التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الفصل الثالث

التوجه العام  للسياسة الناصرية

 

" يجب أن يتم تنفيذ برنامج للإصلاح الاجتماعى يصفى الوضع الثورى دون أن يمس أسس النظام القائم"

    من تقرير لأحد كبارالمبعوثين الأمريكيين لمصر

 

 

تبين لنا فى النهاية أن الاستقلال السياسى المباشر  ليس استقلالاً حقيقيًا بل يمكن تسميته " استقلال رد الفعل ". أما على صعيد السياسة الاقتصادية فقد تبين لنا أن الناصرية لم تعمل على تحقيق الاستقلال الاقتصادى . فقد اتضح  كيف أن الناصرية – كسياسية -  كانت مجرد امتداد مأزوم لسياسة الحكومات السابقة عليها. وقد رأينا من قبل كيف كانت الأفكار الناصرية تحمل تناقضًا بين شكلها ومضمونها. وقد ظهر هذا التناقض صريحًا فى السياسة العامة للناصرية فى صورة تناقض بين الخطاب الجماهيرى  و البرنامج السياسى الرسمى ، أما فى مجال السياسة الاقتصادية فقد برز هذا التناقض على نحو أعمق؛ فبدت هذه الأخيرة على الصعيد العملى  كنفى لادعاءات الناصرية النظرية.

وسوف نتناول فى هذا الفصل السياسة الناصرية فى لحظة اكتمالها منطقيًا؛ أى فى محصلتها الكلية: سياسة الناصرية تجاه النظام الاجتماعى القائم، أى علاقتها بالبنية الاجتماعية ككل، وهى اللحظة التى سيتضح فيها على نحو حاسم أين تقف بالضبط السياسة الناصرية بالنسبة للنظام الاجتماعى. ومن الملاحظ أن الأفكار الناصرية تصبح أكثر اضطرابًا كلما تناولت قضايا أكثر عينية، ففى مجال السياسة الخارجية لم تكن الناصرية تستطيع أن تخفى وجهها كثيرًا، إلا أن حريتها فى الحركة فى هذا المجال كانت واسعة نسبيًا، ففى مقابل وضوحها أمام الدول الأخرى، كانت قادرة أمام الجماهير على تفسير أو تبرير تقلباتها بشكل محكم إلى حد كبير. أما فى سياستها الداخلية، فكانت أقل قدرة على المناورة وأقل قدرة على الاتساق مع نفسها، لأنها هنا تواجه أوضاعًا أكثر تحديدًا بالنسبة للجماهير، فيصبح الانحياز إلى فئات اجتماعية بعينها أمرًا له مغزاه  ولا مفر منه. وإذا حللنا هذه السياسة فى علاقتها المباشرة بالقوى الاجتماعية، سيكون من الواضح أى طرف كانت تعبر عنه أو تحالفه. وهذا ما يفسر ضخامة الجرعات الديماجوجية فيما يخص الطبيعة الاجتماعية – بالذات – للنظام، والطابع الطبقى للسلطة. وللسبب نفسه كان التناقض والاختلال يظهران هنا بأسطح صورة.

كانت الناصرية مطالبة على الصعيد الاجتماعى بانتهاج إما سياسة منحازة للفئات الاجتماعية الفقيرة ، وإما سياسة منحازة إلى رجال الأعمال وكبار الملاك أو أن تختار حلا وسطا لا يكلفها أكثر مما تستطيع. وإذا تذكرنا ظروف انقلاب 23 يوليو 1952، لأخذنا فى الاعتبار مطالب الفئات الفقيرة  وتهديدها – الضمنى على الأقل – لإطار النظام الاجتماعى القائم. وهذا يذكرنا بوجود تناقض بين محتوى الأفكار الناصرية (الموالية للنظام) وشكلها (المعادى للنظام إلى حد ما، فى الستينات خاصة).

ولم يكن أمام الناصرية مفر من تقديم عدد من المكاسب الاجتماعية للانتليجينسيا و الطبقات الأدنى تفاديًا لانفجارات قد لا تُحمد عقباها. إلا أن هذه السياسة لا يمكن أن تكون منعزلة عن موقف الناصرية من الطبقة المسيطرة .. وسوف نحلل فيما يلى صيرورة هذه المسألة.

 

****************

 

أولاً: الإصلاح الاجتماعى وحدوده:

 

     كانت الإصلاحات الاجتماعية ضرورية لامتصاص الصراع الاجتماعى و أساسًا لا غنى عنه للدعاية الديماجوجية نفسها، والتى – لهذا السبب– لم تكن ديماجوجية على نحو خالص. إلا أن هذه الإصلاحات لم تكن جذرية. ولما كان من الضرورى للناصرية أن تقدم للجماهير ما يكفى لتهدئتها أو للمحافظة على سكونها، فقد كان من المنطقى والحالة هذه أن توجه دعمها للفئات الأكثر قدرة على إثارة القلأقل، أو لتوسيع تلك الفئات التى تُعد "مفيدة" ( بمفهوم لورد " كتشنر" . كما كان من الضرورى أن توفر الدولة مصادرا اقتصادية لتقديم الإصلاحات حتى لا تتم كلها على حساب الطبقة المسيطرة. ولذلك توجهت سياستها الاقتصادية – كما رأينا – نحو العمل بأقصى طاقة  كانت تملكها  على زيادة الدخل القومى. ولما كانت هذه السياسة محدودة النجاح، كما كانت الطبقة المسيطرة تتمتع بقدرة كبيرة على المقاومة،  لم تكن الإصلاحات المحققة لتوفى بالكثير، ولذلك تضمنت فى معظم الأحوال إجراءات خادعة وخطوات وهمية، بل وصاحبتها أحيانًا ضغوط جديدة على فئات معينة من الفقراء ، الفئات  "غير المفيدة" التى لا تشكل خطورة احتمالية كبيرة على النظام.

 

1- دعم الملكية الصغيرة :

     استهدف دعم الملكية الصغيرة خلق أو توسيع طبقة  من صغار الملاك، خاصة فى الريف، وأيضًا فى المدينة، وذلك بتحويل المعدمين إلى صغار ملاك، وتحسين أحوال صغار الملاك إلى هذا الحد أو ذاك.

 الملكية العقارية فى الريف:

     اقترحت صحيفة منشستر جارديان فى 23 فبراير 1946 مايلى : "يجب أن نشجع الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ولو كان ذلك ضد رغبة أصحاب الأملاك الذين يُعدون أصدقاءنا" وذلك بخصوص الأوضاع فى مصر وقتذاك. ومن الواضح أن الضباط راحوا بسرعة ينتهجون هذه السياسة، فصدر قانون الإصلاح الزراعى متبوعًا بعدد آخر من الإصلاحات الزراعية، التى أدت فيما أدت إلى زيادة عدد صغار ملاك الأراضى (وكان نفس الغرض يمثل أحد أهداف ونتائج مشاريع استصلاح الأراضى ):

جدول (1)

تطور عدد ملاك 5 أفدنة فأقل[1]

عدد الملاك بالألف

السنة

2.642

1952 قبل القانون

2.841

1952 بعد القانون

3.033

1965

     كما ازداد متوسط مساحة ملكية قطع الأرض الصغيرة.

جدول (2)

متوسط ملكية أقل من 5 أفدنة[2]

مساحة الملكية

السنة

0.8 فدانًا

1952

1.2 فدانًا

1965

جدول (3)

متوسط مساحة ملكية 5 –10 فدان[3]

متوسط المساحة

السنة

6.6 فدانًا

1952

7.9 فدانًا

1965

    

وبالإضافة إلى توزيع بعض الأراضى، اهتمت الحكومة بمكافحة الآفات وإرشاد الفلاحين إلى أفضل سبل استغلال الأرض، كما اهتمت بمشاريع الرى، وإدخال المياه النقية إلى القرى، وقامت بتحسين طرق المواصلات فى الريف ... إلخ.

وحفاظًا على الملكية العقارية الصغيرة قامت الدولة بإقراض الفلاحين بضمان المحصول بدلاً من ضمان الأرض[4].

     ومن المؤكد أن عدد صغار الملاك ومتوسط مساحة ما يملكون من أرض قد ازداد، إلا أن زيادة دخولهم لم تكن بنفس الدرجة[5]. وفى حين سلمت الدولة لبعض الفلاحين قطعًا صغيرة من الأرض، فقد مارست ضدهم قهرًا مميتًا: " فالتسويق التعاونى"  للقطن حقق لها أرباحا طائلة عن طريق شراء القطن من الفلاح بأسعار منخفضة وتصديره بأسعار أعلى بكثير[6]، كما كان استيلاء الدولة على نسبة من الحبوب يحقق لها دخلاً كبيرًا[7]. وقد سجَّل محمود متولى – بناء على ملاحظاته – أن انهيار مستوى دخول صغار المزارعين قد بدأ منذ 1962[8].

لم تكن قطعة الأرض الصغيرة إذن مكسبًا صافيًا للفلاح، فقد شكلت الأساس المادى لنمو هيمنة الدولة وجبروتها ضد الفلاحين.

وعلى العموم يُعد دعم الملكية الزراعية الصغيرة عملاً نموذجيًا بالنسبة لنظام محافظ وعلى الأخص بالنسبة لسلطة بونابرتية فى مثل هذا المجتمع و فى تلك اللحظة. فطبقة الفلاحين إذا ما تمتعت بحالة من الاستقرار، تشكل حصن أمان قوى ضد عوامل الثورة الاجتماعية، فانتقال الفلاح المحافظ من حالة اللاملكية إلى وضع المالك ُيعد انتقالاً حقيقيًا فى حياته من وجهة نظره؛ انتقال إلى الأفضل، فملكية الأرض تمنحه شيئًا بالغ الأهمية: بعض الشعور بالأمان مع شىء من الأمل فى المستقبل. ولكن هذه الملكية هى من جهة أخرى قيد من الناحية العملية  ، لأنها تحد طموحه وتضعه دائمًا فى حالة عوز ودين، فتربطه بدائنيه، الذين هم فى حالتنا هذه: الدولة أساسًا .  ولهذا كله، وبالإضافة إلى اضطرار الدولة إلى الإبقاء على طبقة كبار الملاك فى الريف، لجأت الناصرية إلى إدراج الملكية العقارية الخاصة فى أفكارها "الاشتراكية"، بحجة ديماجوجية : "قدرة الفلاح المصرى على العمل الخلاق" (الميثاق). وظلت فكرة الملكية الخاصة للأرض لدى الناصرية تتضمن كل من الملكية الصغيرة والملكية الكبيرة معًا. ومع ذلك لم يكن الإصلاح جذريًا حتى داخل إطار الحفاظ على الملكية الخاصة، فالإصلاح الناصرى لا يُقارن مثلاً بالإصلاح اليابانى (تم بعد الحرب العالمية الثانية) أو الإصلاح الكورى . فالريف لم يشهد ثورة اجتماعية. وفى ظل تخلف شامل، لم يكن الإصلاح المحدود بمثابة خطوة ثورية، بل عملية  محدودة الأفق، ذات غرض محدد: توسيع طبقة صغار الفلاحين، وليس القضاء على الملكية العقارية الكبيرة بوجه عام . كذلك  ينبغى ملاحظة أن الناصرية لم تطرح مبدأ "الأرض لم يفلحها"، وهو الشعار الذى يتضمن التغيير الثورى لعلاقات الملكية.

وبهذا المعنى لا يمكن أن يُعد الإصلاح الزراعى الناصرى ثورة فلاحية، بل بالعكس لقد قطع الطريق على ثورة فلاحية كانت محتملة . ومما له دلالته أن الإصلاح الزراعى لم يتم قط بمشاركة فلاحية، ولم يُسمح أبدًا للفلاحين بالاستيلاء بأنفسهم على أراض كبار الملاك، فهذا الطريق يعنى مباشرة اندلاع الثورة. ولنتذكر موقف حكومة الضباط من الحركة الفلاحية التى صاحبت نشر الأنباء عن قانون الإصلاح الزراعى فى 1952. فقد ظن الفلاحون أن الضباط قد أعلنوا ثورة فلاحية ، فامتنع كثير منهم عن دفع ايجارات الأراضى، وذلك قبل صدور القانون بشهر كامل، بل وراح بعضهم يتأهب للاستيلاء على الأراضى التى يزرعونها. وردًا على هذه الحركة أصدرت حكومة الضباط إنذارًا شديد اللهجة حذرت فيه " ذوى الميول المتطرفة" من "إشاعة الفوضى بين الفلاحين"، كما حذرت من عدم دفع الالتزامات تجاه ملاك الأراضى، واعتبرت ذلك أمرًا جديًا " سيضطر القيادة إلى اتخاذ خطوات حاسمة فيه وستضطر إلى الضرب بيد من حديد على أيدى المحرضين والمتوقفين عن دفع الالتزامات على السواء"[9].

لا يكفى قط أن توصف الوسيلة غير الديموقراطية للناصرية فى تطبيق الإصلاح الزراعى "بالخطأ" العابر دون الأخذ فى الاعتبار ارتباط هذا الأسلوب بطبيعة النظام ككل وبأفقه الإصلاحى. فالخوف من "الفوضى" أو بمفهومنا الخاص: الثورة، يعبر عن حقيقة بالغة الوضوح هى وجود الآخر؛ الثورة المضادة .. وفى حالتنا هذه كانت متمثلة فى السلطة الناصرية، التى تصدت بكل قسوة لما أسمته بالفوضى.

ومن الجدير بالملاحظة أن توسيع قاعدة الملكية الصغيرة قد ترافق مع تدهور أحوال عمال الزراعة:

جدول (4)

الأجر الفعلى لعامل الزراعة[10]

(قياسى – بالوحدة)

الأجر

السنة

الأجر

السنة

8.4

1959

11

1951

؟

1960

10

1952

8.4

1961

10

1953

؟

1962

10.2

1954

9

1964

7.1

1955

10.8

1965

6.4

1956

10.9

1971

7.7

1957

 

 

7.3

1958

 

     ورغم وضع حد أدنى لأجور عمال الزراعة فى 1952 يعادل 18 قرشًا للرجل و10 قروش للمرأة أو الطفل، لم يسر هذا التحديد أبدًا، بل تدهورت أجورهم بعد الإصلاح الزراعى بسبب انتشار الملكيات الصغيرة على حساب الملكيات الواسعة وانخفاض الطلب – بالتالى- على عمال الزراعة، فقد ارتفع الفائض من هؤلاء من 42% قبل قانون 1952 إلى 47% عام 1954[11]. ولم تول الدولة الناصرية هؤلاء الذين يعدون الأشد معاناة من بين فئات العمال الزراعيين اهتمامًا يُذكر (عكس الفلاحين الفقراء والمثقفين وعمال الصناعة). ويمكننا تفسير هذا على ضوء حالة مصر الناصرية. فدعم الملكية الصغيرة لم يكن موجهًا من أجل مصالح فقراء الريف، فعمال الزراعة كانوا أفقر فقراء البلاد عمومًا، ولكنه كان موجهًا لدعم النظام الاجتماعى، عبر طبقة الفلاحين المحافظة، فقد كان عمال الزراعة فى مصر فئة ضعيفة سياسيًا دائمًا، ومحدودة الطموحات ولا تخشى السلطات أمرها، حتى أنهم لم يتمكنوا ولم يحاولوا جادين تشكيل نقابات. وفقط فى 1964 أعلنت الدولة عن تشكيل نقابات لعمال الزراعة[12]، ولم يكن هذا سوى استكمالاً للديكور الاشتراكى وجزءًا من الدعاية المنظمة و لم يعبر أبدا عن أى قدر من الضغوط العمالية. كما أصبحت هذه النقابات وسائط جديدة للنهب من قِبل النقابين الصفر؛ الناصريين ، ورجال الأمن ومقاولى الأنفار.

 

 الملكية الصغيرة فى المدينة :

     كان موقف الناصريين إزاء الملكية الصغيرة فى المدينة متناقضًا. فقد أمَّنت قروضًا منخفضة الفائدة للحرفيين وصغار التجار وموّلتهم بالمواد الخام بأسعار مدعومة. ومن جهة أخرى لم تستطع أن توصَِّل إليهم هذه المساعدات بالكامل. فبقاء واستفحال رأس المال التجارى الكبير فى المدينة حافظ على استمرار خضوع المالك الصغير للمالك الكبير، بالتوسط بين الدولة وصغار الملاك، فاستمر هؤلاء يشترون من تاجر الجملة بأسعار مرتفعة، بينما أجبرتهم السلطات على البيع بأسعار محددة. وحين تم تأميم بنوك التسليف، بدأ كبار التجار يعملون كوسطاء بينها وبين صغار التجار، وبدلاً من إقراضهم من رءوس أموالهم الخاصة، كما كان يحدث من قبل، راح التجار يعملون كوسطاء ماليين بين البنوك المؤممة وصغار التجار، فارتفعت أرباحهم وازدادت الهوة عمقًا بين هؤلاء الوسطاء وبين صغار التجار، والحرفيين أيضًا[13].

     وإرضاءً لتعطش المستهلكين، أقامت الحكومة عددًا كبيرًا من الجمعيات الاستهلاكية، التى تبيع السلع بأسعار محددة. وبذلك نافست تاجر التجزئة ،  الصغير فى العادة، منافسة شديدة، بالإضافة إلى أنها منحت كبار التجار فرصة جديدة للقيام بالوساطة بين هذه الجمعيات وبين صغار التجار ليتاجر الطرفان فى السلع المدعمة فى السوق السوداء.

كذلك أدى تخفيض إيجارات المساكن إلى انخفاض ريوع صغار (وكبار) الملاك العقاريين فى المدن.

     إذن لم تنعم الملكية الصغيرة فى المدينة بنفس ما نعمت به فى القرية من اهتمام الدولة، فهى لا تقوم فى المدينة بدور الفلاح المحافظ. ولذلك لم يكن صغار الملاك فى المدن – خاصة التجار- فى حالة سكينة، وقد شهدت القاهرة مثلاً كثيرًا من المعارك العنيفة بينهم وبين تجار الجملة أثناء انتخابات الغرف التجارية، ولطالما تردد صغار التجار والحرفيين على اجتماعات "الإخوان المسلمين"، وبقدر ما كانوا يعجزون عن تحقيق مصالحهم كانوا يتذمرون. ومع ذلك لم يعجز هؤلاء عن تحقيق بعض المكاسب فى ظل الناصرية، عن طريق التجارة فى السوق السوداء، خصوصًا مع اشتداد أزمات السلع الضرورية فى الستينات، مستغلين الدعم الحكومى الموجه لسلع الجمعيات الاستهلاكية. وقد استفحلت هذه الظاهرة مع بدء انهيار الناصرية نفسها، أى منذ أواسط الستينات.

 

2- عمال الصناعة:

     إذا كان من الممكن لصغار الملاك أن يسببوا اضطرابًا اجتماعًا عظيمًا، فإن بمقدور العمال أن يهددوا النظام الاجتماعى نفسه. فحكومة صغار الملاك تظل داخل حظيرة النظام بقدر ما تستمر حكومة لصغار الملاك، أما حكومة العمال فهى نفى للنظام ككل. ولم يكن عمال الصناعة فى مصر خلال الفترة من 1945-1952 يحملون فحسب طاقة ثورية، بل كانوا  يشكلون خطورة فعلية على النظام. وكانت الانتلجينسيا بالمدن وعمال الصناعة هم القوة الأساسية التى شكلت الحركة الثورية خلال الفترة المذكورة.

وإذا كانت الناصرية قد استطاعت أن تقدم لصغار الملاك رشاوى يغلب عليها الطابع الشكلى، مثلما استطاعت أن توسَّع من قاعدة الملكية الصغيرة، فإنها بخصوص عمال الصناعة لم يكن بمقدورها، من كافة النواحى، أن تحولهم إلى صغار ملاك. كما لم يكن من السهل لها أن تخدعهم إلا فى حدود ضيقة .. فالعامل يحصل على أجر واضح،  وبالتالى كانت مصلحته المباشرة واضحة تمامًا، ومتعينة.

خلال الفترة من 1952-1962 لم تلجأ الناصرية إلى تقديم رشاوى كبيرة إلى العمال، فاكتفت بزيادة حقوقهم فى الاجازات والعلاج وتعويضات الإصابة، كما رفعت الحد الأدنى للأجور من 12.5 إلى 25 قرشًا يوميًا، وأصدرت قانونًا يمنع الفصل التعسفى. ومن الناحية العملية لم تُنفذ هذه الإصلاحات تنفيذًا فعليًا إلا فى قطاع الدولة، الذى اتسع بتمصير الشركات الأجنبية عام 1957. وقد بنت الحكومة أملها فى تحسن أحوال عمال الصناعة على سياسة تشجيع رأس المال الفردى فى تحقيق زيادة فى الاستثمارات وزيادة الطلب على قوة العمل بالتالى. ولكن حققت أجور العمال زيادة طفيفة للغاية (أقل من 3% سنويًا)، بل وحققت انخفاضًا خلال الفترة من 57-1960 (فترة الخطة الصناعية):


 

جدول (5)

تطور أجر العامل الصناعى[14]

% من القيمة المضافة

الأجر الحقيقى

بالجنيه فى العام

السنة

37

144

1957

30

134

1960

    

هذا بينما كان معدل زيادة الأجور فى الفترة من 1946-1952 حوالى 6% سنويًا، وقد بلغت الزيادة الكلية خلال تلك الفترة 45.5%[15].

ومع زيادة حدة التفاوت الاجتماعى، الناجمة عن السياسة الاقتصادية فى الخمسينات، بدأت الناصرية تتجه إلى إصلاح أوضاع العمال بشكل أكثر جدية، فتم تطبيق القرار القديم بخصوص الحد الأدنى للأجور، خاصة مع تأميم معظم رأس المال الصناعى. كذلك تم تثبيت عدد كبير من عمال التشييد، وتقرر صرف معاشات للعمال اعتبارًا من 1961[16]، وهى خطوة هامة للغاية بالنسبة لمصالح العمال. كذلك تقرر توزيع 25% من أرباح شركات قطاع الدولة على العاملين بها، منها 10% توزع  نقدًا. ومنذئذ بدأت أجور العمال تنافس مرتبات صغار الموظفين:


 

جدول (6)

52/1953- 66/1967[17]

معدل  زيادة الأجور (%)

الفئة

44

العمال

8

المستخدمون

جدول (7)

الزيادة الحقيقة فى أجور العمال : قياسى[18]

الأجر ( قياسى)

السنة

100

1952

123

1960

153

1963-1964

140

1966-1967

 

كما مُنح العمال مزيدًا من الرعاية الصحية، وقُدمت لهم مزيد من الخدمات فى مجال النقل والإسكان ... الخ، وبلغ الأمر حد أن فاقت الزيادة فى أجور العمل زيادة الإنتاجية:


 

جدول (8)

معدل التغير السنوى فى كل من الأجر

والإنتاجية فى كل الصناعات فى الفترة من 39 – 61/1962

(الصناعات التى يعمل بها 10 عمال فأكثر - % نسبة مركبة)[19]

الإنتاجية

للساعة

(6)

(3) معدلا

حسب

مؤشر

أسعار

الجملة

للإنتاج

الصناعى

(5)

(2) معدلا

حسب

تكاليف

المعيشة

(4)

الأجر

للساعة

 

+

تكلفة

الفوائد

الهامشية

(3)

(1)

+ المشاركة

فى أرباح

الصناعة

(2)

معدل التغير السنوى للأجر

الأسبوعى

(1)

السنة

1

ــ3.1

-  ــ1

ــ 1.5 –

+0.5

7.9-

12.8

 

7.9 –

12.8

7.9-

12.8

37-1938

4.7

3.4

3.8

5.5

4.4

4.4

47-1960

4

3.9

3.5

4.7

2.9

2.9

52-1960

6.2

6.8

2.5- 3

4.7

2.5- 3

0.5

59/60-61

/62

    

وتتضح ظاهرة تفوق معدل زيادة الأجور على معدل زيادة الإنتاجية أكثر خلال النصف الأول من الستينات:

جدول (9)

التناسب بين زيادة متوسط الأجور والمرتبات وزيادة نمو إنتاجية

العمل فى الفترة من 1960- 1965 (%)[20]

زيادة إنتاجية العمل

زيادة متوسط الأجور

الفرع

10

46

زراعة

10

22

صناعة

40.5

29

طاقة

34.4

20

نقل

17.7

39

إجمالى الإنتاج

19

26.4

إجمالى الخدمات

    

وقد وجهت الناصرية جل عنايتها لعمال قطاع الدولة، القطاع الأكثر تنظيمًا، حيث يتركز العمال فى وحدات كبيرة. ومن الواضح أن عمال الصناعة قد حصلوا على مكاسب تفوق أية مكاسب حصلت عليها بقية الفئات الفقيرة  من الناحية الفعلية. ولكن مما لا يجب أن يغيب عن بالنا أن هذه المكاسب لم تكن ضخمة – وان كانت ملموسة – بل ظلت أحوال العمال متردية، ولم تصبح الطبقة العاملة مستفيدة من النظام، أى لم تتحول إلى أرستقراطية عمالية (باستثناء النقابيين الصفر وقيادات التنظيم السياسى من العمال). وكما يتضح من جدول (7)، راحت مداخيل العمال تتناقص مرة أخرى ابتداء من منتصف الستينات، كما أعيد رفع ساعات العمل مرة أخرى[21]. إلا أن تكدس المصانع بأعداد ضخمة من العمالة الفائضة، نتيجة سياسة تعيين العاطلين أدى إلى تخفيف عبء العمل على بعض قطاعات العمال. وقد سمح هذا الوضع، الذى بلغ حد التسيب فى كثير من المصانع، بقيام كثير من العمال بأعمال إضافية فى القطاع الخاص، أو ممارسة أنشطة تجارية وحرفية خاصة. ولا شك أن هذه الظاهرة كانت موجودة من قبل ولكنها استفحلت كثيرًا فى الفترة الناصرية. يضاف إلى هذا أنه قد تم إلحاق عدد كبير من صغار ملاك الأراضى بالمصانع كعمال (وموظفين)، وبذلك أصبحت توجد نسبة ملموسة من العمال المنتمين إلى صغار الملاك من كافة الأشكال. وفى ظل فائض العمالة وفساد الإدارة البيروقراطية ومنع الفصل التعسفى، أصبح من الممكن لعدد كبير من العمال أن يتخلص من قهر العمل المأجور ليعمل فى مشروعه الخاص، أى أن يحصل على "أجر" دون أن ُيقدِّم ما يعادله من قوة عمله.

ولم يخل الأمر من طابع شكلى – جزئيًا – لبعض المكاسب العمالية. فمثلا كان  توزيع 25% من الأرباح على العاملين (وليس على العمال) لا  يضمن للعمال النسبة الأكبر من الأرباح، بل كانت هذه الـ 25% من المصادر الهامة للمداخيل الإضافية  لرجال الإدارة، كما تم استخدام جزء آخر فى تقديم خدمات للعاملين ككل أيضًا.

وكان لانتقال آلاف من صغار الملاك وأبنائهم للعمل فى الصناعة نتائج، من ضمنها أن قسمًا مهمًا من العمال المأجورين قد أصبحوا فئة "مفيدة" - بالمعنى المذكور من قبل - ، فالأجر- بدون عمل حقيقى -  ُيعد من وجهة نظر أولئك  العمال ، وكذلك الأمر بالنسبة للعمال الجدد من أصول بروليتارية رثة .. وقد شكلت هذه الفئة صمام أمن جيد للنظام فى شركات الدولة وقاعدة قوية للنقابيين الناصريين.

 

3- معالجة مشكلة البطالة:

قدر سميرأمين  عدد العاطلين فى مصر عام 1960، بـ (2/3) قوة العمل النظرية الامكانية[22] . وقد قدر أحد الباحثين الأجانب عدد العاطلين فى المدن عام 61-1962 بـ 2.988 مليون شخص (37% من قوة العمل فى المدن)، أما إذا أضفنا البروليتاريا الرثة والخدم لبلغ العدد 4.1 مليون، أى 51% من قوة العمل [23]. وقد شملت البطالة قوة العمل غير الفنية بالإضافة إلى المتعلمين، مثل المدرسين. ولم تنجح سياسة الحكومة فى الخمسينات فى الحد هذه المشكلة، كما أدى تزايد الهجرة من الريف إلى المدن إلى ضغوط شديدة على السلطة (ضغوط احتمالية)، فبرزت ظاهرة تحول عدد من العاطلين إلى مشردين ؛ حثالة بروليتاريا، تلك الجماعات الهامشية، التى تسبب أخطارًا بالغة على الأمن العام واضطرابات اجتماعية خطيرة. وكان أن لجأت السلطة منذ أوائل الستينات إلى التوسع فى تعيين العاطلين من العمالة غير الفنية، كما فتحت الجامعات على مصراعيها (إلغاء المصاريف بالجامعة عام 1962)، ليلتحق بها عشرات الألوف كل عام من أبناء المثقفين وموظفى الدولة، بالإضافة إلى أبناء التجار...إلخ.

وضمن الإجراءات المتخذة، تخفيض ساعات العمل فى يوليو 1961 إلى 42 ساعة فى الأسبوع، مع جعل العمل بالمصانع ثلاث ورديات، وقد أدى هذا الإجراء إلى تشغيل 28 ألف عامل جديد، أى نحو 4% من عدد عمال الصناعة[24]. وقد تم إنشاء مكاتب العمل لتعيين العاطلين، كما أُلحق عدد كبير بالشركات والمرافق ومكاتب الحكومة، بحيث بلغت نسبة العمالة الفائضة فى بعض الشركات أكثر من 50%. وعلى سبيل المثال تضاعف عدد العمال فى مصانع الكوك والمضادات الحيوية ومحطة توليد الكهرباء ومصنع زيوت التشحيم بالسويس فى الفترة من 1965-1967. فبينما بلغ عدد العاملين بمصنع الكوك والكيماويات بحلوان عند تصميمه 585 فردًا، بلغ العدد الفعلى عام 1965: 967 فردًا (وقد أدى هذا إلى ارتفاع التكلفة بـ 68.4 ألف جنيها)، ثم بلغ العدد عام 1967 : 1100 فردًا منهم 250 موظف، 750 عامل، 100 مهندس وفنى[25].

وبهذا الشكل ازدادت نسبة الأجور إلى الإنتاج إلى 30% (بينما بلغت فى بلد مثل الولايات المتحدة 25% وأقل من ذلك فى أوربا الغربية)، فى نفس الفترة كما انخفضت بالطبع معدلات أرباح الشركات المؤممة (لأسباب منها فائض العمالة).

وكان القطاع الذى استوعب العمالة الجديدة بشكل رئيسى هو قطاع الحكومة، فازداد عدد موظفى الدولة من 325 ألف (9.6% من العمالة) عام 1952 إلى 1.035 مليون (15.4% من العمالة) عام 1966[26].

من الواضح إذن أن عددًا من العمال قد أصبح بلا عمل حقيقى، وأُضيف إلى القوة العاملة عدد غفير من الموظفين كعمالة زائدة، بالإضافة إلى آلاف من "السعاة"  فى كافة المؤسسات والقطاعات. وبالرغم من أن الناصرية قد قدمت لهؤلاء أجورًا زهيدة إلا أنها من الناحية الفعلية قد قدمت لهم نوعًا من الإعانة. وبذلك تكونت فئة اجتماعية جديدة تشبه البروليتاريا الرومانية، ولكن بدلاً من الخبز والألعاب[27] قدَّمت لها الناصرية مرتبات هزيلة مع أفيون فنى فى صورة حفلات غنائية طويلة، صار تقديمها فى وسائل الإعلام تقليدًا طوال الستينات، إنه إذن الخبز والألعاب ولكن فى ثوب "ناصرى" خاص !

كان الأسلوب الناصرى فى الحد من مشكلة البطالة (والتى لم تُحلها الناصرية قط!)، أسلوبًا، علاوة على أنه سقيم، كان رجعيًا أيضًا، فالأعمال الزائدة كانت بديلاً عن صرف إعانة بطالة لكل العاطلين (عوضًا من خلق أعمال حقيقية). فبالإضافة إلى تشويه قطاع كبير من العمال، بإلحاقهم بأعمال وهمية، تفادت الناصرية وضع القيد حول نفسها، فإعانة البطالة لم تُمنح للعاطلين عمومًا وكانت مكاتب العمل تقبل أعدادًا محدودة.

وبالطبع لم تكن كل الأعمال الجديدة فى مصر الناصرية اعمالاً وهمية، ولكن كانت كذلك نسبة كبيرة للغاية منها.

وباختصار شديد، كان التشغيل فى مصر الناصرية سياسة أكثر مما كان اقتصادًا.

4- الموظفون :

يتشابه موظفو الدولة عادةً وبوجه عام مع طبقة الفلاحين فى ميولهم المحافظة للغاية. إلا أن هذا لم يكن سببًا كافيًا لتعيين مئات الألوف منهم فى وظائف فائضة خلال العهد الناصرى، ولكنه كان سببًا كافيًا لحرمانهم (باستثناء الشريحة العليا) من أية زيادة حقيقية فى دخولهم:

جدول (10)

العاملون بالحكومة وحصتهم من الدخل[28]

حصتهم من الدخل القومى %

نسبتهم  للعمالة الكلية

السنة

8.6

9.6

1952

13

15.4

1966/1967

 

وقد ارتفع متوسط الدخل الاسمى للموظف بوجه عام من 240 جنيها سنويًا عام 1952 إلى 323 جنيها عام 66-1967، أما الأجر الحقيقى فلم يرتفع[29]. ومن المؤكد أن هذه الزيادة الاسمية نفسها قد ذهبت إلى كبار الموظفين، الذين زادت دخولهم زيادة كبيرة. كما أن الموظفين من خريجى الجامعات قد حصلوا على مرتبات جيدة  وازدادت نسبتهم من مجموع الموظفين عمومًا.

هكذا امتصت الإدارة الحكومية(وكذلك إدارات قطاع الدولة الاقتصادى) أعدادًا غفيرة من قوة العمل الفائضة، ولكن لم يؤد هذا إلى امتصاص البطالة ولا إلى تحسن كفاءة الجهاز الحكومى، بل بالعكس، انخفضت كفاءته بوضوح. ورغم انخفاض الحجم الاحتمالى للبطالة فهى – كظاهرة – لم تتأثر جذريًا.

لقد تأثر تركيب القوى العاملة تأثرًا ملموسًا بسياسة التشغيل الناصرية، إذ زادت نسبة العمالة غير المنتجة للفائض إلى العمالة الكلية، بحيث تحول قطاع من العاملين إلى عالة على عملية الإنتاج. فهذا التركيب هو تركيب غير متوازن فى بلد يدعى حكامه ومريديهم أنه بلد يبنى اقتصادًا متطورًا. ونحن نوجه انتقادنا بشكل أساسى إلى عجز الناصرية عن تحويل فائض قوة العمل إلى الأنشطة المنتجة أو الفعالة. وقد نشأ هذا العجز عن الأفق الإصلاحى للناصرية وتجنبها وضع خطة تنموية حقيقية وتجميع كل الفائض الاحتمالى وتعبئة الجماهير من أجل بناء البلاد.

 

5- سياسة التعليم:

لم يكن مجال العمل اليدوى خلال الفترة الناصرية مفضلاً بالنسبة لأبناء الفئات الوسطى، خاصة من المتعلمين، أولاً لنفورهم التقليدى من هذا النوع من العمل وثانيًا لأنه  لم يكن متوفرًا . وكان حملة الشهادات والموظفون يمثلون نماذجًا جذابة للناس بوجه عام. بالإضافة إلى ذلك كانت الدولة تدفع أجرًا مجزيًا لخريجى الجامعات. لذلك تركز طموح أبناء المثقفين فى دخول الجامعات، حيث العمل الحر أو الوظيفة الرفيعة بعد ذلك. وقد شكل هؤلاء عماد الأحزاب الوطنية قبل انقلاب 1952، وقادوا الحركة الوطنية ككل، وكان المثقفون أكثر فئات الشعب اهتمامًا بشئون السياسة بوجه عام.

وقد وجدت الناصرية فى فتح الجامعات على مصراعيها وسيلة مثالية لامتصاص أبناء الفئات المتعلمة ذوى الهموم السياسية ومثيرى "القلق" عادة. وجاء فتح الجامعات منذ إلغاء المصاريف الجامعية عام 1962 ليحقق لهم جل ما تمنوه ( فى 1955، بعد حل اتحادات الطلاب ثم تخفيض المصاريف الجامعية بـ 30% وقُدمت منح للطلاب المتفوقين)، خاصة أن الدولة قد التزمت أيضًا بتوفير عمل لخريجى الجامعات بمرتب مجز (وكذلك لخريجى المدارس الفنية).

وقد وجهت الدولة اهتمامًا كذلك للتعليم الابتدائى والثانوى ولكن بدرجة أقل كثيرًا:

جدول (11)

الزيادة فى عدد الطلاب (رقم قياسى)[30]

إعداد

 مدرسين

جامعى

فنى

ثانوى

ابتدائى – إعدادى

السنة

100

100

100

100

100

1952

126

425

814 (*)

264

298

1970

                      (*)  تعود هذه الزيادة الضخمة إلى نمو عدد طلاب مدارس التجارة أساسًا، صغار

                               الموظفين مستقبلاً.

 

     ويوضح الجدول السابق كيف راح هرم التعليم يتغير، فمعدل نمو التعليم الجامعى فاق معدل نمو التعليم الابتدائى، رغم استمرار انتشار الأمية كما سنرى. والجدول الآتى يستكمل معنى الجدول السابق.

جدول (12)

العرض والطلب فى العمالة فى المهن الأساسية (بالألف) *[31]

1969-1970

1965   -1966

نوع المهنة

الفائض

الطلب

العرض

الفائض

الطلب

العرض

+ 10

302

312

+ 14.8

219

234

الأكاديمية

والعلمية

- 84.4

568.4

484

- 27

393

366

الفنية

الوسطى

+ 36.4

328.6

365

+ 20

241.9

322

الكتابية

- 494

1.367.7

873

- 206.9

1.027.9

821

العمالة

الماهرة

1.117.5

6.214.5

7.332

+ 768

5676.1

6.444

العمالة

العادية

+ 585.5

8.781.2

9.366

+ 606

7.558.1

8.187

المجموع

               

                 * قمنا بضبط هذه الأرقام وهى غير متسقة  تماماً فى الجدول الأصلى (المؤلف)

 

     و ما يوضحه هذا الجدول  أن فائض العمالة كان يتقلص بالنسبة لخريجى الجامعات، ويزداد العجز فى العمال المهرة، بينما ارتفعت البطالة بدرجة ملموسة فى العمالة العادية. ويعود نقص العمالة الماهرة – كما يوضح الجدول – إلى ضعف العرض وزيادة الطلب، بينما نفسر ضعف الفائض من خريجى الجامعات إلى زيادة التشغيل فى الأعمال الكتابية (كما يوضح الجدول السابق) وكذلك المهن الأكاديمية والعلمية. وقد ترافق انعكاس الهرم التعليمى على تركيب العمالة فى الأنشطة الإدارية والاقتصادية، فنسبة خريجى الجامعات العاملين فى هذا المجال  بلغت 14%، مقابل 5% للفنيين، (فى البلدان المتقدمة بلغت نسبة الجامعيين فى الفترة نفسها  إلى الفنيين 1 : 4 تقريبًا[32]).

     ويمكننا إضافة الملاحظات التالية على سياسة التعليم فى مصر الناصرية:

1-  لم يكن التوسع فى التعليم العالى وتحقيق شبه مجانية للتعليم يتم فى إطار عملية تنوير عام. ومن الدلائل المباشرة على ذلك استمرار نسبة الأمية المرتفعة للغاية، بحيث لم تتأثر جذريًا بالطريقة البيروقراطية فى محو الأمية والتعليم [33]. ويدل هذا على الطابع الإصلاحى ضيق الأفق لسياسة التعليم الناصرية، كما يعكس غياب المشاركة الشعبية [34]. كذلك لم يتم تطوير  منهج التعليم، بل جرى التوسع فى التعليم الدينى وجعل الدين مادة أساسية فى المدارس بل وتحويل جامعة الأزهر إلى تدريس العلوم العصرية مع الدين،و استمر الفصل بين التعليم النظرى والفنى،مع  الاهتمام بالاستيعاب بدلاً من الفهم، و الفصل بين التعليم العلمى والأدبى، و كذلك  إهمال التجربة والبحث العلمى والتركيز على التلقين . كذلك فرضت الناصرية وعيًا شموليًا على المجتمع، فقامت بتدريس "الميثاق" إجباريًا بالمدارس، بالإضافة إلى كتب "قومية" أخرى.  ونلاحظ أن الناصرية قد وضعت على رأس المؤسسات التعليمية  ضابطا غير مستنيراً أيضاً  حتى أوائل الستينات، بينما بدأت عهدها بفصل 60 أستاذ ومدرس جامعى بسبب أفكارهم الديموقراطية. ولم تغير الناصرية فترة التعليم الإلزامى (6 سنوات) وهى لا تكفى لتخريج فرد قادر على ممارسة مهنة معنية. وباختصار، أدت سياسة التعليم إلى زيادة عدد "المتعلمين" كمبرر لمنحهم أجورًا مجزية نسبيًا وامتصاصهم بالتالى فى عب الناصرية. هكذا كان التوسع فى التعليم يسير كجزء من عملية ضبط المجتمع و ما كان يُسمى " بتذويب الفوارق بين الطبقات ".

2-  جذبت الجامعة كثيرًا من أبناء الفئات الوسطى، خاصة الانتلجينسيا، بينما لم يشكل أبناء العمال والفلاحين نسبة هامة من الطلاب. ففى بحث أُجرى فى جامعتى القاهرة والأزهر عام 1966، اتضح أن الغالبية العظمى من الطلاب ينتمون إلى أسر المهنيين وصغار الموظفين والكتبة[35]. هكذا تغيرهيكل طلاب الجامعة ليحتل أبناء الفئات الوسطى معظم الأماكن بدلاً من أبناء كبار ملاك الأراضى ورجال الأعمال وكبار الموظفين.

3-  تدهور مستوى التعليم بشكل متزايد طوال الفترة الناصرية[36]. فانخفض عدد المدرسين بالنسبة لعدد الطلاب، وازداد عدد الطلاب للفصل الواحد، كما تدهور مستوى المدرسين نفسه. وقد انعكس هذا كله على مستوى الطلاب. فالتعليم لم يرتبط بإمكانيات واحتياجات المجتمع التنموية ولم يتم فى إطار سياسة تنموية شاملة. ويكشف لنا هذا عن منطق سياسة التعليم الناصرية، المهتمة بالكم، وبتخريج أكبر عدد من أبناء الانتلجينسيا من الجامعة لامتصاص الفئات الوسطى المثيرة للقلاقل. وجدير بالذكر هنا أن ظاهرة جديدة قد ظهرت فى العهد الناصرى، هى أمية المتعلمين، متمثلة فى تدنى المستوى العلمى والثقافى لخريجى الجامعات، غير المؤهلين أصلاً للتعليم العالى، أو الذى تلقوا تعليمًا عاليًا من حيث الاسم فحسب.. حيث تحولت الجامعة إلى كُتَّاب كبير.

4- أصبحت الجامعات تخضع تماما للدولة و افتقدت لأى هامش للاستقلال و أصبح الأمن يتحكم فى مصير الأساتذة الجامعيين بناء على تقارير المباحث حول ميولهم الفكرية و ما يقدمونه لطلابهم . و رغم تحكم الدولة الكامل فىعملية التعليم لم تُوجه بما يتناسب مع الاحتياجات الاقتصادية الحقيقية لسوق العمل ، مما أدى لعجز فى تخصصات معينة و فائض هائل فى غيرها . و قد كان التعليم من المجالات التى اتضح فيها بشدة هيمنة السياسة على الاقتصاد فى الدولة الناصرية ، و كذلك مضاعفات ذلك على عملية التنمية .

 

6- إصلاحات أخرى:

     - الرعاية الصحية: أقامت الحكومة الناصرية عددًا من المستشفيات والوحدات الريفية. ومن الناحية العملية لم تتحقق مجانية العلاج إلا فى نطاق ضيق، كما قدمت الحكومة خدمات صحية بالغة الرداءة. ونوجه نقدنا للسياسة الصحية كالآتى:

     لم تهتم الدولة بالوقاية قدر اهتمامها(المحدود) بالعلاج ، باستثناء التطعيم ضد أمراض معينة حسب توصيات و خطط منظمة الصحة العالمية،  وترتب على ذلك استمرار انتشار الأمراض المتوطنة التقليدية فى مصر : البلهارسيا والفلاريا والملاريا  ... إلخ. وعلى سبيل المثال يتطلب القضاء على البلهارسيا بشكل أساسى تطوير نظم الرى والصرف، أى تطويرًا شاملاً للزراعة (هذا ما نادت به كتب "الصحة العامة" فى مصرو دُرِّست فى كليات الطب). ولم تقم الدولة بوضع نظم فعالة للوقاية من أمراض الصناعات، واسعة الانتشار فى مصر، وهو أمر يتطلب أساسًا تطوير وسائل الإنتاج وتطوير الإنشاءات. كذلك استمرت أمراض سوء التغذية، خاصة بين الأطفال، واسعة الانتشار. ومن الواضح أن كافة هذه الظواهر ترتبط بعمق بمستوى التكنولوجيا وبمستوى المعيشة، وهما ما لم يشهدا تطورًا كبيرا خلال الفترة. وقد حدث تطور صحى فى الجوانب التى تطلب جهودًا بسيطة بفضل تطور العلم فى العالم عمومًا، مثل انتشار المضادات الحيوية وانخفاض أسعارها، مما ساهم كثيرًا فى خفض معدل وفيات الأطفال وفى زيادة عدد السكان بمعدل كبير، حيث لم يقابل هذا التغير الثقافى الذى أدى فى البلدان المتقدمة إلى انخفاض معدل المواليد. والظاهرة نفسها تنطبق على كافة بلدان العالم الثالث تقريبًا، والتى نعدها أحد ظواهرالنمو المركب، فقد تم استيراد الطب المتطور فى مجال رعاية الطفولة ومعالجة الأمراض المعدية، فى بيئة متأخرة ثقافيًا، مما أدى إلى اختلال من نوع جديد، بين معدل المواليد ومعدل الوفيات، مؤديا إلى الانفجار السكانى ؛نمو للأطفال أساسًا، على حساب نمو قوة العمل، مما أضاف مزيدًا من الأعباء على المجتمع نتيجة الخلل الديموجرافى. وقد حاولت الناصرية معالجة المشكلة بالدعوة إلى تحديد النسل مباشرة دون خلق الأساس المادى لتحقيقه فعليًا، أى تطوير القوى المنتجة، والثورة الثقافية .

ورغم التوسع فى إنشاء كليات الطب  لم تقدم هذه مساهمة تُذكر  فى مجال البحث العلمى فى الطب، بل ظلت تعتمد على الأبحاث التى تُجرى فى الغرب حيث لم تدشن أية نظم كفيلة بدفع عملية البحث العلمى بالجامعات .

- الإسكان :أقامت الدولة عددًا من المساكن المتوسطة والفاخرة " والشعبية"، بما لم يزد عن 10 آلاف وحدة سنويًا، سُلم معظمها للموظفين من الدرجات العليا والمتوسطة. كما تم تخفيض إيجارات المساكن مرتين (1958، 1961) بنسب 20%، 35% على التوالى. وقد لعب تخفيض الإيجارات وتقاعس الدولة عن إنشاء العدد الكافى من الوحدات السكنية دورًا كبيرًا (بجانب تزايد الهجرة من الريف إلى المدينة) فى استفحال أزمة الإسكان. بل إن الدولة التى صادرت الصناعة الكبيرة لم تول صناعة مواد البناء اهتمامًا يتناسب حتى مع حاجات مشاريعها هى.

- أنشأت الدولة عددًا كبيرًا من الجمعيات الاستهلاكية لبيع سلع قطاع الدولة بأسعار منخفضة، كما قامت بتحديد أسعار بعض السلع الضرورية، ومنها الأدوية التى خُفضت أسعارها فى بداية الستينات. ومن الإصلاحات الهامة أن الدولة  قررت صرف علاوات سنوية للعمال، كما عوضت الفلاحين عن خسائر محصول القطن عام 1961[37]. وأجرت الحكومة عددًا آخر من الإصلاحات العامة، مثل إدخال المياه النقية إلى كثيرمن  القرى وإدخال الكهرباء إلى المدن الصغيرة، وغير ذلك.

 ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الخطوات الإصلاحية قد ُعوِّضت جزئيًا بزيادة ملموسة، للضرائب غير المباشرة:

 

جدول (13)

قيمة الضرائب غير المباشرة[38]

 

% من الناتج المحلى الإجمالى

القيمة بالمليون جنيه

السنة

7.5

62.5

52-1953

8

98.1

57-1958

6.6

90.4

59-1960

7.9

148.3

63-1964

10.8

238.5

64-1965

14.1

418.5

69-1970

 

كما لاحظ مابرو أن 50% من حجم الإنفاق فى قطاع الخدمات قد وُجَِّه لإنشاء المبانى الحكومية والفنادق والخدمات الخاصة[39].

وتبرز الإحصائيات أن نصيب الأجور من الدخل القومى قد ارتفع خلال الستينات، ولكن إذا تذكرنا الزيادة الضخمة فى "أجور" كبار رجال الدولة لا تضح لنا مدى زيف تلك الإحصائيات، فباستثناء عمال الصناعة لم ترتفع أجور الفقراء .

 

7- الجيش:

كان إنشاء "جيش وطنى قوى" ضمن المبادئ الناصرية الستة الشهيرة.

ولم تقدم الناصرية أية أفكار حول إصلاح بنية الجيش نفسها. وترجع أهمية تحليل بنية الجيش الناصرى إلى كونه أهم معأقل نظام يوليو، والحصن الأهم للبيروقراطية الناصرية. ويمكننا اعتبار نوع ومدى التغيرات التى أُحدثت فى الجيش معيارًا لعمق التغيرات التى شهدها النظام السياسى بعد انقلاب يوليو 1952، فالجيش هو قلب الدولة .. خاصة إذا كانت دولة من العالم الثالث. كما تعكس طبيعة الجيش – إلى حد كبير جدًا – طبيعة السلطة السياسية، علاوة على مدى تطور طبيعة النظام الاجتماعية وطبيعة الطبقة المسيطرة.

كان التغير الأساسى الذى أدخل على الجيش هو طرد بعض أبناء الأرستقراطية العقارية من صفوف الضباط وتصعيد الضباط من أبناء الفئات الوسطى، الذين تشكل منهم تنظيم "الضباط الأحرار".  و مغزى هذا التغيير يتضمن استيلاء البيروقراطية العسكرية الصرف على الجيش من أيدى طبقة كبار ملاك الأراضى، أو – بمعنى أوضح – الضباط الذين يمثلون مصالحها أو يرتبطون بها [40].

أما البناء التنظيمى للمؤسسة العسكرية فلم يتغير كثيرًا، فظل عماد الجيش يتكون من ضباط وصف ضباط محترفين بينما لم يسمح بتجنيد سوى قليل من خريجى الجامعات. وبعد مظاهرات فبراير 1968 أنشأت الدولة جهاز "الأمن المركزى" المخصص تمامًا للقمع الداخلى  والمكون – بشكل متعمّد – من عناصر تحمل ثقافة بدائية .. كآلة صماء للقمع المطلق ، و هو جيش من المجندين  تابع لوزارة الداخلية.

ورغم أن النصوص الرسمية قد أقرَّت مشاركة "الجنود" فى السلطة، ظل  مجمل الجيش مُبعدًا عن السياسية  ولم تُشكَّل مثلاً فروع للتنظيم السياسى الجماهيرى داخل الجيش ولم يحصل العسكريون على حق الانتخاب .. ونرى فى هذا استمراراً  لعزل الجيش عن الشعب، كآلة حربية متميزة ، بالإضافة إلى الخوف من ظهور أفكار مستنيرة بين العسكريين.

أما العلاقات الوظيفية داخل الجيش فلم تتغير قط، فاستمرت نفس الطريقة القديمة فى إعداد ضابط ضيق الأفق، يستمع إلى الأوامر ، مهتم أكثر بالروح المظهرية الاستعراضية، عاجز عن تحمل المسئولية. كما اعتمد الجيش على الجنود الأميين أساسًا وحرص على عدم ضم خريجى الجامعات إلا فى أضيق نطاق، واستمرت العلاقة بين الجندى والضابط كما هى  . أما بعد  هزيمة  1967   بدأ السماح بدخول المتعلمين إلى الجيش بأعداد ملموسة، وذلك لمواجهة العدوان الاسرائيلى واحتلال سيناء ، و بعد تدجين الانتلجينسيا تمامًا تقريبًا.

ولم تعمل الناصرية  أبدًا على إعداد الجيش  لمواجهة اسرائيل بالأسلوب الأمثل. وقد استمرت التبعية للخارج فى الحصول على السلاح، فلم تول الدولة اهتمامًا حقيقيًا بتطوير صناعة الأسلحة (مثلما لم تعط الاهتمام الكافى لتحقيق ثورة صناعية)، وبدلاً من الاهتمام بإنتاج السلاح النووى للحفاظ على الأمن الاستراتيجى للبلاد، قامت الناصرية بالتوقيع على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، بينما لم توقع عليها اسرائيل ، بل حتى تم التخلص من الأسلحة البيولوجية بعد إنتاجها ، بدفنها فى جزيرة "شدوان" ، كما صُنِّعت صواريخ بدائية مداها لم يزد على 8 كم ( بينما ادعى عبد الناصر أنه بلغ 240 و أكثر !) .

وظل الجيش الناصرى يفتقد للمهارة. فباستثناء إدخال عدد من المتعلمين إلى سلك الضباط، أصبحت الكليات العسكرية تقبل أقل الطلاب تفوقًا فى البلاد، واستمر نظام الترقيات يعتمد على الأقدمية البحتة لا الكفاءة، هذا بخلاف الوساطة والمحسوبية وانتشار الشللية ... إلخ بالإضافة إلى ضعف مستوى التدريب  وصيانة الأسلحة، وتخلف طريقة استدعاء الاحتياط[41].

لقد ظل الجيش آلة منعزلة عن الشعب، متعالية، ضعيفة الكفاءة القتالية، فاسدة من الداخل، تتميز بقدرات استعراضية أساسًا. وقد استُخدم أكثر ما أستُخدم للزهو وإظهار قوة الناصرية أمام الجماهير العربية.

والحقيقة أن استمرار هذه الآلة محافظة  تمامًا – وحتى المعادية لتطوير نفسها كآلة حربية – هو أمر لـه دلالته: إذ ظلت آلة الدولة، الحربية مُشكلة بطريقة تناسب النظام المتخلف القائم، وتناسب ضيق أفقه وضعف مهاراته، علاوة على التأخر الثقافى  للنخبة الحاكمة ذاتها وتخلف أسلوبها فى إدارة البلاد وعمق فسادها وتمزقها إلى شلل وعصابات تتصارع بأساليب لا تراعى بالقدر الكافى حتى مصالحها العامة.

 

 

                                    *******************

 

 

نستنتج مما سبق فى هذا الفصل أن الإصلاح الناصرى كان محدودًا، ضيق الأفق، رجعيًا، فى جوهره وفى سياقه العام. إذ حرصت السلطة على تقديم النوع والقدر من الإصلاحات اللازمة "لتأميم" الصراع الاجتماعى، بامتصاص القوى الاجتماعية ذات الآفاق الراديكالية، وتوسيع قاعدة الملكية الصغيرة المحافظة، وترويض الفئات الوسطى المثقفة، مع الإبقاء على فئة الضباط مميزة، والاعتماد عليها كحصن للنظام.

ونحن نصدر هذا الحكم من خلال تحليل السياسة الإصلاحية للناصرية، التى تضمنت تقديم بعض المكاسب والرشاوى للطبقات الدنيا. ولكن مدى صحة أو خطأ هذا الحكم يتضح أكثر إذا حللنا الوجه الآخر للعملة، أى موقف الناصرية من الفئات الاجتماعية المسيطرة ؛ كبار الملاك ورجال الأعمال. فقد حققت الناصرية إصلاحاتها المحدودة والرجعية فى مجملها تحت شعارات اشتراكية، دعمتها بعدة إجراءات ضد كبار الملاك ورجال الأعمال، متممة بذلك وضع أساس قوى لدعايتها الثوروية. وسوف نحلل هذا الأمر فيما يلى:

 

ثانياً : الصدام مع كبار الملاك و رجال الأعمال :

 

          بخلاف الضربة التى تلقاها أصحاب الملكيات الزراعة الضخمة و الذين ُقدِّموا ككبش فداء للنظام ، لا مناص لمن يراقب بدقة تطور السياسة الاقتصادية للناصرية ابان الفترة التالية لحرب 1956 من أن يتوقع صدامًا ما بين الدولة ورأس المال الخاص الكبير. وكما سبق واستعرضنا فى الفصل السابق، سارت العلاقة بين الطرفين فى دائرة مغلقة من التباعد وقلة الثقة وسوء الظن. والملاحظ أن الهجوم الإعلامى على رجال الأعمال قد تصاعد بوضوح فى أواخر الخمسينات، وارتفعت أصوات عالية فى الصحف و الدوائر الرسمية والموالية للحكومة تتهم رجال الأعمال بالاستغلال والأنانية[42]. ومن الصعب جدًا ومن غير المبرر أن نفترض وجود موقف مبدئى من جانب الحكومة ضد رأس المال الخاص. فالرأى العام الشعبى كان فى غاية الاستياء من جراء تدهور مستوى المعيشة وتزايد الفروق الطبقية والفشل الاقتصادى  بالإضافة إلى جو القمع المتزايد الذى شهدته البلاد بعد قيام الوحدة مع سوريا. ومع ذلك لا يمكن أن نتوقع إلا رضا الحكومة عن تلك الحملة على رجال الأعمال، حيث أنها – أى الحملة المذكورة – كانت تلقى باللوم كله عليهم وتحملهم المسئولية وحدهم عن الفشل الاقتصادى وتدهور مستوى المعيشة، مما يتضمن – شكليًا على الأقل – تبرئة الحكومة. ولما كانت الأخيرة لا تستطيع أن تعتمد على القمع وحده، فقد كان عليها أن تقدم بعض الفتات للجماهير، بعد عمليات القمع الواسعة التالية لحرب 56 وقيام الوحدة وفشل السياسة الاقتصادية فى الخمسينات، وذلك درءًا لأخطار التذمر.

وقد بدأت سلسلة من التأميمات ابتداء من 1960، حين أُعلن عن تأميم " بنك مصر" و" شركة البواخر الخديوية" وشركة النقل الداخلى بالقاهرة. وكان رأس المال الخاص فى ذلك الوقت آخذًا فى الانكماش ، فتدهورت أسعار الأسهم وازدادت حركة تهريب النقد المحلى إلى الخارج، رغم تحسن العلاقات مع البلدان الرأسمالية واعتقال كثير من أعضاء الحزب الشيوعى. وكان هذا الموقف لرأس المال ناتجًا عن إجراءات الحكومة فى 1958-1960 .

ترتب على تأميم بنك مصر إصابة رجال الأعمال برعب شديد، وأصبح كل منهم  ينتظر أن تصيبه الضربة القادمة. وتبع ذلك تأميم الصحف لإحكام سيطرة الحكومة على الإعلام فى جو الحرب المتصاعدة بينها وبين رجال الأعمال. وقد أُممت  بذريعة "ممالأة الصحف للرأسمالية وتشويه الحقائق"[43]. وانهارت أسعار البورصة مرة أخرى بعد تأميم بنك مصر، مما دفع الحكومة للإعلان عن عدم نيتها فى إجراء تأميمات جديدة، دون جدوى. ولم يكد يمر عام آخر حتى قامت بموجه جديدة من التأميمات شملت عددًا كبيرًا من الشركات الكبيرة والمتوسطة، كما فرضت الحراسة على أملاك عدد كبير من رجال السياسة القدامى[44]. كذلك صودرت أراضى الأوقاف الخيرية عام 1962، وأراضى الأجانب عام 1964[45]. وقد امتد حركة التأميمات حتى عام 1964. كذلك أُغلقت البورصة وألغيت الوكالات الأجنبية للأفراد، وأصبحت الدولة تتحكم – رسميًا على الأقل – فى التجارة الخارجية[46].

فى الحقيقة لا يوجد سبب واحد بسيط ومباشر يفسر كافة قرارات التأميم وفرض الحراسة، التى ُأجريت فى أوائل الستينات. 

والحقيقة أن رأس المال الخاص فى مصر لم يحصل على أقصى ما يمكن أن تقدمه الدولة بوجه عام. وقد قدمت دول أخرى، مثل اليابان والبرازيل الكثير للقطاع الخاص. فمثلاً كانت الدولة اليابانية تقوم بإنشاء المشاريع وإدارتها، ثم تبيعها للقطاع الخاص بعد أن تحقق معدل ربح مجز. وكان هذا أقل من مطالب رجال الأعمال عندنا فى الخمسينات، وهو ضمان الربح لكل المشاريع تشجيعًا للاستثمار. ولكن الناصرية رفضت أن يشمل هذا الضمان كل المشاريع وقصرته على تلك التى تتبناها هى (وحتى هنا قامت بدور يساوى دور الدولة فى اليابان)، إلا أنها لم تقم ببيع حصصها للقطاع الخاص بعد أن تحقق المشروعات أرباحا مجزية  بل ُرفض هذا مباشرةً ( مثلاً رفض عبدالناصر بيع الشركات الممصرة عام 1957 للقطاع الخاص). وفى الحقيقة لم تكن الحكومة تملك من الموارد ما يمكَّنها من السير على الطريقة اليابانية، فكانت مضطرة إلى إجبار القطاع الخاص على مشاركتها، لأنه يملك الموارد الأساسية، وهى التى تبحث عن مخرج سريع من الأزمة الاقتصادية، وتريد رفع معدل نمو الصناعة. وكانت الدولة عاجزة عن تجميع مزيد من الموارد من الطبقات العاملة ، خصوصًا الفلاحين الصغار، تلك الطبقة التى تكون عادة مصدرًا للتراكم فى المراحل الأولى للنمو الصناعى. ومع ذلك اعتصرت الدولة الفلاحين بقدر إمكانها، كما فرضت ضرائباً غير مباشرة ضخمة، ولم يكن هذا كافيًا.

لذلك لجأت الحكومة إلى إشراك رأس المال الخاص معها، تارة بالوعد وتارة بالوعيد. ففرضت سيطرتها – جزئيًا – منذ البداية على بنك مصر وقامت بتعيين إدارته قبل تأميمه، كما لجأت  فى نهاية الخمسينات إلى تشديد الضغط على رجال الأعمال، فأجبرت الاتجاه التلقائى فى ذلك الوقت لرأس المال للاستثمار فى المساكن على التقهقر، كما أحكمت سيطرتها على النقد الأجنبى، وحدَّت من الاستثمار والتوسع فى الصناعات الاستهلاكية للسلع التقليدية. وقد أدى هذا كله إلى مزيد من تقوقع رأس المال الخاص، وحين قررت الحكومة القيام بتنفيذ خطتها الخمسية رأت أن ُتحكِم سيطرتها على أكبر مستودع للمدخرات المحلية؛ بنك مصر (40% من حجم النشاط المصرفى كله عام 1959[47])، خاصةً أنه كان يرفض الاستثمار فى إطار خطة الحكومة، ولم تُجْدِ معه المفاوضات التى تمت قبل الخطة، فكان مصرَّا على التوسع فى صناعة المنسوجات دون الصناعات الأثقل، كما اتهمته الحكومة ببيع أسهمه فى البورصة. وكان هذا هو مبرر تأميمه رسميًا، إذ كانت الحكومة مصرة على إنجاح خطتها التنموية الجديدة (60-1965)، وتجنب مزيد من الفشل ولو بالتضحية ببعض رجال الأعمال درءًا لصراع اجتماعى مرتقب أكثر خطورة. أما بخصوص شركة النقل الداخلى بالقاهرة فقد أُممت " لعدم قيامها بتقديم الخدمات للعاصمة بالكفاية اللازمة". بينما كان مبرر الحكومة لتأميم تجارة الشاى والأدوية هو قيام التجار برفع الأسعار. وفعلاً تم تخفيض أسعار هذه السلع بعد تأميم تجارتها. ثم أُممت شركة البواخر الخديوية "لأنها أوقفت عملياتها دون إذن رسمى من الحكومة"، وكانت هذه الشركة ترفض الخضوع لتشريع الأجور الذى سُن عام 1953[48]. هكذا نرى أن الدوافع المباشرة لقرارات التأميم كانت متعددة، ولم تعلن الحكومة بمناسبة ذلك أنها قد تبنت فكرة الثورة الاجتماعية، بل أعلنت فى كل مرة عن دوافع جزئية .

وجاء فشل السنة الأولى للخطة الخمسية ليستفز حكومة الضباط ضد رجال الأعمال بشدة، إذ بلغت الاستثمارات المنفذة أكثر قليلاً من 25% من الاستثمارات المقررة أصلاً، وبينما انتعشت الصناعات الخفيفة، تدهورت الصناعات التى تحتاج كثافة رأسمالية أكثر، مثل الصلب. كذلك لم يشتر رجال الأعمال سندات السد العالى وبذلك باتت الخطة مهددة بفشل محقق، وأصبح على الضباط اما أن يعيدوا النظر فى سياستهم واما أن يعودوا إلى الثكنات. وكان الحل الأمثل، والذى يتضمن استقرار السلطة واستقرار النظام أيضًا هو التضحية بعدد أكبر من رجال الأعمال، للحصول على مصادر تمويل داخلى كافية من جهة، ولتحميلهم مسئولية الفشل الاقتصادى من جهة أخرى. لذلك أصدرت قرارات التأميم فى يوليو 1961. وقد صُحِبَت هذه الموجة الجديدة بتقديم رشاوٍ كبيرة نسبيًا للجماهير، فتم ُبَعْيد إعلان " التحول الاشتراكى  إصدار قانون الإصلاح الزراعى الثانى و تم  تخفيض إيجارات المساكن بنسبة 35%، كما ُخفضت نسبة الفوائد التى  كان يدفعها الفلاحون مقابل تقسيط ثمن الأراضى الموزعة عليهم وفقًا لقانون الإصلاح الزراعى الأول ، وبالمقابل تم تخفيض الفوائد التى تدفعها الدولة لأصحاب الأراضى المؤممة. كما تقرر أن يُمنح العاملون بقطاع الدولة 25% من الأرباح المحققة سنويًا، وأن يشاركوا فى مجالس إدارات شركات الدولة بأربعة أفراد منتخبين، 2 يمثلان العمال، 2 يمثلان الموظفين، كذلك تم تحديد ساعات العمل بـ 42 ساعة أسبوعيًا.

والملاحظ أن الدولة قد قامت بتقديم كثير من الخدمات منذ عام 1960 للطبقات الأدنى بالقياس إلى فترة الخمسينات (سبق تحليل هذا التغير). ورغم أن سياستها الاقتصادية لم تكن قد حققت أفضل نتائجها، بل كانت سنوات 1960-1962 من أسوأ الأعوام بالنسبة لحركة الاقتصاد خلال الفترة من 52-1965 (فشل السنة الأولى للخطة، وكارثة محصول القطن فى 1961-1962). ورغم ذلك قامت الدولة بتعويض الفلاحين عن القطن المصاب، فى سياق السياسة الإصلاحية الجديدة.

لقد هدد تدهور مستوى المعيشة ابان الخمسينات، وتعمق الهوة الاجتماعية وتصاعد القمع  بانفجار ثورى فى المستقبل القريب، فما كان من الناصرية إلا أن قامت بحركة إصلاح واسعة نسبيًا.

وبعد الانفصال السورى جاءت موجة جديدة من التأميمات، فى سياق استكمال ضربة 1961، وقمعًا لأى طموح لرجال الأعمال المصريين فى تكرار ما تم فى سوريا.ويمكن أن نضيف عاملاً ثالثًا، هو رغبة الناصرية فى تأكيد صحة زعمها مسئولية رجال الأعمال فى سوريا عن فشل الوحدة، وبذلك بالتنكيل بنظرائهم فى مصر، كذلك وجدت الناصرية فرصة سانحة لمصادرة الشركات الكبرى فى ظل حدوث الانفصال السورى بدعم مباشر من رجال الأعمال فى سوريا وانهيار سمعة "الرأسماليين" بوجه عام بالتالى فى مصر (بجانب التأميمات، ثم فرض الحراسة على أموال 167 عائلة ثرية فى أكتوبر 1961[49] ).وقد تتابعت عمليات التأميم فيما بعد، شاملة مؤسسات لا يمكن أن تكون مصدرًا للخطر على السلطة أو للتمويل، منها مثلاً 400 عمارة سكنية فى يوليو 1963[50] ،  77 مخبزًا أممت فى 1962، 21 مخبزًا آخر عام 1963، 167 مطحنة، 76 مضربًا للأرز.. إلخ[51].

وقد كان لسهولة البداية أثر على امتداد عمليات التأميم بعد ذلك، والتى استفاد منها عديد من الضباط (المتقاعدين) وكبار الموظفين، فتكونت داخل النخبة الحاكمة اتجاهات تضغط من أجل مزيد من التأميمات. كما كان رفع الشعارات "الاشتراكية" قد اكسب النظام قواعدا شعبية عريضة شكَّلت مزيدًا من قوى الضغط الدافعة لمزيد من التأميمات. وكان من جراء هذا كله أن تحمست قواعد الناصرية لمزيد من "الاشتراكية"، كما تكوَّن رأى عام معاد لرجال الأعمال بشدة، مما دفع السلطة إلى التشدد أكثر فأكثر ضد رجال الأعمال[52]. كما أن التأميمات قد ضاعفت كثيرًا من شدة العداء  بين الناصرية ورجال الأعمال، مما أدى إلى زيادة عمليات التأميم وفرض الحراسة ذات الغرض العقابى، تأكيدًا لسطوة البيروقراطية، واستخدمت هذه العمليات المتتالية فى الدعاية كدليل على الطابع الاشتراكى للناصرية. كذلك كانت الشعارات الاشتراكية ضرورية لمواجهة اشتراكية البعث والشيوعيين فى المشرق العربى.  وهذا ما يفسر لنا لماذا كانت بعض الشعارات الناصرية وبعض إجراءاتها أيضًا غير مبررة تمامًا إذا قسنا حجم وقوة واحتمالات نمو الحركة الثورية فى مصر. ذلك أن الجماهير العربية فى المشرق كانت أكثر يسارية ، وكان من الممكن قيادتها، فقط بتبنى شعارات "البعث" والشيوعيين[53]. فلم تكن التأميمات ذات محتوى وغرض اقتصاديين فحسب. وقد رأينا كيف بلغت الأمور حد الصدام بين الناصرية ورجال الأعمال، أى عماد النظام الاجتماعى الذى تنتمى إليه فى التحليل الأخير، بسبب الوضع الذى أنجب الناصرية: التوازن السياسى. فلم يكن تأميم الشركات الكبرى عملية بالغة الحيوية للاقتصاد. والأمر يرجع فى النهاية إلى عنصر ناصرى خالص، فلا يمكننا تفسير صدامات أوائل الستينات بعامل واحد بسيط ومباشر، ولا يوجد تفسير مختصر ومبسط، إذ أن الأحداث قد سارت فى مسار معقد. وبأعرض المعانى يمكن وصف ذلك الصدام كتجل للتناقض بين المصالح الاقتصادية لطبقة حكمت عليها طبيعة نشأتها وظروف نموها بالشره ضيَّق الأفق والضعف، والمصالح السياسية لنفس الطبقة، التى كانت تتطلب للحفاظ عليها إحداث تغيرات فى البنية الاجتماعية، تتضمن أول ما تتضمن التضحية بكبش فداء من رجال الأعمال بين حين وآخر. وهذا التناقض العام كان هو السبب غير المباشر لصدام الناصرية ورجال الأعمال. إلا أن هذه النتيجة تفرز لنا حقيقة ثالثة وراء ذلك الصدام، فالناصرية لا تعمل لوجه الله .. بل لأجل مصالح البيروقراطية الحاكمة أولاً .. إذن تكمن تناقضات فى المصالح المباشرة  بين الطبقة المسيطرة وسلطتها السياسية وراء صدام أوائل الستينات، فى لحظة كانت فيها الدولة أقوى من المجتمع المدنى، والسياسة أقوى من الاقتصاد والنخبة الحاكمة أقوى – سياسيًا- من الطبقة المسيطرة، والنظام السياسى أقوى من قاعدته الاجتماعية ... وهذا العامل هو التفسير المباشر الواحدى للأحداث، والذى يتضمن بالقوة : العوامل العديدة المباشرة سابقة الذكر. ولم تكن اللحظة المذكورة صدفة بلا تفسير، بل نتاجًا لمسار الصراع الاجتماعى المعقد منذ 1945 على الصعيد المحلى، مع تأثير التوازنات على صعيد المنطقة العربية ككل.

لقد أرغمت الظروف طبقة محافظة ممثلة فى أداتها، تمثيل دور ثورة شعبية، وإن بإخراج مضحك. ولكن على أية حال كان هذا هو المحتوى العميق للصدام بين الناصرية ورجال الأعمال، والذى تحقق عبر توسط عناصر متباينة. فالناصرية، كنتاج لتفاعلات سياسية معينة، قد بلورت أوضاعًا استثنائية بالنسبة للطبقة المسيطرة، التى صارت مغتربة عن أداة دولتها، كما أدت مع التفاعلات السياسية التى جاءت تتويجًا لها فى تعثر نمو التخلف وفقًا للطريق التقليدى، مما دفعها دفعًا على التدخل بالشكل الذى تم .

وقد تفردت الناصرية بقيامها بإجراء عملية تغيير اجتماعى واضحة المعالم إلى حد كبير، بالنسبة لكافة الأنظمة الثوروية فى العالم الثالث، وحتى البونابرتية منها. فنظامًا بورقيبه والنميرى، على سبيل المثال، لم يجريا هذا الحجم من التأميمات والمصادرات ولا حتى هذا القدر من الإصلاحات الاجتماعية. فقد ظهرت الناصرية ابان تصاعد عام وسريع للحركة الثورية فى مصر، والتى كانت معادية للامبريالية والصهيونية، وذات ارتباط معنوى بالحركة القومية فى المشرق العربى والسودان، والتى كانت هى الأخرى فى حالة تصاعد سريع ومتطلعة إلى دور مصرى قيادى لتوحيد البلاد العربية، هذا بالإضافة إلى هوة اجتماعية عميقة فى مصر. ولم يُواجه أى نظام فى العالم المتخلف بمسئوليات على هذه الدرجة من الجسامة، فالنظام السورى على سبيل المثال قد واجه حركة قومية أقوى من مثيلتها فى مصر، ولكنها كانت حركة ضاغطة على حكومة مصر أكثر مما تضغط على حكومة سوريا، كما لم تكن الهوة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية فى سوريا بنفس حدتها فى مصر، بل شهدت كل من سوريا والعراق بعد الحرب العالمية الثانية انتعاشًا اقتصاديًا ملموسًا، فازداد إنتاج البترول فى العراق واستصلحت مساحات شاسعة من الأراضى فى سوريا[54]. كما نجحت الطبقة المسيطرة فى سوريا فى تحميل الناصرية مسئولية فشل محاولة الوحدة (أمام الجماهير السورية)، وبدت هناك كما لو كانت قد أدت واجبها !!

وقد شهدت بلدان متخلفة أخرى تحولات اجتماعية أهم، خاصة فى مجال الملكية الزراعية، فالإصلاح الزراعى فى كوريا الجنوبية وتايوان كان راديكاليًا (ثم جعل الحد الأقصى للملكية 2.5 فدان). إلا أن هذه البلدان لم تجر مثل هذه التحولات تحت شعارات ثوروية ولم تضطر إلى القيام بمغامرات سياسية وأيديولوجية، بل وحققت نموها  بدعم  من رأس المال الأجنبى الخاص و حماية أمريكية مطلقة وصلت إلى حد شن حرب مكلفة ( الحرب الكورية ). أما الناصرية فقد افتتحت عهد تأميم المؤسسات الأجنبية العملاقة بعد فشل مصدق فى ايران، وقامت بسن تشريعات عمالية هامة، وقامت بالتنكيل بكثير من أبناء الطبقة المسيطرة غير الموالين فى سياق إحكام سلطتها السياسية. كذلك رفعت شعارات اشتراكية وثوروية مكلفة، كما تورطت فى  مشروع للوحدة العربية وفى حرب اليمن، وكانت مضطرة طوال الفترة إلى مناهضة الاستعمار المباشر. وكل هذا يعكس الظروف الصعبة التى واجهتها، والتى لعبت دورًا كبيرًا فى تخويف الاستثمارات الأجنبية ورجال الأعمال المحليين.

وإذا كان من الواضح أن تأميمات 1961-1964 قد أصابت رجال الأعمال بكثير من الأذى فقد أدت إلى اضطراب أيديولوجى عميق فى معسكر اليسار الماركسى بينما لم تهتز أفكار الإسلاميين بل ظهر التيار الأكثر تشددًا على يدى "سيد قطب"  الذى قرر تكفير النظام الناصرى ككل.

والحقيقة ان الاضطراب الأيديولوجى الذى حدث وسط اليسار يشكل ظاهرة لا يمكن فصلها عن مسار النظام الناصرى خصوصًا أنه رفع الشعارات الاشتراكية متجاوزًا اشتراكية "الحزب الشيوعى" نفسه عمدًا إلى حد ما .. خاصة أن هذا الاضطراب قد قاد مع عوامل أقل أهمية إلى انحلال "الحزب الشيوعى" واستسلام أهم رجاله للناصرية.

 

 

ثالثاً : الاشتراكية الناصرية:

* مع إعلان قوانين يوليو 1961، تبنى النظام الناصرى الاشتراكية رسميًا.  أعلن الشعار فى البداية جمال عبدالناصر وبهذه المناسبة أعيد بناء التنظيم السياسى الرسمى تحت اسم الاتحاد الاشتراكى، ثم أُصدر "الميثاق الوطنى" عام 1962، واعترفت الحكومة بيوم أول مايو عيدًا للعمال يُحتفل به رسميًا، وهى أول مرة فى مصر تعترف فيها الدولة بعيد العمال كعيد رسمى. و مما تجدر ملاحظته أن "الاشتراكية " قد أعلنت بينما كان "الاشتراكيون" قيد الاعتقال و تحت التعذيب ، بينما ظلت كلمة الشيوعية مرتبطة فى الدعاية الرسمية بالكُفر والخيانة والعمالة، بل وظل مكتب مكافحة الشيوعية يعمل على قدم وساق، و لم يفت عبد الناصر حين ظهر فشل "تجربته" أن يشكو من أنه "يطبق الاشتراكية بدون اشتراكيين"! .

* لم يكن ضباط يوليو 1952 أول من ابتداع سياسة تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى فى مصر الحديثة على هذا المستوى، وليس من شك أن محمد على الكبير كان سباقًا فى هذا من الناحية الزمنية ومن الناحية الكمية أيضًا. ومنذ 1939 عادت الدولة لدس أنفها فى النشاط الاقتصادى بعد أن ُهزمت دولة محمد على بقرن كامل[55]. وفى الفترة من 1949 –1952 قامت الدولة بإعفاء معظم الواردات من الآلات والمواد الأولية اللازمة للصناعة من الضرائب الجمركية، بينما رفعت هذه الضرائب على المستوردات من السلع الاستهلاكية تامة الصنع[56]. كما تدخلت الدولة لتحديد مساحة الأرض المزروعة قطنًا، وتحديد إيجارات الأراضى الزراعية وأسعار بعض السلع. كما أُدخل نظام تراخيص الاستيراد فى أواخر الأربعينات. وفى 1935 وضعت الدولة "خطة خمسية" لإصلاح البنية الأساسية، ثم وضعت "خطة" جديدة عام 1947[57]. وقد أسهمت الدولة فى الفترة من 1945- 1952 بـ 20% من رؤوس الأموال الثابتة المجمعة محليًا[58]. (ورغم هذا كله ظل "المنطق الزراعى" تجاه الصناعة سائدًا) .

 

* هكذا كان هناك ميل من جانب الدولة للتدخل المتزايد. ولكن الأمر الجديد بعد انقلاب يوليو كان هو تعديل هيكل الملكية بتأميمات    1952-1953  ، 1960-1964 .

وإذا كان ما جرى فى 1960- 1964 بالذات قد أصاب عددًا كبيرًا من رجال الأعمال، فإن هذا  لم يكن يعنى نهاية رأس المال الخاص الكبير. ففى الحقيقة، استمرت قطاعات كبيرة من رأس المال فى النمو والازدهار، شملت كثيرًا من شركات المقاولات، وتجارة الجملة، وتجارة التصدير، وقطاع النقل البرى بالكامل – عدا السكك الحديدية.

كما لم تتم أبدًا تصفية كبار ملاك الأراضى كطبقة، فظلت هذه تتمتع بنفوذ قوى فى الريف (والمدينة أيضًا) مدعومة بملكيتها لنسبة محترمة من الأراضى الزراعية، واستمر وجهاء القوم من السماسرة ومهربى البضائع المستوردة يعملون على نطاق واسع.

وبالنسبة لطبقة كبار ملاك الأراضى: ارتفع عدد ملاك 20-50 فدانًا من 22 ألفًا عام 1952 إلى 29 ألفا عام 1965، على حساب الشريحة الأعلى التى ُأممت أراضيها، كما زادت مساحة الأراضى التى بحوزتهم من 654 ألف فدانًا إلى 815 ألفا. أما ملاك 20-200 فدانا فازداد عددهم من 31 ألفا عام 1952 إلى 39 ألفا عام 1965، ومساحة الأرض التى بحوزتهم من 1.521 مليون فدانًا إلى 1.628 مليونًا[59] . وهذه الأرقام الرسمية لا تدخل فى اعتبارها الأراضى التى تُكتب بأسماء وهمية أو باسماء الأبناء والأقارب[60]. وبالإضافة إلى هذا الانتعاش تمتع كبار الملاك بتسهيلات خاصة من الحكومة، منها مثلاً تدفق القروض من خزائن الدولة:

 

 

جدول (14)

القروض المقدمة للمزارعين[61]

(مليون جنيه)

قيمة القرض

السنة

قيمة القرض

السنة

37

1960

16

1952

65

64-1965

18

1954

86

66-1967

18

1956

81

69-1970

25

1958

 

وقد ذهب نحو 80% من هذه القروض إلى كبار الملاك، ولم تُرَد إلى الدولة[62]. كما صدر قانون فى عام 1961 (عام إعلان الاشتراكية !!) بإعفاء هذه القروض من الفوائد[63]. وقد أعاد كبار الملاك تسليف الفلاحين بعض هذه القروض بفوائد أعلى، كما استثمروا بعضها فى مشاريع خاصة فى المدينة.

كذلك نصت القوانين على منح ملاك 15 فدانًا فأكثر حق شراء البذور الممتازة من الدولة، ومنح مالك 5 رءوس من الماشية فأكثر حق التأمين عليها وحق الحصول على العلف المدعَّم[64]، أما فقراء الفلاحين، فقد حُرموا من هذه الامتيازات. يضاف إلى هذا أن أغلب الأسمدة المدعمة كانت تُقدم لكبار الملاك (بلغ الدعم السنوى لها 80 مليون جنيها فى أوائل السبعينات[65]). ولم يتوان كبار الملاك عن إعادة بيع العلف والبذور المنتقاة للفلاحين فى السوق السوداء.

هذا ولم تفرض الدولة ضرائباً على تجار الماشية، و لا على أرباح الإنتاج الزراعى، واكتفت بفرض ضريبة على الأرض (الثابتة المساحة تقريبًا)، بحيث انخفضت ضريبة العقارات والمبانى ككل بالنسبة لجملة الضرائب والرسوم إلى 5.5% بعد الخطة الخمسة بعد أن كانت 9.5% عام 1952[66] . ويضاف إلى ذلك أن نظام التسليم الإجبارى للمحاصيل الزراعية الغذائية قد جاء أيضًا فى صالح كبار الملاك وعلى حساب صغارهم، حيث تُسدد حصة ثابتة من إنتاج الفدان فى منطقة ما مهما كانت مساحة ملكية الأرض[67]، ولذلك لم يكن يتبقى للفلاح الصغير ما يكفيه من المواد الغذائية الأساسية، خاصة الحبوب، بينما كان يتبقى للمزارع الكبير نفس النسبة من الإنتاج ولكن كمية أكبر بكثير، مما أتاح له بيع الحبوب فى السوق السوداء (فى الريف بالذات) بأسعار مرتفعة. هكذا حفزت سياسة الدولة الناصرية تكون سوق سوداء واسعة للغذاء. كما استطاع كبار الملاك التأثير على الدورة الزراعية بحيث لا تمس أجزاءً كبيرة من أراضيهم، وبذلك تحمل الفلاحون الفقراء أعباء زراعة محاصيل غير مربحة لهم (مثل القطن بعد تدهور أسعاره العالمية وبعد اتباع سياسة التسليم الإجبارى). ومن الثابت أن كبار الملاك ظلوا متمتعين بنفوذ قوى داخل أجهزة الدولة، بل وكانوا يسيطرون بشكل مباشر على هذه الأجهزة فى الريف وينسجون علاقات وثيقة مع الموظفين.

ورغم قيام الناصرية بتقديم مجموعات متوالية من رجال الأعمال وكبار الملاك إلى مذبح التضحية من أجل النظام ككل، لم ينل كبار ملاك الأراضى – باستثناء العائلات الأرستقراطية – ما نال رجال الصناعة، بل كان العهد الناصرى عهدًا ذهبيًا لملاك 20-100 فدانًا، فتلك كانت الفترة التى حققوا خلالها تراكمات هائلة، مكنتهم بعد ذلك من الانطلاق بعيدًا فى عصر الانفتاح. وقد ذكرنا فى موضع آخر أن الناصرية قد اعتمدت بشكل رئيسى فى الريف على طبقة صغار الملاك لحفظ الاستقرار السياسى. وقد تم الحفاظ على كبار ملاك الأراضى للهدف نفسه  ، فهذه الطبقة تلعب فى القرية دورًا هامًا وتربط بين أفرادها وبين الفلاحين علاقات قوية، فهم يقيمون بالريف (عكس الأرستقراطية الزراعية التى صُفيت)، كما أنهم يقدمون مصدرًا هامًا لدخل عدد كبير من الفئات الهامشية فى الريف، عمال التراحيل، عمال اليومية، خدم، عاطلين، مشردين، معاقين ..إلخ, كما يلعبون دورًا اجتماعيًا هامًا فى الحفاظ على تقاليد رجعية  وفى امتصاص أية بادرة لتثوير الريف ثقافيًا. ولذلك يُعدون "أداة" هامة للسيطرة على القرية. فالبيروقراطية الناصرية لم تكن لتستطيع أن تحكم الريف بدون علاقات قوية مع كبار الملاك الرجعيين والمتفاهمين مع السلطات. أما تصفية هذه الطبقة فكان يفتح الطريق أمام قيام الفلاحين بدور كبير فى أجهزة القرية، أو على الأقل تمثيل أنفسهم أمام السلطات، هذا علاوة على وجود إمكانية عالية  فى ظل هذا الوضع لتذمر الطبقات الفقيرة . وفى هذه الحالة كان من المؤكد أن تتكون حركة فلاحية لا تسهل السيطرة عليها، ويفتح الباب واسعًا لمواجهات دموية غير مضمونة للناصرية. كما أن إزالة هذه الطبقة كان كفيلاً بإطلاق المزيد من البطالة، إذ أن الريف يأوى عددًا هائلاً من أشباه العاطلين الذين يقومون بمختلف الأعمال الهامشية فى كنف كبار ملاك الأراضى. ويضيف روبرت مابرو[68] أن تطبيق إصلاح زراعى جذرى ونزع الملكيات فى المدن على نطاق واسع كان أمرًا كفيلاً بتجريد رجال النظام وأقاربهم من أملاكهم: الضباط والتكنوقراطيين وموظفى الحكومة وملاك الأراضى. وإذا كان إصلاح 1952 قد أدى إلى تدهور واضح فى دخول عمال الزراعة وعمال التراحيل، فما بالنا بإصلاح زراعى جذرى يقضى على الملكية الكبيرة تمامًا، إنه يهدد بانفجار موجة ثورية واسعة بالريف، خاصة أن الناصرية لم تضع من الخطط ما كان يمكن أن يمكنها من امتصاص هذه النتيجة. هكذا لعبت الملكية العقارية الكبيرة دور أداة القمع غير المباشرة؛ همزة الوصل بين الناصرية والملكية العقارية الصغيرة، فضمنت الدولة عن طريقها استمرار الطابع المحافظ للريف وللهيئات القروية، وحتى نقابات عمال الزراعة . كذلك شكلت الملكية العقارية الكبيرة عمومًا احتياطيًا اجتماعيًا هامًا للسلطة لدى تفجر التناقضات الاجتماعية، فتم استخدامها ككبش فداء عدة مرات (1952 – 1958[69]، 61، 64، 1969) واستخدم بُعبع الإقطاع فى الدعاية قبل وبعد كل حركة إصلاح زراعى لإلقاء المسئولية على قوى رسخ فى الوعى الشعبى أنها سابقة على انقلاب يوليو وليست ناتجة عن سياسته بالذات. ومن الأمور ذات الدلالة أنه بعد اغتيال "صلاح حسين"[70] فى كمشيس عام 1966 قامت السلطات تحت ضغط قواعد النظام والانتلجينسيا بتشكيل ما أسمته "بلجنة تصفية الإقطاع" من ضباط الجيش رافضة تسليم مقاليد هذا الأمرحتى  لتنظيمها السياسى نفسه!

ورغم هذا كله لم يسلم كبار ملاك الأراضى من أيدى الناصرية الطويلة، فجرى على سبيل المثال التمثيل بعائلة الفقى عام 1966 وبعض بقايا الأسر الأرستقراطية العقارية الأخرى، ومن حين لآخر كانت تجرى ممارسة بعض القمع البوليسى ضد من كان منهم منتميًا إلى كبار رجال السياسة قبل يوليو 1952 وقد حد هذا كله بالطبع من الوئام بين الناصريين وملاك الأراضى، فقد كانت الدولة بوجه عام تقوم بشرائهم فى السر وبيعهم فى العلن، لأنها لم تكن تريد صدامًا معهم مثل صدامها مع رجال الأعمال، فبالإضافة إلى دورهم الإيجابى للسلطة الناصرية كما أوضحنا منذ قليل، كانت محاولة تصفية حقيقية لهذه الطبقة كفيلة بإثارتها بشدة، وهى طبقة قوية للغاية ومسلحة أيضًا فى معظم أنحاء البلاد، وهى تستطيع – علاوة على ذلك – أن تحرك أعدادًا غفيرة من سكان الريف ضد السلطة (وهذه ميزة لم تتوفر للأرستقراطية التى صُفيت بسهولة)، خاصة أن كبار الملاك فى مصر الناصرية كانوا يشكلون قيادات "طبيعية" تتمتع بنفوذ معنوى كبير فى الريف (ولا يجب أن ننس أن الحركة الثورية فى 1945-1952 لم تكن قوية  فى الريف). وعلاوة على ذلك، كانت هذه الطبقة تتمتع بنفوذ ضخم داخل أجهزة الدولة المركزية، صحيح لا ينافس سلطة النخبة البيروقراطية، ولكن كان القضاء عليها يتطلب إحداث تغييرات كبيرة فى جهاز الدولة… أى أن صدامًا مروعًا كان لابد أن يحدث. لهذا كله حافظت الناصرية على طبقة كبار ملاك الأراضى.

أما فى المدن، فقد تمتع التجار والسماسرة بحماية أجهزة الدولة . فلم تتعرض التجارة للتأميم – باستثناء تجارتى القطن والأخشاب أساسًا – وحين صدر قرار بتأميم تجارة الجملة لم تنفذه الأجهزة رغم صدوره من رئيس الدولة. فقد كان لتجار الجملة نفوذ هائل داخل الأجهزة الناصرية، ويكفى أن كثيرًا من رجال الدولة أنفسهم كانوا يمارسون التجارة وأعمال السمسرة. وقد بلغت أرباح تجار الجملة بالقاهرة وحدها عام 1964-1965 24 مليون جنيها، وبلغت دورتهم التجارية 120 مليون جنيها سنويًا، وكان عددهم 219 تاجرًا فقط[71]، يتصرفون فى 600 مليون جنيه[72]. كما أن قطاع المقاولات ظل هو الآخر بالغ القوة. ورغم تأميم معظم الشركات الكبيرة ظلت معظم المقاولات تتم من الباطن لصالح القطاع الخاص الكبير وعن طريق الشركات المؤممة نفسها. فعلى سبيل المثال نفذ مقاولو الباطن معظم إنشاءات خطة 60-1965 الباهظة التكاليف (40-50% من جملة استثمارات الخطة[73]). وبخصوص أكبر شركة مقاولات فى مصر (المقاولون العرب) فقد ظلت فروعها بالخارج ملكًا لعائلة عثمان بينما أُمم فرعها المحلى فقط، مما مكن العائلة المذكورة من الاستفادة من قرار التأميم إلى أقصى حد، فبينما احتكر الفرع المحلى معظم مقاولات الدولة وباعها من الباطن، استفادت الفروع الخارجية من التبادل مع الفرع المحلى. وقد صدر قرار عام 1969 بتأميم قطاع المقاولات ولكنه لم ينفذ أيضًا، حيث أن مقاولى الباطن غير مسجلين فى نقابة خاصة ولا يمكن رصد رؤوس أموالهم.

كذلك سيطر القطاع الخاص على 92% من عمليات النقل البرى. وقد ظل الاعتماد على هذه الوسيلة فى النقل بحيث قُدر أن الدولة كانت تخسر عشرات الملايين من الجنيهات سنويًا بسبب تفضيل النقل بالسيارات على النقل بالسكك الحديدية.

أما رأس المال الصناعى فقد أمم معظمه، بل صودر عمليًا. ومع ذلك ظلت هناك شركات خاصة كبيرة، خاصة فى مجال الصناعات الغذائية والمنسوجات:

 

جدول (15)

مقارنة بين حجم القطاع الخاص وقطاع الدولة

فى صناعة المنسوجات للمشاريع الكبيرة (50 عاملاً بأكثر) عام 65-1966[74]

الأجور السنوية

مليون جنيه

الإنتاج

مليون جنيه

عدد العاملين بالألف

القطاع

83.550

250.693

437.437

ق. الدولة

7.906

15.219

42.198

ق. الخاص

 

كذلك ظل عدد كبير من الورش والمصانع الصغيرة مملوكًا لكبار رجال الأعمال. فمن الظواهر الشائعة فى مصر أن يملك رجل أعمال واحد عديد من المشاريع الصغيرة.

وقد تمتع رجال الأعمال فى مصر الناصرية بنظام ضريبى شديد التهاون، فظل إعفاء زراعة الحدائق وتجارة الماشية من الضرائب كما أسلفنا، وكذلك المدارس الخاصة، وجراجات السيارات … الخ . ولم تزد ضرائب الأعمال سنويًا على 2 مليون جنيهًا (رغم نصوص قانون الضرائب التصاعدية)، بينما تحملت الطبقات العاملة  معظم الضرائب المباشرة (بلغت ضرائب دخول الأفراد عام 1970 : 325 مليون جنيها، وبلغت ضريبة التمغة 30 مليونًا)، هذا بالإضافة للضرائب غير المباشرة. كما تحملت شركات الدولة معظم ضريبة الإيراد.

وقد اتسع نشاط القطاع الخاص بشدة بعد حركة التأميمات فى مجالات الوساطة والتهريب وكافة الأنشطة غير المنتجة كما سنرى.

* القطاع الخاص و قطاع الدولة :

بالإضافة إلى ما ُقدم من دعم شبه مباشر للقطاع الخاص الكبير من قِبل الدولة الناصرية، وخصوصًا كبار ملاك الأراضى،   استنزف رجال الدولة و رجال الأعمال وكبار الملاك أموال الدولة و"القطاع العام" بشكل لم يسبق له مثيل. وكان للتجار والسماسرة  وكبار ملاك الأراضى والمقاولين ، سواء من داخل أو خارج النخبة  نصيب الأسد من المكاسب. فكما أشرنا من قبل، أُسندت لمقاولى الباطن أعمال قيمتها 720 مليون جنيها خلال خطة 1960-1965 (بمتوسط 144 مليونًا سنويًا). وقد حققوا أرباحا فاحشة يعود جزء كبير منها إلى المبالغة فى أسعار التكلفة. ويضيف على صبرى أنه فى العام الثالث للخطة الخمسية زادت تكلفة الإنشاءات عن السنة الأولى بـ 25%، ذهب معظمها لمقاولى الباطن[75]. وقد تكرر نفس المشهد طوال العهد الناصرى، بحيث حقق المقاولون أرباحا ضخمة. وبالإضافة إلى هذه الوسائل، كان يتم الاستيلاء على أموال الدولة المخصصة لدعم السلع، فالدعم لم يوجَّه فقط لسلع استهلاكية ضرورية، بل وُجه أيضًا لسلع تعد ترفيهية بالمقاييس السائدة فى مصر خلال تلك الفترة، منها الدقيق الفاخر (صناعة الحلويات) وغيره. هذا بالإضافة إلى الاختلاسات المباشرة من قِبل كبار رجال الدولة والتى ُحولت عن طريقها ملايين الجنيهات إلى النشاط الخاص. وبهذه الطرق، مع استغلال النفوذ بكافة الأساليب، تحول عدد كبير من البيروقراطيين إلى رجال أعمال، وبهذا أحكم رجال الأعمال  قبضتهم على أجهزة الدولة تدريجيًا، ومن داخل هذه الأجهزة نفسها.

وقد تعامل القطاع الخاص مع قطاع الدولة باعتباره بقرته الحلوب. على سبيل المثال قام التجار بالوساطة فى تبادل منتجات قطاع الدولة، فزاد حجم عمليات إعادة البيع لمنتجاته لشركات أخرى للدولة 200 مليون جنيه فى أواسط الستينات[76]، هذا بخلاف عمولات السماسرة والوسطاء بين نفس الشركات وبينها وبين شركات القطاع الخاص.

وقد حددت الدولة أسعار السلع المنتجة فى شركاتها، ولكن لم تحدد أسعار كل المواد الخام المشتراة من القطاع الخاص، ما عدا بعضها، مثل القطن، مما ساهم فى انخفاض معدل الربح الذى يحققه قطاع الدولة. كما كان معظم الإنتاج يوزع بواسطة التجار، فيتسرب جزء كبير من الإنتاج المدعم إلى السوق السوداء، خاصة بالنسبة للملبوسات والمواد الغذائية (على سبيل المثال تصرف القطاع الخاص فى 93% من تجارة المنسوجات[77]).

ومن خلال التعاقدات بين قطاع الدولة الصناعى والقطاع الخاص، تم – بواسطة الرشوة- استخدام منتجات وسيطة رديئة المواصفات من إنتاج القطاع الخاص فى مصانع الدولة.

كما انتشرت لعبة أخرى، هى بيع منتجات قطاع الدولة ناقصة الصنع للقطاع الخاص، بأسعار مرتفعة، ليتم استكمال تصنعها وبيعها فى السوق السوداء، لأنها فى هذه الحالة لا تدرج ضمن حصص إنتاج القطاع الخاص. ولدينا مثال ثارت بشأنه ضجة فى البرلمان وتشكلت لجنة عام 1969 بشأنه، وهو حديد التسليح. وقد اكتشفت هذه اللجنة فضائح كثيرة بهذا الشأن، منها على سبيل المثال حالات تم فيها التعاقد بين شركة الدولة وعدد محدود من تجار القطاع الخاص (أشخاص بعينهم) مع تسجيل عدد 16 وسيطًا وهميًا، للتحايل على القانون الذى يمنع شركات الدولة من التعامل مع تاجر بعينه[78]. كذلك كان تجار الخردة يحصلون على كثير من منتجات قطاع الدولة كخردة، ليتم بيعها فيما بعد كسلع تامة الصنع[79]. ومن الأساليب الأخرى لاستغلال قطاع الدولة، استخدام العمالة المدربة فى المصانع الخاصة بمديرى بعض الشركات، بأجور منخفضة مقابل منحهم اجازات طويلة من شركة الدولة. كذلك كان بعض الإداريين يقوم باستخدام مصانع الدولة فى بعض العمليات الوسيطة لصناعاتهم الخاصة، وكان هذا أكثر وضوحًا فى شركات المقاولات، حيث استُخدمت معدات شركات الدولة فى الأعمال الخاصة لمقاولى القطاع الخاص.

ولم تسلم البنوك من استغلال رجال الأعمال. فباستنادهم إلى علاقاتهم بكبار الموظفين، أو لكونهم كبار موظفين، قام المقاولون ممن يمتلكون أراض بناء خاصة بالاقتراض من البنوك بالضمان الشخصى أو بضمان الأرض، مستخدمين هذه القروض فى تمويل عمليات الإنشاءات التى يقوم بها القطاع الخاص.

وفى مجال التجارة الخارجية، قصرت الدولة حق الاستيراد رسميًا على نفسها (أو أن يتم من خلالها) . ولكن لم يتحقق هذا فى الواقع، فقام رجال الأعمال، من خلال مديرى شركات الدولة بعقد صفقات خاصة فى الخارج، كما استمرت مكاتب التصدير والاستيراد الخاصة فى العمل رغم الحظر القانونى [80]، كما استمر الأفراد يقومون بأعمال الوكالة للشركات الأجنبية من باطن شركات الدولة التجارية [81]. ومن أشكال استيراد السلع المحظور استيرادها التهريب بوسائل مختلفة. وقد بلغت كمية الملابس المهربة عن طريق قطاع غزة فقط 140 طنًا فى الصيف، 400 طنًا فى الشتاء[82]. وضمن المخالفات التى اكتشفتها اللجنة البرلمانية سابقة الذكر عام 1969 ما تعلق بالتجارة الخارجية. إذ اكتشفت حالات تم فيها الاستيراد بواسطة قطاع الدولة بأسعار أعلى بكثير من أسعار السوق العالمى، مقابل عمولات بلغت فى بعض الحالات 40% من قيمة الصفقة نفسها. وكانت العمولات فى أغلب الحالات تودع فى البنوك الأجنبية فى الخارج[83].

أما بنك القرية والجمعيات التعاونية الزراعية فقد تعرضا لاستغلال كبار ملاك الأراضى. وذلك بالتعاون مع الموظفين. وقد كشفت الصحف الرسمية كثيرًا من وقائع النهب فى الريف، واستغلال الفلاحين، وتهريب الأرض من حصر لجان الإصلاح الزراعى …الخ. وكان التفاوت الاجتماعى فى الريف صارخًا لدرجة أثارت قواعد النظام الناصرى وحتى العناصر الأبعد نظرًا من النخبة الحاكمة والجهاز السياسى، والتى رأت أن طبقة الفلاحين قد تضطر إلى التحرك ما لم تتحرك الدولة، والتى تحركت على طريقتها بعد اغتيال صلاح حسين.

وفى الحقيقة ان الضربات التى وجهتها الناصرية لرجال الأعمال لامتصاص الآثار السياسية للتناقضات الاجتماعية لم تمنع استمرار القطاع الخاص فى النمو، ولكن باتجاه متزايد نحو الأنشطة غير المنتجة للفائض. إذ وجهت الأخيرة ضرباتها إلى رجال الأعمال وملاك الأراضى فى سياق عملية متكاملة لامتصاص الصراع الاجتماعى، لأغراض سياسية طويلة المدى ولأغراض اقتصادية قصيرة المدى، ولذلك جاءت تلك الضربات محدودة بمحدودية الغرض منها، فظلت محصورة داخل إطار الإصلاح، الذى لا يكون عادة فى مثل هذه الحالة متسقًا مع نفسه أو مع وضع المجتمع بوجه عام، ولذلك لا يدشن عملية تنموية على صعيد المجتمع . لهذا كله لم تكن ضربات الناصرية لرجال الأعمال كاملة ولا متسقة مع الشعارات الرسمية التى رفعت بهذه المناسبات.

فبالنسبة لقطاع الصناعة مثلاً، لا يسع المرء إلا أن يتذكر تعبير "كوهاشيرو تاكاهاشى"[84]، الذى وصف المصانع الضخمة السابقة على الثورة الصناعية فى انجلترا بأنها "عقدة" فى رأس المال التجارى. ففى تلك الفترة كان رأس المال التجارى يسيطر على رأس المال الصناعى، أما فى المجتمع الرأسمالى فالعكس صحيح، حيث يسيطر رأس المال الصناعى على رأس المال التجارى،  وكان انتصار رأس المال الصناعى هو الانتصار النهائى للرأسمالية. أما فى مصر المتخلفة، فقد كان الطابع التجارى للصناعة بيَّنا منذ ما قبل الانقلاب، إذا لم يعمل رجال الصناعة على تطوير صناعاتهم تكنولوجيا على نحو فعّال، بل ظلت راكدة فى ظل حماية جمركية مرتفعة وتحقق أرباحا عالية لا يُعاد استثمار معظمها فى إعادة الإنتاج، بل توجَّه أساسًا إلى مجال التداول. ومع التأميم، تعمقت هذه الظاهرة، إذ أصبح القطاع المؤمم بمثابة البقرة الحلوب لرجال الأعمال الوسطاء فى معظمهم ، الذين اندمجوا بالتدريج مع كبار رجال الدولة. وبذلك أزيلت تلك الغشاوة الرقيقة التى كانت تفصل الصناعة عن رأس المال التجارى وتوحى بوجود كتلة متميزة من الرأسمالية الصناعية بحق. إذ أصبح كبار رجال الدولة ورجال الأعمال لصوصًا مباشرين لشركات الدولة، وبات قطاع الصناعة، الذى كان يعتمد قبل تأميمه على نفسه فى التمويل، معتمدًا على الدولة وبنوكها ماليًا، وتزايدت ديونه سنة بعد أخرى، خصوصًا بعد فشل خطة 1960 – 1965.

وإذا كان قد تم تأميم قطاع الصناعة الكبيرة، فان هذا يذكرنا مع كل ما سبق "بالمشاغل الملكية" [85]، التى أنشأها التجار فى انجلترا قبل الثورة الصناعية متحالفين مع الدولة. ونعتقد أن قطاع الدولة فى مصر الناصرية قد تضمن نفس المحتوى تقريبًا، إلا أن الإنتاج هنا كان يتم بجدية أقل ، فالتجار والسماسرة هنا لم يمتلكوا أسهم قطاع الدولة بشكل رسمى وفردى، ولذلك لم يكن لهم دور فى الإشراف على إنتاج الفائض فيه، وتركوا للدولة – أو بالأحرى أخذت الدولة لنفسها – هذا الدور. ولكن المواقع البيروقراطية كانت تتحول إلى المعقل الأساسى لرجال الأعمال الجدد ذوى الأصل البيروقراطى، ولذلك بالضبط لم تستطع هذه البيروقراطية أن تصون تلك البقرة الحلوب طويلاً.

ورغم الضربات المتتالية لرجال الأعمال، لا يمكن القول بأن "الرأسمالية الكبيرة" قد صُفيت. ومن استعرضنا السابق يتضح أن القطاع الخاص الكبير قد ظل قويًا، وقد بلغت حصة القطاع الخاص فى مختلف مجالات النشاط الاقتصادى النسب التالية من الإنتاج عام 1966:

- إنتاج زراعى                 92%

أكثر من 25%  من الأراضى الزراعية

- صناعة تحويلية                40%

- صناعة استخراجية           12 %

- طاقة                             ــــ   

- تجارة داخلية                            86 %

- بنوك وتأمين                    ــــ

- مواصلات                     48  %

- صحة                                  25  %

- خدمات شخصية              78  %.

- مجمل تجارة الجملة تقريبًا

- 25  % من عمليات التصدير.

- نسبة كبيرة من النقل البرى ( سيطر القطاع الخاص ككل على 92 % من هذا القطاع عدا السكك الحديدية).

هذا بخلاف مقاولات الباطن وتجارة الخردة وأعمال السمسرة وزراعة الحدائق وتربية الماشية وتجارتها، واستمرار وجود مكاتب الاستيراد .. وغيرها وقد ظل القطاع الخاص الكبير يلعب دورًا فعالاً فى توزيع الفائض وإنتاجه. وقد دفعت الدولة القطاع الخاص دفعًا نحو الأنشطة غير المنتجة، نتيجة لسياساتها الإصلاحية. وقد بلغ نصيب القطاع الخاص عمومًا من الدخل القومى 65% ومن موارد الإنتاج 60% عام 1962-1963[86].

وطوال الخمسينات كانت سطوة رأس المال الكبير بلا غبار، ولم يثر الجدل حول مدى وجوده إلا إجراءات يوليو 1961 وما بعدها حتى 1964، أى 3-4 سنوات عانى فيها رجال الصناعة بالذات [87] من تدخل الدولة وتأميمها للشركات. إلا أن رأس المال الخاص لم يصَّف، بل وبدأ الحديث بسرعة عن "الطبقة الجديدة". وكان اضطرار الحكومة إلى إجراء إصلاح زراعى جديد فى 1969 نتيجة لنمو نفوذ القطاع الخاص وبداية تذمر الفلاحين من جديد. وكانت تسهيلات الدولة لرجال الأعمال فى 1965-1967، ثم بعد الهزيمة تعد – جزئيًا-  استجابة لضغط رأس المال الخاص مباشرة، بل ومن خلال نفوذه القوى فى جهاز الدولة نفسه.

ويمكننا إيجاز هذه المسألة كالآتى:

1-  لم يتمخض ضرب رجال الأعمال وكبار الملاك عن تصفية الطبقة المسيطرة، بل وجُهت ضربات لبعض أجنحتها وأفرادها، فى سياق دفع نمو التخلف بدون رأس المال الأجنبى الخاص، وفى ظل اغتراب الطبقة المسيطرة عن جهاز دولتها.

2-  إن قطاعًا معينًا قد تلقى الجانب الأكبر من الضربة: رجال الصناعة ، أما التجارة والمقاولات الخاصتين فقد حققا - ككل - نموًا هائلاً.

3-  إن القطاع الخاص قد امتص هذه الضربة بسرعة، وراح يستعيد قوته بعد سنوات قليلة، ومنذ نهاية عمليات التأميم لدرجة أن الناصرية لم تستطع أن تقوم بعمليات تأميم جديدة، باستثناء الإصلاح الزراعى فى 1969.

4-  كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف جذريًا لو أن رأس المال التجارى والملكية العقارية الكبيرة والمقاولات والنقل قد أممت .. ولكن هذا الإجراء لم يكن ممكنا فى ظل التوازنات السياسية فى الفترة الناصرية، (أو بفضل الحالة البونابرتية نفسها) لأنه يدشن تصفية النظام الاجتماعى ككل).

5-  ظل القطاع المؤمم يعمل بنفس الآليات القديمة، إلا أن تغيرًا هامًا قد حدث، وهو أنه قد أصبح مصدرًا هامًا مباشرًا للفائض بالنسبة للتجار والسماسرة والبيروقراطيين … الخ، أى للأجنحة غير المنتجة للطبقة المسيطرة، مما وضع أساسًا قويًا لتوجه طفيلى للاقتصاد  غير مسبوق فى مصر الحديثة؛ فقد قضت الناصرية على كتلة رجال الأعمال الصناعيين،  مفسحة الطريق أمام الأجنحة الأشد طفيلية، دون أن تقدم بديلاً أكثر تطورًا. ورغم أنها حققت- بصعوبة شديدة- خطوة على طريق نمو التخلف إلا أنها وضعت مزيدًا من العثرات على هذا الطريق نفسه، مما حجم هذا النمو إلى حد كبير.

     ونود فى نهاية تناول هذه القضية أن نؤكد على  أن الاشتراكية الناصرية كانت فريدة من نوعها .  فقطاع الدولة كان يعمل لصالح القطاع الخاص أساسًا، وأن كان قد قدم خدمات رخيصة للجماهير أو باع منتجاته بأسعار مخفضة ..إلخ، فقد كانت محصلة عمله ككل تخدم النظام القائم، الذى يحكمه عمليًا – من أسفل– رجال الأعمال وكبار الملاك. وإن وجود دولة بونابرتية يؤكد ولا ينفى هذه الحقيقة، وقد سبق لنا تحليل دور الدولة فى الفترة الناصرية على كافة الأصعدة، وهو قد خدم فى النهاية المصالح الأبعد مدى لنفس النظام الاجتماعى.

 

* الخلاصة :

لم تكن السلطة الناصرية تتخذ شكل حكومة عمال ولا حكومة بورجوازية تقليدية (ليبرالية)، كما لم يكن الحكم العسكرى مجرد أداة للغرب، إذ لم يكن الضباط حكومة عميلة بالمعنى المفهوم. وقد اتخذت الناصرية شكل حكومة فوق طبقية ؛ مع كل الطبقات وضدها فى نفس الوقت، فالكل قد شارك فى الحكم شكليًا، ولكن لم يُسمح لأحد أن ينطق بالكلمة الأخيرة، إلا للنخبة الحاكمة بشكل مباشر.

لم تصل النخبة المسيطرة  برغم التأميمات و الصدامات العديدة مع رجال الأعمال فى خصومتها مع هذه الطبقة إلى النهاية ، و كانت الفئة الوحيدة التى نالت الضربة القاضية هى الأرستقراطية الزراعية و على رأسها العائلة المالكة ، و المفهوم أن الأخيرة كانت هى  كبش الفداء المناسب تماما للنظام ككل كما أجمعت كل التيارات و الاتجاهات و الدوائر المسئولة وقتها. و بالرغم من المِنَح التى ُقدِّمت لعمال الصناعة و الانتلجينسيا لم تكن الناصرية أبدا ممثلةً لهم ؛ فالعطايا قد رافقها أيضا قمع شديد . و لقد قُمع الفلاحون و ُسحق عمال الزراعة بدون تقديم رشاوى ذات بال  بفضل ضعفهم السياسى .أما الفئات التى استفادت بشكل فعال فكانت المقاولون و السماسرة و كبار التجار  وأغنياء الريف .

 وقد حصلت النخبة الناصرية   لنفسها على حمايات[88] ضخمة بحيث أصبحت جد متميزة ومتعالية للغاية على المجتمع كله.

على أساس ما سبق يمكننا أن نحدد بوضوح أن الناصرية قد تشكلت من نخبة من كبار رجال الدولة  ذات وظيفة فريدة :  أداة للطبقة المسيطرة ( لأنها لم تصفِّها و لم تقض على سيطرتها من أسفل )، ولكن أداة متمردة .. وهذا هو بالضبط جوهر الناصرية.


 

[1]           فتحى عبدالفتاح : القرية المعاصرة، ص 27.

[2]           مابرو: نفس المرجع، ص 117.

لا تعود زيادة متوسط مساحة هذه الفئة من الملكية إلى توزيع الأرض، بل لعب قانون الإصلاح الزراعى دورًا غير مباشر بهذا الصدد، فقد حفز هذه الشريحة من الملاك لشراء الأرض من كبار الملاك.

[3]           مابرو : نفس المرجع ، ص 117 .

          و لا تعود زيادة متوسط مساحة هذه الفئة من الملكية إلى توزيع الأرض ، بل لعب قانون الإصلاح الزراعى دوراً غير مباشر ؛ فحفِّز هذه الشريحة من المزارعين لشراء الأرض من كبار الملاك .

[4]           محمود عبدالفضيل : المرجع السابق، ص 210.

[5]           ارجع لبعض التفصيلات فى : أنور عبدالملك: مرجع سبق ذكره، ص ص 97- 98.

[6]           للوقوف على بعض التفصيلات، انظر : د. جامع مصطفى جامع: التسويق التعاونى للقطن فى ج.ع.م. "مصر المعاصرة"، عدد 339، يناير 1970، ص ص 157- 176.

[7]           تناولت د. كريمة كريم تفصيلات هذه المسألة فى : توزيع الدخل بين الحضر والريف فى مصر 1952-1975 بحث مقدم للمؤتمر العلمى السنوى الثالث للاقتصاديين المصريين ، 1978.

            كذلك فعل د. محمود عبدالفضيل، مرجع سبق ذكره، (الفصل الخامس).

[8]           يُلاحظ أيضًا أن الدولة قد ميزت بين صغار الملاك وكبارهم فى تقديم البذور الممتازة والعلف المدعم (وفقًا لقانون خاص). أما خارج القانون فكانت الدورة الزراعية تُفرض فرضًا على الفلاح الصغير بحيث يزرع القطن وقصب السكر، تلك المحصولات التى لا تدر عليه أرباحا عالية بسبب استغلال الدولة كما ذكرنا أعلاه، بينما اتجه كبار الملاك بشكل متزايد لزراعة الفاكهة. وتكتمل صورة هذا التمييز إذا تذكرنا أن الضرائب الزراعية ظلت تُفرض على الأرض وليس على الربح الزراعى، ففدان القطن يدفع مثلما يدفع فدان الموز، بل لم تُفرض أصلاً أية ضرائب على تربية الماشية.

[9]           عبدالعظيم رمضان: الصراع الاجتماعى والسياسى فى مصر، ص ص 95 – 96 (سبق ذكره).

[10]         لمزيد من التفاصيل ارجع إلى : محمود عبدالفضيل: المرجع السابق، ص ص 116 – 127.

[11]         إبراهيم عامر : المرجع السابق، ص 156.

[12]         بريماكوف - بيليايف : المرجع السابق، ص 208.

[13]         بريماكوف - بيليايف : المرجع السابق، ص 215.

[14]         محمد دويدار : الاقتصاد المصرى بين التخلف والتطوير، ص 476. وبالنسبة لعمال الصناعات التحويلية وحدها انخفض متوسط الأجر من 139 إلى 130 جنيهًا فى السنة (نفس الموضع). أما عمال الصناعات الاستخراجية فقد انخفض متوسط أجورهم من 290 – 238 جنيها (ص 475).

[15]         حُسبت على أساس معطيات هانسن - مرزوق (المرجع السابق)، محمد رشدى (المرجع السابق). وإذا حسبنا تطور الأجور بالأسعار الثابتة لوجدنا أن المعدل كان أقل، إذ بلغ خلال الفترة المذكورة 33٪ فقط، وفقًا لهانسن  ومرزوق.

وقد توصل مابرو إلى نتيجة مشابهة بالنسبة لتغير الأجر الإسمى (زيادة 45% فى الفترة المذكورة). مرجع سبق ذكره، ص 235.

[16]         بريماكوف - بيليايف : المرجع السابق، ص 134.

[17]         مابرو : المرجع السابق، ص 338.

[18]         حُسبت الزيادة الحقيقية على أساس معطيات قدمها مابرو – رضوان نقلاً عن نشرة البنك الأهلى. المرجع السابق، ص 188.

[19]         Hansen -Marzouk , op. cit.,p. 143

[20]         بريماكوف – بيليايف: المرجع السابق، ص 167. نقلاً عن إحصائيات وزارة التخطيط.

[21]         عادت ساعات العمل للارتفاع ابتداء من 1965. ففى 21/5/1965 أصدر "قادة الحركة العمالية" دستورًا يلزم العمال بالتبرع لمدة 5 سنوات بـ 5% من الأرباح المخصصة لهم فى بند الخدمات الاجتماعية من أجل الاستثمار، وذلك لزيادة الكفاية، والتبرع بما لا يقل عن ساعة عمل يوميًا لمن يعملون 42 ساعة أسبوعيًا، وعدم التقدم بمطالب اقتصادية أخرى خلال العامين المقبلين !!. وتبع هذا "الدستور" جَعْل العمل الإضافى إجباريًا ... إلخ.

[22]         التراكم على الصعيد العالمى، ص 366.

[23]  أنور عبدالملك: المرجع السابق، 185.

[24] Hansen.-Marzouk ;  op. cit., pp.    143-135  

فى نفس الوقت ُمنع العمل الإضافى بتاتًا، مما كان من دواعى شكوى العمال أنفسهم، ومنع العامل من الالتحاق بعملين – وإذا وضعنا هذا  فى الاعتبار يصبح واضحاً أن تخفيض ساعات العمل قد استهدف أساسًا امتصاص البطالة لا تحسين أحوال العمال.

وفى الحقيقة رافق تخفيض ساعات العمل زيادة عدد عمال الصناعة بـ 16%، مما لا يتناسب مع معدل التخفيض، أى 4% من ساعات العمل (نفس الموضع)، مما يشير إلى تأثير إلغاء كل من العمل الإضافى والجمع بين عملين، و(ربما) تعيين عمالة زائدة أيضًا.

[25]         بريماكوف - بيليايف: المرجع السابق، ص 202.

[26]         مابرو : المرجع السابق، ص 339.

[27]         فى روما القديمة التزمت الدولة بتقديم إعانة دورية من المواد الغذائية للمشردين (البروليتاريا بالمعنى الأصلى للكلمة )  كما سمحت لهم بمشاهدة المباريات الرياضية مجانًا.

[28]         مابرو : المرجع السابق، ص 339.

[29]         نفس المرجع، ص ص 339 - 340

[30]         مابرو: المرجع السابق، ص 241.

[31]         نزيه نصيف الأيوبى: سياسة التعليم فى مصر، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة 1978، ص 63.

[32]         نفس المرجع، ص 10 (هذه الأرقام فى فترة السبعينات ولكنها تعكس تغير الهيكل التعليمى الذى حدث خلال الفترة الناصرية).

[33]         نفس المرجع، ص ص 78- 79.

[34]         فلنتذكر كيف تم محو الأمية فى بضع سنوات فى الاتحاد السوفيتى (انظر مجلة "الطليعة" – عدد يونيو 1973 – عرض لكتاب م . زينوفييف، أ. بليشاكوفا: كيف صفيت الأمية فى الاتحاد السوفيتى ؟ ص 134).

[35]         نزيه نصيف الأيوبى : المرجع السابق، ص 72.

[36]         انظر مابرو : المرجع السابق، ص ص240 - 245.

[37]         على صبرى: سنوات التحول الاشتراكى، ص 47.

[38]        مابرو: المرجع السابق، جدول 8-3، ص ص 272 - 273.

[39]         مابرو : المرجع السابق، ص 286.

[40]         ومع ذلك أبقت الناصرية على كثير من أبناء الطبقة المسيطرة فى الجيش. بريماكوف – بيليايف: المرجع السابق نفسه، ص 287.

[41]         تناول محمود فوزى ؛ رئيس الأركان ثم وزير الحربية الأسبق حالة الجيش قبل هزيمة 1967 بالتفصيل فى مذكراته. الجزء الأول.

[42]         اوبريان: مرجع سبق ذكره، ص ص 162-167.

[43]         أوبريان: المرجع السابق، ص 164.

[44]         فى أكتوبر 1961، ووفقًا لرواية البعض، تقدم عدد من رجال السياسة القدامى وأبناء الطبقة المسيطرة إلى الحكومة بطلب إنهاء الحكم العسكرى، فما كان منها إلا أن فرضت الحراسة على أموال المئات منهم، بل اعتقلتهم أيضًا (أوبريان ص 171). ثم صدر قانون العزل السياسى "للذين أفسدوا الحياة السياسية" والذين تضمنتهم قوائم الحراسات والذين اعتقلوا بعد يوليو 1952، باستثناء 1257 شخصًا ممن طبق عليهم قانون الإصلاح الزراعى، وينص قانون العزل السياسى على وقف الحقوق السياسية لمدة 10 سنوات (مجلة "الطليعة" – عدد يوليو 1965).        

[45]         أوبريان، ص 106.

[46]         انظر: محمود مراد: من كان يحكم مصر – شهادات وثائقية، مكتبة مدبولى – القاهرة، 1975. وهو يتضمن نصوص قوانين يوليو 1961 وأسماء الشركات المؤممة وأسماء وعدد أسهم المساهمين فيها.

[47]         محمود متولى: الأصول التاريخية للرأسمالية المصرية وتطورها، ص 216 (بلغت الودائع 100 مليون جنيه عام 1959 – نفس الموضع).

[48]         أوبريان: المرجع السابق، ص 169، ص 264.

[49]         مابرو: المرجع السابق، ص 201.

            وقد صاحب قرارات التأميم اعتقال عدد كبير من رجال الأعمال ووضع أموالهم تحت الحراسة. وقد فسر زكريا محيى الدين ذلك كإجراء وقائى، بينما ذكرت بعض الروايات أن ثلاثين من كبار الضباط من أبناء العائلات الثرية قد تقدموا – بعد الانفصال السورى – بطلب إلى القائد العام للقوات المسلحة بوضع حد للديكتاتورية وإعادة الحريات الديموقراطية والحياة البرلمانية. وقد بلغ عدد المعتقلين 600 شخصًا، أفرج عنهم فى 13، 14 فبراير 1962.

            أنور عبدالمك: المرجع السابق، ص ص 171 – 1972.

[50] Hrair Dekmejiain: Egypt Under Nasir , State University of New York Press, Albany, 1971, p. 131                  

[51]         بريماكوف – بيليايف: المرجع السابق، ص ص 131-132.

[52]         على صبرى: سنوات التحول الاشتراكى، ص 47.

[53] لا شك أن الدعاية الناصرية كانت ذات تأثير مزدوج: إذ قامت بدورها كمسكن عام على أكمل وجه، ولكنها فى ذات الوقت قد اكسبت النظام جماهيرية هائلة، خصوصًا فى قواعد التنظيم الذى أنشأته الحكومة، والذى اجتذب، بخلاف الكثير من العناصر المرتزقة، قطاعًا عريضًا من الشباب  المتحمس. وقد شكلت هذه القواعد ضغطًا مؤثرًا على السلطة لقطع خطوات أكثر راديكالية ضد رجال الأعمال، وتزايد هذا الضغط فى أوائل الستينات. و من الملاحظ أن الحكومة لم تستخدم الشعارات الاشتراكية لتبرير إجراءاتها ضد رجال الأعمال قبل يوليو 1961. وفقط بعد السنة الأولى لخطة 1960-1965 ومثول شبح الخراب الاقتصادى، بجانب الانفصال السورى، اضطرت السلطة إلى الجنوح يسارًا على صعيد الدعاية. كما يمكننا أن نفترض أيضًا أن البعض من  زعماء الناصريين لم يستخدموا شعاراتهم الاشتراكية استخدامًا دعائيًا فقط، بل وكانوا مؤمنين بها كذلك. إلا أنهم كانوا مضطرين لخداع الشعب مثلما خدعوا أنفسهم. ويعبر لنا هذا عن مدى قوة الضغوط الموضوعية على الناصرية، والى أى حد كانت مجرد محصلة لضغوط القوى الاجتماعية.

[54]         محمد جابر الانصارى : تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربى (1930- 1970). سلسلة عالم المعرفة، عدد 35، ص ص 157- 158.

[55] مابرو – رضوان: المرجع السابق، ص 60 .

والحقيقة أن تدخل الدولة قد بدأ من جديد منذ 1914،  إلا أنه أصبح فعالاً فى فترة ما بين الحربين، ومنذ 1939 بات هذا التدخل حاسمًا (انظر أوبريان : المرجع السابق، ص ص 67-91).

[56]         نفس المرجع، ص 85.

[57]         أوبريان: المرجع السابق، ص 76.

            ملحوظة: لم تنفذ هاتان الخطتان،ولكن تم تنفيذ بعض مشاريع الخطة الثانية. وقد وُضع فى هذه الخطة دراسات لإقامة صناعة الحديدوالصلب، وصناعة الأسمدة الكيماوية - نفس المرجع، ص 85.

[58]         أوبريان: نفس المرجع، ص 83، انظر أيضًا ص ص 67-91.

[59]         محمود عبدالفضيل: المرجع السابق، ص 24.

[60]         نفس المرجع، ص 27.

[61]         مابرو : المرجع السابق، ص 121.

[62]         بلغت ديون كبار الملاك للدولة عام 1962: 60 مليون جنيها، وعام 1974 بلغت نحو 100 مليون جنيها. فؤاد مرسى: هذا الانفتاح الاقتصادى، ص 276. وقد ذكر بريماكوف – بيليايف أن 75% من القروض المقدمة للمزارعين خلال الفترة الناصرية قد قدمت لكبار الملاك : المرجع السابق، ص 212.

[63]         أوبريان: نفس المرجع، ص 254.

[64]         بريماكوف - بيليايف: المرجع السابق، ص 212.

[65]         فؤاد مرسى: المرجع السابق، ص 227.

[66]         فؤاد مرسى: هذا الانفتاح الاقتصادى، ص 149.

[67]         باستثناء الأرز، حيث كانت حصة التسليم الإجبارى 1.5 ضريبة لكل من الخمسة أفدنة الأولى، 1.75 للفدان فيما زاد عن ذلك، أنظر بعض التفاصيل فى كتاب محمود عبدالفضيل سابق الذكر، ص ص 163-167.

[68]         نفس المرجع، ص 202.

[69]         فى 1958 صدر قانون بجعل الحد الأقصى لملكية الأسرة 300 فدانًا.

[70] د. محمود متولى: طريق الرأسمالية المصرية بعد سنة 1961، مجلة الكاتب، عدد 139، سنة 1972، نقلاً عن وزير التموين (فؤاد مرسى).

 

[72]         فؤاد مرسى: سيطرة علاقات الإنتاج الرأسمالية – "الطليعة"، ديسمبر 1975.

[73]         على صبرى: سنوات التحول الاشتراكى، ص 102.

[74]         بوجو سلوجازنسكى: حكومة جمهورية مصر العربية وسياستها إزاء القطاع الصناعى الخاص. ترجمة: سعدى يوسف. مجلة "آفاق عربية" العراقية، عدد 24 كانون الأول 1975.

[75]         نفس المرجع،  ص 102 ، وحسب روايته فى مكان آخر، قام مقاولو الباطن بـ 80% من أعمال الإنشاءات فى الخطة الخمسية. (نقلاً عن عادل حسين: عبدالناصر والنظام الاقتصادى: رد على المعارضين والناقدين، المستقبل العربى، عدد 35 يناير 1982، هامش 24 ).

[76]         بريماكوف - بيليايف: مرجع سبق ذكره، ص 215.

[77]         بريماكوف - بيليايف: المرجع السابق، ص 215.

[78]         مجلة "الطليعة"، عدد أغسطس، 1973.

[79]         ذكر ط. ث. شاكر معطيات أخرى حول استغلال تجار الجملة للدولة فى العهد الناصرى. نفس المرجع، ص ص 126-127.

[80]         عبدالمغنى سعيد: أين يسير الاقتصاد المصرى، ص 78.

[81]          مقالة إبراهيم سعد الدين: قضايا فكرية – الكتاب الرابع، 1986.

[82]         بريماكوف - بيليايف: مصر فى عهد عبدالناصر، ص216، نقلاً عن "الطليعة"، يونيو 1966.

[83]         "الطليعة": عدد أغسطس 1973.

            وقد قدمت "الطليعة" فى عدد فبراير 1967 ملفًا كاملاً عن نشاط السوق السوداء فى مصر الناصرية، بما فى ذلك الدور الخاص لقطاع الدولة كمصدر لأرباح المضاربين وتجار السوق السوداء.

[84]         موريس دوب، بول سويزى، وآخرون: الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. ترجمة عصام خفاجى، دار ابن خلدون، ط1 بيروت، 1979، ص 128.

[85]         نفس الموضع

[86]         أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 350، نقلاً عن الأهرام، 30 يونيو 1962. كذلك :بريماكوف – بيليايف: المرجع السابق، ص 204.

 

 وتعتمد هذه الأرقام على المعطيات الرسمية، دون حساب دور السوق السوداء والصناعة السوداء وأرباح مقاولى الأنفار والسماسرة ومقاولى الباطن …إلخ.

 

[87]         عاد رأس المال الصناعى الخاص يتنامى من جديد منذ 63-1964 بمعدل أعلى من معدل النمو الصناعى العام فى قطاعات عدة.

            انظر : غالى شكرى: الثورة المضادة فى مصر، ص ص 40-41. 

 

[88]         الحمايات فى الأصل كانت إتاوات تفرضها  فرق الانكشارية فى العصر العثمانى على التجار والحرفيين مقابل حمايتهم من الفرق الأخرى.

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1