التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

الباب الثالث

حقيقة الناصرية

 

 "الوعى شىء يجب أن يكتسبه العالم شاء ام أبى"

                                              ماركس

تمهيد:

بدأنا دراستنا للناصرية بتحليل تكوُّن حكومة الضباط خلال الفترة من يوليو 1952  حتى مارس 1954، وهذا ما يمثل – من وجهة نظرنا – الناصرية فى لحظة وجودها؛ أول لحظاتها المنطقية. ولكن هذه المرحلة من التحليل لم تتوقف، فانتقلنا إلى بنية النظام الناصرى نفسه، والذى نعده بمثابة الناصرية كماهيّة. والذى نستكمل تحليله هنا موضحين مفهوم الناصرية . وقد تبين لنا حتى الآن أن الناصرية لم تتجاوز – على صعيد الواقع – النظام الاجتماعى المتخلف – التابع، أما على صعيد الفكر فقدمت نفسها فى صورة شبه ثورية. وهذا التناقض بين المحتوى والشكل والمتضمن أيضًا فى الفكر الناصرى ذاته – هو فى الحقيقة تناقض يتضمن الوحدة، فالناصرية هى فى النهاية شىء واحد، ومعرفتها الحقيقية هى معرفة هذه الوحدة  بالذات. فالناصرية ليست – كما تبين لنا – مجرد حكومة، بل إنها أيضًا خط سياسى عام جدًا.. ولكن هذا الأخير مورس تحت شعارات مناقضة له، عمدًا، وقد حللنا سر هذا التناقض من قبل. والآن نجد أن علينا أن نستكمل هذا التحليل للجوهر نفسه ومن ثم ننتقل إلى تحليل مفهوم الناصرية ؛ الناصرية فى أكثر لحظاتها عينية ووضوحا؛ كيف تحركت لصالح النظام من خلال مصالحها الخاصة . فانقلاب 1952 وسياسات حكومته المختلفة وكافة مواقفها إزاء الظروف المختلفة، وطريقتها فى التعبير عن نفسها .. كل هذه هى لحظات من كل واحد .. شامل. فالناصرية لم تكن مجرد سلسلة من الأفعال الخالصة التى تعمل من أجل تحقيق أفكار مجردة، كما لم تكن مجرد مجموعة من الحسنات والسيئات، إنما هى كل، وفى كل لحظة لم تكن تواجه العالم إلا بصفتها كلاً واحداً، وقد تضمن تحليلنا هذا الكل، وعلينا الآن أن نبرزه على نحو صريح.

ومفهوم الناصرية ليس هو فكرتها عن نفسها، فقد تبين لنا أن الأفكار الناصرية لم تكن – بوجه عام سوى شعارات اتخذت شكلاً ديماجوجيا، اتضح فى "تطبيقها" أنها كانت تتخذ – داخل الثورة المضادة – شكل الثورة أو غلى أحسن الفروض شكل الحل الوسط بين الثورة والثورة المضادة، ولذلك سنتعرف على مفهومها الحقيقى .. كما كان موجودا على نحو موضوعى.

ومعرفة حقيقة الناصرية تبدأ بالإجابة على هذا السؤال : من هم الناصريون ؟

وقد اكتشفنا منذ البداية أن الضباط قد نظروا إلى جهاز الدولة كغنيمتهم الخاصة وأنهم قد بذلوا أقصى جهدهم للاحتفاظ به لأنفسهم .. وفى سياساتهم رأينا كيف ساروا يمنيًا أويسارًا فى إطار المحافظة على سلطتهم .. والآن سنحلل كيف حققوا وجودهم بشكل نهائى داخل الجهاز المذكور. وعلاقة ذلك بالنظام الاجتماعى الذى حافظوا عليه .. سوف نحلل  الناصرية تحليلا نهائيا .

 

1- بعد الانقلاب مباشرة راحت هيمنة الضباط تزداد داخل السلطة، وفى مواجهة العناصر الديموقراطية فى الجيش، وكانت النواة من "الضباط الأحرار" هى التى تحكم سيطرتها، وهى الجناح الذى كان أكثر تشددًا تجاه مسألة عودة الجيش إلى ثكناته، وكانوا يسعون إلى قيام سلطة كلية الجبروت، غير تابعة لأية قوة اجتماعية، وهى العناصر التى كان يقودها جمال عبدالناصر. وانضم إلى النواة المذكورة عدد كبير من ضباط الجيش الآخرين وضباط الشرطة والمخابرات، ثم الضباط المتعلمين (الانتلجينسيا العسكرية)، كما تقرب من النخبة الجديدة بعض رجال الأعمال وملاك الأراضى، ثم انضمت فيما بعد عناصر عمالية ومثقفين. ومنذ انتصر عبدالناصر على نجيب فى مارس 1954 راحت الزمرة الناصرية تنمو وتحاول تنظيم نفسها  بتوزيع أفرادها داخل جهاز الدولة وتنظيم مصالحهم معًا وعقد اتفاقات وحلول وسط بينهم،  بالإضافة طبعًا إلى إقامة تنظيمها السياسى الخاص.

وفى البداية قام "الضباط الأحرار" بقيادة جمال عبدالناصر بتحقيق سيطرتهم الكاملة على السلطة بينما راحوا يصفُّون مختلف القوى السياسية. وانتهت هذه العملية باستقلال بيروقراطية الدولة عن الطبقة المسيطرة؛ أى إقامة الحكم البونابرتى فى طبعته الناصرية. وفى سياق هذا تم استبعاد وتصفية الضباط "الديموقراطيين" : محمد نجيب وقادة المدفعية وغيرهم. تكونت إذن الزمرة الحاكمة بعد الانقلاب من "الضباط الأحرار" أساسًا ثم تم استقطاب آخرين إلى النخبة البونابرتية، من ضباط آخرين بعد حل تنظيم "الضباط الأحرار"[1] وضباط شرطة ومخابرات .. ثم كان انضمام عديدين من داخل وخارج جهاز الدولة. أما المعيار الذى تم على أساسه انضمام الأفراد إلى النواة البونابرتية فكان هو إخلاص هؤلاء  للمفهوم الجديد للنظام السياسى: البونابرتية، فالإخلاص لجهاز الدولة فى حد ذاته ولجبروته وتسلطه كان هو العامل الأول والأهم فى ترشيح عناصر جديدة، شرط أن تكون النخبة الجديدة فى حاجة إلى هذه العناصر. ومن هنا استند الانتقاء المباشر إلى "الثقة" المتبادلة بين النخبة ومريديها. أما توزيع الأعضاء الجدد داخل الزمرة البونابرتية – الناصرية فكان يتم وفقًا لموازين القوى داخل النخبة و لدرجة " الثقة " الممنوحة. وقد وجدنا فى البداية – على سبيل المثال – الصاغ عبدالحكيم عامر يُرقَّى إلى رتبة اللواء ويعين قائدًا للجيش وهو أمر غير مستساغ فى جيش تحكمه قواعد صارمة فى الترقيات[2]، كما تسلل بعض صغار الضباط إلى مواقع حساسة فى الدولة بفضل العلاقة الخاصة مع القيادة، فأصبح لبعض صغار الضباط نفوذ على كبارهم، فالولاء للقيادة أو للطرف الأقوى داخل النخبة كان يضمن نفوذًَا أكبر، كما أصبح الحصول على ثقة القيادة بتأكيد الولاء لها هو الأسلوب المتبع لتحقيق مصالح أعضاء النخبة، خاصة الضباط وكبار رجال الدولة. وامتد هذا النهج إلى كافة مؤسسات الدولة وشركاتها. وكان تأكيد الولاء يتم بمختلف الأساليب ، ابتداء من تأييد كافة قرارات وتصرفات القادة حتى كتابة التقارير السرية ضد الآخرين .. إلى الولاء الشخصى الكامل للرءوس القوية داخل النخبة.

من الواضح الآن أن الناصرية فى بداية وجودها (المنطقى) كانت مجرد فكرة فى أذهان أعضاء " الضباط الأحرار" . وقد صارت فئة خاصة على أساس الانتماء إلى هذه الفكرة .. هكذا كان يبدو أن الفكرة هى التى تصنع الواقع. والحقيقة أن هذه الفكرة نفسها كانت نتاجًا للواقع بأكثر من معنى: فبطريقة ما انبثقت فكرة البونابرتية لدى الضباط – وإن كانت هذه قد اتخذ صيغًا أخرى تناسب وعيهم وثقافتهم – بعد أن استولوا عل السلطة بالفعل، وبفضل نجاحهم فى مصادرة جهاز الدولة لحسابهم الخاص. ومن جهة أخرى قرر الضباط أن يستولوا على السلطة أصلاً ويعيدوا بناء النظام بأنفسهم، لأن موازين القوى السياسية قد شكلت أرضية مناسبة لانبثاق هذه الفكرة (أو لهذه الامكانية). وقد طرح الضباط أنفسهم كمنقذين لكل فئات المجتمع ، لأن هذا كان ينقلهم لوضع أفضل لهم من الناحية الاجتماعية. ومن زاوية ثالثة أيد البعض (أهل الثقة) فكرة البونابرتية لأنها اتفقت مع مصالحهم الخاصة. وأخيرًا انضم إلى النخبة الناصرية قلة من الأفراد على أساس الاقتناع الفكرى المحض بالشعارات التى رفعتها السلطة الجديدة، ومن منطلق الرغبة فى إعادة بناء البلاد، وجل  هؤلاء من بعض المثقفين الذين انضموا للنخبة بعد تبلور الناصرية بالفعل.

وكان وضع الضباط داخل النخبة ممتازًا، وقد حصلوا على أهم المراكز المرموقة، وكانت لهم الغلبة فى المؤسسات العامة وذلك لسببين:

*   العلاقة القوية بين أفراد النواة الناصرية من "مجلس قيادة الثورة" و"الضباط الأحرار" ككل وبين باقى الضباط، مما وفر فرصة أكبر لتحقق " الثقة" فى كثير من الضباط.

*   والسبب الثانى يتعلق بالضغط الذى شكله ضباط الجيش على الحكومة؛ إذ أن كثيرًا من الضباط من خارج تنظيم "الضباط الأحرار" قد اشتركوا فى الصراع على السلطة (1952-1954) وشكلوا قوة ضغط (وان كانت غير منظمة فى شكل سياسى)، مما أجبر القيادة على منحهم جزءًا لا بأس به من الكعكة، على الأقل درءًا لخطر انقلاب آخر.

أما داخل الزمرة ككل فكان من الطبيعى أن تنشأ تجمعات متباينة من "مراكز القوى"؛ فالأصول الاجتماعية متباينة، ومؤسسات الدولة متعددة ولها مصالح متباينة وعلاقات مختلف العناصر بالفئات الاجتماعية متعددة الألوان والدرجات ، و درجات الولاء وعنصر الثقة الشخصية متفاوتة، ومصالح أفراد النخبة متمايزة، والرغبة فى المزيد من الصعود تطلبت الصراع مع الآخرين على اكتساب ثقة القادة أو  حتى – أحيانًا- الصراع مع القيادة نفسها. لهذا كله لم تكن النخبة الناصرية فئة منسجمة، فتشكلت فى جماعات صغيرة تمايزت وجهات نظرها تجاه مختلف القضايا، وتصارعت على المناصب والمغانم بشتى الحجج ولجأ بعضها إلى العمل من أجل مصلحته الخاصة ولو على حساب مصالح النخبة ككل. وقد تطلب الحفاظ بقدر الإمكان على تماسك الزمرة من قبل القيادة القيام  بانقلابات صغيرة من حين لآخر، بهدف حفظ التوازن بين مختلف مراكز القوى: ضربات صغيرة لكل من "اليمين" و "اليسار" الناصريين، وكذلك العناصر المفرطة فى انتهازيتها. وتميز جو العلاقات داخل النخبة بروح التآمر وبالدسائس والانقلاب الصغيرة داخل مراكز القوى وضد بعضها البعض.

وقد تشكلت فى صورة  فئة مغلقة مصطنعة، فالبيروقراطية الناصرية  لم تتمتع سوى بوجود روابط منفعية بين أفرادها ولم تتميز عن القوى الاجتماعية الأخرى إلا بوظيفتها الاجتماعية الفريدة والطفيلية بشكل خاص ، تذكِّرنا  بالمماليك من زاوية معينة: مجموعة من العسكريين المحترفين من حراس و خُدَّام الطبقة المسيطرة و نظامها ( و الملك على وجه أخص )  ،من خارج الطبقات  احتكرت السلطة بالقوة مقابل "جُعلات" ضخمة و هى لم تنتم لا إلى أسرة و لا سلالة معينة. و لم تكن البيروقراطية الناصرية مجرد جهاز إدارة، فرجل الدولة الكبير لم يعد مجرد إدارى، بل صار أيضًا يمارس وظيفة اجتماعية تتعلق بالتقسيم الاجتماعى للعمل . فلم يعد يستطيع أى شخص يتعلم فن الإدارة أن يصبح رجل دولة كبير، بل صار شرطًا للانخراط وسط النخبة البيروقراطية أن يؤمن بالحكم البونابرتى ويقدم له الولاء ويكون قادرًا على خدمته. ولم تعد "الترقيات" داخل صفوف كبار رجال الدولة تتم وفقًا للكفاءة والولاء للنظام الاجتماعى فقط، بل أصبح من الضرورى أن يكون هناك ولاء للنخبة ذاتها، بل باتت هذه الأخيرة هى التى تقرر من ينضم إليها من "المرشحين" . أى أن النخبة البيروقراطية أصبحت تعين نفسها بنفسها و فى هذا تشبه المماليك أيضاً. ولم تعد النخبة تشمل فقط رجال الإدارة العليا، بل شملت أيضًا كبار العسكريين وإدارىّ مؤسسات الدولة الاقتصادية وقيادات التنظيم السياسى الرسمى و بعض الصحفيين و "المفكرين" الرسميين . إذن صارت هناك فئة مغلقة بالفعل وليس مجرد نخبة تحتكر خبرة إدارة الدولة، إذ لم يكن الناصريون مجرد "تكنوقراط" كما يحلو للبعض تسميتهم ، بل صار معيار الكفاءة المهنية لضم أفراد جدد إلى النخبة معيارًا ثانويًا، "فالكفاءة" التى باتت مطلوبة أكثر هى القدرة على ترسيخ البونابرتية[3].

وإذا كان الولاء للنخبة البونابرتية – الناصرية قد صار معيار، أو "منطق" عملية إعادة تشكل تلك النخبة، فالى أية قوة استندت هذه ؟

حين استولى الضباط على السلطة أصبح من الممكن لهم أن يحققوا لأنفسم طموحات كبيرة، وبإعلان حكمهم أٌقيم نظام سياسى جديد : "الجمهورية" الناصرية ،  وتكونت قيادتهم بشكل ناجز خلال الفترة من يوليو 1952 حتى مارس 1954. وقد اختير القادة الأكثر قدرة على ممارسة الحكم البونابرتى، أى الحكم باسم النظام الاجتماعى، ولكن بواسطة رجال الدولة أنفسهم، ومن هذه اللحظة بات ضم عناصر جديدة يخضع لمدى الحاجة إليها ومدى استعدادها للاندماج فى هذا النظام الجديد. وفى ظل هذه الظروف لم يكن من الممكن وضع قواعد رسمية واضحة ومباشرة لانضمام الأفراد إلى النخبة الجديدة، فكانت ثقة أكثر العناصر قدرة على قيادة النخبة، أى القيادة الناصرية، هى المقياس الجوهرى. إذن على أساس التوازن السياسى برز دور نوة صغيرة للغاية، " قيادة" .. وبواسطة "القيادة" تم تشكيل النخبة ككل .. من أعلى إلى أسفل، بنفس "المنطق" الذى فرضته على المجتمع ككله.

ومنذ البداية أخذ أفراد النخبة الناصرية من الضباط ينتشرون فى المواقع الهامة فى جهاز الدولة [4]، فالضباط الموالون حصلوا على أعلى المناصب فى الجيش كما تم تعيين بعض ضباط الجيش الموالين فى مختلف أجهزة الأمن، كما كان من السهل أن يعلن ضباط الأمن ولاءهم للسلطة الجديدة وأن ينتشر ضباط المخابرات فى مواقع مدنية هامة[5]. كذلك زحفت العناصر الموالية إلى كافة أجهزة الإعلام: الإذاعة والصحف الجديدة ودور النشر والترجمة والسينما والمسرح ، كما تم تأميم الصحف عام 1960 وإلحاقها " بالاتحاد القومى" وُأنشِئت وزارة الثقافة عام 1957 برئاسة ضابط ، بل ووضع مرفق النقل العام تحت إشراف المباحث الجنائية العسكرية عام 1964. وزحف الضباط الناصريون إلى اتحادات كرة القدم والفروسية والتنس والسباحة وحتى رئاسة الطرق الصوفية[6]، كما عُيَّن عدد من الضباط فى منصب السفير كما ذكرنا آنفًا . وفى شركات الدولة ثم طرد معظم المديرين القدامى وعُيََِِِِِّن كثير من الضباط الناصريين فى مجالس إداراتها، بالإضافة إلى عناصر مدنية ناصرية، واحتكر الناصريون النقابات والجمعيات الثقافية بحيث كان الولاء هو المعيار الذى يفوق – غالبًا – معيار الكفاءة المهنية فى كل هذه المواقع[7].

و قد تشكلت الفئة المغلقة الناصرية غير متماهية ؛ فوجدت مستويات متعددة و كذلك "شلل " و كتل متباينة المصالح . و كانت المجموعات الأهم و الأقوى هم رجال المخابرات و الجيش و الأمن ، ثم قادة التنظيم السياسى و النقابات و الأجهزة الاقتصادية الكبرى ، و فى الذيل يأتى مديرو الشركات الحكومية . فحتى داخل النخبة كانت السياسة فوق الاقتصاد ؛ فلم تكن السلطة السياسية تعبر عن مصالح رجال الشركات الحكومية كما ذهب بعض المحللين ، بل كانوا مجرد ذيول للجسم الرئيسى للنخبة الناصرية و لم يكن لهم من النفوذ ما يؤهلهم لفرض أفكار معينة . و قد لعب رجال الشركات دورا كبيرا فى تفكيك النخبة الناصرية ؛ من خلال استغلال  قطاع الدولة الاقتصادى الضخم بالاشتراك مع القطاع الخاص ، و تحول الكثير منهم إلى مليونيرات و أصحاب مشاريع ، بينما لم يحقق ذلك أقوى أفراد النخبة أنفسهم و على رأسهم عبد الناصر نفسه ومعظم  كبار رجال الجيش و الأمن . 

 

2: النهب الناصرى – البيروقراطى:

إذا كانت البيروقراطية قد أعلنت حكمها أعلى الأحكام وقررت أن تقوم بدور الوكيل عن الطبقة المسيطرة، فقد  كان من الطبيعى أن تكون هذه الوكالة مدفوعة الثمن. فالتحول من موقع الخادم المطيع إلى موقع الخادم المتمرد كان لابد أن يؤتى للبيروقراطية ثمارًا. فبدلاً من الأجر العادى تطلَّع البيروقراطيون إلى جُعل خاص، وبفضل تمردهم حصلوا بالقوة على جهاز الدولة خالصًا، ولم يكن الناصريون مجرد فاعلى خير، فلأنهم بشرًا – ولا يستندون مباشرة إلى شىء سوى سيطرتهم على جهاز الدولة – تمثلت مصالحهم الخاصة فيما يمكن الحصول عليه بواسطة هذا الجهاز. ويمكننا استعراض أهم أشكال النهب الناصرية فيما يلى:

1- زيادة امتيازات كبار رجال الدولة:

زيدت امتيازات الضباط بحيث تخطت نسبة زيادة مداخيل أية فئة أخرى[8].

فزادت بدلات التمثيل كالآتى:

الفريق       1350 جنيها سنويًا.

اللواء        750   جنيها سنويًا.

العميد       375   جنيها سنويًا.

كما زيدت العلاوات لكل الضباط أنواعًا وقيمًا ومعدلاً وأصبحت الترقيات أسرع، وحصل الضباط على حقوق للعضوية فى عديد من الأندية وعلى تسهيلات للسفر إلى الخارج للعلاج. وزيدت بدلات السكن والإقامة، كما حصلوا على تسهيلات بالنسبة لحجز الشقق الفاخرة والسيارات وتقسيط أثمانها. كما تم رفع سن الإحالة للمعاش للرتب الكبيرة[9].

كما حصل كبار رجال الدولة على امتيازات أخرى: زيد بدل انتقال وكيل الوزارة إلى 20 جنيها ثم إلى 75 جنيها شهريًا (150 لوكيل أول الوزراء) بالإضافة إلى 150 جنيها كبدل تمثيل. وبعد الانقلاب مباشرة صدر قرار بوقف استخدام سيارات الحكومة (600 سيارة) ولكن بعد عدة أشهر أعيد استخدامها وارتفع عددها أضعافًا كثيرة، حتى أن استهلاكها السنوى بلغ 20 مليون جنيه فى أواخر الفترة. كما رُفع الحد الأقصى للمرتبات بحيث بلغت النسبة بين الحد الأدنى والأقصى 1 : 40 حسب تقدير عادل غنيم [10]، و 1 : 55 حسب تقدير ط. ث. شاكر[11]، وصدر قرار فى 1961 برفع الحد الأقصى للدخل السنوى لوظيفة المدير من 2500 إلى 5000 جنيها.

أما بالنسبة لأعضاء "مجلس قيادة الثورة" فقد تقرر منح كل منهم معاشًا شهريًا (500 جنيها) وخط تليفونى وجواز سفر دبلوماسى .

 خلال الفترة من 1962 – 1967 شهد قطاع الخدمات والأعمال الزيادة الآتية:

زيادة فى الوظائف العليا بنسبة      161%.

وزيادة فى دخل هذه الوظائف       230%.

وزيادة فى الوظائف التخصصية    145%.

وزيادة الوظائف الفنية                128%.

وزيادة الوظائف الإدارية            145%.

أما فى قطاع الغزل والنسيج فزاد عدد المديرين والأخصائيين بـ 300% بينما زاد عدد العمال المهرة والعاديين والفنيين والملاحظين بـ 160% وارتفعت نسبة المديرين والأخصائيين بالنسبة لمجمل العاملين من 1.59% إلى 4%[12].كذلك بلغ عدد المعينين بدرجة المدير العام إلى 1400 شخص[13].

وارتفع عدد المعينين على درجة وزير ارتفاعًا كبيرًا بلغ 700 شخص بعد سقوط  الناصرية بقليل.. حتى عام 1974[14].

كما شهدت الفترة الناصرية ظاهرة تعدد المناصب للفرد الواحد بشكل ملفت [15]، فكان من المعتاد أن يحتل فرد واحد عديد من المناصب (مثل كمال الدين حسين، عبدالحكيم عامر، لدرجة أنه لا يكون لديه متسعًا من الوقت لمجرد التفكير فيها جميعًا !)

3- بلغت المصروفات المخصصة لقيادات التنظيم السياسى ما يلى:

250 جنيها شهريًا بدل طبيعة عمل لأمين المحافظة.

150        جنيها شهريا بدل طبيعة عمل لأمين القسم.

27 جنيها شهريا بدل طبيعة عمل لأمين مساعد القسم.

350        جنيها شهريا بدل طبيعة عمل لأمين عام المحافظة.

165        جنيها شهريا مصاريف سيارة للأمين والأمين المساعد.

هذا بخلاف بدلات التفرغ [16]. وهى أرقام ضخمة بمقاييس تلك الفترة.

4 – بالإضافة إلى هذه الأشكال المقننة للنهب، انتشر بشكل فاضح النهب المباشر لأموال الدولة؛ فلجأ الناصريون إلى الاختلاس واستثمار رأس مال الدولة لخدمة نشاطهم الخاص، كما عمل كثير منهم بالسمسرة، واستطاع الموظفون الكبار فى الريف الحصول على مداخيل ضخمة من جراء بيع الأعلاف والبذور فى السوق السوداء ونهب الفلاحين بمختلف الوسائل غير المقننة.

كذلك تم نهب الكثير من أموال أسرة محمد على ونهب الأموال الموضوعة تحت الحراسة، كما اشترى بعض كبار رجال الدولة بعض المنشآت الموضوعة تحت الحراسة بأسعار بخسة.

وبالتعاون مع رأس المال الخاص استطاع الناصريون مراكمة ثروات طائلة على حساب قطاع الدولة ومداخيلها. ولم يقتصر النهب على مؤسسات معينة، بل شمل كل مؤسسات الدولة: الجيش وأجهزة الأمن والأجهزة المدنية، وكذلك التنظيم السياسى والشركات والمؤسسات التابعة للدولة وحتى النوادى الرياضية.

وتفاوتت عملية مراكمة الثروات الخاصة بين شخص وآخر من أفراد النخبة بحسب موقعه وعلاقاته سواء داخل النخبة أم خارجها.

ومن الملاحظ أن عدد من كبار القادة السياسيين المتصدرين من أفراد النخبة الناصرية ذوى النفوذ الأكبر وأصحاب المناصب الأسمى بجهاز الدولة – منهم عبد الناصر نفسه -  لم يهتموا (أو لم يستطيعوا بحكم مناصبهم) كثيرًا بمراكمة الثروات الضخمة، ويمكن تفسير هذه الظاهرة على أساس أن هؤلاء القادة كانوا الأكثر قدرة على تمثيل النخبة ككل ولذلك كانوا الأكثر هيمنة فى السلطة، وبالتالى الأكثر سفورًا أمام الجماهير، ومن هنا كان اعتمادهم الأساسى على مداخيلهم المقننة والتى لم تكن تكفى على أية حال لتحويلهم إلى مليونيرات. فبلوغ أعلى المناصب  كان يمكن أن يكون فقط مصدرًا للنفوذ السياسى الضخم، إلا أن استخدام هذه المناصب بجمع الثروات كان شيئًا بالغ الضرر للنخبة البيروقراطية ككل، وهذا ما يفسر السلوك الأكثر انضباطًا للقادة الكبار مع استثناءات محدودة للغاية، كلفت النظام غاليًا مع ذلك (زمرة المشير سيئة السمعة مثلاً[17]). ولذلك كان  النهب الناصرى بالنسبة لكبار القادة  – بوجه عام – يتم اما فى حدود القانون أو بشكل و بقدر لا يؤدى إلى سخط الجماهير.

ولم يكن الحديث عن النهب البيروقراطى خافتًا رغم القمع المستمر، فحتى الأجهزة الرسمية تناولت هذه الظاهرة مرارًا، وكانت دائمًا حديث المجتمع، واستخدمت لوضعها مصطلحات خاصة مثل "الطبقة الجديدة"، كما لم يخل الأمر من محاكمات وتصفيات لبعض العناصر المفرطة فى الفساد. ذلك أن العناصر التى استطاعت أن تنهب أكثر من غيرها كانت من رجال الصف الثانى و الثالث ، مثل مديرو الشركات و الهيئات الاقتصادية .

وفى الواقع ظل الشىء الثابت وراء مسار الناصرية ككل هو تلك العلاقة المباشرة بين النخبة الحاكمة وسياستها، المتمثلة فى المصالح الخاصة لهذه النخبة. فالناصرية قد عبرت عن المصالح غير المباشرة للطبقة المسيطرة، ولكنها إلى هذا الحد تكون سلطة معلقة فى الهواء، وهذه حالة لا يمكن أن توجد فى التاريخ، فلا توجد سلطة لا تعبر مباشرة عن مصالح فئة محددة من الناس تشكل سندها المباشر، ولا يوجد أبدًا من يتطوع مختارًا لتمثيل المصالح بعيدة المدى لطبقة ما دون أن يمثل أية مصالح قصيرة المدى، أو مباشرة .. وهذه الفئة التى عبرت عنها الناصرية تعبيرًا مباشرًا كانت هى نفسها ؛ أى النخبة الناصرية من البيروقراطيين ، التى شكلت النخبة الحاكمة ككل. وفى الحقيقة عبرت النخبة البيروقراطية بنفسها عن مصالحها المباشرة. وعند هذه اللحظة من التحليل نرى أن الناصرية هى هذه الوضعية بالضبط : البيروقراطية تحكم لصالح النظام، بينما تأخذ .. تنتزع .. تقتطع الثمن باهظًا، "كلحظة" أصيلة من مسارها المنطقى – الفعلى، لا كاستثناء  بل كوجودها الحقيقى؛ مفهومها الخاص، سواء اتخذ صيغة قانونية أو عرفية. .. كانت أيضًا النخبة البيروقراطية هى التى مارست الفكر الناصرى، والسياسة الناصرية .  لقد كانت بدايتها المنطقية هى انقلاب "الضباط الأحرار"، فحكمهم ، فسياستهم، فتكٌُون نخبة خاصة عبر هذا كله وفقًا لما تطلبته كل هذه "اللحظات". وفى الحقيقة كانت كل هذه اللحظات تعبر عن وجود النخبة منذ البداية إلى النهاية. فالانقلاب نفسه كان يعبر عن نواة من "الضباط" … نواة للنخبة القادمة.

وقد شكل نهب الناصريين (المقنن وغير المقنن) المصلحة المباشرة التى عبرت عنها السياسة الناصرية، والتى توجهت من أجل المحافظة على النظام الاجتماعى بالشكل الملائم لاستقرار السلطة البونابرتية .. هكذا كانت الناصرية  التعبير النقى عن مصالح كبار رجال الدولة الجدد  بشكل مباشر، والذين لا يشكلون فى النهاية سوى مجرد واجهة للطبقة المسيطرة نفسها، ولكنها واجهة ذات مصالح متميزة كفئة اجتماعية خاصة، واستطاعت أن تحقق أقصى مصالحها. وبهذا يتضح ما سبق أن أشرنا إليه (القسم الأول)، أى العلاقة بين انقلاب الضباط ومصالحهم الخاصة، التى بدأت بالاستيلاء على جهاز الدولة، وتبينت الآن على نحو صريح : الاستيلاء على نصيب ملموس من مداخيل هذا الجهاز والناتج المحلى عمومًا. وقد أدت عملية النهب هذه إلى تحول أعداد كبيرة من أفراد النخبة الناصرية إلى أصحاب رءوس أموال أو ملاك عقاريين، والى تداخل متزايد بين مصالح رجال الدولة الناصريين  ومصالح رجال الأعمال، كما أن قطاعًا واسعًا من رجال الأعمال أنفسهم أصبحوا رجال دولة. إذن أدى النهب الناصرى إلى إعادة الوئام بالتدريج بين الدولة والطبقة المسيطرة، أى إلى اختلال الأساس المادى المباشر لوجود الناصرية.  وكان هذا الوئام ينمو بقدر ما كانت الناصرية تنجح فى المحافظة على حالة السلام الاجتماعى، بتحويل التوازن السياسى القديم (1952-1954) إلى تجميد للصراع الاجتماعى ، بقتل القوى السياسية المعبرة عن مختلف الفئات الاجتماعية. وبهذه الطريقة كانت تقيم أساسًا قويًا لاستمرارها فى الحكم، ولكنها فى الوقت نفسه كانت بهذا الشكل نفسه تقوَّض حكمها – بطريقة غير مباشرة – ففى ظل "السلام الاجتماعى" و"تأميم الصراع الطبقى" والإصلاح الاجتماعى برشوة المثقفين وعمال الصناعة، كان بمقدور رجال الدولة أن يقيموا الجسور مع رجال الأعمال والملاك العقاريين بدون إزعاج. وبهذا الشكل كانت الطبقة المسيطرة تعيد تنظيم صفوفها حول مصالحها المباشرة، بينما اكتفى الفقراء  بالفتات. ويضاف إلى ذلك أنه بينما لم تنجح الدعاية والسياسة الناصرية أن تمنع إنتاج وإعادة إنتاج التعبير السياسى المباشر عن الطبقة المسيطرة، نجحت هذه الدعاية وهذه السياسة فى استيعاب وإعادة استيعاب المعارضة اليسارية و الإسلامية  إلى حد كبير. لهذا لم تكن الناصرية مستقرة تمامًا، بل أخذت مع الزمن تخلى السبيل لعودة رجال الأعمال إلى سدة الحكم، رغم مقاومة القيادة الناصرية، الأكثر نقاءً فى التعبير عن مصالح جهاز الدولة، ورغم مقاومة قواعد النظام المتشبثة بقيادة كانت تتعرض لحصار متزايد حتى داخل جهاز الدولة نفسه.(يبدو أن ناصر نفسه كان يعى بهذه الحقيقة، فكثيرًا ما أشار إلى "سيطرة الرجعية" فى الاتحاد الاشتراكى وفى جهاز الدولة، كما ازداد شعوره فى أواسط الستينات بقوة ما أسماه "بالثورة المضادة" التى كانت على حد قوله "تنظم حزبها" فى مواجهة الثوريين غير المنظمين. ولهذا السبب أنشأ " التنظيم الطليعى" عام  1964 ).

 

3- الناصرية فى التاريخ:

سيطرت الناصرية لفترة من  تاريخ مصر الحديثة . كما أسلفنا حكمت باسم النظام القائم معبرةً عن مصالحه من خلال مصالح النخبة البيروقراطية. بهذا المعنى كانت تعبر عن المصالح غير المباشرة للطبقة المسيطرة، أى مصالحها العامة؛ بعيدة المدى.

فى الحقيقة  لم تطرح "طبقتنا "المسيطرة  على نفسها أبدا مهمة القيام بثورة بورجوازية ، بل حاربت الحركة الوطنية الديموقراطية بضراوة . وبالنسبة للناصرية وجدنا فى الفصول السابقة أنها لم تحقق "مهامًا" ثورية، فعلى صعيد الاقتصاد حققت درجة محدودة من نمو التخلف و كانت المحصلة العامة أنها حققت أقل مما كان يمكن تحقيقه فى ظل نظام عميل بالكامل. وعلى صعيد السياسة لم تحقق "ثورة" ديموقراطية، كما لم تحقق استقلالا سياسيًا بالمعنى الحقيقى. وباختصار لم تنجز أية مرحلة من ثورة بورجوازية مفترضة لدى بعض المفكرين.

وعلى العكس أدت سياسات الناصرية إلى انحطاط تركيب الطبقة المسيطرة، فتمت تصفية رجال الصناعة بينما تضخم حجم الكتل العاملة فى مجالات التداول ، وشاملاً الغش التجارى والمضاربات .. الخ، كما أدت إلى انحطاط تركيب "الطبقة" العاملة الصناعية، فخلقت قطاعًا أرستقراطيًا وقطاعًا من العاطلين المقنعين.

ولذلك نقول إن الناصرية قامت بدور ما فى التاريخ دون أن  يكون دورًا تاريخيًا. ويتلخص هذا الدور فى محصلة سياستها ككل:

1-  تصفية – مؤقتًا – كافة القوى السياسية المصرية، خصوصًا اليسارية و الإسلامية.

2-  توجيه ضربات قاصمة للحركة الشيوعية، والحركة القومية فى المشرق العربى.

3- الإصلاح الاجتماعى الجزئى (الذى تضمَّن تصفية الأرستقراطية العقارية)، والذى كان أساسًا ماديًا لتسريح المعارضة الراديكالية لفترة طويلة، وبالتالى حرمان الجماهير من أية قيادة ثورية محتملة فى المدى المباشر ، مما لعب دورًا كبيرًا فى تقبلها للناصرية.

4-  تغيير بنية الطبقة المسيطرة بتصفية كبار رجال الصناعة والكومبرادوريين فى سياق إصلاحاتها الاجتماعية الاقتصادية.

5-  تفريخ أعداد كبيرة من رجال الأعمال الجدد من خلال جهاز الدولة، وفى النهاية أدت هذه الآلية إلى تكوين أوليجاركية حاكمة قوية من رجال الأعمال – رجال الدولة.

6-  زادت السياسة الناصرية بشكل متعمد وبأشكال أخرى غير متعمدة بالكامل من تشويه تركيب "طبقة" عمال الصناعة، وذلك بزيادة البطالة المقنعة وبالتالى التخفيف – عمليًا- من عبء العمل، وبالتالى دفع كثير من العمال للقيام بأنشطة خاصة و موسمية (تجارة جائلة … الخ). وفى النهاية تدعمت ظاهرة قديمة فى مصر : تمثيل العمال من خارجهم، ليس بواسطة مثقفين اشتراكيين ، بل بواسطة رجال إدارة وتكنوقراط، ينتمون إلى بيروقراطية الدولة العليا …

7-  على الصعيد العربى والعالمى قدمت الناصرية نموذجًا لامعًا للحركات الوطنية المعتدلة، مما ساهم فى شد أزر هذه الحركات.

8-  ساهمت مساهمة غير مباشرة فى إلحاق الشرق الأوسط – سياسيًا- بالولايات المتحدة ، عن طريق دورها فى تصفية الاستعمار المباشر فى المنطقة دون استطاعتها تقديم بديل فى صورة نظام مستقل استقلالاً حقيقيًا.

9-  ساهمت فى احداث اضطراب أيديولوجى شديد فى عموم البلاد العربية ، باستخدام شعارات و مفاهيم متفق عليها بمعانى جديدة تناسبها .

10-        ومع كل هذا أدت سياساتها إلى إلحاق إهانات بالغة بفكرة الملكية الخاصة، لصالح ملكية الدولة – المنتهكة دائمًا مع ذلك – دون أن تخلق لدى الأفراد شعورًا بوجود ملكية عامة  لهم .. وبذلك أضعفت الناصرية فكرة الملكية عمومًا. يضاف إلى ذلك التغيرات التى طرأت على طريقة توزيع الدخول، من نمو العمالة الزائدة، إلى نمو الأنشطة الطفيلية، إلى نمو الأنشطة التداولية، والنهب البيروقراطى والفساد المعمم. إذ أدى كل هذا لمزيد من الانفصال بين العمل والأجر والملكية وعائد التملك والاستثمار والربح .. مما ميَّع تمامًا مفهوم الحق وشعور الأفراد بالانتماء إلى نظام اجتماعى بعينه .. (وهو ما تفاقم بشدة فى عهد السادات).

     وهذا الدور ككل قد أدى إلى لجم جزئى للمصالح المباشرة لرجال الأعمال مع المحافظة على مصالحهم بعيدة المدى، مما شكل ضربة مضادة من حيث الجوهر – للعملية الثورية التى كانت آخذة فى التبلور على صعيد البلد ككل فى منتصف القرن. وبذلك كانت الناصرية مجرد صورة لرد النظام القائم على الثورة؛ صورة حل وسط بين القوى الاجتماعية المتناقضة ولكنه كان حلاً وسطاً يخدم – فى المدى البعيد- الفئات المسيطرة . ولهذا السبب بالذات نُعِد الناصرية حالة من حالات الثورة المضادة فى مصر، تضاف إلى الثورة المضادة التى قادها شريف باشا والخديو توفيق ضد عرابى، ثم الحكومات "الليبرالية" ضد ثورة 1919، وقد جاءت الناصرية تتويجًا لعملية الثورة المضادة من 45-1952 بقيادة الملك والأحزاب "الليبرالية". فقد سارت السياسة الناصرية ككل مسارًا محافظًا ولم تنل من طبيعة النظام القائم من الناحية الجوهرية، وخدمت هدفًا محددًا هو إعادة الجماهير المتمردة  إلى حظيرة النظام ، ولخدمة هذا الغرض قامت بعدد من الإصلاحات الجزئية بالإضافة إلى القمع الشديد وغسل مخ معمم للجماهير.

     والناصرية فى النهاية كثورة مضادة فى ثوب خاص لعبت دور أداة الطبقة المسيطرة؛ أداتها الموضوعية. فقبل انقلاب يوليو كانت البيروقراطية تلعب نفس الدور فى الحدود التقليدية لأية بيروقراطية فى بلد متأخر، فكانت أداة مباشرة للطبقة المسيطرة، أما بعد الانقلاب فقد أصبح لها دور إضافى .. دور فريد  ، فبدلاً من الاكتفاء بتسيير آلة الدولة  راحت تلك البيروقراطية تشرف على تسيير المجتمع نفسه، وهذا الدور هو الدور الخاص لنظام بونابرتى (فى ثوبه الناصرى فى حالتنا)، والذى بموجبه صارت البيروقراطية أداة غير مباشرة للطبقة المسيطرة. فرغم أنها أصبحت تقود المجتمع، فقد ظلت من الناحية الموضوعية تعمل على تسييره فى اتجاه المحافظة على النظام القائم مع إدخال بعض التعديلات لصالحه. بل إن مصالحها الخاصة كانت هى الأخرى فى قمة تحققها، وتلتقى مع مصالح النظام نفسه. وبذلك ظلت البيروقراطية تقوم بدور الأداة، ولكنها منذ 1952-1954 راحت تقوم بدور الأداة فى شكل سلطة، وهذه الحالة هى شكل آخر لما سبق أن وصفنا بالتناقض بين محتوى وشكل الناصرية. فالناصرية كمحتوى هى أداة، وكشكل هى سلطة كاملة  .. هكذا امتد التناقض نفسه من الفكر الناصرى إلى السياسة الناصرية إلى الناصرية كمفهوم .

   إلا أن الناصرية فى سياق تحقيقها لمفهومها قد امتلكت قلوب الجماهير العربية بشكل فاق أية قيادة فى التاريخ العربى الحديث. ذلك أنها فى هذا السياق نفسه وجدت نفسها تقوم بممارسات بالغة التأثير فى الجماهير:

1- فقد وجهت إهانات بالغة للاستعمار التقليدى، تمثل أهمها فى تأميم قناة السويس، هذه العملية الناجحة التى كسرت حاجزًا نفسيًا معينًا فى العالم الثالث  بعد فشل محاولة مصَّدق فى إيران ، ثم انتصار 1956 السياسى والجزئى وما تبعه من تأميم الشركات الأوربية فى 1957. فهى بذلك قد ألهبت بشدة المشاعر الوطنية المتأججة أصلاً وحققت للشعب – من حيث المظهر – انتصارات باهرة، رغم أن هذا كان يخدم أغراضها الخاصة، بل ويخدم الامبرياليين الجدد: الأمريكيين.

     كذلك كان توجه الناصرية إلى الاتحاد السوفيتى للحصول على السلاح واستغلال التناقضات الدولية فى تحسين شروط علاقات مصر مع الغرب ، وتصدير المنتجات الراكدة إلى شرق أوربا .. كان هذا كسر احتكار الغرب للشرق العربى لمدة طويلة (بعد انقطاع العلاقة الخاصة بين الاتحاد السوفيتى وكل من تركيا والسعودية واليمن). كذلك كان اعتراف الناصرية بالصين الشعبية يمثل مقاومة حقيقية للهيمنة الغربية على الشرق، ويضر بدرجة ملموسة بهيبة الغرب. وبغض النظر عن التأثير الفعلى لهذه الإجراءات ، كانت تمثل نقلة معنوية هامة فى الحياة السياسية للعالم العربى، فهى تنطوى على تحد سافر للغرب، وهو شىء كان بالغ التأثير فى مشاعر الجماهير العربية، أشعرها بالنصر وبالقوة رغم محدودية التأثير المادى لهذه السياسات وقصر مدى هذا التأثير نفسه.

     وقد لعبت حتى الشعارات الوطنية المتطرفة وإلقاء التهديدات جزافاً ضد الغرب دورًا بالغًا فى تأجيج حماسة الجماهير، ورغم الطابع الغوغائى والديماجوجى للخطاب الناصرى، فقد  كان يمس وترًا حساسًا لدى الجماهير. فحتى الكلام بهذه الطريقة كان جديدًا على العالم العربى، فقبل ذلك لم يتميز خطاب القادة العرب بهذا الطابع المتطرف ولم تبلغ لغة العظمة القومية هذا المبلغ. لقد كان هذا شيئًا أخاذًا تمامًا للجماهير، خاصة أن رد فعل الغرب لم يكن قويًا، بل كان يبدو على السطح أن الناصرية تستطيع أن تواجه العالم كله ، متحدثة عن نفسها كقوة كبرى تحمى ولا تهدد .. الخ.

وقد تميز الخطاب الناصرى بعد 1955 بالتطرف فى العداء لاسرائيل … هكذا موهما الجماهير أن الدولة تستعد لسحقها  ومن وراءها كذلك. وقد لعبت هذه اللغة دورًا كبيرًا فى الإحباط الحاد الذى أصاب الجماهير نتيجة لهزيمة 1967 المهينة ..

2- الإهانات البالغة التى وجهتها لفكرة الملكية الخاصة. إذ كانت بالغة التأثير فى مشاعر الفقراء. فقد ضربت الناصرية من أجل النظام الاجتماعى ككل أغنى أغنياء مصر، بل وطردت الملك نفسه فى البداية. وهى بهذا قد انتقمت للجماهير المعذبة ممن كانوا موضع كراهية شديدة. وقد كانت إهانة الملكية الخاصة ممثلة فى البشوات شيئًا جديداً و فريدًا فى مصر منذ صعود محمد على. ورغم محدودية الإجراءات العملية ، كانت بالغة التأثير فى الجماهير، لأنها أهانت شيئًا كان يبدو أنه لا يمكن قهره .

3-  تبنت الناصرية شعارات شعبوية وقوموية متطرفة لم ُتطرح فى مصر من قبل إلا من خارج النظام وفى حدود أضيق بكثير، فقد كتبت فى كل مكان شعارات مثل الحرية – الاشتراكية – الوحدة .. الخ وهو شىء مثير للغاية فى مجتمع ذو انقسام اجتماعى عميق . ورغم المحتوى المحافظ للفكر الناصرى كان مجرد تبينها لشعارات اليسار ملهبا لقلوب الفقراء وجلب لها تأييدًا جارفاً، رغم أن هذا التأييد نفسه قد مثِّل قوة ضغط بالغ عليها.

4-  فى سياق المحافظة على نفسها، وحتى بدعم الأمريكيين أو موافقتهم الضمنية، ورغم كل النتئاج، كانت بعض الممارسات الناصرية مبهرة لجماهير عاشت طويلاً فى حالة شعور بالدونية والفشل .  فالوحدة السورية رغم فشلها بدت كمحاولة أحيت ذكريات  عظيمة، و كان إرسال الجيش المصرى إلى الخارج لتدعيم الجمهورية فى اليمن يدغدغ الشعور بالعظمة القومية.

     لقد أدت كل هذه الممارسات، خاصة أنها دُعمت بالقمع المطلق، إلى صعود كاسح وراسخ لأسهم الناصرية بين الجماهير العربية.


 

[1]           حمروش : قصة ثورة 23 يوليو (2) ، ص ص 143-144.

[2]           أدى هذا القرار إلى اضطراب نظام الأقدمية فى الجيش وأثار استياء مكتومًا . انظر : أحمد حمروش، المرجع السابق (2)، ص ص 148-150.

[3]            الأغلبية العظمى من العناصر التى هللت للشعارات المعادية للشيوعية فى البداية  طبلت بعد ذلك للاشتراكية الناصرية، كما  انضمت لهيئة التحرير فالاتحاد القومى فالاتحاد الاشتراكى. وهى نفسها  هاجمت الاشتراكية الناصرية فيما بعد. وقد رحبت بالتعاون مع  الاتحاد السوفيتى ثم هاجمته … باختصار كان ولاء البيروقراطى لفئته الاجتماعية فقط ولم يتمسك أبدًا بمبدأ أو عقيدة – باستثناء قلة نادرة – بينما كان  يعارض البيروقراطية فقط إذا تحول إلى رجل أعمال وتجاوزت مصالحه النظام الناصرى.

[4]           تناول أحمد حمروش هذه البداية بشىء من التفصيل، قصة ثورة 23 يوليو (2)، ص ص 138 –139.

[5]           تحول 500 ضابط إلى مناصب عليا بالدولة خلال الفترة من 1952 – 1964. أنور عبدالملك: المرجع المذكور، ص 21.

            وخلال الفترة من 1952 –1962 زاد عدد السفراء العسكريين من اثنين فقط إلى عشرات (فى 1962 صار كل السفراء المصريين فى أوربا من الضباط عدا ثلاثة فقط). وقد بلغ عدد الضباط فى المناصب الكبرى بوزارة الخارجية عام 1962: 72 ( من مائة منصب).

            حمروش: مجتمع عبدالناصر: دار الموقف العربى، ص 133.

[6]           انظر محمد نجيب: كلمتى للتاريخ، ص ص 64-65، ص ص81-82، ص ص 170-172،ص ص 187.

[7]           لم تزد نسبة الضباط من الكوادر الجامعية بالدولة عن 1% عام 1964 ، إلا أنهم تمركزوا فى مواقع معينة: رئاسة الجمهورية (20%)، وزارة الداخلية (83.67%)، وزارة الخارجية (9.31%)، كما احتلوا منصب المحافظة فى 22/26 محافظة، 6/11 من رئاسة المؤسسات العامة، ولم يكن عددهم أو نسبتهم كبيرة فى القطاعات التى تتطلب مهارات تكنيكية معينة، مثل البنوك والشركات الصناعية ..

Hrair Dekmejian: Egypt Under Nasir, op. cit., pp. 220-222.

[8]           مابرو: الاقتصاد المصرى من 1952 – 1972، ص 341.

[9]      حمروش: مجتمع عبدالناصر، دار الموقف العربى للصحافة والنشر والتوزيع ، ص ص127- 128.          

[10]         الطليعة ، فبراير 1968.

[11]         المرجع السابق، ص 29.

[12]         ط. ث. شاكر: المرجع السابق، ص 119.

[13]         ط. ث . شاكر: المرجع السابق، ص 26.

[14]         روزاليوسف، 21/7/1975.

[15]         حمروش: نفس المرجع ، ص 123

[16]         صحيفة "الأخبار" ، 29/5/1971.

[17]         للوقف على بعض التفصيلات، ارجع إلى كتاب أحمد حمروش : مجتمع عبدالناصر ، ص ص 214-215.

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1