيسًا وسط حشد صغير من الأنصار ، جلبوا لإضفاء سمة انتخابية على تعيين الرئيس.

وحين حُلت الأحزاب، لم يشمل القرار حل جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها جماعة وليست حزبًا. واتفقت الجماعة مع الحكومة على استثنائها من قرار الحل مقابل ألا تعمل على الوصول إلى الحكم وألا تدخل الانتخابات. وقد وافق الإخوان المسلمون على الصفقة على أساس أن وجودهم وحدهم كحزب منظم سوف يمكنهم فيما بعد من استلام الحكم بدون منازع. فكان ترحيبهم بحل الأحزاب بمثابة خطة ساذجة للانفراد بالساحة. كان موقفهم فى جوهره قرارًا بالانتحار، اذ عُقدت الصفقة فى وقت عانت فيه الجماعة من التفسخ الذى تبلور فى انتخاب حسن الهضيبى وهو أضعف شخصية مرشحة للقيادة كمرشد عام، بعد اغتيال حسن البنا. ولقد لعب الهضيبى دور الواجهة التى جرى من خلفها الصراع على القيادة داخل الجماعة. وبالفعل بدأ الإخوان بعد حل الأحزاب يطالبون بما اعتبروه حقًا طبيعيًا لهم فى السلطة، فطالبوا بنصيب فى الوزارة، ولكنهم فوجئوا بالرفض القاطع، ولذلك وجدوا أنفسهم مضطرين إلى العودة إلى البئر الذى بصقوا فيه من قبل: الأحزاب، فاشتركوا فى تشكيل "الجبهة الوطنية الديمقراطية" مع الشيوعيين و"الوفديين وأعضاء "الحزب الاشتراكى"، ولكنهم اضطروا بعد قليل إلى الانسحاب منها بسبب خلافات تكتيكية وراحو يحركون رجالهم فى الجامعة للاشتباك مع أعضاء "هيئة التحرير"، ويصدرون البيانات المعادية للضباط. وبلغ التوتر أشده بينهم وبين الحكومة فى 12 يناير 1954، حين جرت معركة كبيرة فى الجامعة، استخدمت فيها الجماعة العصى والسكاكين ضد أعضاء "الهيئة" فصدر على الفور قرار بحل الجماعة واعتقال زعمائها فى 14 يناير 1954.

 

5- تصفية المعارضة فى الجيش وتوحيد للقيادة :

خلال 3 شهور بعد الانقلاب تم فصل 500 ضابط كبير وعدد من صغار الضباط من أبناء العائلات التى اعتبرت "مشبوهة".

وفى مواجهة المعارضة الديمقراطية فى الجيش قام الانقلابيون بتصفية عدد كبير من ضباط المدفعية فى يناير 1953. وكان هؤلاء يطالبون بجعل "قيادة الثورة" بالانتخاب، كما أصدروا منشورًا يدعو إلى ذلك. كما اعُتقل لنفس السبب بعض ضباط المدرعات الذين احتجوا على اعتقال زملائهم واستقال بعضهم احتجاجًا على سلوك القيادة غير الديمقراطي. وقد عُذب المعتقلون من الضباط تعذيبًا شديدًا وحُكم على أحدهم بالإعدام[54]. فى الوقت نفسه كان الصراع يتصاعد داخل "مجلس قيادة الثورة"، إذ بدأ الخلاف الكبير بين محمد نجيب ومجلس القيادة.

كان جمال عبدالناصر هو رئيس التنظيم قبل الانقلاب. ولكن بعد الانقلاب تقلد – وفقا لما كان مقررا من قبل -  رئاسة مجلس القيادة محمد نجيب باعتباره الُرتبة الأقدم. ومع استقالة على ماهر تقلد محمد نجيب أيضًا رئاسة الوزارة. ولكن الوزارة نفسها لم تكن لها سلطة فعلية، إذ أخذ أعضاء "مجلس قبادة الثورة" على عاتقهم مهمة إصدار القرارات والأوامر وإعادة تنظيم جهاز الدولة دون الرجوع إليها[55]. وكان نفوذ جمال عبدالناصر الفعلى فى ازدياد بينما اكتفى محمد نجيب بتحمل مسئولية القرارات التى يصدرها المجلس باسمه. وقد اكتسب بعد أسابيع من الانقلاب تعاطفًا شعبيًا كبيرا كان يطمئنه فى صراعه المتوقع مع صغار الضباط فى مجلس القيادة.

ويبدو محمد نجيب هذا مُشَوَّشاً  لدرجة كبيرة، وبمطالعة كتابيه "كلمتى للتاريخ" و "كنت رئيسًا لمصر"، لا نستطيع أن نستنبط منهما وجهة نظر محددة له فيما جرى بعد الانقلاب، وحتى إقالته من منصبه. ويعطينا الانطباع بأنه كان ينوى الاشتراك فى الانقلاب من أجل حل المسألة الوطنية ومسألة السودان وطرد الملك ثم العودة بالجيش إلى الثكنات. وهو يدعى أنه قد اعترض على كل القرارات – تقريبًا- التى أصدرها مجلس القيادة رغم أنه وقع عليها بكامل إرادته، ويدعى أنه كان يرضخ فى كل مرة، وفى مختلف المواقف، لإلحاح الآخرين! . والحقيقة أنه لم يكن يفهم قواعد اللعبة وأن الضباط قد استخدموه كرتبة كبيرة لتغطيتهم ولتمثيلهم أمام العالم بصورة جدية، فهو جنرال معروف فى الجيش ومحبوب من الضباط. وكان عبدالناصر يملك معظم أوراق اللعبة، فهو مؤسس التنظيم وأكثر أعضائه ذكاءً وقدرة على التنظيم والتآمر والسيطرة. وقد بدأ بعد الانقلاب حياته فى السلطة كوزير داخلية بينما بدأ نجيب كرئيس لمجلس القيادة ثم مجلس الوزراء (بعد على ماهر). وبينما كان الأول يدعم نفوذه داخل الجيش والبوليس بتعيين أنصاره فى المناصب الهامة والقضاء على العناصر الديمقراطية من الضباط وتضييق الخناق حول محمد نجيب داخل الجيش، كان الثانى يدعم نفوذه الجماهيرى فى الوقت الذى كان فيه الشارع يبتعد أكثر فأكثر عن المشاركة الإيجابية فى السياسة. وكان نجيب يخدع نفسه بتصفيق الجماهير التى كانت تؤيده كبطلها و ليس كممثلها،  بينما كان يطالبها هو بالهدوء والسكينة، فجنى -  فيما بعد – مما فعلت يداه !.  وأصبح نجيب يدعو إلى عودة الحياة النيابية ابتداء من أوائل 1954، معتبرا أن تأييد الأحزاب السياسية له بجانب الإخوان المسلمين والمثقفين (كالمحامين … الخ)، هو استفتاء شعبى على رئاسته، بينما كانت الجماهير تصير  أقل فاعلية باستمرار مكتفيًا بالترقب والانتظار. وكان من الواضح أن نجيب قد حول موقفه من الأحزاب بعد أن وجد نفسه محاصرًا فى مجلس القيادة وعاجزاً عن اتخاذ قرار.

ونعتقد أن الصراع داخل مجلس القيادة كان صراعًا بين عدد من الأعضاء على السلطة.. على منصب " الزعيم "، وتمت تصفية عدد منهم بسرعة بينما تبلورت زعامة عبدالناصر، الذى كان عليه ان يشتبك مع نجيب، الزعيم الجماهيرى ، ولكن الضعيف داخل تنظيم الضباط.

وقد تدعمت سلطة مجلس القيادة (= عبدالناصر) بإلغاء الدستور وحل الأحزاب ثم إصدار الإعلان الدستورى فى 10/2/1953، الذى أقر بطريقة ضمنية إلغاء الفصل بين السلطات، ثم تشكيل "محكمة الغدر" فى 25 فبراير 1953، ذلك الأمر الذى يُعد أول اعتداء مباشر من جانب الضباط على القضاء، ثم كانت  نقلة أخرى فى الصراع بين عبد الناصر ونجيب، فقد مُنح نجيب رئاسة الجمهورية فى 18 يونيو 1953 مقابل أن يصبح عبدالناصر نائبًا لرئيس الوزراء وعبدالحكيم عامر قائدًا عامًا للقوات المسلحة بعد أن ُرقِّى من رائد إلى لواء. وكان معنى ذلك انتهاء دور نجيب فى الجيش . وبعد ثلاثة أشهر، شُكَّلت ما أُسمِيت "بمحكمة الثورة" لمحاكمة أية معارضة يمينية أو يسارية، وتبع ذلك اعتقالات جديدة واسعة.

 وجاءت اعتقالات الإخوان المسلمين وحل جماعتهم فى 14 يناير 1954 كضربة جديدة لنجيب، الذى عرض على المجلس بعد ذلك ، يوم 25 فبراير 1954 أن يوافق اما على عودة الحياة النيابية أو على استقالته، فاختار المجلس الخيار الثانى وتم اعتقال محمد نجيب عدة ساعات خرجت على أثرها عدة مظاهرات تضم أعضاء الأحزاب "الليبرالية" والشيوعيين والإخوان المسلمين لتأييد نجيب والمطالبة بعودته. فتمت إعادة الأخير ولكن مع عمليات اعتقال جديدة ومتوالية لعدة أيام للإخوان المسلمين، وأعضاء الحزب الاشتراكى، وحزب "الوفد"، والشيوعيين[56].

اعتمد مجلس القيادة منذ ذلك الحين خطة جديدة، إذ راحت الدعاية الرسمية تربط بين عودة الأحزاب وعودة الباشوات وإلغاء الإصلاح الزراعى … الخ، وباختصار صُوِّرت عودة الحياة النيابية كأنها عودة للماضى كله، كما هوجم دستور 1923 هجومًا شديدًا من قبل صحافة الضباط. وفى مقابل ذلك اطمأن نجيب إلى  وجود تأييد شعبى فعّال لـه وللأحزاب. وفى غياب دعاية مضادة ومع تهالك نفوذ الأحزاب وسط الجماهير، نجحت دعاية الناصريين فى هز نفوذ محمد نجيب.

ثم تتابعت الأحداث، فتحت ضغط حاد من محمد نجيب وأنصاره فى الجيش وخارجه قرر "مجلس قيادة الثورة" فى 5 مارس 1954 إلغاء الأحوال العرفية وعقد جمعية تأسيسية بالاقتراع العام المباشر لوضع دستور جديد. وبعد ذلك، فى 25 مارس قرر المجلس السماح بتشكيل الأحزاب السياسية مع عدم قيامه بتشكيل حزب لنفسه. كما قرر أن تنتخب الجمعية التأسيسية بدون أية تعيينات، مع حل "مجلس قيادة الثورة" على أساس أن "الثورة قد انتهت"، كما قرر إلغاء الحرمان من الحقوق السياسية[57]. وقد رُفض طلب نجيب بعودة الأحزاب  و  بالاستفتاء الشعبى على رئاسة الجمهورية قبل انعقاد الجمعية التأسيسية  . ورغم هذا لم يتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين باستثناء "الإخوان المسلمين"، ولكن بشروط جديدة: إعادة الجماعة مع الاتفاق على عدم عودة الأحزاب. فأصدرت الجماعة بيانًا نشرته الصحف يوم 27 مارس يقول: "وفيما يختص بعودة الأحزاب أملنا ألا يعود الفساد أدراجه مرة أخرى، فإننا لن نسكت على هذا الفساد بل نؤيد بقوة حرية الشعب كاملة ولن نوافق على تأليف أحزاب سياسية، لسبب بسيط، وهو أننا ندعو المصريين جميعًا لأن يسيروا وراءنا ويقتفوا أثرنا فى قضية الإسلام[58].

وفى نفس الوقت كان الضباط يجهزون رجالهم من عمال "مديرية التحرير" وعمال "النقل المشترك" والحرس الوطنى ومنظمات الشباب وأعضاء "هيئة التحرير"، بالإضافة إلى بعض الضباط الموالين، وقامت هذه العناصر بالتظاهر يوم 29 مارس مطلقة هتافات عديدة من بينها شعار أصبح شهيرًا بعد ذلك: "عاشت الثورة .. تسقط الرجعية، عاشت الثورة .. تسقط الحرية"، بجانب شعارات أخرى مثل: "عدم السماح بقيام الإضرابات"عدم الدخول فى معارك انتخابية"، وقد رُفعت لافتات تحملها[59]، بينما حاصرت المدفعية المضادة للدبابات معسكرات سلاح المدرعات وحلقت الطائرات فوقها، كما تجمهر صغار الضباط وحاصروا مقر "قيادة الثورة" محتجين على قرار إنهاء "الثورة". وقام المتظاهرون بالاعتداء على مجلس الدولة الذى كان يُعِد قرارًا لتأييد قرارات 5 و 25 مارس، وُضرب رئيس مجلس الدولة شخصيًا بواسطة المتظاهرين، كما قام هؤلاء أيضًا بتمزيق القرار. كل هذا تم بدون رد فعل يستحق الذكر.

كانت الخطوة التالية هى تنحية نجيب من رئاسة الوزارة ومجلس القيادة. وحصل منه عبدالناصر على تكليف الوزارة دون أن تُقبل رغبته فى الاستقالة من رئاسة الجمهورية. ومن ذلك اليوم – كما ذكر نجيب نفسه – لم يدخل "رئيس الجمهورية" مكتبه إلا بعد عدة أشهر، وكان يوم دخوله هذا آخر يوم يقضيه نجيب فى منصبه، إذ تم اعتقاله وتحديد إقامته فورًا.

واستمرت حملة اعتقالات طوال الفترة على قدم وساق، وحل مجلس نقابة الصحفيين فى 15 أبريل 1954، كما تم تغيير قانون الصحافة. وكان قد سبق ذلك حل اتحادات الطلاب، والنقابات العمالية، التى أصبحت تُشكَّل بالتعيين !

والآن فقط أصبح بمستطاع عبدالناصر أن يرى "نظرية" الكل فى واحد وهى تتحقق، إذ أصبح هو القائد بلا منافس لحكومة الضباط و رئيس  مصر كلها.

 

تبين لنا هذا الصيرورة إلى أى حد كانت البلاد آخذة فى الركود السياسى:

أولاً: فقد وقفت على رأس الأحداث قوى تتابعت من الأقوى  إلى الأضعف: أحزاب الأقلية الشعبية، ممثلة الفئات المسيطرة والأقوى تجاه الشعب ومطالبه من "الوفد"، فقد كان الأخير أكثر أحزاب النظام – خلال وزارته الأخيرة – تحللا وتمزقا، وأضعفها أمام الضغوط الشعبية، فقط مثَّل هذا الحزب أضعف حلقات النظام السياسى من وجهة نظر الطبقة المسيطرة، بل لم يعد يمثلها تمامًا، ومن ثم تبلور فيه ضعف النظام كله؛ إذ اضطرت كل الأطراف فى معسكر النظام  إلى طرحه كورقتها الأخيرة، لسبب بسيط، هو أنها لم تعد قادرة على القتال وتحدى الجماهير. ولكن نفس تلك الأطراف قد اضطرت إلى إحراق مراكبها فى 26 يناير ( بالتضحية بوزارة "الوفد" الأخيرة)، إلا أنها  اكتشفت  أنها لم تحتفظ لنفسها بأى سلاح، فاضطرت إلى استخدام أسلحة من ورق: الوزارات الأربع، ليتسلم الضباط "الأحرار" السلطة منها بكل يسر، وبذلك برهنت لنا الطبقة الحاكمة أنها قد انتهت على الصعيد السياسى.

ثانيًا :وداخل مجموعة الضباط نفسها برز محمد نجيب، الذى أمسك رسميًا بكل السلطات وأصبح أكبر زعيم جماهيرى فى مصر. ولكن جماهيريته أخذت تنزوى مخليةً الطريق أمام الضباط الأصغر ، الذين علاوة على أنهم لم يبرزوا – حتى ذلك الوقت – كزعماء فإنهم أيضًا لم يتبوأوا السلطة الرسمية، وكانوا مضطرين إلى الاحتماء فى ظل جنرال كبير ويتمتع بالاحترام ، ولم يجرؤ زعيمهم على التحلى بصورة البطل الملهم إلا بعد تصفية كل الزعماء  .. وقد صار "الضباط الأحرار" أقوى حلقات النظام لسبب واحد، هو أنه لم تعد لهذا النظام أية قوى حقيقية، ولذلك راح يتحرك بقصوره الذاتى .. بأداة القمع.

ثالثًا: كان التحلل الذاتى لكل القوى السياسية يسير إلى الأمام، فقد راحت الجماهير تنصرف وسط جو من اليأس، وفضت أيديها من اللعبة السياسية ، لتنكمش المعركة الدائرة وتصير معركة بين مختلف "النُخَب". فالشعب الذى حمل السلاح مناضلاً فى القناة والشرقية والقاهرة .. فى الجامعة والمصانع والريف أصبح يميل بشكل مطرد إلى السلبية، بدافع اليأس والأمل فى آن واحد ؛ اليأس من كل قادته، والأمل فى أن يظهر من ينقذ العالم من الطوفان. ولكنه بهذه المشاعر المتناقضة كان يعرب بسلبيته عن إفلاس حركته العفوية. فقد قدمت الجماهير أقصى ما استطاعت فى تلك الظروف ولم تعد ترى الطريق، إذ فشلت فى كل الطرق، لأنها افتقدت الرؤيا الواضحة والتنظيم، أى فى النهاية: القيادة، فراحت تميل باضطراد إلى تسليم مقاليدها للأقدار.

لذلك ينبغى ألا تصيبنا الدهشة حين نرى الضباط يتراجعون عن "إنهاء الثورة" بضربة واحدة وبلا رد فعل يذكر، بمجرد خروج آلاف ضئيلة من المأجورين وبعض العمال والنقابين الصفر ورجال الأمن. وما كان لقرارات مثل إلغاء الدستور وحل الأحزاب وتشكيل "محكمة الغدر" … الخ أن تمر قبل الانقلاب بسنوات قليلة أو بعدة أشهر دون أن تسيل أنهار من الدماء فى شوارع القاهرة، ولكن نُفَّذت هذه القرارات، رغم أن الضباط لم يقدموا حتى مارس 1954 ما يستحق من أجله أن يقبل الشعب بالديكتاتورية العسكرية.

ومن الواضح أن قلة ضئيلة أصبحت هى الفاعلة سياسيا ، وهى حالة تختلف تمامًا عن حالة الفترة من 1945 – 1952. لقد كان مجرد تعبير كل قوة اجتماعية عن نفسها و عن قدراتها الفعلية بوضوح هو الفرصة الملائمة لكى تمسك حفنة من الضباط بزمام البلاد دون تعليق فعَّال من جانب الطبقات الاجتماعية الأساسية.

 

6- المسألة الوطنية ومسألة السودان:

مع نجاح الحكومة فى قمع انتفاضة 26 يناير 1952، شنت حملات لجمع السلاح واعتقال الفدائيين، بنجاح. وحين وقع انقلاب يوليو كان الكفاح المسلح فى القناة يكاد أن يكون متوقفًا. فلم تجر محاولات تذكر لإشعاله مرة أخرى خلال فترة الوزارات الأربع؛ فالحركة الوطنية قد أصابها الوهن، وكانت كوادرها الأكثر راديكالية رهن الاعتقال. ورغم أن الجماهير كانت فقد فقدت تقريبًا القدرة على المبادرة، فإنها لم تكن قد فقدت القدرة على التذمر.. ولذلك وجدت البيروقراطية العسكرية نفسها لدى استلامها السلطة مضطرة لايجاد مخرج من ورطة القضية الوطنية – شاملة مسألة السودان – تلك الورطة التى عانت منها أحزاب النظام من قبل، وأصبح من اللازم لبقائها أن تكتشف حلاً ُيرضى جميع القوى الاجتماعية الأساسية، أو على الأقل حلاً لا يثير العاصفة الثورية من جديد، وكان هذا بالنسبة للسلطة الجديدة هو الأمر الأهم.

ومثلما وجدت النخبة العسكرية نفسها فى بحر التناقضات الاجتماعية والسياسية المحلية، وجدت نفسها فى محيط من التناقضات الدولية الأكثر تعقيدًا. وكانت مسئوليتها أمام كل الطبقات هى أن تقود السفينة فى هذه البحار. ولم يكن من الممكن أن يكون استيلاء الضباط على السلطة هو نهاية الصراع الاجتماعى، لأن هذا الصراع نفسه قد صنع خريطة سياسية جديدة للمجتمع لا يمكن تغييرها بسهولة .. فقد كانت نتائج معارك 1945-1952 هى التى أدت فى النهاية إلى الانقلاب العسكرى. وإذا افترضنا أن الأزمة السياسية قد تم تجاوزها بمجرد الانقلاب، فان أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن عودة الملكية و"الوفد" والاحتلال (ذلك المثلث الذى اعتبره لورد كيلرن أرجل النظام الثلاثة) كانت أمرًا طبيعيًا، ولكن مجرد نجاح الانقلاب لم يحل الأزمة بل على العكس زادها تعقيدًا، فقد كُسِرت إحدى أرجل النظام بمجرد قيام الانقلاب، إذ لم يعد الملك يحكم. وبعد قليل كسرت رجل ثانية: "الوفد"، وذلك فى سياق تقنين الحكم العسكرى. وكان الكرسى نفسه متهالكًا، ولذلك أصبح من الضرورى إعادة إصلاحه ككل. ولأن المسألة الوطنية كانت المسألة الأكثر حساسية فى الشارع السياسى والتى دار حولها أساسًا الصراع السياسى فقد كان أمام الحكومة الجديدة طريق واحد، هو تحقيق حد أدنى من مطالب الحركة الوطنية. فحالة السكون التالية لحريق القاهرة لم تكن القرار النهائى للجماهير، بل كانت مجرد حالة انتظار، وكان من الأفضل للنظام الجديد ألا يطول هذا الانتظار.. أن يحقق المهدى المنتظر شيئًا ما وإلا فموجة جديدة من الصراع الاجتماعى كانت آتية لا محالة. ولم يكن الحد الأدنى المطروح صغيرًا للغاية. ولذلك كان الأمر يحتاج إلى مهارة الضباط ومرونتهم، كما كان يحتاج إلى مساعدة قوى خارجية، حيث قررت الحكومة الجديدة وأد فكرة تسليح الشعب نهائيًا. وكانت القوة الخارجية التى ظهرت وعرضت مساعداتها هى الولايات المتحدة. و قد تحدد هدف الضباط فى تحقيق جلاء بريطانيا بأفضل شروط ممكنة بمساعدة أمريكية مع عدم الدخول فى حلف دفاعى مع الغرب، وهو مطلب أمريكى أساسًا، مقابل "الانفتاح الاقتصادى" والاستمرار فى مشروع النقطة الرابعة، كما كان من الضرورى للسلطة الجديدة تحقيق جلاء بريطانيا عن السودان أيضًا، حيث كانت مسألة السودان لا تحتمل المساومة فى الشارع المصرى. كذلك كان الضباط يهدفون إلى مصادرة السلطة كاملة لأنفسهم ولم تكن لهم أية مصلحة فى تسليم مصر للأمريكيين أو ترك السودان للبريطانيين. وبعد تسريح الحركة العمالية وحل اتحادات الطلاب وتطهير الجامعات من المعارضة ومصادرة الصحف اليسارية واعتقال معظم الكوادر الشيوعية وحل الأحزاب، بدأت مفاوضات الصلح مع بريطانيا فى 17 أبريل عام 1953. وكانت الأخيرة لا تزال متشددة للغاية فيما يتعلق بوجودها العسكرى فى مصر بعد فقدان قاعدتها فى فلسطين بقيام اسرائيل، مما اضطر الضباط إلى قطع المفاوضات فى 6 مايو من نفس العام بسبب إصرار بريطانيا على بقاء جزء من قاعدة قناة السويس وعلى السماح بعودة قواتها فى حالة حدوث هجوم على أية دولة عربية أو تركيا[60]. وحتى ذلك التاريخ لم تكن السلطة الجديدة بقادرة على الخضوع لهذه الشروط خاصة (وافقت عليها بعد ذلك كما سنرى)، أنها كانت تخوض معاركًا على جبهات متعددة فى الداخل؛ مع جماعات الأحزاب المُحلَّة، وبقايا المنظمات الماركسية، والضباط الديموقراطيين. لذلك راح عبدالناصر يصرخ : "على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل" .. "إن الاستعمار لن يخرج إلا بالقوة". وتم تشكيل "الحرس الوطنى" بهدف معلن، هو مقاومة الإنجليز فى القناة تحت إشراف ضباط المخابرات[61]. كما أعلن الضباط مرارًا رفضهم الاشتراك فى أية أحلاف عسكرية[62].

و لكن بعد تصفية المعارضة الداخلية وإعادة تنظيم الدولة أصبح الضباط  أكثر مرونة فى المفاوضات، وسوف نحلل هذه المسألة فيما بعد.

أما مسألة السودان، إحدى الصخرتين اللتين تحطمت عليهما مفاوضات حكومات ما قبل انقلاب يوليو مع بريطانيا، فكانت هى الأخرى تتطلب كثيرًا من الحذق والمهارة. ففى السابق سقط اتفاق صدقى – بيفن واستقال صدقى نفسه على أثر انتفاضات الجماهير التى رفضت اتفاق الدفاع المشترك مع بريطانيا وتنازُل صدقى بخصوص السودان. كما فشل السعديون فى تمرير مسألة السودان أيضًا. وجاء "الوفد" فالغى معاهدة 1936 دون أن يجرؤ على الإبقاء على اتفاقيتى 1899 الخاصتين بالسودان، فلم تكن وحدة سكان الوادى بالأمر الذى تقبل الجماهير التفاوض بشأنه أو المساس به.

فبالرغم من الاحتلال المصرى للسودان وما صاحبه من قمع واستغلال لثروات السودان ابان حكم محمد على وبعده تطلعت الحركة الوطنية فى كلا البلدين إلى تحقيق الوحدة بينهما . وقد برز ذلك مبكرًا أثناء ثورة عرابى ؛ فى اشتراك الفلاحين السودانيين فى أحداث الثورة وإمدادهم عرابى بالمؤن والرجال[63]. ومن جهة أخرى أصر العرابيون فى مشروعهم الخاص بتكوين برلمان ديموقراطى على تمثيل السودانيين بعشرين عضوًا فى البرلمان. ثم انتفاضة 1919، إذ أيّد السودانيون "الوفد" المصرى باعتباره حزبهم الخاص، وامتدت الحركة الوطنية وقتذاك إلى السودان وقام الوطنيون هناك بجمع توقيعات "للوفد" حتى أمرهم "أولو الأمر" فى مصر (على حد تعبير بعض هؤلاء) بوقف هذا العمل، وكانوا قد جمعوا 3000 توقيعًا[64]. كما رفعت الحركة الوطنية فى الشمال والجنوب شعار تحرير مصر والسودان، ووصفت سعد زغلول بزعيم الأمة المصرية السودانية، وكان أن استجاب "الوفد" للتيار الجارف، فتبنى شعار الاستقلال التام لمصر والسودان. وفى سباق الحركة الوطنية فى البلدين  تشكل عديد من المنظمات فى السودان تدعو للوحدة بين البلدين، منها على سبيل المثال "جمعية اللواء الأبيض"، و"الاتحاد السودانى". أما فيما يتعلق بالطبقات المسيطرة فقد اختلف الأمر، ففى مصر نظرت الطبقة المسيطرة وأحزابها إلى السودان باعتباره أرضًا مصرية  دون ما اعتبار للشعب نفسه[65]. وكان تمسكها بالسودان هو تمسكها بما أسمته بـ "حقوق مصر فى السودان"، أى حقوقها المتعلقة بحرية التجارة والتملك، وحقها فى مياه النيل. وكان كبار ملاك الأراضى المصريين معارضين لمشروع الجزيرة الذى تبنته بريطانيا خوفًا من منافسة القطن السودانى للقطن المصرى[66]. وكانت السلع المصرية تتمتع بحق الإعفاء الجمركى لدى دخولها السودان وفقًا لاتفاقية 1899، كذلك ظل السودان جزءًا من منطقة النقد المصرى حتى 1956. وكان الاستعمار البريطانى هو العائق الوحيد – فى ذلك الوقت – أمام تحقيق بقية طموحات رجال الأعمال وكبار الملاك المصريين، فعمل على تشجيع التجار السودانيين، كما عمل على إنشاء جهاز دولة خاص للطبقة المسيطرة المحلية الناشئة فى السودان، كما عمل على فصل شبكتى السكة الحديدية فى البلدين بإقامة الخطوط الحديدية فى الجنوب بمقاييس لا تسمح بحركة القطارات المستخدمة فى مصر. كما ساهم الاستعمار فى خلق مصالح مائية خاصة بالسودان[67]. وساهم أسلوب تناول رؤساء الأحزاب "الليبرالية" فى مصر للمسألة السودانية فى تخويف الطبقة المسيطرة الناشئة هناك من رفيقتها فى مصر، "صاحبة المصالح" فى السودان. ولذلك كانت الأولى تطمح فى استلام السلطة فى السودان بمفردها، وقد عبر حزب الأمة السودانى، الطائفى – عن هذا التوجه بقوة.

ومن الأمور المعروفة أن الأحزاب "الليبرالية" فى القطرين لم تعمل على مد وجودها التنظيمى إلى القطر الآخر، بل ان "الوفد" المصرى فى عهد سعد زغلول قد تجنب إثارة موضوع السودان فى مفاوضاته حتى لا يثير غضب الإنجليز، وحتى يحصل من بريطانيا على بعض المكاسب الضئيلة لمصر. وحين تعرَّض سعد زغلول لضغوط شديدة أثناء مفاوضاته مع ماكدونالد من جانب أعضاء "الوفد" المرافق له بخصوص مسألة السودان، حاول أن يتفادى إثارة الموضوع وإحراج خصومه من أعضاء "الوفد"، ومع تضييق الخناق عليه من قِبل  بعض الأعضاء اضطر للتملص من القضية علنا[68].

أما الحزب الاتحادى فى السودان، فقد دعا للوحدة مع مصر، ولكنه لم يعمل على إنشاء فرع له فيها بل أعلن إسماعيل الأزهرى فيما بعد (1955)، أنه ما كان يؤيد الوحدة إلا لجلب معونة مصر لحزبه، وأنه أراد "الاستقلال" للسودان كما أراده حزب الأمة[69].

ومع ذلك كانت أحزاب الطبقات المسيطرة فى مصر (والحزب الاتحادى فى السودان) مضطرة إلى رفع شعارات وحدوية تحت ضغط الجماهير  بل وراحت الأحزاب الليبرالية فى مصر تزايد على بعضها البعض كذلك، فها هو رئيس "الوفد" يضطر إلى تهديد ماكدونالد (حين تعقدت المفاوضات مع بريطانيا) بإثارة مسألة السودان، وراح يوجه رفاقه "بإثارة المشاعر إزاء السودان" [70]. وهذا هو الملك فؤاد يعلن تمسكه الكامل بالسودان، كما أعلن الأمير عمر طوسون "إذا لم نحكم السودان فليحكمنا السودانيون"[71].

كما رأينا حزب "الوفد" وكافة الأحزاب الليبرالية المصرية تستبدل فيما بعد شعارها المفضّل: السيادة، بشعار جديد: التاج المشترك (1944)، ثم : الوحدة[72].

كذلك رأينا كافة الأحزاب السودانية الوحدوية تندمج فى 1954 مكونة الحزب "الوطنى الاتحادى" ، الذى اكتسح الانتخابات مستخدمًا شعار "وحدة وادى النيل".

وفى مواجهة الأحزاب "الليبرالية"، رفعت بريطانيا شعارًا براقا وديموقراطيًا : حق تقرير المصير للشعب السودانى، مما أجبر الطرف الأول على اللجوء للشعارات  الديماجوجية واضعا عوائقًا جديدة أمام طموحاته فى السودان.

وفى السودان بالذات كانت الحركة الوطنية أكثر تمسكًا بالشعار ( مثلما أصبح الحال فى الشام تجاه مصر أيضًا ابان الخمسينات ) أكثر من مثيلتها فى مصر وبلغ الضغط الشعبى فى السودان أوجه لتحقيق الوحدة خلال الأربعينات. فأثناء مفاوضات صدقى – بيفن، سافر وفد يمثل المثقفين  السودانيين إلى لندن لحث صدقى على تبنى مشروع الوحدة، كما تكونت فى نفس الفترة "لجنة الوحدة السودانية" (بغرض توحيد مصر والسودان) اشترك فيها أعضاء من أحزاب القطرين وكانت المبادرة فيها للسودانيين، كما تكون "مؤتمر الخريجين" فى السودان متبنيًا الدعوة إلى الوحدة مع مصر[73]. أما فى مصر فقد قام الحزب الاشتراكى بإدراج فكرة الوحدة فى برنامجه، كما قام بإنشاء فرع له فى الجنوب، و بذل جهدًا ملموسًا فى الدعوة للوحدة المصرية السودانية.

أما المنظمات الماركسية فى القطرين، فقد اتخذت موقفًا موحدًا إزاء هذه القضية، فرفضت شعار "وحدة وادى النيل" وعارضته بفكرة "حق تقريرالمصير"[74].ولم ينجح "حزب البعث العربى الاشتراكى" فى مد نفوذه إلى مصر بينما حقق نجاحًا محدودًا فى السودان، بحيث لا نستطيع أن نتحدث عن تيار بعثى فى وادى النيل ككل.

ورغم ظهور القومية العربية فى الوادى خلال الأربعينيات فان شعار وحدة وادى النيل لم يخل السبيل لشعار الوحدة العربية سواء فى مصر أو السودان، ويضاف إلى ذلك شعور سودانى بدرجة أو بأخرى من الولاء للدولة المصرية ، وقد رسخ هذا الإحساس بالولاء النشاطُ الاقتصادى الكبير لتلك  الدولة  فى السودان.

وقد ظلت المسألة السودانية بالنسبة للطبقة المسيطرة فى مصر بمثابة ورطة، فالاستعمار البريطانى يقف حائلاً أمام تحقيقها لطموحاتها المحدودة للغاية فى السودان، أو على الأقل يقف فى السودان مهددًا تلك الطبقة بلىّ ذراعها فى الوقت الذى يريده[75]، بينما كانت إزالة هذا الخطر تتطلب كفاحًا شاقًا. ومن جهة أخرى وقفت الحركة الوطنية بالمرصاد لكل من يتساهل فى قضية الوحدة، فظلت الطبقة المسيطرة تؤجل حسم القضية إلى أن أصبح لا مناص من ذلك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إذ أن الحركة الوطنية  قد اندلعت فى القطرين ولعبت المسألة السودانية دورًا كبيرًا فى تصعيدها وأضافت وقودًا للصراع السياسى فى مصر حتى قيام حكومة الضباط.

والآن يمكننا إيجاز المسألة كالتالى: ترسخ مطلب الوحدة لدى الحركة الوطنية فى مصر والسودان، أما على صعيد الطبقة المسيطرة فى مصر، فكانت مصالحها المحدودة فى السودان لا تتطلب منها خوض نضال حاسم من أجل الوحدة، ولذلك تراوحت شعاراتها حول هذه الرؤية الضيقة لمصالحها الخاصة، حتى رفع بعض الشعارات الوحدوية لامتصاص ضغط الحركة الوطنية، أما "الطبقة" المسيطرة فى السودان فكانت معادية لأى نوع من الوحدة على طول الخط وعلنا، باستثناء شرائح معينة خضعت إلى حين لضغط الحركة الوطنية.

وجاءت حكومية يوليو فى مصر لتزيد المشكلة تعقيدًا، فقد كان مجئ هذه الحكومة غير ملائم لاستمرار المد الوحدوى فى السودان، فالحركة الوطنية هناك لم تكن لتقبل الانضواء تحت لواء حكومة عسكرية، كما لم تكن تملك من القوة ما يؤهلها لقيادة عملية التوحيد.

بدأت المفاوضات لحل المسألة السودانية بعد الانقلاب بعدة أشهر وتمخضت عن اتفاقية فبراير 1953[76]. التى لم تثر اعتراضات ملموسة فى صفوف المعارضة، التى كانت آنذاك غارقة بكل فصائلها فى الدفاع عن وجودها الخاص. لقد جاءت الاتفاقية بعد إلغاء الدستور وحل الأحزاب واعتقال مئات من الوطنيين الديمقراطيين. وقد تمخضت عن تبنى الضباط "لحق الشعب السودانى فى تقرير مصيره"  مع استقلال السودان عن بريطانيا.وكانت الاتفاقية خطوة إلى الأمام بوجه عام بالنسبة لاتفاق صدقى – بيفن، ولا تختلف كثيرًا عن الشعارات السائدة وقتذاك فى الشارع المصرى، وخصوصًا أن الشعب السودانى – كما كان الأمر واضحًا- قد قرر مصيره فعلاً، وكان الاستقلال عن بريطانيا مقدمة منطقية لتقرير الشعب السودانى لمصيره بالوحدة مع مصر، خاصة أن الضباط لم يكونوا قد تخلوا بعد عن فكرة الوحدة وبذلوا مساعياً شاقة لتحقيق ذلك على طريقتهم، بل واكتسب محمد نجيب تأييدًا جارفاً فى السودان، مما بشر بقيام الوحدة، إذ كان الشعب  السودانى حتى ذلك الوقت مستعدًا للانضواء تحت حكم محمد نجيب الذى كان يبدو له بمثابة الضمان الأكيد لحكم ديمقراطى.

ولكن منذ انشقاق جبهة الضباط وزحف سيطرة العناصر "الناصرية" داخل الجيش والحكومة بدأت الجماهير السودانية تتخلى عن فكرة الوحدة مع مصر وبدأ حزب الأمة الطائفى يزداد جرأة فى معارضتها ويحقق مكاسبًا هامة على حساب الضباط، وبل واستطاع أن ينظم مظاهرات ضخمة معادية لهم حتى فى حضور نجيب شخصيًا[77]. لم يكن الشعب  السودانى يتخيل الوحدة إلا تحت لواء حكومة مصر، كما لعبت أحزاب الطبقة المسيطرة فى السودان بفكرة الديمقراطية جيدًا. كذلك لعبت تصرفات الضباط فى السودان دورًا إضافيًا فى إضعاف المد الوحدوى هناك، فقد استخدمت الرشاوى مثلاً لاكتساب تأييد بعض القوى، تلك الطريقة  التى اسُتخدمت بعد ذلك كثيرًا.

ورغم هذا لم تكن مسألة السودان حتى انفراد عبدالناصر بالسلطة فى مارس 1954 قد انتهت، بل كان الضباط لا يزالون يتبنون فكرة الوحدة. وكان الحزب الاتحادى السودانى والذى كان يتمتع بشعبية كبيرة قد سيطر على البرلمان فى انتخابات يناير 1954 بل وساهمت تلك النجاحات الظاهرة إزاء المسألة السودانية (اتفاق الاستقلال – نجاح الحزب الاتحادى المؤيَِّد للوحدة) فى تعزيز موقف الضباط فى معاركهم مع الأحزاب والمعارضة الليبرالية فى الجيش. وقد تبدلت الأحوال فى الفترة من يناير 1954 (نجاح الحزب الاتحادى) ومارس 1954 (نجاح عبدالناصر ضد نجيب)، فقد اتخذ الحزب الاتحادى إزاء مسألة الوحدة نهجًا يتفق تمامًا مع نهج حزب الأمة، إذ أصبح من المستطاع أن يتخلص إسماعيل الأزهرى (رئيس الحزب) من الضغط الشعبى فى السودان الداعى للوحدة، فالانتصارات المتتالية للناصرية فى مصر كانت هى مقدمة هزائمها فى السودان. وبدأت الهزائم بمصادرة الأزهرى للصحف الاتحادية، ثم لجوئه إلى إرسال ضباطه للتدريب فى بريطانيا بدلاً من إرسالهم إلى مصر كما رفض استلام ثلاثة أرباع مليون جنيه من مصر لإقامة مشاريع اجتماعية وثقافية وصحية بالسودان. وتتابعت الأحداث كالتالى:

19 ديسمبر 1955 : أيد مجلس النواب السودانى الانفصال عن مصر،

22 ديسمبر 1955: أيد مجلس الشيوخ السودانى الانفصال،

1  يناير     1956: أيدت الجمعية التأسيسية فى السودان الانفصال

وقد اضطر الناصريون إلى قبول الانفصال بكثير من الصبر والود المصطنع، وتمت التضحية بصلاح سالم عضو "مجلس قيادة الثورة" الذى حُمَِّل وحده مسئولية الفشل فى السودان! ورغم هذا الفشل ورغم مشاعر الغضب و الإحباط لدى المصريين فإن أمورًا كثيرة كانت قد تغيرت بحيث لم يعد من الممكن أن تسقط الحكومة بسبب المسألة السودانية. فقد حُطَّمت كافة القوى الوطنية المعارضة للسلطة الجديدة، وذلك قبل ظهور النتائج (الخاصة بالسودان) المترتبة على انتصار الناصرية، وتم تحطيم كافة المؤسسات الشعبية المستقلة: النقابات العمالية واتحادات الطلاب .. إلخ. واكتسبت الحكومة الناصرية شرعية جماهيرية واسعة بعد باندونج وصفقة الأسلحة السوفيتية ومعارضتها المستمرة للأحلاف مع الغرب .. الخ بحيث لم تعد الوحدة مع السودان بالأمر الضرورى لتثبِّت أقدامها فى السلطة . يضاف إلى ذلك أن الشعب السودانى هو الذى رفض الوحدة هذه المرة. لذلك تم استقبال انفصال السودان – من قبل الجماهير المصرية – بالحزن العميق، لكن الصامت.

 

*****************

    

بتصفية كافة القوى السياسية والمنظمات الجماهيرية والتخلص من ورطة المسألة الوطنية والسودان، والقضاء على الملك والأرستقراطية العقارية، صارت حكومة الضباط إلى مؤسسة كلية الجبروت.

لدينا الآن عدد من الوقائع، وقد تناولنا من قبل باختصار حالة المجتمع المصرى من حيث علاقات القوى المختلفة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتابعنا حركة الصراع الاجتماعى والسياسى. وحين جاء يوم 26 يناير (حريق القاهرة) كانت كافة القوى السياسية قد أُنهكت وساد اليأس جميع الأوساط السياسية فى مصر وبلغت الأمور حدًا من التوازن جعل من الصعب تمامًا على أى طرف أن يتحرك إلى الأمام بالنسبة لأهدافه، وتبلور التوازن بشكل عينى فى الوزارات الأربع المتتالية بعد الحريق ؛ الضعيفة التى لم تحقق ما يستحق ذكره. وفى 23 يوليو قام تنظيم الضباط بانقلاب سهل. ولم يكن هذا التنظيم يتحرك بأوامر من أحد إذ لم يكن أحد يستطيع أن يحرك الجيش المتذمر والذى يموج بالتيارات الوطنية والذى تكشفت بوضوح حقيقة حالته يوم انتخابات نادى الضباط . فأعلن رفضه للأحلاف العسكرية مرارًا، وإصراره على الجلاء عن مصر والسودان كما وجه ضربات شديدة إلى العائلة المالكة والأرستقراطية العقارية والحركة العمالية. ورغم تدعيمه - خلال سنواته الأولى- لمصالح رجال الأعمال فقد صفّى أحزابهم وسيطر على مؤسساتهم النقابية واعتقل كثيرًا منهم.

لم يكن تنظيم الضباط حزبًا سياسيًا ولم يحمل أيديولوجية خاصة أو برنامجا سياسيا محدد المعالم.. وكان من الواضح من منشوراتهم و برنامجهم أن الضباط ليسوا معادين للنظام القائم ككل من حيث هو نظام اجتماعى – اقتصادى ، كما لم يكن ينبغى على أحد أن يتوقع أنهم –باعتبارهم بشرا - مجرد فاعلى خير، ولذلك لم تكن وعودهم الديمقراطية منذ البداية المبكرة توحى بالجدية ، خاصة مع  تدهور التيارات الليبرالية وقتذاك ، وسيادة روح اليأس بين أفراد الشعب واستعدادهم نفسيًا لنهاية النظام الحزبى ..ذلك المطلب الذى تبنته قطاعات مؤثرة من الجماهير و خصوصا من الانتلجينسيا غير الحزبية.

وقد أصبح الآن من الجلى أن الضباط سيحكمون بأنفسهم و سيضعون بصماتهم فى كل مكان ، و من الطبيعى ألا تغيب عنهم – باعتبارهم بشرا – مصالحهم الخاصة، خصوصًا أنهم أعلنوا منذ البداية عدم رضاهم عن النظام السياسى ككل، متهمين الجميع بالفساد. ومن أول يوم بدأوا فى إعادة تنظيم جهاز الدولة، بالتعاون مع بعض الساسة القدامى وأجهزة الأمن وكبار موظفى الدولة. وإذا أردنا إعادة الإيجاز فان الأمور سارت كالتالى:

1- الصراع الاجتماعى – السياسى من 1945 حتى 26 يناير 1952 انتهى بتوازن سياسى.

2- الفترة من 26 يناير حتى 23 يوليو 1952 فترة توازن سياسى.

3- الجيش يموج بتيارات عديدة يغلب عليها الطابع الوطنى.

4- الملك فقد نفوذه فى الجيش، و"الضباط الأحرار" لا يخضعون لأية قوة كانت .

5- جاءت حكومة الضباط لتضرب كل القوى السياسية بما فيها أحزاب الطبقة المسيطرة وممثليها وإحدى كتل الطبقة المسيطرة والملك وتصدر عديدًا من القرارات فى صالح رأس المال المحلى والأجنبى، وبعض القرارات الاقتصادية القليلة لصالح عمال الصناعة خصوصا .

 6- تصفية المعارضة الديمقراطية فى الجيش لصالح الانقلابيين .

7- رفض التحالف مع الغرب وإصرار الحكومة على تحقيق جلاءً بريطانيًا كاملاً.

8- بدأ الضباط فى توزيع غنائم السلطة على أنفسهم منذ الأيام الأولى بعد الانقلاب، فى صورة مناصب الدولة وغيرها.

وعلى ضوء هذه الملاحظات يمكن تحديد الموقف كالآتى: منذ استقرار حكومة الضباط، وخاصة منذ مارس 1954، صارت مجموعة من  رجال الدولة، رأسها أولئك الضباط الذين قفزوا ليلة 23 يوليو إلى موقع السلطة، تمارس الحكم بنفسها ولنفسها، آخذة فى الاعتبار إحداث التغيرات اللازمة لترميم النظام الاجتماعى القائم دون هدمه و هذا ما تضمنه برنامجهم ذو النقاط الست ثم إعلانهم الدستورى.

وقد عُرف هذا النوع من النظام السياسى بالبونابرتية[78].

 

 

                        *******************


 

[1]           انظر نماذج من منشورات الضباط فى : راشد البراوى: حقيقة الانقلاب الأخير فى مصر، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة 1952.

[2]           يبدو من أقوال بعض المراقبين أن اتفاقات محددة قد تمت بين تنظيم الضباط والانجليز والأمريكيين قبل الانقلاب، وأنهم حصلوا على موافقة الطرفين على عدم التعرض لانقلابهم. كما تم الاتفاق مع الإخوان المسلمين على تأمين القاهرة من الشرق بقواتهم المسلحة .. وهكذا تم تأمين العملية إلى حد كبير. كما نجحت علاقات الضباط الأحرار مع الأمريكيين فى تأمين تنظيمهم ضد بطش الملك فاروق.

            (قدم الدكتور رءوف عباس دراسة وثائقية أكد فيها هذه المعلومات، ُنشرت فى أعداد متوالية من مجلة " الأهرام الاقتصادى").

[3]           مما له مغزى أن هذا قد جرى رغم وجود 60 – 70 عضوًا من "حدتو" فى الجيش، ومن رجال "حدتو" يوسف صديق عضو تنظيم "الضباط الأحرار"، والمنفذالأول لعملية الانقلاب والرتبة الأعلى أيضًا بين القادة( عدا محمد نجيب )، كذلك كان فى التنظيم عدد لا بأس به من أعضاء "حدتو". رفعت السعيد : منظمات اليسار المصرى 1950 – 1957، ص ص92 – 93.

[4]           انظر أسماء وألقاب أعضاء هذه الوزارة فى:"الطليعة" عدد يوليو 1965.

[5]           أنور عبدالملك : المرجع السابق، ص 122.

[6]  لم تكن الأحزاب المذكورة ليبرالية بالحق ، فوجدناها تقبل الوزارة بأمر الملك بل و قبل "الوفد" الوزارة بأمر الانجليز ، و لم تكن تحترم قواعد الديموقراطية المتعارف عليها فى أى نظام ديموقراطى ، بل قبلت لعبة الكراسى الموسيقية مع الملك و الاحتلال .

[7]           منذ بدايات عهد فاروق، وخصوصًا أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو غير مرغوب فيه من بريطانيا، وكان من   وجهة نظرها رجلاً غير كفء للقيام بالدور المطلوب منه، وكان عناده الطبيعى يسبب لها المتاعب. وفى أواخر سنوات عرشه أصبح مصدرًا للمخاطر بالنسبة لنظامه نفسه. وقد أعلن ذلك مرارًا لورد كيلرن وغيره من الساسة البريطانيين الرسميين. انظر كمال عبدالرؤوف : المرجع السابق.

[8]           محمد نجيب: كلمتى للتاريخ، ص ص 55 – 58.

[9]           عبدالرحمن الرافعى: ثورة 23 يوليو – تاريخنا القومى فى سبع سنوات، دار المعارف بالقاهرة، 1989، ص ص  220 - 221.

[10]         عبدالعظيم رمضان : الصراع الاجتماعى والسياسى فى مصر منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 إلى نهاية أزمة مارس 1954، مكتبة مدبولى، ط2 القاهرة، 1988، ص ص 98 – 99.

[11]         باتريك أوبريان: ثورة النظام الاقتصادى فى مصر، ص 245، روبرت مابرو: الاقتصاد المصرى من 1952-1972. ترجمة : صليب بطرس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1976، ص ص 324 – 325.

[12]         أوبريان: المرجع السابق، ص 255.

[13]         حمروش: قصة ثورة 23 يوليو 1952، جزء 2، ص 118.

[14]         رفعت السعيد : منظمات اليسار المصرى 1950 – 1957، ص 63.

[15]         نفس المرجع، ص ص 99 – 100.

[16]         حمروش: نفس المرجع (2)، ص 123.

[17]         استطاع الضباط فى تلك الفترة شن هجوم إعلامى واسع ضد الشيوعية بالتعاون مع نورى السعيد فى العراق           والمخابرات الأمريكية وصحافة أخبار اليوم ذات العلاقة الوثيقة مع الأمريكيين. سنرى ذلك فى مكان آخر من الكتاب.

[18] Gabriel Baer: History of Land Ownership in Modern Egypt, 1800-1950, Oxford, 1962, p. 89     

[19]     ارجع إلى  : E. Cromer : Modern Egypt ,1908 

[20]         عضو بارز بالحزب السعدى.

[21]         طارق البشرى: المرجع السابق، وقد وصف الكاتب كيف استقبل أعضاء الأحزاب الليبرالية مشروع خطٌاب، وكيف دُبرت مؤامرة لو أد ه ، رغم أن السكرتير العام لحزب "الوفد" آنذاك قد تظاهر بالعطف على المشروع خشية معارضته علنا. انظر ص ص 218 - 219 

[22]         أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 92.

[23]         فتحى عبالفتاح: القرية المعاصرة، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1975، ص 14.

[24]         أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 98.

[25]         نفس المرجع، ص 92.

            وقد ذهب السفير الأمريكى (كافرى) إلى ضرورة إجراء إصلاح زراعى، لتقليل الفوارق بين الطبقات ورفع الأجور،         وذلك لمحاربة خطر الشيوعية، بالإضافة إلى تطهير الأحزاب السياسية. (أحمد مرتضى المراغى: المرجع السابق، ص 199).

[26]         باتريك أوبريان: ثورة النظام الاقتصادى فى مصر، روبرت مابرو: الاقتصاد المصرى من 1952 – 1972.

- Doreen Warriner: Lond Reforms & Development in   Middle East, London, 1957

[27]         إبراهيم عامر : الأرض والفلاح، مطبعة الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، ص 147.

            بعد ذلك فى أواخر 1952 عادت "حدتو" فعارضت القانون على أنه "ذر للرماد فى العيون". انظر

Walter Laqueur: Communism and Nationalism in the Midlle East., p. 49

[28]         انظر على سبيل المثال: أنور عبدالملك: المجمع المصرى والجيش، ص 102. فهو يضع القانون فى الإطار المذكور، رغم أنه يعترف بفشله فى تحقيق النتائج المرجوة ! .و علاوة على ذلك لم يلجأ أنور عبدالملك إلى تناول الإطار الذى يفترضه أصلاً بأى تحليل.

[29]         خطاب فى 19/4/1954 (مجموعة خطب وتصريحات وبيانات السيد الرئيس جمال عبدالناصر، مصلحة الاستعلامات، وزارة الإرشاد – جـ 1).

[30]         خطاب فى 15/4/1954، نفس المرجع.

[31]         إبراهيم عامر: المرجع السابق، ص 147.

[32]         النشرة الاقتصادية للبنك الأهلى – المجلس الخامس، عدد 3، 1952   

[33]         نفس المرجع، الفصل الخامس. أرجع أيضًا إلى : عبدالعظيم رمضان : المرجع السابق، الفصل الخامس.

[34]         َنشر مواد القانون ومذكرته الإيضاحية : محمد كمال أبو الخير: قانون الإصلاح الزراعى، دار المعارف بمصر، 1964.

[35]        Charles Issawi: Egypt in Revolution, London, 1956, p. 154

[36]         المجتمع المصرى والجيش ، ص 97.

[37]         المرجع السابق، ص 97.

[38]         قدر فتحى عبدالفتاح مساحة الأرض الزراعية التى تضيع نتيجة للتتفيت وأسلوب الرى المتأخر بـ 25% من جملة مساحة الملكيات الزراعية التى تقل عن 3 أفدنة. القرية المصرية، دار الثقافة الجديدة، 1973، ص 112. كما قدر سيد مرعى أن 10-20% من جملة المساحة الزراعية فى مصر تضيع فى الجسور وقنوات المياه ورسم حدود الملكية. الإصلاح الزراعى ومشكلة السكان فى القطر المصرى، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1953، ص ص 180 - 181.

[39]         ميشيل كامل: حول حركة واتجاهات الصراع الطبقى فى الريف المصرى، مجلة "الطليعة"، عدد سبتمبر 1966   . ويقول روبرت مابرو إن التحديد الجديد للإيجار كان يتفق مع ظروف السوق وليس راجعًا إلى مجرد قرار من الحكومة،  ثم وضع تحفظات جديدة حول القيمة الفعلية التى كانت تدفع بعد 1952 كإيجار. المرجع السابق، ص ص 331 – 332.

[40]         فتحى عبدالفتاح: القرية المصرية، ص 101.

          (تم استنتاج النسب المئوية من الجدول).

        وقد ذكر إبراهيم عامر أنه فى 1894 كان كبار الملاك يمتلكون 44% من الأرض، انخفضت إلى 34.2 عام 1952، المرجع السابق، ص 91.

[41]         محمد كمال أبو الخير: المرجع السابق، ص 74.

[42]         انتقدت دورين وارنير دفع هذه التعويضات أصلاً على أساس أنها غير مبررة اقتصاديًا.

Land Reform & Development in Middle East, p. 26-27.

[43]         لم تتوقف هذه الظاهرة بل تفاقمت رغم الإصلاحات الزراعية المتوالية.

[44]         يشمل هذا التغير مصادرة أراض الأسرة المالكة، وبيع كبار الملاك لجزء من أراضيهم خلال الشهور الأولى بعد صدور القانون. ونقصد هنا بكبار الملاك ملاك أكثر من 50 فدانًا.

-           محمود عبدالفضيل: التحولات الاقتصادية والاجتماعية فى الريف المصرى، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978، ص 24.

[45]         فتحى عبدالفتاح : القرية المعاصرة، ص 18.

[46]         ايفور بيليايف، افغينى بريماكوف: مصر فى عهد عبدالناصر. أشرف على تعريبه: عبدالرحمن الخميس، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1 1975، ص 59 نقلاً عن "الطليعة"، 1966، العدد 6.

[47]         المرجع السابق، ص 61.

[48]         د. محمود عبدالفضيل، المرجع السابق الذكر، ص 22.

- Walter Laqueur, op. cit, pp. 253-454

[49]         بمقارنة الإصلاح الزراعى فى مصر الناصرية بإجراءات مماثلة فى بلدان متخلفة أخرى يتضح لنا مدى اعتدال الأول، ومن الطريف أن الإصلاح الإيرانى (1962) الذى طبقه أكبر ديكتاتور فى الشرق الأوسط كان أكثر راديكالية من كل الإصلاحات الزراعية فى المنطقة كلها. ناهيك عن الإصلاح فى تايوان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية (جعل الحد الأقصى للملكية  2.5 فدانًا ). وإذا قارنا الإصلاح الناصرى بالإصلاح اليابانى الذى تم إجراؤه بعد الحرب العالمية الثانية نجد أن الأول أفاد نحو 8 – 10% من سكان الريف (من حيث ملكية الأرض) بينما وزعت الأراضى فى الحالة الثانية على 33% من سكان الريف مع جعل الحد الأعلى للملكية 7,5 فداناً ..

[50]         نقصد "حدتو"، وسرعان ما سنجد بقية الفرق تعود إلى "حدتو" بعد صدامات مؤقتة مع السلطة. انظر الفصل الثالث من الباب الثانى من هذا الكتاب.

[51]         انظر تفاصيل ذلك فى : عبدالعظيم رمضان: المرجع السابق الذكر، ص 127.

[52]         انظر بعض بنود البرنامج فى المرجع السابق، ص ص 129 – 130، وفى : أحمد حمرش: قصة ثورة 23 يوليو (2)، ص 94.

[53]         عبدالعظيم رمضان: المرجع السابق، ص 136.

[54]         أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو (2)، ص ص 141 – 145، ص ص 181 – 184.

[55]         محمد نجيب : كلمتى للتاريخ، كنت رئيسًا لمصر.

[56]         عبدالعظيم رمضان، المرجع السابق، ص 169.

[57]         محمد نجيب: كلمتى للتاريخ، ص 198، ص 209.

[58]         محمد نجيب: كلمتى للتاريخ، ص 213.

[59]         راجع التفاصيل فى : عبدالعظيم رمضان: عبدالناصر وأزمة مارس 1954، دار روزاليوسف، القاهرة 1976. وجدير بالذكر أن قطاعًا من المتظاهرين رفع شعارات أخرى: حق الإضراب، تشكيل جمعية وطنية … الخ.

[60]         أحمد حمروش: مجتمع عبدالناصر، دار الموقف العربى للصحافة والنشر والتوزيع ، 1982، ص ص 20-21، ص 27.

[61]         لم يقم هذا الحرس بأعمال هامة ضد الاحتلال، ولكن الدعاية الرسمية ضخمت من دوره كثيرًا بحيث بدا الأمر كأن الحكومة قد أعلنت الحرب على بريطانيا، وهو ما لم يحدث. ويبدو أن تشكيل الحرس الوطنى كان يهدف إلى استخدامه وقت اللزوم كبديل عن الشرطة (مثل الأمن المركزى حاليًا) وقد قام بدوره تمامًا فى أحداث مارس 1954 (محمد نجيب : كلمتى للتاريخ، ص 220، أحمد حمروش: مجتمع عبدالناصر، ص ص 21-23).

[62]         ذكر محمد نجيب نقلاً عن مذكرات الجنرال روبرتسون كبير المفاوضين العسكريين أن جمال عبدالناصر كان يتصل سرًا بالبريطانيين خلال المرحلة السابقة على توقيع اتفاق الجلاء، أى الفترة التى كانت تُطلق خلالها الشعارات الوطنية الخلابة. كما أنه من الثابت أن اتصالات مماثلة كانت مستمرة بين بعض الضباط (خاصة جمال عبدالناصر) والأمريكيين، وبالذات مع كافرى (السفير الأمريكى فى القاهرة).كما أشار محمد نجيب إلى أن اتفاقية الجلاء كانت ثمنًا قدمه عبدالناصر مقابل مساعدة الأمريكيين له خلال صراع" الضباط الأحرار" مع المعارضة (كلمتى للتاريخ، ص 158، ص ص 214 – 215).

            والحقيقة أن وثائق الخارجية الأمريكية تؤكد وجود خلافات حقيقية بين الضباط وبريطانيا مما احتاج جهودًا أمريكية ملموسة، وبعيدًا عن التفسيرات التآمرية لمحمد نجيب، كان توقيع الاتفاق بهذا الشكل ممكنًا فقط بعد تصفية المعارضة الوطنية الراديكالية .. أى أن الوساطة الأمريكية قد أصبحت أكثر فعالية .. وهذا لا يستبعد بالطبع وجود صفقات مع الأمريكيين، حتى بشكل ضمنى.

[63]         محمد فؤاد شكرى: مصر والسودان، تاريخ وحدة وأدى النيل السياسة فى القرن التاسع عشر 1820-1899، القاهرة ؛ دار المعارف 1957.

[64]         طارق البشرى: المرجع السابق، ص 125.

[65]         طارق البشرى: المرجع السابق، ص 122، ص ص  135-136.

[66]         صلاح عيسى: البورجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، مطبوعات الثقافة الوطنية، مطبعة يوم المستشفيات بالقاهرة، ط2، 1980، ص 157، ص 159.

[67]       ارجع إلى :جمال حمدان: شخصية مصر، الجزء الثانى، ص 928.

[68]         طارق البشرى: المرجع السابق، ص 123.

[69]         نبيه بيومى عبدالله: تطور فكرة القومية العربية فى مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975، ص 216.

[70]         طارق البشرى: المرجع السابق، ص 127.

[71]         نفسه، ص 122.

[72]         نبيه بيومى عبدالله: المرجع السابق، ص ص 34 – 35.

[73]         انظر فى ذلك: أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، الباب الخامس.

[74]         انظر تفصيلات ذلك فى : أحمد سليمان – ومشيناها خطى – الخرطوم 1983، الفصل 13.

[75]         انظر فى ذلك : جمال حمدان: المرجع السابق، الجزء الثانى، ص ص 927 – 930.

[76]         انظر فى هذا الأمر: أحمد حمروش: مجتمع عبدالناصر، ص 9.

[77]         محمد نجيب : كلمتى للتاريخ، ص 119.

[78] أدخل هذا المفهوم إلى الأدبيات السياسية بواسطة كارل ماركس ، بمناسبة انقلاب " لويس بونابارت " الذى حكم فرنسا من 1848 – 1870 كرئيس جمهورية منتخب فى البداية ثم كامبراطور منذ انقلابه السياسى فى ديسمبر 1851 . و قد نجح بونابارت فى انتخابات الرئاسة بأغلبية ساحقة ضد مرشح البورجوازية " كافينياك " و بدعم الفلاحين الذين اختاروه باعتباره ابن أخ نابوليون بونابارت الذى أنصفهم ضد الاقطاع  . و قد عبر انتخاب لويس بونابارت عن حالة من التوازن السياسى فى فرنسا على أثر ثورة 1848 . و قد قدم لويس نفسه للفرنسيين كمنقذ لكل الطبقات من الأخرى و صفى فى الوقت نفسه النظام الديموقراطى و حكم فرنسا بالحديد و النار مستخدما بطانة خاصة من الضباط و حتى من حثالة المجتمع السياسى  الفرنسى . و بينما حارب بضراوة أية معارضة سياسية ، شهدت فرنسا فى عهده نموا اقتصاديا ملموسا . و قد اعتمد لويس على خداع الفلاحين الفقراء بالشعارات التى لم ينفذها . و فى عهده حصلت النخبة الحاكمة من بطانته الخاصة على ُجعلات ضخمة و ُقدمت الامتيازات الكبيرة لرجال الجيش و الأمن و كبار رجال الدولة . و قد انتهت دولة لويس بونابارت اثر  الغزو الألمانى لفرنسا و الثورة العمالية  فى باريس عام 1870 . و فى تحليل ماركس أشار أيضا إلى " بونابارتية " حكم نابوليون بونابارت ، و لكنه اعتبر البونابارتية الثانية مسخا للبونابارتية الأولى .   

 

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1