التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

 


 

الفصل الثانى :

َتشكُّل الحكم

لم يتشكل نظام الحكم الناصرى بناء على خطة مقررة سلفًا. فلقد التهم الضباط سلطة فارغة ، وراحت النخبة الجديدة وهى تبنى نفسها تعمل على إحكام سيطرتها على البلاد ، محوِّلة المجتمع كله إلى نسخة معدلة من بذرتها : تنظيم  "الضباط الأحرار"   .. وبينما كانت تمارس الحكم راحت، بروحها التجريبية، تكوَّن مؤسساتها وتقننها ، كما وضعت لنفسها "فلسفة" تغيرت أكثر من مرة. وكانت "الفلسفة" تأتى بعد الممارسة كمبرر دعائى. أما الممارسة فكانت تسير وفق منطق سبق لنا تحديده، ولكن السلطة نفسها لم تحدده بشكل مسبق، وإنما تكون منطقها على نحو تلقائى؛ انبثق مع الحكم الجديد نفسه، بحيث كان لصيق الصلة بطابع السلطة نفسها. وقد ترافق تحول هذا المنطق إلى صياغات محددة مع تحول "الضباط الأحرار" ومن انضم إليهم إلى مؤسسة حاكمة. وكانت القضية التى تطرح نفسها منذ البداية هى تقنين الحكم البونابرتى.

( أ ) الدستور :

تضمن الانقلاب إلغاء الدستور القائم، لأنه يقوِّض روح الأخير ونصوصه، فجاء الدستور الجديد ليحوَّل الانقلاب إلى حكم دستورى. وفى البداية أوقف العمل بالدستور القائم وصدر إعلان دستورى فى 10 ديسمبر 1952 يعلن بوضوح أن العسكريين سوف يتولون المسئولية التى اعتبروها "أمانة فى أعناقهم"، لحين إعداد دستور جديد. ثم صدر إعلان جديد فى 16 يناير 1953، قاطعًا خطوات هامة على طريق تقنين الحكم الجديد؛ فقرر منح رئيس "مجلس قيادة الثورة" حق تعيين الوزراء واتخاذ القرارات التى يراها لحماية "الثورة"[1]. كما منح الوزارة السلطتين التنفيذية والتشريعية، هكذا .. لاغيًا فكرة البرلمان. ثم صدر الدستور المؤقت لعام 1956 ليدفع بتقنين الحكم البونابرتى- الناصرى خطوات، أصبح من الممكن قطعها بعد صعود أسهم النظام الجديد عام 1955- 1956. وبمقتضاه حصل "رئيس الجمهورية" على سلطات دستورية تفوق  ما توفر للملك[2]، وقد استعاد الدستور فكرة البرلمان ولكنه سلب منه أية سلطة  فعلية، فأبطل العمل بمادة كانت موجودة فى دستور 1923، وهى حق البرلمان فى سحب الثقة من الوزارة وإسقاطها[3]، ونص على عدم جواز تعديل الميزانية إلا بموافقة الحكومة[4]، وعلى أن الترشيح للبرلمان يتم عبر الاتحاد القومى[5]، ذلك التنظيم الذى أنشأه النظام الجديد تحت اسم هيئة التحرير فى عام 1953. كذلك حفظ الدستور لرئيس الجمهورية حق حل البرلمان، ولم ينص على حق تكوين الأحزاب السياسية .أما  دستور 1964 المؤقت فقد نص على حق البرلمان فى سحب الثقة من الوزارة، وهو نص لا يمنحه أية سلطة حقيقية فى الواقع الفعلى بفعل القيود العديدة الواردة التى تكبل ممارسة هذا الحق عمليا. والأطرف من ذلك أن الدستور حجب أية سلطة أصلية عن الوزارة، فالسلطة التنفيذية تؤول فى الدستور إلى رئيس الجمهورية، وليست الوزارة سوى مجلس إدارة – بتعبير طارق البشرى – من معاونى الرئيس .. فسحب الثقة ليس لـه إذن أى معنى دستورى أو قانونى، لأن أحدًا لم يمنح هذه الوزارات الثقة أصلاً، ويمكن لرئيس الجمهورية أن يعيد تعيينها يوميًا بعد خلع "الثقة" منها.

        ولكن من الناحية العملية كان استخدام البرلمان لهذا الحق يعنى إحراج الحكم، وهو أمر كان عبدالناصر فى غنى عنه رغم أنه كان يستطيع الرد بشكل حاسم .. ذلك أن الطبقة المسيطرة كانت تنتعش سياسيًا فى تلك الآونة وتتغلغل داخل الإدارة الحكومية وتستقطب مئات الناصريين الذى صاروا رجال أعمال. وموجز القول إن دستور 1964 يعبر عن تغير موازين القوى السياسية فى المجتمع وبدء تصدع النظام السياسى.

. وفوق كل ذلك، لم ينس الناصريون أن ينص الدستور على أنه هو نفسه مؤقت، حتى يمكنهم تغييره من حين إلى حين .

ومن الواضح أن هذه الدساتير المتتابعة كانت تنقل السلطة – من الناحية الرسمية– تدريجيًا من القاعدة إلى القمة؛ من  البرلمان إلى الوزارة، ومن الوزارة إلى رئيس الجمهورية، الذى يأتى إلى الحكم – كما نص الدستور الأخير – باستفتاء شعبى، بعد ترشيح البرلمان لـه، وهو البرلمان الذى يرشح الاتحاد القومى أعضاءه، وهذا الأخير يكوَّن الجهاز الحاكم نفسه، فرئيس الجمهورية إذن باعتباره ممثل النخبة الحاكمة يعين نفسه بنفسه: هذا هو المحتوى الأخير للدستور . وبغض النظر عن هذه المسائل الفقهية، ظل الدستور – المؤقت دائمًا- يأتى ويذهب بقرار من الرئيس. ولا شك أن الدستور يعبر عن موازين القوى الحقيقية فى المجتمع – إلى هذا الحد أو ذاك، ولكن وضعه من أعلى يعنى أن الحكومة تقرره على أساس إمكانات الوضع السياسى لا على أساس الموازين السياسية المتحققة بالفعل. وهذا الوضع مناسب تمامًا للحكم الفردى المطلق. ويستكمل هذا الوضع نجاحه بقيام السلطات نفسها بتجاوز حدود الدستور المعلنة من حين إلى آخر، بل وفى كل حين .. وهذا مجرد امتداد منطقى لحقيقة أن الدستور قد اُصدر عن طريق رئيس الجمهورية.

ومن قبيل تحصيل الحاصل أن نضيف هنا بقية نصوص الدستور فكلها تدور فى نفس الإطار المذكور.

(ب) الحكم الفردى :

عبر الدستور عن اندماج السلطات فى شخص رئيس الجمهورية ، فقد جاء من أعلى، وبمحتوى محدد سبق إيضاحه، يتلخص فى مصادرة كل القوى السياسية وأى نشاط سياسى خارج نطاق جهاز الدولة، بحيث لم يعد للشعب أى دور فى تحديد العلاقة بينه وبين الحكومة، إذ صارت الأخيرة هى التى تحددها. لنر الآن كيف سارت الأمور تجاه بلورة الحكم الفردى المطلق الذى يعبر عن هذا الوضع :

(1) البرلمان:

كان  أسلوب وضع الدستور ومحتواه يتضمنان بالضرورة نفى البرلمان. إذ تولت السلطة التنفيذية منفردة صياغة علاقتها بالشعب، لذلك لم تكن مضطرة إلى السماح بقيام مجلس نيابى حقيقى. وقد تضمن الدستور نفسه هذا المعنى. وكان وضع البرلمان ابان العهد الناصرى كالآتى:

1- فى الفترة بين عامى 1952 و1957 لم ينعقد أى "برلمان" .

2- فى عام 1957 انعقد برلمان منتخب كالآتى:[6]

- تقدم للترشيح 2508 شخصًا فاعترض الاتحاد القومى على 1188 منهم؛ أى على أكثر من 47% من المرشحين.

- أغلقت 43 دائرة على أفراد بعينهم، فلم يسمح لغيرهم بترشيح نفسه فيها ( فلنتذكرأن "الدستور" لا ينص على ذلك !).

- نجح 59 ضابط جيش أو شرطة بإيعاز مباشر من السلطات (من بين 350 عضوًا) واستولوا على خمس لجان (من 18 لجنة)، وانتخب ضابط رئيسًا للبرلمان.

- مع ذلك "تسرب" ستة أفراد من العناصر شبة المعارضة فطُردوا من الاتحاد القومى (ولم يًسمح لهم بدخول المجلس واعُتبرت دوائرهم خالية دون أن يرد لهم أى ذكر تحت قبة المجلس).

- رغم ذلك ظهرت حركة ما داخل "البرلمان" فاستجوب وزير التعليم ومجدى حسنين المسئول عن مشروع مديرية التحرير. فيبدو أن بعض أعضاء البرلمان لم يكونوا قد استوعبوا بعد طبيعة مهامهم فى العهد الجديد !

- تم حل المجلس بعد سبعة أشهر من انتخابه بحجة الوحدة مع سوريا.

3- ظلت مصر وسوريا دون برلمان بين عامى 1958 و 1960.

4- قرر رئيس الجمهورية تعيين "برلمان" فى عام 1960 بعد استقالة الوزراء البعثيين فى ديسمبر 1959.

5-فى عام 1961 تم حل "البرلمان" المعين، قبل الانفصال السورى بأسبوع واحد.

6-لم ينعقد أى "برلمان" بين عامى 1961 و 1964.

7 -انتُخب برلمان جديد فى عام 1964، لا يختلف عن "برلمان" عام 1957 إلا فى أن الأعضاء قد استوعبوا تمامًا طبيعة وضعهم .

8-انتخب "برلمان" جديد فى عام 1969 على أساس تنفيذ برنامج 30 مارس، وهو  المجلس الذى شهد بعض الهمهمة السياسية بمناسبة انهيار أهم أعمدة النظام بعد الهزيمة، وانتهى الأمر بحله فى مايو 1971 على يد السادات، دون أن يظهر برنامج 30 مارس إلى حيز التطبيق.

       وقد كان البرلمان فى حقيقته مجرد مجلس استشارى، أو ما يفوقه قليلاً ابتداءً من عام 1964.

وفى كل مرة تشكل فيها "البرلمان" كان يظهر الاندماج بين عضوية هذا المجلس وعضوية النخبة الحاكمة بدرجة أقوى بالمقارنة "بالبرلمان" الذى سبقه. فمع تزايد نفوذ النخبة فى كافة الهيئات والمؤسسات وتضخم عدد أفرادها ونفوذهم المباشر فى كل الأوساط، أصبحت نسبة الناصريين أكبر داخل "برلمانهم"، لذلك كان "البرلمان" يشهد باستمرار أشكالاً أكثر سفورًا من الحوار و"المعارضة" المهذبة والمجاملة مع إعادة تشكيله، ولكنه لم يسجل أبدًا أى اعتراض ذا شأن على قرارات السلطة التنفيذية، خاصة أن "الاتحاد الاشتراكى" قد اكتسب حق فصل أعضاء "البرلمان" [7]. وقد دخل برلمان عام 1969 أغلب أعضاء برلمان 1964 السابق، إلا أنه خلال تلك الفترة كان قطاع كبير من الزمرة الناصرية نفسها قد اندمج بالطبقة المسيطرة من رجال أعمال وملاك أراض، ولذلك كان هذا البرلمان تجمعًا نصف فعَّال لكبار رجال الدولة من أصحاب الأعمال الخاصة، خاصة أن النظام (السياسى) كان يتهاوى على اثر هزيمة 1967 التى طالت سمعة الجيش – العماد الأهم للنظام – وهيبته.

وطوال الفترة كان لرئيس الجمهورية الحق فى إصدار قرارات لها قوة القانون، وحتى إصدار القوانين ذاتها فى غياب البرلمان (معظم الفترة) .. أى أن سلطة التشريع كانت فى معظم الوقت الوقت إحدى وظائف رئاسة الجمهورية[8].

(2) السلطة القضائية:

ليس من السهل على السلطة التنفيذية أن تسيطر على جهاز قضاء عريق بشكل كامل، بحكم ارتباط عمل القضاة بنصوص محددة. ولم يخلُ الأمر خلال الفترة الناصرية من استقطاب عدد من القضاة إلى النخبة الناصرية، كما لم يخلُ من الضغوط المباشرة على القضاء. ولكن الطريقة الأساسية التى استخدمت لتوجيه السلطة القضائية تمثلت فى وضع النصوص القانونية التى تتفق مع سياسة الحكومة، وتولت رئاسة الجمهورية هذا الأمر.

والسلطة القضائية التى تحكم بالقانون تعمل هى بدورها وفق لوائح وقوانين معينة تنظم طريقة عملها. وتنعكس هذه القوانين فى إجراءاتها وبالتالى تتجسد فى النهاية فى أحكام القضاة. والقضاء يحكم فى القضايا التى تنشأ بين الأفراد أو المؤسسات وبين هؤلاء وبين الدولة. وبالنسبة للمجال الأول، تركت الناصرية القضاء حرًا إلى حد بعيد، فهى لم تأت لمجرد الإرهاب وارتكاب الشرور؛ ولم يكن القضاء المبرم على السلطة القضائية ضروريًا لها، فالقضاء نظام ضرورى للفصل فى المنازعات الشخصية على الأقل فى أى مجتمع . ولكن فى المجال الثانى، وهو الذى يمس الدولة والنظام، نفت الناصرية القضاء تمامًا عنه وأعلنت نفسها سلطة قضائية. وقد تحقق هذا منذ الأيام الأولى للانقلاب، بتشكيل "محكمة الثورة"، ثم تكونت "محاكم أمن الدولة"، وأصبح المدنى يحاكم أمام محكمة عسكرية إذا ارتكب فعلا معاديًا للنظام السياسى. كذلك كان استمرار قانون الطوارئ يمنح السلطة التنفيذية حق اعتقال ومساءلة المواطنين دون إذن النيابة (وفضلاً عن ذلك لجأت الدولة إلى الخروج على القانون). وقد لخص عبدالناصر هذه الفكرة فقال:" استقر الرأى على أنه إذا كان فيه قضية سياسية بنعمل قضية سياسية، ونعمل حتى احنا أنفسنا قضاة، بنحكم زى ما احنا عاوزين ونبعد القضاة عنهم ولا نتدخلش فى القضاء"[9]. ويقرر عبدالله إمام ، الكاتب الناصرى ، أن "القانون قد منح الدولة هذا الحق"[10] !! (دون أن "ينتبه"(!؟) إلى أن الدولة هى التى سنت القانون ).

وظل القضاة أكثر الفئات عصيانًا على الناصرية، التى لم تنجح أبدًا فى استقطاب أغلبيتهم إلى صفها، حتى أن عبدالناصر اضطر إلى استبعاد 189 قاض ومستشار فى عام 1969، بعد أن هُزم مرشحو الاتحاد الاشتراكى فى انتخابات نادى القضاة، وأصدر قرارًا بحل المجلس وإعادة تشكيله بالتعيين!!

والخلاصة أن السلطة التنفيذية انتزعت أهم سلطات القضاء، الذى تحول، كما وصفه وزير سابق للعدل هو (محمد أبو نصير) إلى مرفق[11]، حيث لم تعد له أية سلطة على الدولة نفسها، إذ انتفت سلطته فى مجال القضايا السياسية ومع استمرار حالة الطوارئ . الخلاصة.. انتفاء القضاء كأحد السلطات الأساسية.

(3) الحكم المطلق:

سبق أن استعرضنا سلسلة الإجراءات التى أنهت وجود بعض المؤسسات وتحويل بعضها إلى ملحقات بجهاز الدولة، كالأحزاب والنقابات، وكيف تم نفى البرلمان والقضاء والوزارة كسلطات فى الدولة. وبالإضافة إلى ذلك عاشت البلاد فى ظل أجهزة الأمن المتعددة والمتسلطة وإجراءاتها التعسفية وقوانين الطوارئ والتعذيب وتزوير الانتخابات وانشاء سجون ذات طابع خاص تخضع لمباحث أمن الدولة مباشرة … وعلى ذلك ابتلعت السلطة التنفيذية كل السلطات وكل الحريات، وكما ابتلع رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية.

منذ 18 يونيو 1953 أعلن الضباط عن إقامة نظام حكم جمهورى على نحو مضحك؛ فأول "رئيس جمهورية" جاء بالتعيين من قبل "مجلس قيادة الثورة"، وتولى الرئيس التالى بواسطة أسلوب الاستفتاء الذى أُجرى تحت إشراف حكومته نفسها التى كان يعنيها (هو أو سلفه .. لا يهم ) ، وفقًا للإعلان الدستورى لعام 1953، بصفته رئيس "مجلس قيادة الثورة" … أى أنه عين نفسه بنفسه.

لقد تحولت "رئاسة الجمهورية" إلى مؤسسة عملاقة، لها جيش خاص ضخم وتتبعها مؤسسات خاصة، كما تولى "رئيس الجمهورية" رئاسة التنظيم السياسى الواحد ، بالإضافة إلى عدد وافر من المناصب، فأصبحت مؤسسات الدولة الرئيسية مجرد ملحقات مباشرة أو غير مباشرة برئاسة الجمهورية. وبرغم انقسام النخبة الناصرية إلى عدد من الفرق والمجموعات  فقد ظل المركز الأكثر حيوية هو رئاسة الجمهورية التى أمسكت بيدها كل الخيوط. ولا يعنى تحول "رئاسة الجمهورية" إلى مؤسسة ضخمة انتفاء سلطة الفرد (الرئيس)، بل على العكس تدعمت سلطته الشخصية على الدوام، ولكن فى إطار سلطة النخبة كلها. فالحكم الفردى المطلق لم يكن يعنى الحكم " على مزاج " جمال عبدالناصر- رغم تأثيره الكاريزمى الذى لا شك فيه – فلم يكن  هو الحاكم المطلق كشخص؛ كجمال عبدالناصر شخصيًا، وإنما كان كذلك باعتباره زعيم البيروقراطية الحاكمة، فإرادته كانت تجسد إرادة النخبة ككل، ولذلك نجده يعجز عن تنفيذ بعض ما " يرغب" أى ما يريده من وجهة نظره الشخصية البحتة. والحقيقة أن السلطة تكون فى حالة الحكم الفردى عمومًا مشخّصة ، أكثر مما يكون الشخص نفسه – كشخص – سلطة. ومهما كان أسلوب الحاكم الفرد وقدراته الخطابية فإنه لا يفعل السحر إلا إذا وجد من يطلب هذا السحر، أو من يكون مستعدًا لاستقباله والانفعال به .. وهذا ينقلنا إلى الأساس الأعرض لسلطة عبدالناصر، فالأوضاع المهَّيئة على الصعيد الاجتماعى لحكم البيروقراطية كانت هى الأساس العميق لحكم الفرد، ولذلك كان استمرار نفوذ هذا الجناح أو ذاك من البيروقراطية يتحدد على المدى الأطول بالظروف العامة للتوازنات السياسية والاجتماعية القائمة بالفعل أو بالقوة .. وهذا ينقلنا إلى نقطة ثالثة: لم يكن رئيس الدولة المطلق الحكم مجرد انعكاس بسيط لإرادة النخبة، وإنما كان يؤثَّر هو نفسه عليها، بقدرته الخاصة على استيعاب الواقع الاجتماعى ككل والتفاعل معه. ويسهل فى ضوء هذا التحليل تفسير تلك الدعاية جيدة التنظيم لشخص "الزعيم" وعبقريته وعظمته وقوته … الخ، التى هدفت إلى خلق هيبة شخصية للزعيم وإظهار أنه يحكم بشخصه وبقدرته الشخصية؛ كأنه نبى الأمة الملهم وليس مجرد رئيس نخبة حاكمة !

والمغزى الأهم حتى الآن لحكم الفرد المطلق هو أنه انطوى على فرض العزل السياسى على المجتمع كله باستثناء الدولة كفرد اعتبارى. وهذا يؤول إلى نزع حق المواطنة عن الأفراد وتحويلهم إلى رعايا للدولة. ويعد ذلك خطوة إلى الوراء بالمقارنة بحال ما قبل الانقلاب، حيث كان الشعب قد انتزع بعض الحقوق – التى ظلت بالغة الضآلة – من الدولة، وكان الفرد قد قطع خطوة (تظل ضئيلة للغاية) فى طريق تحوله إلى مواطن بالمعنى المفهوم – أى مشارك فى السلطة. ولكن هذه الحقوق على ضآلتها لم تكن ملائمة للنظام الاجتماعى قبل 1952 وبعده، الذى لم يستطع أن يستوعب هذا القدر الضئيل من الديمقراطية البورجوازية.

تصبح "الجمهورية" الناصرية منذ الآن بين قوسين، فالحكم المطلق يتضمن نفى حق أى فرد فى المواطنة، أى نفى فكرة الجمهورية. لقد احتفظت الناصرية من الحكم الملكى بأهم محتوى ولكنها ألبسته ثيابًا تليق بطبيعة النخبة الحاكمة الجديدة. لذلك يصبح الحديث عن جمهورية ناصرية يساوى الحديث عن دائرة مربعة !

(جـ) دور الجيش :

حين خلع الضباط لدى استيلائهم على السلطة بزاتهم العسكرية، لم يعن هذا انتهاء دور هذه البزة. فالجيش – الذى أصبح ناصريًا بعد أن كان الحصن الأخير للنظام الملكى السابق – قد قفز الآن إلى المقدمة، ولكنه لم يلعب دور الفتى الأول بواسطة المدافع على نحو مباشر وإنما من وراء الحكم المطلق، فالنخبة الناصرية إذ جاءت بانقلاب عسكرى ظلت تخشى دائمًا أن تزاح بنفس الطريقة، فاستمر الجيش يشكل تهديدًا كامنًا، تحول إلى تهديد فعلى فى أوائل وأواخر الفترة الناصرية. لذلك ظل الضباط يتمتعون بوضع مميز داخل النخبة الحاكمة، ونقصد الضباط الذين ظلوا داخل الجيش، فشكلوا فصيلاً خاصًا فى النخبة الحاكمة التفت حول عبدالحكيم عامر الذى لقَّبه الضباط "الرجل الأول بشَرْطة" !.

وكان لهذه الفئة نفوذ كبير داخل الدولة، واعُترف بسطوتها رسميًا بتعيين عبدالحكيم عامر نائبًا لرئيس الجمهورية عام 1958، كما أُطلقت يده فى سوريا بعد الوحدة وفى اليمن بعد التدخل المصرى، وأصبح النائب الأول لعبد الناصر فى عام 1964. واستطاع الجيش أن يمد نفوذه داخل المؤسسات المدنية بتعيين رجال اتسموا بالولاء الشخصى لكبار الضباط – خاصة عبدالحكيم عامر – على رأسها. كما أشرف الجيش مباشرة على عدد من المؤسسات مثل هيئة النقل العام، و "لجنة تصفية الإقطاع" والاتحادات الرياضية المختلفة، كما شارك فى أعمال مدنية عديدة. ويعود الدور البارز لعبدالحكم عامر فى السلطة إلى هذا الدور الكبير للجيش، الناجم عن تركز السلطة فى يد بيروقراطية الدولة التى يعد الجيش وأجهزة الأمن الجسم الرئيسى لها كجهاز قمع. أما لماذا استطاع ذلك " المشير "  أن يظل قائدا لا يبارى للجيش فأمر يتعلق  بقدرته الشخصية على تكوين مركز قوى ذو بأس ، بالعلاقات الشخصية و منح الضباط الكثير من الامتيازات . و الأهم تمتعه بالثقة الشخصية " للزعيم ". 

ولم تتعارض سطوة الجيش مع الحكم الفردى لعبدالناصر وإنما كانت دعامته الرئيسية، فالخلاف بين الجيش والرئيس كان يخفى وراءه هذه العلاقة الحميمة والقوية، ولم تكن ثمة خلافات سياسية محددة بين "الطرفين"، فما كانت سوى خلافات على السلطات "الممنوحة" للجيش والضباط، بالإضافة إلى خلافات فى وجهات النظر الشخصية بين الرئيس ومشيره. ومن المعروف أن الأخير كان شخصًا قليل الكفاءة والجدية من حيث مهنته كرجل عسكرى ولم يعن الخلاف بين "الطرفين" أن قطاع الضباط كان معاديًا لعبدالناصر؛ فمثل كل الكتل الأخرى داخل النخبة الحاكمة، كان الضباط يحاولون فرض وجهة نظرهم. وكان المعنى الأساسى لمحاولات عبدالناصر فرض سلطته على الجيش عن طريق (التنظيم الطليعى) أو رجاله المباشرين هو أن هناك قوى أخرى داخل النخبة، أى أن إرادة الجيش ليست مطلقة داخل الدولة. وكان خلع البزات العسكرية من جانب رجال الدولة ذا معنى واضح؛ أن السلطة ليست سلطة الجيش بما هو كذلك، ولكنها سلطة النخبة التى قامت بالانقلاب والتى كانت وحدها المخولة حق اختيار شركائها. ومن ثم أصبح الجيش، كجيش، مطالبًا بأن يظل جيشا، وبات يمارس نفوذه من وراء الواجهة المدنية ، تفاديا لانقلابات عسكرية متتالية.

وقد أدى انكسار الجيش عام 1967 إلى انكسار النخبة ككل، إذ فقدت أكبر مراكز القوى هيبتها، وهى التى كانت، بنفوذها الكبير، السند الأساسى للهيبة الناصرية.

 

                         *********************

 

لم نكشف الطابع الديكتاتورى للحكم الناصرى لنبرهن على أن الناصرية هى حكومة الشيطان، فالسلطة لا تمارس القمع حبًا فيه. ونحن نستهدف فى النهاية اكتشاف  الناصرية لا أكثر. وليس تحليلنا لشكل الحكم سوى لحظة فى سياق اكتشاف طبيعته الداخلية.

ويتضمن التحليل السابق محتوى القهر الناصرى، فقد وُجَّه إلى كل الطبقات، فهو ليس مجرد قمع الطبقة المسيطرة للشعب، بل قمع البيروقراطية  للمجتمع كله. إنه حالة الطوارئ مجسَّدة فى نظام سياسى، فهذا الشكل من الحكم يمثل إذن ضرورة مباشرة للنخبة الحاكمة الجديدة، وضرورة بعيدة المدى للنظام ككل. وقد كان قمع رجال الأعمال يسير جنبا إلى جنب مع قمع الشعب ؛ باسم الشعب طبعا !! ، . وهذا القمع المزدوج هو ما يميز ظاهرة البونابرتية. لقد نشأ هذا النظام السياسى الجديد عن أوضاع عينية سبق تحليلها . وقد سبق أن حللنا كيف كانت الناصرية نتاج توازن القوى فى عام 1952، ولكن بتحليل نظام حكمها نجد أنه يتضمن تغييرًا ما فى هذه الموازين نفسها، فالحكم يقمع كل الطبقات. ولابد أن يحمل هذا المنطق بذرة سياسات جديدة، أخذت فى الظهور منذ بداية الانقلاب: الإصلاح الزراعى ورفع أجور العمال وتشجيع رأس المال المحلى والأجنبى ورفض التحالف مع الغرب …

كان قمع كل الطبقات يتضمن بوضوح تعديل النظام دون هدمه، فاستهدف قمع الطبقة المسيطرة التعديل ، بينما استهدف قمع المعارضة الراديكالية منع انهيار النظام. وكان اكتشاف هذه الحقيقة هو هدفنا من تحليل نظام الحكم الناصرى.

والتساؤل الذى يفرض نفسه هنا هو الآتى: ما هو المغزى الاجتماعى لهذا الحكم العسكرى نفسه .. بسماته المتعددة تلك .. عم يعبر بالضبط بغض النظر عن الدوافع المباشرة لسلوكه، هذه هى القضية. وهناك فكرة واسعة الانتشار فى أوساط الانتلجينسيا العربية بخصوص الناصرية ، يمكن إيجازها فى الفصل بين السلطة كسلطة والأجهزة التى تنفذ سياستها، أو بين اليد العليا فى السلطة وموظفيها، بحيث تظل صلاحية السلطة أو ثوريتها أو انتمائها للشعب بمثابة "الشىء فى ذاته" الذى يظل غير قابل للفض رغم ممارسات مناقضة تمامًا لهذا التصور، فيجرى تفسير الأمر تفسيرًا مبسطًا؛ فالزعيم "طيب" ولكن الأشرار المحيطين به هم مصدر الفساد. وإذن فالشىء الرئيسى على ما يرام، وما من مبرر لمهاجمة النظام والعمل على إسقاطه ! ذلك هو محتوى الفكرة، فعبدالناصر (أى بمعنى ما : النظام) رجل ثورى وديموقراطى و عظيم  وكل ما جرى من قمع للمعارضين وتآمر على الثورات فى العالم العربى (جنوب وشمال اليمن والشام والعراق) هو من فعل الأجهزة، وليس من فعل عبدالناصر !! وقد اجتهد الكثيرون فى البحث عن عبارات أو كلمات قالها عبدالناصر لأحد الصحفيين فى حجرة مغلقة مثلا ، ليبرهنوا بها على سلامة طويته . كما يسعى أصحاب هذه الفكرة للبرهنة على أن معظم أو كل السياسات الموجهة ضد المعارضة اليسارية المصرية و العربية على أيدى الناصريين كان يقوم بها أشخاص لهم مصالح فى ذلك، أو قامت بها أجهزة رجعية داخل النظام … الخ.

إن هذه الفكرة ليست موضوعية بالمرة ؛ فالنظام وفقًا لها هو عبدالناصر، وعبدالناصر ليس هو ما يفعله، بل هو "الخير فى ذاته" أو أحد مُثُل أفلاطون الميتة. ليس هذا فحسب، بل إن تطوره الفكرى يصبح هو نفسه تطور النظام، حتى ولو استمرت هذه الأفكار المزعومة مجرد أفكار. ولا نظن أنه من الضرورى للمرء حين يعالج ظاهرة الناصرية أن يتطرق تفصيلاً إلى شخصية عبدالناصر من الداخل، وقد يكون الشخص نفسه متمتعًا بمختلف المزايا الشخصية وفقا للعُرف السائد  مما يجتهد البعض فى إثباتها، ولكن ليس لمثل هذه الأمور كبير مغزى، فالفرد كدور فى التاريخ – وهو أمر لا ننفى وجوده – ليس سوى هذا الدور نفسه، أو كما قال هيجل ،  الإنسان ليس شيئًا آخر سوى ما يقوم به من أعمال. فعبدالناصر هو دوره الفعلى .. أو ان هذا هو ما يهم الناس، وإذا كانت أجهزته هى التى ارتكبت – بشكل مباشر –"الآثام"، فقد كان هو رئيس رؤساء هذه الأجهزة، "فالآثام"- ان اعتُبرت كذلك فعلاً-  قد ارتكبت من داخل نظامه، أى من داخل حكمه. والحكم الفردى المطلق يتضمن بالضرورة فساد الأجهزة وتعسفها، بل إن الحكم الفردى هو نفسه قمة الفساد السياسى. وليس من الضرورى أن نبرهن على مدى علم أو جهل عبدالناصر كشخص بأعمال معينة، أو حتى بسياسة الدولة نفسها (المعادية لليسار وللتنظيمات الشعبية المستقلة والمتهاونة مع الفكر الرجعى ..الخ)، ولكن الضرورى هو أن نبرهن على أن الناصرية، فى وضعها لسياسات معينة وتطبيقها لهذه السياسات، إنما كانت تفعل شيئًا مرتبطًا على نحو ضروري بالظروف التى حكمت فيها  البيروقراطية و طبيعة النخبة البيروقراطية نفسها ، و ليس بتطور فكر "الزعيم" أو أيديولوجيا وُضعت مسبقاً أو مبادىء ميتافيزيقية  . وقد تحدثنا فيما سبق عن الارتباط الضرورى بين الناصرية وسياسة حكمها العينية، وسوف نحلل هذا الارتباط نفسه بالنسبة لفكرتها عن نفسها. وسواء كان عبدالناصر قد فعل بنفسه أو لم يفعل، فإنه فى الحقيقة قد فعل كنظام مشخص، أو كنظام يحكم حكمًا مطلقًا، ولكن نيته لا تهمنا، فالأعمال لا تقاس "بالنيات" إلا عند الله وحده !!

ونحن لا يهمنا إظهار سوءات أو حسنات عبدالناصر لأننا لا نتعامل مع التاريخ كصراع بين الخير والشر، وعبدالناصر بالنسبة لنا ليس سوى رأس النظام، والنظام هو ممارسة معينة وليس فكرة كامنة ُتطلق فى الحجرات المغلقة. وقد مثَّل عبدالناصر – ولو بدون رغبته – دور زعيم البيروقراطية، ومهما كان يعتقد بأن ما يفعله هو الحق أو الخير أو حتى مصلحة الشعب. ومن المحتمل أنه كان يعتقد أنه يحقق الاشتراكية بمفهومه الخاص لها، ولكن مفاهيمه الحقيقية اتضحت فى أفعاله، كما أنها لم تمثل بالضرورة كل ما يريده كشخص، لأنه كان يمثل كتلة متنوعة من البشر وكان عليه إرضاء أطراف نخبته، والحفاظ على هذه النخبة نفسها بإرضاء أو تحييد كافة القوى الأخرى فى المجتمع.

وباختصار، لم يكن عبدالناصر يختار وفقًا لميوله الشخصية، وإنما كان يختار وفقًا لمحصلة قوى متعارضة. وهذا لا ينفى فعله الخاص كفرد مبدع أيضًا، ولكنه كزعيم نخبة، كان فعله الخاص هو- فى النهاية- فعل النخبة مشخصًا.


 

[1]           طارق البشرى: الديمقراطية والناصرية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1975، ص 78.

[2]       راجع :        أحمد حمروش : البحث عن الديمقوقراطية، ص 116.

[3]           نفس الموضع.

[4]           طارق البشرى: المرجع السابق، ص 80.

[5]           نفس المرجع، ص 190.

[6]           أحمد حمروش: المرجع السابق، الفصل العاشر.

[7]           فى "برلمان" 1957 تم فصل ستة أعضاء من الاتحاد القومى دون فصلهم من "البرلمان" . أما فى "برلمان" 1964، فصار فصل العضو من الاتحاد الاشتراكى يؤدى آليًا إلى فصله من "البرلمان" . فالناصرية إذ أعطت "البرلمان" حق سحب الثقة من الوزارة، منحت نفسها بالمقابل حق سحب الثقة من أعضائه !

[8]           طارق البشرى: المرجع السابق، ص ص 20-21.

[9]           عبدالله إمام: مذبحة القضاء، مكتبة مدبولى بالقاهرة، ص 74.

[10]         المرجع السابق، ص 38.

[11]         المرجع السابق، ص 27 . ووصفه محمد حسنين هيكل بنفس الصفة فى :لمصر لا لعبد الناصر، القاهرة – فبراير 1976، ص 35.

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1