الفصل الأول
منطق الحكم
*
شهدت مصر قبل انقلاب 1952 شكلاً من الحكم يمكن وصفه بأنه شبه حزبى –
شبه برلمانى. ومن الأمور الشائعة لدى الانتليجنسيا المصرية تصور أن
النظام السياسى فى مصر قبل عام 1952 كان نظامًا ديمقراطيًا
بورجوازيًا. وقد تحالفت "المنظمات الشيوعية" مع الأحزاب الليبرالية
بعد الانقلاب على أساس شعار عودة دستور 1923 الذى يتضمن النظام
الملكى .. بل وتبنت شعار عودة البرلمان،متجاهلة شعار الضباط الأكثر
ديمقراطية: "الجمعية التأسيسية" (والذى لم يلتزم به الضباط أنفسهم)،
إيمانًا من هذه المنظمات بديمقراطية ما قبل 1952، و أملها فيها.
والحقيقة أن البرلمان لم يشارك فى حكم البلاد إلا لمدة تسع سنوات
فقط، خلال الفترة من 1924 إلى 1952. أما فى بقية الفترة، فقد انفرد
الانجليز والملِك بالسلطة عن طريق برلمانات جاءت بها انتخابات مزورة
بتآمر مباشر من جانب الملك. وعلى ذلك لم تساهم الوزارات وبرلماناتها
فى الحكم فعليًا إلا فى السنوات التسع المتفرقة التى شكل فيها حزب
"الوفد" الوزارة. وكان "الوفد" يخرج من الوزارة مطرودًا فى كل مرة،
وكانت أطول فترة حكم فيها هى تلك التى فرضه فيها الاحتلال على الملك
فى حادث 4 فبراير 1942. ليس هذا فحسب، بل وكثيرًا ما كان "الوفد"
ينتهك الشرعية وهو فى الحكم، فيعتقل خصومه ويفصلهم، كما أنه فى عهد
وزارته الأخيرة (عام 1950) ضُربت المظاهرات السلمية بالرصاص، ثم سقطت
الوزارة كما استعرضنا فى القسم الأول.
خلاصة الأمر أن "الديمقراطية البرجوازية" خلال تلك الفترة لم تتحقق
إلا بشكل بالغ المحدودية، وظلت مصر من الناحية الفعلية دولة ملكية
حقا.
رغم كل هذا تبنت كل الأحزاب شعار عودة البرلمان بدلاً من "الجمعية
التأسيسية"، لأن الشعار الأخير كان يتضمن نفى شرعية هذه "الليبرالية"
المزعومة ، ولكنه مع ذلك لا يقرر شكلاً محددًا للحكم المقبل. ولم
يلجأ الضباط إلى تطبيق شعارهم ، خاصةأن القوى السياسية لم تتبناه ،
فما أطلقوه إلا ليساعدهم على تحطيم الأحزاب .. أما سياسة الحكم فقد
تقررت منذ البداية بشكل ضمنى فى أول نداء من محمد نجيب إلى الشعب:
"إن نجاحنا للآن فى قضية البلاد يعود أولاً وأخيرًا إلى تضافركم
معنا بقلوبكم وتنفيذكم لتعليماتنا وإخلادكم إلى الهدوء والسكينة"،
"أتوسل إليكم أن تستمروا فى التزام الهدوء التام حتى نستطيع مواصلة
السير بقضيتكم فى أمان".
إنه إعلان يتضمن طبيعة الحاكم القادم. وإذا أعدنا صياغة هذا النداء
بلغة مباشرة يصبح كالآتى: دعونا نحكم و سوف نعطيكم ( و
هو ما أعلنه عبد الناصر صراحةً فيما بعد ).
واستكمل النداء المذكور بما يتضمنه أيضًا ؛" فنصيحة" محمد نجيب كانت
تتضمن نقيضها : أى تهديد كل من تسول له نفسه بالخروج على النظام. وقد
خرج هذا التهديد إلى العلن بعد إضراب كفر الدوار (راجع القسم الأول)،
وتم تنفيذه متمثلاً فى سحق كل القوى السياسية والنقابية كما رأينا من
قبل. وإذا ما أعدنا إيجاز كل من النصيحة والتهديد المذكورين لبلغنا
منطق الحكم الناصرى القادم: النصيحة حملت الوعد بالجزرة، أما التهديد
فحمل الوعيد بالعصا. وقد استعرضنا مقدمات كل من السياستين فى الباب
الأول ابان الفترة من يوليو 1952 حتى أكتوبر 1954 .. فالحكم وهو
يتشكل كان يتشكل فى كل من منطقه وصيغته. ومن الواضح الآن أن سياسة
العصا والجزرة هى السياسة التى ستطبق خلال العهد الناصرى. ويتضح من
تحليلنا خلال الصفحات السابقة أن هذه السياسة سوف تطبق على جميع
الطبقات، وهو الأمر الذى ميز النظام الناصرى.
*
لا شك أن تقديم قدر من المكاسب المادية للطبقات الأدنى كان أمرًا لا
مفر منه فى ذلك الوقت لأية حكومة تريد أن تستمر فى الوجود. وقد
استعرضنا تلك المكاسب فى مكانها المناسب.
ولكن النظام لم يكن يملك الكثير لتقديمه إلى الجماهير، ومن جهة أخرى
كان تقديم بعض المطالب يدفع إلى مزيد من المطالب. ولهذا كان لجوء
الضباط إلى القمع الذى وُضِعت أسسه منذ اليوم الأول للانقلاب.
*
تميزت الفترة الناصرية بنمو كبير فى عدد وحجم وكفاءة أجهزة الأمن
العلنية والسرية بالمقارنة بالعهد السابق. فالحاجة إلى القمع
المتواصل اضطرت النظام إلى الاندفاع فى هذا السبيل. واستطاعت أجهزة
الأمن السرية أن تنتشر وسط الجماهير بشكل لم يسبق لـه مثيل بحيث
أحكمت عليها رقابة صارمة، كما اعتمدت السلطة على هذه الأجهزة فى
الإدارة المباشرة للنظام السياسى.
ولم يلغ النظام حالة الطوارئ التى أعلنتها حكومة النحاس فى عام 1952
إلا لفترة محدودة للغاية سبقت حرب 1967. كما لجأ من حين لآخر إلى
استصدار القوانين المقيدة للحريات، ومنها القانون رقم 119 لسنة 1964،
الذى يخول حقوقًا واسعة لرئيس الجمهورية. فالفترة الناصرية كانت كلها
إذن فترة طوارئ. ورغم الشعبية الطاغية التى تحققت للنظام منذ 55 –
1956، لم يختف الإرهاب البوليسى يومًا واحدًا. والحقيقة أنه يصعب
الفصل بين سياسة القمع وبين شعبية النظام؛ فقد اكتسب الأخير شعبيته
بسياسة محكمة من الإصلاح الاجتماعى والقمع والدعاية.
ولم يتمثل دور القمع هنا فى إسكات عناصر المعارضة فقط، بل كان
ضروريًا أيضًا لفرض هيبة النظام. فالإصلاح من جانب نظام مهيب يكون
أكثر تأثيرًا مما لو جاء من جانب نظام يبدو عاديًا ، وخاصة فى بلدان
الشرق. وسوف نرى بعد قليل كيف سارت الدعاية الناصرية فى الطريق نفسه
بإبراز هيبة الزعيم. ولا ينفى هذا أن القمع البوليسى كان يعكس رعب
النظام من أية معارضة، وشعوره بالضعف إزاء أى خصم سياسى .. ذلك أنه
لم يكن يملك فى جعبته الكثير لتقديمه على الصعيد العملى، سواء فى حقل
السياسة أو فى حقل الاقتصاد. من المؤكد أن سياسة القمع حالت دون نمو
المعارضة، ولكنها كانت أيضًا تدعم من تأثيرسياسة الرشوة (الجزرة).
وقد وجَّه النظام القمع ضد المعارضة اليمينية واليسارية على السواء،
بل وضد أنصار النظام أنفسهم أحيانًا،
وفقد كانت حساسية النظام تجاه أية معارضة مفرطة، حتى لو جاءت من
قواعد النظام نفسها .. وبذا يصبح من الواضح أن الحرية أصبحت هى حرية
الدولة فحسب.
*
لأن السلطة لم تكن تستطيع – مثل أى سلطة أخرى – أن تعتمد على الرشوة
وحدها، فإنها كانت مضطرة إلى ممارسة القمع، الذى يفيد فى تقليل حجم
الجزرة بقدر المستطاع وحفظ هيبة النظام. وقد التقت العمليتان فى محور
ثالث: "الدعاية" ، فالجزرة كانت أساسًا ماديًا لطرح شعارات شعبوية
وثوروية، أما القمع، فقد مورس بحجة تصفية القوى والعناصر المعادية
للسلطة وشعاراتها الرسمية أى أنه تضمّن نفس الشعارات الشعبوية
والثوروية. وقد ارتكز النظام الناصرى بقوة على الدعاية بحيث لعبت
الدور الأكبر فى إحكام سيطرته على البلاد، فكانت سلاحه الأقوى فى
مواجهة أعدائه من اليمين واليسار. وكان النظام أكثر براعة من كل
خصومه فى الدعاية، فمن جهة تبنت دعايته شعارات رفعها الشعب من قبل ثم
أيدها بكل حماس حين تبناها الضباط، ومن جهة أخرى لعبت الدعاية
الناصرية دورًا لا يستهان به فى إلحاق هزيمة ساحقة بالأفكار
الليبرالية و الإسلامية وبالأيديولوجيا الماركسية. ولم تكن الدعاية
الناصرية تتوافق فى أغلب الأحيان مع ممارسات السلطة، بل غالبًا ما
كانت تناقضها بشكل صارخ من حيث المضمون. ولكن لا شك أن شكل
السياسة كان يتلاءم إلى حد ما مع الدعاية بحيث استطاعت اجتذاب مئات
الألوف من الشباب، بل ومئات من "كبار" المثقفين، وقد استطاعت بهذا
الشكل أن تحقق نفوذًا طاغيًا وسط الجماهير.
وقد استند منطق الدعاية الناصرية إلى الرشوة المادية التى قُدمت فى
شكل إصلاحات اقتصادية واجتماعية. ولكن – كما سنرى فى فصل آخر – لا
تُبرر هذه الإصلاحات من ناحية الكم النفوذ الشعبى
الهائل الذى اكتسبه النظام، مما يوضح أن عوامل أخرى قد لعبت دورًا
كبيرًا فى ذلك. من ضمنها الدعاية التى راحت أيضًا تبرر القمع وتزينه،
بحيث أصبح بالفعل مقبولاً بوجه عام من قبل قطاع عريض من الجماهير.
فقد تم تصوير القمع باعتباره موجهًا ضد الرجعيين "أعداء الثورة"
والشيوعيين "العملاء الملحدين". وعلى العموم لا تحقق الدعاية
الديماجوجية النجاح المنشود إلا إذا كانت تتناول حقائق فردية أو
جزئية وتحولها نظريًا إلى حقائق كلية، فلا بد لها – كى تنجح – أن
تعتمد على حقائق ملموسة. وكان نجاح الدعاية الناصرية استمرارًا لنجاح
الانقلاب الناصرى نفسه، نقصد استمرارًا لمعناه: فعجز الخصوم كان
عجزًا حقيقيًا – داخليًا – ولم يكن ناتجًا عن قوة الآخرين. ولم يخل
الأمر من سبل تتضمن افتعال الأحداث من حين إلى آخر لتشويه المعارضين
.. ولكن هذا الأمر نفسه له دلالته: فالمعارضة نفسها كان لديها الكثير
من نقاط الضعف ، أهمها عدم امتلاكها لرؤية سياسية واضحة و عملية .
وعلى سبيل المثال ارتكز الهجوم الدائم على "الرأسمالية المستغِلة"
منذ أواسط الخمسينات على حقائق واضحة، ولكنه تضمن أيضًا الدفاع عن
"رأسمالية غير مستغِلة" ووطنية، فكان تضييق مفهوم الاستغلال وتوسيع
مفهوم الوطنية، يكمل كل منهما هذا الدفاع الهجومى. فالدعاية لم تكن
ديماجوجية محضة، وسوف نستعرض هذا فى الفصل القادم.
سارت الدعاية الناصرية على محاور أربعة أساسية:
1- العمل على إضفاء سمة لا طبقية على السلطة من خلال الإيهام بوجود
تحالف طبقى حاكم تُمثل فيه كل الطبقات والإعلان عن "تذويب الفوارق
بين الطبقات"، ثم عن اشتراكية تحافظ على "الرأسمالية الوطنية"، وعن
تأميم الصراع الطبقى. وهذا المحور يتلاءم تمامًا مع بعض إجراءات
النظام الجزئية، وينسجم مع الطابع البونابرتى للسلطة، حيث لم
تُمثـَّل الطبقات المسيطرة فى السلطة بشكل مباشر. وقد تبنت أجهزة
الإعلام المختلفة مثل هذه الشعارات، فأصدرت الكتب والنشرات الملائمة،
كما سُمح بترجمة الأعمال التى تلائم هذه الروح. وفى الوقت نفسه حُرمت
الأفكار الأخرى من منافذ الدعاية كما سبق أن ذكرنا، وقامت أجهزة
السلطة بالدعاية المركزة ضد الشيوعية والأفكار الليبرالية والإخوان
المسلمين، وابتكرت مفاهيما جديدة للحرية والديموقراطية، كما استخدمت
لغة الماركسيين كثيرًا، (والإسلاميين أحيانًا). كذلك لم تسمح أبدًا
بأن يتجاوزها أحد على يسارها – فى حدود الشعارات - بل
جاهدت للاحتفاظ بموقع اشد راديكالية (على صعيد الدعاية).
2- إطلاق كمية ضخمة من الادعاءات خاصًة بتحقيق انتصارات وإنجازات
معظمها وهمية، منها انتصارات تحققت ضد الاستعمار، مثل الانتصار
العسكرى المزعوم فى 1956، والانتصارات المبالغ فيها
كثيرًا فى اليمن
. وذلك لاستكمال الصورة فوق الطبقية؛ بإبراز نزعة العظمة القومية
والسيادة الأقليمية . كذلك تم الإعلان عن تحقيق إنجازات الوهمية على
الصعيد الداخلى، مثل تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين
الطبقات وتحقيق الديمقراطية الحقيقية والإنتاج من الإبرة إلى
الصاروخ! استنادا إلى انجازات واقعية أقل بكثير. وقد أخذت الدعاية
الناصرية تميل منذ أواسط الستينات إلى اليسار، الأمر الذى فسرته
بتطور فكر الزعيم
. ولكننا نفهمه فى علاقته بنمو الضغط الشعبى وفشل خطة 1960-1965 التى
وضعت عليها السلطة آمالاً عريضة وراحت تحقق إصلاحات واسعة نسبيًا منذ
عام 1960، بناء على توقعات متفائلة بشأن هذه الخطة بالإضافة لزيادة
نفوذ يمين النظام عمليًا مما دفع يساره لتشديد نضاله الإعلامى ضده .
لذلك لم يكن من الغريب أن تشهد نفس الفترة تراجعات عملية ملموسة من
ِقبل النظام بالنسبة لشعاراته و مشروعه، منها على سبيل المثال مشروع
إنشاء منطقة حرة فى بورسعيد وإصلاح العلاقات مع البنك الدولى، وإعطاء
القطاع الخاص تسهيلات كبيرة بعد حرب 1967، تعبيرًا عن تراجعه عن
"الاشتراكية" .
3- العمل على إبعاد الجماهير عن السياسة، وقد سارت "الدعاية" على هذا
المحور بعدد من الوسائل، أهمها استخدام الدين: إذاعة للقرآن، تضخيم
مؤسسة الأزهر وتنشيط جمعية الشبان المسلمين التابعة للدولة، والعمل
على بناء عدد كبير من المساجد الحكومية، والحرص على إقامة الشعائر
الدينية وإذاعتها، وتكثيف التعليم الدينى فى المدارس،
وبذلك أقامت الناصرية دروعًا أيديولوجية ضد كل من الماركسية وفكر
الإخوان المسلمين فى نفس الوقت.
ومن هذه الوسائل الاهتمام بالأغانى الطويلة والعديدة (وقد لعبت "أم
كلثوم" دورًا هامًا فى هذا المجال). والأسلوب الثالث هو تشجيع لعبة
كرة القدم وإذاعة مبارياتها على الهواء بشكل مكثف والتى كان يشاهدها
رئيس الجمهورية بنفسه أحيانًا، والتى أشرف عدد من كبار الضباط على
نواديها، منهم عبدالحكيم عامر.
4- خلق تأييد شعبى مفتعل وكاذب (هذا لا ينفى وجود تأييد حقيقى، خاصة
منذ عام 55 – 1956). وقد تمثل ذلك فى إجبار كافة المؤسسات والنقابات
(الرسمية) على إعلان تأييدها للسلطة فى كل المناسبات – بالإضافة إلى
استئجار المظاهرات أو إجبار الجماهير على المشاركة فيها تأييدًا
للحكومة. وقد أُتبع هذا الأسلوب لمضاعفة هيبة النظام بخلق نوع من
المنافسة فى إظهار، لا التأييد فحسب، بل وأبلغ درجات الحماس للسلطة
الناصرية .
ولا يجب أن ننسى هنا أن العديد من مفكرى اليسار قد لعبوا دورًا مهمًا
فى الدعاية الناصرية، خصوصًا خلال حرب 1956، ثم فى الستينات ..
فشعارات النظام عن الاشتراكية قد اجتذبت مئات "الشيوعيين" . بل ومن
المؤكد أن دعاية النظام لعبت دورًا ليس بالقليل فى دفع "الحزب
الشيوعى المصرى" إلى حل نفسه رسميًا. ولكن من الطريف للغاية أن مفكرى
الحزب راحوا بعد ذلك يُنظَّرون للشعارات الناصرية بلهجة ماركسية، بل
وهيجلية أحيانًا كما سنرى ! . |