التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

و الآن هل يمكن أن نتحدث عن فلسفة ناصرية ؟

توصلنا حتى الآن إلى أن الناصرية هى الفئة البيروقراطية التى حكمت مصر منذ انتصار انقلاب يوليو 1952، بمنطق حكمها وبنائه الخاصين، وسوف نرى فيما بعد أن الناصرية هى أيضًا مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية … الخ. والآن نكرر سؤالنا : هل تتضمن الناصرية فلسفة أيضًا ؟

أعلنت حكومة الضباط عن وجودها للعالم بمبادئ ستة أصبحت شهيرة فيما بعد[1]، ثم قدم عبدالناصركتاب "فلسفة الثورة" متحدثًا عن البطل الذى ينتظره الشرق وعن الدوائر الثلاث التى تقع فيها مصر حسب رؤيته (دائرة عربية، وأفريقية، وإسلامية)، ثم جاء "الميثاق الوطنى" عام 1962 ليقدم الناصرية أخيرًا كأفكار مبلورة، وتوالت عشرات النشرات والشروح لهذا الميثاق، وحمل لواء الفكرة الجديدة تنظيم هو"الاتحاد الاشتراكى العربى"، الذى بدأ تحت اسم "هيئة التحرير" ثم تحول إلى "الاتحاد القومى" قبل أن يتخذ اسم "الاتحاد الاشتراكى". وقامت بجانبه منظمة الشباب، ثم تكون "التنظيم الطليعى" من أعلى وبشكل ِسرِّى؛ كحزب ناصرى حقيقى يحمل "الناصرية" كنظريته الخاصة.

وليس من السهل أن ننكر وجود نظرية ناصرية، فهذا الكم الكبير من المفاهيم الخاصة التى انتشرت بالفعل وطغت كثيرًا، حتى على الفكر الإسلامى و على الماركسية نفسها فى المنطقة العربية، هى بالتأكيد أفكار حقيقية ؛ ويجب أن  نعترف بذلك بغض النظر عن رؤيتنا وتحليلنا لهذه الأفكار، وحتى بغض النظر عن التزام النظام الناصرى نفسه بكل هذه الأفكار.

ومثلما حدد الحكم المطلق نفسه، راح بنفس الطريقة يحدد فكرته عن نفسه، أى يضع نظرية أو أيديولوجيا تتضمن تحليل ماهيته .

وقد ظلت الأيديولوجيا الناصرية مجرد امتداد للحكم المطلق، أو بمعنى أصح متضمنة له، فى طريقة إنتاجها ونشرها، بل وفى مضمونها ذاته. فمن الطبيعى أن يبرر النظام وجود نفسه، وكنظام شمولى كان يفرض الأيديولوجيا فرضًا ، فتُدرَّس فى المدارس و الجامعات كحقائق مطلقة و يُمتحن فيها الطلاب ، و تُعلق لافتات بشعاراتها فى الميادين ، و َتُبثها وسائل الإعلام ، كما خُصصت معسكرات معينة لتلقين الشباب مبادئها ( أُسميت  معسكرات إعداد الكوادر ) .

وقد كانت الأفكار الناصرية من أقوى أسلحة النظام، بل أقواها على الإطلاق، إذ اسُتخدمت فى تمجيد السياسات الإصلاحية بطريقة فعالة للغاية، وفى تبرير القمع، بل وتمجيده، وفى إظهار النظام الناصرى فى ثوب الثورة وطمس محتواه المحافظ، محققة له بذلك نفوذًا طاغيًا وسط الجماهير.

وسوف نتناول هنا الفكر الناصرى فى حد ذاته بالتحليل، كمجرد فكر، غاضين النظر مؤقتًا عن "التطبيق"[2]، ويهدف هذا الفصل المؤقت بين النظرية والتطبيق إلى تحليل "النظرية" نفسها. ورغم أن التطبيق هو الاختبار الحقيقى للنظرية، فإن تحليل الأخيرة فى ذاتها يُعد خطة ضرورية منطقيًا لفهم أوضح للنتائج . وهذا التسلسل فى حالة الناصرية هو تسلسل منطقى أساسًا، فالنظرية لم تسبق الواقع أبدًا، وإنما تكونت من خلال "الممارسة والخطأ"، وتبلورت فى النهاية فى صورة وثائق، فى الوقت الذى كان فيه "التطبيق" قد قطع شوطًا طويلاً. كذلك لا يمكن الاكتفاء بالقول بأن التطبيق قد سبق النظرية، فالتطبيق (الممارسة) هو نفسه تطبيق " لنظرية" ما، حتى لو كانت فى مرحلة جنينية، فقد ظهرت الأفكار قبل السياسة ولكنها اكتملت بعدها. وقد سبق ورأينا أن بذرة الفكر الناصرى قد انبثقت مع الانقلاب نفسه أو حتى من قبله  ( المبادىء الستة ) وراحت تنمو بسرعة مع حركة الأحداث .. لذلك يبدأ مدخلنا إلى دراسة السياسة الفعلية، كبداية، من دراسة الناصرية كفكر . ونحن نعتبر أن أفكار الحكم الناصرى (أو فلسفته) لحظة فى سياسة الحكم نفسها،  فليس لنا أن نتوقع من الحكم المطلق، البوليسى المعتمد على العصا والجزرة والديماجوجية الدعائية أن يقدم لنا نظرية خالصة لوجه الله ، فالناتج الطبيعى (أو المنطقى) لهذا الحكم هو أن يصيغ أفكاره بطريقة تبرر حكمه البيروقراطى، والنظرية فى هذه الحالة لابد أن تكون نظرية السلطة، نظرية رسمية تمامًا، معبرة عنها مباشرة، أى تكون تنظيرًا للحكم البونابرتى. وسوف نعتمد فى تحليلنا على الوثيقة الأساسية؛ تلك النظرية التى أطلق عليها أصدقاء النظام  فى الستينات: النظرية الثورية: الميثاق[3].

وسوف نهتم هنا بإبراز المحتوى الحقيقى للأفكار الناصرية الأساسية، أو الأفكار الحقيقية للناصرية، بهدف التوصل لتشخيص عام لهذه الأفكار، تمهيدًا لاختبارها فى الممارسة العملية ؛  أى السياسة الناصرية.

         

يبدأ الميثاق بتقرير حاسم: إن الثورة ضرورية للقضاء على القهر والتخلف (وأشياء أخرى كثيرة ولكن مجردة)، ثم يحدد للثورة العربية أهدافًا ثلاثة: الحرية والاشتراكية والوحدة.

* الحرية هى حرية الوطن والمواطن.

* والاشتراكية هى الكفاية (وسيلة) والعدل (غاية).

* وطريقة الوحدة العربية هو العمل السلمى والدعوة الجماهيرية، أما الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف ككل فهو :

الحرية تتحقق بالعنف ضد الاستعمار.

والاشتراكية تتحقق بطريقة سلمية و بدون صراع طبقى، بتذويب الفوارق بين الطبقات، حيث أن هناك ظروفا جديدة تواجهها التجارب الاشتراكية الحديثة، ممثلة فى التوازن النووى وفى وجود قوى معنوية مثل الأمم المتحدة قادرة على صنع السلام الدولى. ولنفس الأسباب فإن زمن الوحدة على الطريقة الألمانية قد ولىّ.

كما أنه "لم يعد حتمًا على العمل الاشتراكى أن يلتزم التزامًا حرفيًا بقوانين جرت صياغتها فى القرن التاسع عشر"  ( يعنى قطعا : الماركسية ) ويرفض الميثاق وضع فكر الثورة العربية فى "نظريات مغلقة" على حد تعبيره ( و يقصد الماركسية أيضا ).

والكلام حتى الآن مجرد ويمكن أن يعنى أشياء كثيرة ولكنه يأخذ فى الاتضاح شيئًا فشيًا كما سنرى:

أولاً: الحرية:

أما عن حرية الوطن لدى الناصرية، فهى الاستقلال السياسي ، أى حرية جهاز الدولة ، وعدم سيطرة رأس المال الأجنبى على السلطة السياسية والاقتصادية .

   وقد بلورت الناصرية فكرتها عن الاستقلال السياسى فى شعارى "الحياد الايجابى وعدم الانحياز"، و "نصادق من يصادقنا ونعادى من يعادينا". وهى شعارات تعبر عن نزعة تجريبية و " لا مبدئية "  ، علاوة على أنها تعترف بالوضع الدولى كمعطى نهائى؛ فلم تطرح على نفسها مهمة إنشاء قوة عالمية جديدة( مثلا بإقامة تحالفات كانت ممكنة فى وقتها)  فى مواجهة القوى العالمية القائمة بالفعل.. وهو موقف يختلف عن موقف الصين مثلاً، التى تبنت شعار عدم الانحياز فى سياق الخروج من الهيمنة السوفيتية فحسب، بينما هى قررت منذ انتصار ثورتها خلق مركز دولى جديد فى الصين. ولذلك لم توقع – مثلاً – على اتفاق حظر انتشار الأسلحة النوورية (الذى وقعت عليه مصر الناصرية). والمقارنة بين الكتاب الأحمر والميثاق مفيدة للغاية؛ فالروح مختلفة تمامًا.

أما حرية المواطن فتفهمها الناصرية بشكل خاص: فالميثاق يوجِّه انتقادات هامة لديمقراطية ما قبل 1952:"كان تصويت الفلاح إجباريًا، شراء الأصوات، التزوير، التأمين النقدى الباهظ لمرشحى البرلمان، ضياع حرية الصحافة". وهو مع ذلك نقد غير جذرى ، فلم ينتقد سوى مسائل جزئية و لم ينتقد الليبرالية كمبدأ و نظام ، مع أن الميثاق يحاول أن يبدو جذريًا فيقول: "إن حرية رغيف الخبز ضمان لابد منه لحرية تذكرة الانتخابات" ثم يضيف ص 35: "ان الديموقراطية هى توكيد السيادة للشعب ووضع السلطة كلها فى يده وتكريسها لتحقيق أهدافه". وحتى الآن يتقدم الميثاق؛ فيبدو أنه ينتقد سيطرة رجال الأعمال وملاك الأراضى على السلطة، معتبرًا ذلك هو جوهر ديموقراطية  ما قبل 1952. ثم يستخلص نتيجة هى " إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق فى ظل سيطرة طبقة من الطبقات " (ص 40) معتبراً أن الاشتراكية هى المدخل الوحيد للديموقراطية الحقيقيقة حيث لا تسيطر طبقة من الطبقات و لا يوجد صراع طبقى  ، و هو يحدد 3 ضمانات لحرية المواطن ، ف "المواطن لا تكون له حرية التصويت فى الانتخابات إلا إذا توفرت له ضمانات ثلاث:

- أن يتحرر من الاستغلال فى جميع صوره.

- أن تكون له الفرصة المتكافئة فى نصيب عادل من الثروة الوطنية.

- أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل فى حياته."

. ثم يتكلم عن "تحالف قوى الشعب العاملة" (خمس قوى تشمل الجنود، ,يقصد بهم العسكريين عمومًا، والرأسمالية الوطنية كما يسميها) ويواصل وضع عدة ضمانات " لانطلاق هذه القوى الخمسة ":

1- أن يكون للعمال والفلاحين 50% من مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية.

2-  يجب أن تتأكد سلطة المجالس الشعبية باستمرار فوق سلطة جهاز الدولة.

3- إنشاء جهاز سياسى جديد داخل "الاتحاد الاشتراكى" لتجنيد العناصر الصالحة للقيادة.

4- جماعية القيادة (لم يحدد صورتها).

5- ملكية الشعب للصحافة ( فى صورق ملكية "الاتحاد القومى" ).

كما يرى أن استبعاد الرجعية يعطى أوثق الضمانات لحرية الاجتماع وحرية المناقشة، وأن النقد والنقد الذاتى هو من أهم ضمانات الحرية. ويدعو إلى قيام التنظيمات الشعبية، أى كما يقول: النقابات والتعاونيات بدور مؤثر فى التمكين فى الديموقراطية السلمية. وبمناسبة هذه "الديموقراطية الجديدة" يدعو إلى تغيير اللوائح الحكومية والقوانين لتلائم العلاقات الاجتماعية الجديدة (ص 43). وبعد ذلك يطالب الميثاق بحق العمل والتعليم والعلاج للمواطن وبمساواة المرأة بالرجل، وحرية العقيدة الدينية .. ولنتابعه:

"حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية وسيادة القانون هى الضمان الأخير لها " (ص 80).

"ان وسيلة الديموقراطية أن تتحقق سلطة المجالس الشعبية على جميع مراكز الإنتاج وفوق كل أجهزة الإدارة المركزية أو المحلية") ص 83).

ولكن الميثاق لم ينس أن يذكر "ان الحرية الاجتماعية هى المدخل الوحيد للحرية السياسية" (ص 79) وان تحقيق هذه الحريات لا يتم بين يوم وليلة.

هذا هو مفهوم الناصرية وبرنامجها لتحقيق حرية المواطن. وهو البرنامج الذى أيدته غالبية اليسار خلال الستينات بكل حماس (باستثناء قلة)، فهذا فؤاد مرسى على سبيل المثال يقول: "ان مبدأ الـ 50% هو أخطر مبدأ ديموقراطى أقرته التجربة الناصرية"[4].

يحتوى المفهوم الناصرى للحرية السياسية على معان مجردة وأخرى عينية كما يحتوى على عدد من التناقضات المنطقية: فاذا اعتبر الميثاق  أن الديموقراطية هى وضع السلطة كلها فى يد الشعب فكان عليه أن يستنتج شيئا هاما : فالدولة نفسها هى جهاز السلطة، ولكن تتحقق سلطة الشعب فان جهاز الدولة نفسه ينبغى أن يكون دولة شعبية. وإذا كان الميثاق قد انتقد ديموقراطية ما قبل 1952 على أساس أنها ديموقراطية الطبقة المالكة فقد كان ينبغى أن يستنبط من ذلك ضرورة تحطيم جهاز دولة هذه الطبقة، والحقيقة أن مسألة السلطة، أى مسألة جهاز الدولة هى المسألة الجوهرية فى كل ثورة، فإذا كان الميثاق يتحدث عن ثورة اشتراكية فان جهاز الدولة ينبغى أن يكون مختلفًا كل الاختلاف عن جهاز دولة ملاك الأراضى ورجال الأعمال. وإذا كانت ديموقراطية الملاك هى لهم فقط فان ديموقراطية الشعب هى لـه فقط أيضًا، كما قال الميثاق نفسه. ولذلك ينبغى أن تكون هناك – كشرط أولى للاشتراكية – دولة شعبية، أى دولة مجالس شعبية، والميثاق نفسه يعود ليخدعنا بمجالسه الشعبية المزعومة :

فأولاً: يقصد بها المجالس المحلية التى أقيمت ولا زالت قائمة بالفعل ولم يخرج فى وصفه لها عن ذلك و هى تتمتع بسلطات محدودة للغاية و ليس لها أى سلطة سياسية .

ثانيًا: يميز بينها وبين أجهزة الدولة على أساس أن المجالس الشعبية فى مفهومه ليست هى أجهزة الدولة الشعبية !

ثالثًا: لم يقرر أن لهذه المجالس سلطة انتخاب البرلمان  أو الإشراف على كافة مرافق البلاد أو أية علاقة بشئون الجيش والبوليس والقضاء .. أو علاقة  بانتخاب كبار الموظفين، ولا تنفى وجود الهيكل البيروقراطى للدولة ولا تحل محله. إنها إذن مرفق جديد من مرافق الدولة و ليست سلطة  !!

كما أن مفهوم الميثاق عن الشعب هو مفهوم مُضَلَّل، فهو يضع "الجنود" ضمن قوى الشعب العاملة، قاصدًا طبعًا الجيش بأسره، أى الضباط أيضًا دون أن يقر ضرورة تغيير المؤسسة العسكرية الموجودة بالفعل، أى لم يحدد موقفًا معاديًا لها وهى مؤسسة محافظة و محترفة و منفصلة ، بل و متعالية على الشعب ، فلم يتحدث عن مقرطة  الجيش وتغيير لوائحه  ونظامه ككل وإنشاء مجالس للجنود و إشراكه فى العمل السياسى؛ أى باختصار هدم الجيش وإعادة بنائه على أسس شعبية. ويضيف أيضًا المثقفين عمومًا (ثم يُتدارك الأمر بعد ذلك فى وثائق أخرى فيضاف "الثوريين" قاصدًا بهم المثقفين الرسميين).

كما يضيف الرأسمالية "الوطنية"، والميثاق يقر بوجود رأسمالية غير مستغِلة (دون أن يحدد معنى الاستغلال !). فالخداع الناصرى يصل هنا إلى درجة خلط الطبقات الأدنى بالرأسمالية تحت شعار تحالف قوى الشعب العاملة .و كان هذا الابتكار يهدف كما هو واضح من سياق التحليل إلى سحب البساط من تحت  شعار "ديكتاتورية البروليتارية". وتكتمل الصورة بفكرة الـ 50% (على الأقل) عمال وفلاحين، التى تحتوى على نوعين من التزييف:

أولاً: منطق الفكرة نفسه منطق مزيف، ديماجوجى أى لا منطق على الإطلاق. فوجود 50% (ولو على الأقل) عمال وفلاحين فى المجالس السياسية والمحلية لا يكون مفيدًا لهم أبدًا إلا إذا كانت لهذه المجالس نفسها سلطة فعلية، وهذا ما لم يقره الميثاق. كما أن وجود تلك النسبة لا يعنى أن العمال والفلاحين يسيطرون على السلطة. فليس من الضرورى أن "يمثل" العمال عامل مثلهم  فالأمر الأهم هو أنم ينتخبوا أى شخص ليقرروا هم أنه يمثلهم ، و هذا يشترط حرية الترشيح و الانتخاب و هو مالم يوفره الحكم الناصرى و لم يقرره " الميثاق ".كذلك  لا تعد فكرة الـ 50% حتى "مُنصفة" من الناحية الشكلية للعمال والفلاحين، لأن عددهم يفوق بالطبع هذه النسبة فى المجتمع. (فى الفترة التى وضع فيها الميثاق كانت نسبتهم الكلية – نقصد نسبة العمال الحقيقيين والفلاحين الفقراء – فى قوة العمل أكثر من 75%).

ثانيًا: لم ُيذكر تعريف العامل والفلاح  فى الميثاق، ولكنه جاء فى وثائق أخرى. وهو ينص على الآتى: العامل كل من تتوافر فيه شروط العضوية للنقابات العمالية. ويدخل فى حكم هذه الفئة الحرفيون الذين يعملون بأنفسهم ولا يستخدمون الغير، ويخرج من هذا المجال مديرو الشركات والمؤسسات ومديرو الإدارات ومن فى حكمهم، وكذلك المفوضون وأعضاء مجالس إدارات الشركات والمؤسسات عدا المنتخبين منهم عن العمال والموظفين[5].و الملاحظ أنه كان يسمح بدخول النقابات العمالية لكل من كان دخله الأساسى أجر( باستثناء المديرين ) و بذلك انضم الموظفون للطبقة العاملة. والفلاح هو "من يقيم بالقرية ويشتغل بالزراعة ويتخذ منها مصدر رزقه، ويحوز هو وأسرته 25 فدانًا فأقل ولم تسر عليه قوانين الإصلاح الزراعى ولا يمارس وظيفة عامة "[6].

و رغم تأكيده عشرات المرات على أهمية حرية الفرد إلا أنه لم يقدم أبداً أية صيغة تتضمن آليات ممارسة هذه الحرية ؛مثل حق الإضراب و حرية التظاهر و النشر و الخطابة و استقلال الجمعيات الأهلية ..الخ  ، بل هاجم باستمرار الليبرالية تحت مسمى "الديموقراطية المزيفة" ، رافضا الصراع الطبقى رفضاً مطلقاً . و إذا افترضنا أن "الديموقراطية الاجتماعية " ضرورية لتحقيق الحرية الحقيقية فأين هو الحد الأدنى لحرية المواطن الموجود بالفعل فى المجتمع الطبقى ؟ و هل يتصور المرء شكلا للديموقراطية لا يعطى للمواطن الحقوق السياسية المتعارف عليها فى النظم الليبرالية ؟ ‍‍‍! و أين هى حرية المواطن الذى يريد أن ينتقد رئيس الدولة  أو يرفض الاشتراكية و الحزب الواحد ..الخ ؟ أو له على الأقل اقتراحات أخرى ‍!

ويبدو الميثاق "ماديًا" جدًا حين يرى أن الديمقراطية الاجتماعية (الاشتراكية) هى المدخل الوحيد للحرية السياسية .. وينطوى هذا "المنطق" على فكرة مؤداها أن بناء الاشتراكية لا يتم بواسطة سلطة الشعب المباشرة، طالما أن الأخيرة تتحقق  بعد تطبيق الاشتراكية .. اذن من يطبق الاشتراكية ؟!  

ومن الملاحظ أن المسألة التى بذل فيها الميثاق أقصى ما يمكن هى تلك المتعلقة بقضية الديمقراطية، أى مسألة السلطة فى التحليل الأخير، وهى قدس الأقداس للنظام الناصرى .

  لننتقل الآن نقلة أخرى داخل مفهوم الحرية الناصرى ؛ إلى داخل التنظيم السياسى:

كان التنظيم السياسى يمثل - حسب الدعاية الناصرية -  تحالف قوى الشعب العاملة، وقد ظلت لجنته المركزية تشكل بالتعيين حتى عام 1968. وقد أُنشئ ليحل محل الأحزاب. ومن خلاله سيطرت الدولة على الصحف منذ 1960 ( لأنه امتلكها ) و على ترشيح أعضاء البرلمان ومجالس إدارات الشركات منذ عام 1964، ، ومارس التنظيم وظائفا أخرى من هذا النوع (يضاف إلى ذلك أنه كان أحد المسارات القانونية للنهب البيروقراطى كما سنرى فيما بعد) ، و لنلاحظ أن العضوية فيه كانت جماعية وإجبارية لفئات عديدة ؛ خاصة العمال !. وقد اعترف عبدالناصر نفسه بفشل تنظيمه فى القيام بمهمته الأساسية: الدعاية للسلطة:

" نحن ينقصنا داخل الاتحاد الاشتراكى العناصر الحركية المخلصة[7] "الاتحاد الاشتراكى حتى الآن (1964) هو تنظيم على الورق" [8] "أنا اعتبر أنه لا يوجد اتحاد اشتراكى حتى الآن (1965) [9] "كنا نعتمد فى الاثنتى عشرة سنة الماضية فى العمل الاشتراكى والعمل الوطنى على الجهد الإدارى"[10].

واضطرت السلطة إلى إدخال نظام التفرغ منذ عام 1965 لضمان قيام الأعضاء بواجبهم وقد صرَّح بذلك على صبرى فى حديث مع مجلة "الطليعة"[11]: "إن أهمية التفرغ لا ترجع إلى توفير كمية من الوقت الذى يستطيع الفرد أن يعطيه للاتحاد الاشتراكى، ولكنها ترجع أساسًا إلى ضمان ولاء: هذا الفرد للاتحاد، لا لأى جهة أخرى". ثم لجأ عبدالناصر أخيرًا إلى تكوين تنظيم ِسرِّى ليكون حزبًا للنظام، ولم يضم هذا التنظيم أى من أعضاء مجلس قيادة "الثورة"غيره ، واستخدمه عبدالناصر فى مد نفوذه داخل الجيش عن طريق أعضائه من العسكريين، وأشرك فيه نحو عشرين من "الشيوعيين" إلا أنه منعهم من الاتصال بالجيش[12].

وغنى عن القول أن الاتحاد الاشتراكى لم يكن يحكم، وإنما كان أحد ملحقات رئاسة الجمهورية قانونيًا وفعليًا، وأنه لم يكن يقود الجماهير وإنما كان مبغوضًا ومحتقرًا من قبلها إلى أقصى حد ( رغم عضويتها الإجبارية فيه )، كما فشل فى إنجاز أهم المهام الموكولة إليه، وهى الدعاية لنفسه باستخدام الأفكار الناصرية، بحيث يجعل من نفسه فى نظر الجماهير بديلاً مقبولاً للأحزاب القديمة والمنظمات الثورية والأشكال الجماهيرية المستقلة التى حلها النظام.

 

فى الحقيقة يقتصر المفهوم الناصرى عن الحرية، سواء حرية الوطن أو المواطن على حرية جهاز الدولة فحسب، حريتها أمام الدول الأخرى وحريتها المطلقة أمام الشعب وهو يخلط بين الدولة والشعب، رافضًا حق المواطن فى الاحتجاج بكافة الأشكال كشرط جوهرى لتحقيق الحرية. بل و يعتبر أن كل ما كان يحدث انما يتم بواسطة الشعب و لكن من خلال أداته ؛ و هو الجيش و الدولة ‍و أن كل ما يُتخذ من قرارات و سياسات انما يتم بوحى من الجماهير و كمجرد استجابة من  حكومة الضباط . بل إن انقلاب يوليو نفسه لم يكن الا ثورة شعبية قام بها الجيش كأداة فى يد الشعب ، الذى يقود و ُيعلِّم القادة أنفسهم !( ف "الشعب هو القائد و هو المعلم " ) .

 ورغم كل تناقضات الفكر الناصري ، وجدت الأفكار الديماجوجيّة رواجًا عن طريق وسائل الإعلام وخطب عبدالناصر نفسه، بل استطاع النظام أن يجتذب آلاف الشباب المتحمس الذى صدق شعارات زعيمه البراقة، وبالتالى أصبح يشكل ضغطًا عليه، فأصبح وضع الشباب الناصرى يشبه وضع "الطليعة الوفدية" تجاه قيادة "الوفد" وبدأ هذا الشباب ينضج فى عامى 1965 و 1966، أى فى مرحلة تفكك النظام.

 

ثانيًا: الاشتراكية :

الاشتراكية وفقًا للميثاق هى طريق الحرية الاجتماعية ، الذى يتكلم عن "حرية لقمة الخبز" التى يقصد التحرر من سيطرة رأس المال . و لنتابع : "إن الاشتراكية العلمية هى الصيغة الملائمة لايجاد المنهج الصحيح للتقدم" (ص 51). ولكن العلمية ليست أبدًا منهجًا للتقدم، وإنما هى أُطلقت على الاشتراكية من قبل، يُقصد بها أن الاشتراكية هى ضرورة (أو حتمية) تاريخية، تفرضها قوانين التاريخ . أما الناصرية فتستخدم مفاهيما معروفة بمعانى مغايرة، وكان ينقصها أن تسمى نفسها ماركسية لتصل المغالطة إلى أقصى مدى. ونلاحظ هنا أن الميثاق قد عكس العلاقة بين الاشتراكية والتقدم، فالتقدم ليس نتاجًا للاشتراكية، ولكنه – على العكس – شرط لها  كما ذهب الاشتراكيون العظام و عكسما ذهب الميثاق ، ففكرة اشتراكية تفترض تحقق  تقدم بعيد المدى لقوى الإنتاج … وحتى لا يختلط الأمر على أحد ، فسّر عبدالناصر مفهومه الخاص عن الاشتراكية على نحو صريح: "إن اشتراكيتنا علمية .. قايمة على العلم وليست قايمة على الفوضى .. مهواش أبدا اشتراكية مادية .. مقلناس ان احنا اشتراكية مادية .. ومقلناش إن احنا اشتراكية ماركسية ومقلناش ان احنا خرجنا على الدين .. بل قلنا إن الدين بتاعنا دين اشتراكى".اذن  الاشتراكية العلمية هى "القايمة على العلم". ولكن أى علم بالضبط ؟ لم يحدد إذا ما كان يقصد العلم بالمعنى العام للكلمة، أى ما يُسمى لدى الاشتراكيين بالمنطق العلمى أم العلوم الفيزيقية .. ولكن إعلان تمسكه بالدين فى مواجهة  الماركسية يعنى شيئًا واحدًا:  نفى الأساس النظرى للاشتراكية كما حدده الماركسيون و بالتالى اعتبار الاشتراكية "العلمية"  هى مجرد وسيلة؛ صيغة للتنمية ، إنها "الاشتراكية" وقد أصبحت مجرد عقار أو صفة !. وعلى أية حال أوضح "الزعيم" ان الاشتراكية فى عرفه نوعان: مادية ودينية ؛يقصد بالضبط ماركسية وناصرية ! . و رغم استخدام مفهوم " الحتمية التاريخية " فى وثائق ناصرية كثيرة لم يكن المقصود بها سوى أنها اختيار ضرورية للتنمية و ليست حتمية بمعنى أن  تفرضها قوانين التاريخ .

الاشتراكية  قبل استخدام الاسم لأغراض أيديولوجية أو سياسية هى شىء واضح ومفهوم تمامًا؛ نظام اجتماعى مساواتى. وقد تعلقت إضافة ماركس فقط بالطريق إلى الاشتراكية، لا بالاشتراكية نفسها، إذ زعم اكتشاف ضرورتها التاريخية، التى تتحقق بواسطة ثورة البروليتاريا . وتلك الإضافة ، هى التى عمدت الناصرية باستمرار إلى نفيها بشعار الطريق العربى إلى الاشتراكية مقصودا به بالتحديد نفى ضرورة الدولة العمالية لإقامة الاشتراكية . وتشكل هذه الإضافة المعنى الماركسى للمادية، فالاشتراكية- وفقا لذلك- لا تصنعها إرادة الزعماء  وإنما تصنعها الجماهير العريضة عند درجة عالية من تقدم قوى الإنتاج. و هى نظام اجتماعى – اقتصادى، ولا يمكن تقسيمها إلى اشتراكية دينية وأخرى لا دينية.[13]

وتستلزم الاشتراكية الدينية للميثاق الناصرى بالطبع عددًا من الشروط :

1- سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج (ص 53): "إن سيطرة الشعب على كل أدوات الإنتاج لا تستلزم تأميم كل وسائل الإنتاج ولا تلغى الملكية الخاصة ولا تمس حق الإرث الشرعى" وإنما يتم ذلك عن طريق:

- خلق قطاع عام قادر.

- وجود قطاع خاص يشارك فى التنمية فى إطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال.

وذلك أن الميثاق يميز بين نوعين من الملكية الخاصة: مستغِلة وغير مستغِلة. ولكن مغزى فكرته لا يكتمل إلا إذا تذكرنا أن هناك رأسمالية غير مستغلة أيضًا، كما أتى فى كثير من وثائق الناصرية وُخطب زعيمها، وأن مفهوم الشعب يتضمن "الرأسمالية الوطنية".

وهكذا يبدو أن اشتراكية الميثاق تشبه الاشتراكية الديمقراطية، اشتراكية "الدولية الاشتراكية" ولكن بدون ديموقراطيتها! ..

ويقال إنه فى إحدى المناسبات حسم عبدالناصر الجدل الدائر وسط النخبة الناصرية عن نوع الاشتراكية المطلوب قائلاً إن الاشتراكية واحدة، ولكن هناك طريق عربى إلى الاشتراكية، ولكن الميثاق يرد على من يصدق ذلك: "إن التطبيق العربى للاشتراكية فى مجال الزراعة لا يؤمن بتأميم الأرض" (ص 63)، ويفسر ذلك تفسيرا ديماجوجيا بـ"قدرة الفلاح المصرى على العمل الخلاق"، ثم يتكلم عن التعاون الزراعى دونما إشارة إلى  ما إذا كان التعاون المطلوب إنتاجيًا أم تسويقيًا. وهنا يتضح أن الطريق العربى المزعوم إلى الاشتراكية (الواحدة) ليس مجرد طريق، بل هو نظام اقتصادى – اجتماعى محدد يؤمن بأشياء ويرفض غيرها، والأهم من ذلك أنه قد اتضح الآن بكل جلاء أن الاشتراكية التى يعرضها عبدالناصر تختلف عن تلك التى يعرفها فورييه أو أوين أو ماركس .. إنها "عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان" وهذا الأمر تتضمنه الاشتراكية بالطبع، ولكن فلنلاحظ أن الناصرية قد أشارت إلى أن هناك رأسمالية غير مستغِلة، بحيث يصير الاستغلال مفهوما غامضا أو نسبيا.  وليس هناك ما هو أطرف من المبرر الديماجوجى لإبقاء الملكية الخاصة الأبدية للأرض – "قدرة الفلاح المصرى … الخ"، هكذا دون أية إشارة إلى شعار "الأرض لمن يفلحها" و هو شعار بورجوازى ، حتى فى إطار الملكية الفردية للأرض.

2- فى التجارة الداخلية: يستهدف الميثاق تحقيق سيطرة الدولة على 25% من التجارة الداخلية خلال عشر سنوات، أى حتى عام 1970. ويحذر من أن التجارة الداخلية يجب أن تكون "بغير استغلال" و"بربح معقول" (ص 57). وبما أن الاشتراكية "الدينية " لا تشترط القضاء على الملكية الخاصة، فإن تأميم التجارة غير وارد. ولكن الميثاق يصر على سيطرة الدولة على التجارة الخارجية، دون ذكر أى مبرر للتباين بين الموقفين. والمفهوم أن التجارة فى البلدان المتخلفة هى التى تتحكم – بشكل غير مباشر- فى الصناعة وفى قطاعات الإنتاج عمومًا. والمبرر الحقيقى كما نراه هو أن الناصرية كانت عاجزة بالفعل عن تأميم التجارة والمقاولات. وأحيانا ما كان عبدالناصر يبدى تحفظًا على أية محاولة للمواجهة مع التجار.

3- يجب حل الصراع الطبقى سلميًا فى إطار الوحدة الوطنية : فيتحدث الميثاق (ص 73) عن الصراع السلمى بين الطبقات ،  كما يدعو إلى تذويب الفوارق بين الطبقات، دون تحديد لمدى هذا التذويب، فهل يصل – مثلاً – إلى إلغاء الطبقات تمامًا، ومن الواضح أن هذا ليس هو الهدف المنشود  . ويتضمن مفهوم الصراع السلمى بين الطبقات على نحو صريح مصادرة حق الإضراب والتظاهر … حق الشعب فى ممارسة العنف ضد مستثمريه، الذين يملكون أجهزة القمع التى صادرتها الناصرية واستخدمتها بالنيابة، ولم يطالب الميثاق بهدمها !!

كل شىء إلا الماركسية، هذه هى القضية .. وهو ما يلاحظه غالى شكرى دون أن يستنتج منه شيئًا ذا أهمية. وهو يلاحظ أيضًا أن عبدالناصر كان يهاجم اليسار فكريًا دون أن يفعل نفس الشىء مع اليمين .. ولكنه لا يرى فى هذا سوى مجرد "مثلب"[14] !!

وهناك نقطة أخرى تستحق التعليق. فالاشتراكية الناصرية ليست أممية و ليست حتى عربية رغم إعلان الناصرية أن العرب أمة واحدة  ، بل   قطرية الطابع، تسبق الوحدة العربية من حيث الأولوية كما سنرى بعد قليل . و هنا بزت الناصرية الستالينية ؛ ف "الاشتراكية فى بلد واحد " صارت  الاشتراكية فى قطر واحد  رغم تسميتها أحيانا " الاشتراكية العربية ".

وبشكل عام، من الواضح أن دعوة " الميثاق إلى الاشتراكية  فى عام 1962 كانت بغرض وصف وتبرير الوضع القائم فعلا فى ذلك الوقت ومحاولة إبراز وجه اشتراكى للمجتمع،  و لمواجهة الماركسية ، وليس لوضع مشروع اشتراكى.

 

ثالثًا : الوحدة :

يرتبط مفهوم الناصرية عن الوحدة العربية ارتباطًا وثيقًا بمفهومى "الحرية" و "الاشتراكية"، فالوحدة تتويج لهما، وبالتالى يكون المطلوب هو وحدة فى دولة ناصرية، على أساس "اشتراكيتها" التى تتضمن قبول الرأسمالية الوطنية والملكية الخاصة للأرض والتجارة الداخلية . ومثلما أصرت الناصرية على الانتقال السلمى إلى الاشتراكية (ومع ذلك لم تستبعد العنف ضد الرأسمالية ولكن هذا العنف لم يفسر بالضبط : كيف يمارس وما هى أشكاله، هل هى الثورة الدامية والحرب الأهلية كما تذهب اللينينية أم عنف أجهزة الأمن الناصرية )، أصرت بشكل أوضح على أن تحقيق الوحدة يتم فقط بالطرق السلمية : "فالقسر بأية وسيلة عمل مضاد للوحدة". ولكن الميثاق لم يحدد لنا قسر مَن : الشعوب أم الحكومات القطرية ؟ ويتمادى الميثاق بعد ذلك قائلاً : إنه أيضًا عمل غير أخلاقى وخطر على الوحدة الوطنية، ثم يوضح موقفه من الحكومات القطرية: فالجامعة العربية جامعة حكومات، ولذلك فهى تستطيع أن تحقق خطوات فقط على طريق الوحدة ولذلك لابد من تأييدها ! أى أن دولة الوحدة لا تتحقق على يد " قوى الشعب العاملة" فحسب، بل ويشارك فى تحقيقها أيضًا الرأسمالية (غير الوطنية) والمشايخ؛ أى الحكومات المشتركة فى الجامعة العربية. بل هو يعتبر أن العرب متحدين فعلا بشكل و بدرجة ما ؛" وان الذين يحاولون طعن فكرة الوحدة العربية من أساسها مستدلين بقيام خلافات بين الحكومات العربية، ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، إن مجرد وجود هذه الخلافات هو فى حد ذاته دليل على قيام الوحدة" .

ومن الواضح أن شعار الوحدة العربية يرتكز على اعتقاد الناصرية بوجود أمة عربية واحدة، وهى لم تقدم أفكارًا خاصة بهذا الصدد، مكتفيةً بتكرار أفكار بعض التيارات القومية.

الوحدة العربية – وفقا للناصرية-  ينبغى أن تتم فى إطار اشتراكية  مضادة " للاشتراكية الماركسية"، كما يسميها عبدالناصر. وبالتالى ينبغى أن تتم الوحدة فى إطار مضاد للحركات الثورية الراديكالية ولفكرة ديكتاتورية البروليتاريا، وبهذا تتحقق الوحدة على حساب الحركة الشيوعية، لصالح فكرة دولة بوليسية كبيرة على الطراز الناصرى.

"فالدعوة السلمية" تنتهى بحكم بوليسى. بينما الحكم البوليسى عاملاً هامًا فى فشل محاولات الوحدة الناصرية، وقد ظهر الفشل أولاً فى السودان، حيث رفض الشعب السودانى فى النهاية الوحدة الناصرية، لأنه كان يتمتع فى ظل طبقته المسيطرة القطرية بقسط أوفر من الحرية، ثم فى سوريا لعوامل منها رفض الشعب السورى للنظام البوليسى الناصرى.

كذلك فشروط الوحدة الناصرية تتضمن – أو هى فى حقيقتها – نفى لفكرة الوحدة نفسها، فهى وحدة "لقوى الشعب العاملة" التى لا تقبل موضوعيًا أن تتحد على صعيد الأمة وهى تستبعد وسيلة لا غنى عنها لتحقيق الوحدة : العنف ضد الطبقات المسيطرة، والذى قد يكون ضروريا أحيانا ..  هذا اذا كان المشروع جادا حقا .

  كذلك يعلن الميثاق ضرورة تأييد الجامعة العربية على أساس أن الحكومات العربية (التى يقسمها الخطاب الناصرى إلى حكومات عميلة ورجعية وتقدمية) تستطيع أن تدفع بمسألة الوحدة إلى الإمام. فإذا تذكرنا أن "أى عنف هو ضد الوحدة" . تكتمل الصورة : أى لا وحدة على الإطلاق.

يمكننا الآن استنتاج أن فكرة الوحدة العربية لم تكن حسب الأفكار الناصرية موضوعًا ملحًا ولم توضع حتى نظريًا على جدول الأعمال فى المدى المباشر. كما أن تحقيقها كان مشروطًا بعوامل شتى تعيق تحقيق هذه الفكرة تمامًا، منها نبذه أى عنف، بل والتعاون مع الأنظمة العربية، الرافضة، بل والمعادية للوحدة أصلاً.

و قد زعم الميثاق أن العصر يشهد "تغيرات عالمية تنفى قيام الوحدة على الطريقة الألمانية والإيطالية"، بينما كان الفيتناميون يحققون ذلك بنفس الطريقة تقريبًا، ونجحوا نهائيًا فى ذلك  عام 1975. والشىء نفسه ينطبق على الصراع الطبقى؛ ففى عام 1962 كان الميثاق يتكلم عن "متغيرات عالمية" بينما كان كاسترو يقود الثورة المسلحة فى كوبا ويعلن تصفية الطبقة المسيطرة. ثم أتت الثورة المسلحة فى الجنوب العربى (1963-1967) وأنجولا وموزمبيق وكمبوديا ولاوس ..

 

******************

 

الميثاق – كما نستنتج من تحليلنا السابق – والناصرية عمومًا كأفكار، عبارة عن خليط مشوش من المادية  والمثالية، من البراجماتية والديماجوجيا، ذات منهج انتقائى، أى بدون منهج حقيقى، أو منهج اللامنهج، "محايد" من الناحية العقائدية و "لا منحاز" من الناحية السياسية.

وإذا أردنا إيجاز محتوى الأفكار الناصرية، لوجدنا أنها تتضمن الدعوة لتحقيق الاستقلال السياسى المباشر، مصادرة المجتمع المدنى لصالح الدولة، مد نفوذ مصر إلى الوطن العربى بالقدر الذى يحافظ على هيبة الدولة فى الداخل دونما تورط فى مشاريع حقيقية للوحدة العربية، استغلال التناقضات الدولية والمحلية لتدعيم النظام السياسى، ترميم النظام الاجتماعى بما يمكّن الدولة من مصادرة الصراع الطبقى. وجوهر هذه الأفكار جميعًا هو تحقيق سيادة الدولة على المجتمع المدنى.

وقد طرحت الناصرية محتوى أفكارها منذ بداية انقلابها، فهى تنسجم تمامًا مع مطالب النخبة الجديدة المتعطشة إلى السلطة وما يترتب على ذلك من تحقيق لمصالحها. ولكن شكل هذه الأفكار قد تغير أكثر من مرة، وحتى بعد وضع الميثاق صدرت وثائق أخرى تتضمن تغييرًا فى صورة الفكر الناصرى، أى فى الشعارات دون المحتوى العميق.

وقد اكتفينا هنا بتحليل محتوى هذه الأفكار، وسوف نترك تحليل الشعارات المناقضة للمحتوى إلى مرحلة لاحقة، حين نتناول السياسات الفعلية للنظام.

لقد عبرت الأفكار الناصرية عن منطق الحكم الناصرى، ونقصد منطقه الموضوعى. بمعنى أن البداية كانت هى الانقلاب، والذى مع قيامه ظهرت النخبة الناصرية وفقًا "لمنطق" الوقائع آنذاك .. وقد أعلنت هى عن محتوى أفكارها مع تفاعلها بنقاطها الست مع الأوضاع الفعلية.

 

******************

 

موقف الحركة الشيوعية من الأفكار الناصرية:

بالرغم من وجود تيارات سياسية أخرى بخلاف التيارات اليسارية ابان العهد الناصرى إلا أن اليسار بالذات قد انتهى به الأمر إلى الاندماج فى النظام الناصرى - باستثناء قلة من الأفراد -، بل لعب الماركسيون المؤدلجون جيدًا دورًا هامًا فى الدعاية للنظام الناصرى .. لذلك نحلل هنا تصور هذا التيار ليس باعتباره تيارًا معارضًا بل باعتباره أهم أبواق النظام على الصعيد الأيديولوجى اعتبارًا من 1964-1965. بل ان ما قدمه المنظِّرون "الماركسيون" كان فى حقيقة الأمر "تعميقًا للفلسفة" الناصرية، بل يمكن القول ببساطة أنهم ساهموا مساهمة جوهرية فى إنتاج أيديولوجيا ناصرية ذات مظهر متماسك و عميق. وفى الحقيقة لا يمكن أبدا سوى اعتبار الأغلبية العظمى من الماركسيين المصرببن وقتها  ناصريين إلى حد أو آخر  و خصوصا كبار مفكريهم.

ومع أن كافة التنظيمات الماركسية كانت قبل يوليو 1961 لا تزال تفكر فى إطار "الثورة الديموقراطية"[15]، فقد دفعت إجراءات 1961  أهمها إلى التخلى عن هذه الفكرة. فمنذ الآن فصاعدًا، صار شعار الثورة الاشتراكية معتمدًا لدى الأغلبية، مع أنه كان من المنطقى أكثر أن يرفض الحزب الشيوعى المصرى الشعارات الاشتراكية  للنظام وكذلك إجراءات الاشتراكية المزعومة، السابقة لأوانها حسب خط الحزب الأصلى .  بل لقد التهب اليسار حماسًا بعد أن تجاوزت الناصرية برنامجه، بل وأيّدت  الأغلبية خط الناصرية الجديد، معتبرةً أن الثورة الاشتراكية قد بدأت، أو على الأقل أن السلطة تسير فى طريق تنمية "لا رأسمالى" (يؤدى طبعًا إلى الاشتراكية !). ليس هذا فحسب، بل واعتبروا هذه التحول خطوة عجزوا هم عن القيام بها. . واعتبر معظم أفراد اليسار إعلان الاشتراكية بداية الثورة الاجتماعية، بينما اعتُبر انقلاب 1952 بداية الثورة السياسية[16].

فباستثناء السنوات الأولى، كان أعضاء المنظمات الشيوعية متحمسين أشد التحمس للسياسة الناصرية، خاصة السياستين الخارجية والاقتصادية. وكان الحماس عظيمًا خلال الستينات (وحتى داخل المعتقلات).( ويستثنى من ذلك موقف أقلية يسارية كانت أقل تحمسًا)، وقد رفضت أن تقبل الشعارات الاشتراكية للنظام، وشخصته ككل كنظام بورجوازى رغم التأميمات الكبرى. أما الخلاف الذى ظل دائمًا يوضع فى الاعتبار من جانب الجميع تقريبًا، فكان يتعلق بمسألة نظام الحكم، أى الديمقراطية. ولكن منذ الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين تحولت الأغلبية – وخاصة العناصر المثقفة – وراحت تتفادى بقدر الإمكان أى خلاف مع الناصرية، حتى بخصوص مسألة الديمقراطية، وتشكلت "جبهة" فى شكل ناصرى أصيل، فاندمج اليمين الماركسى فى مؤسسات السلطة .. فلم يكتف بحل الحزب فى عام 1965 وإنما راح يمارس الدمججة على وعى الجماهير بشعارات لم يرفعها من قبل صراحة. وكان هو الذى استطاع – بأفضل شكل – أن يصور الحكم الناصرى فى صورة الحكم الثورى الديمقراطى.

ففى "التنظيم الطليعى" ضم النظام نحو عشرين من "الشيوعيين" المعتدلين من 250 فردا  انضموا للتنظيم عام 1964، قبل حل الحزب الشيوعى المصرى. وقد لعب هؤلاء دورًا كبيرًا فى إعداد النشرات والأبحاث التى تُظهر الحكم الناصرى فى صورة ديمقراطية شعبية، وإلقاء المحاضرات على الشباب، وتلقينه مبادئ الأفكار الناصرية التى سبق ذكرها.

وقد وافق هذا الاتجاه على صيغة الـ 50% وعلى الاتحاد الاشتراكى كتنظيم ثورى والميثاق كنظرية ثورية، كبديل – معترف به ضمنًا على الأقل –  للماركسية، التى تم الاحتفاظ منها ببعض الصياغات وتقاليد الكتابة وُوضعت فى خدمة الناصرية. فإذا رجعنا إلى المنابر الرسمية ليمين الحركة الشيوعية ابان الفترة التالية لعام 1965 (مجلتى "الطليعة" و"الكاتب"، مجلة "روزاليوسف" إلى حد ما، صحيفة "الأخبار" فى فترة ما)، نجد الترويج للأفكار الناصرية وفق صيغ ماركسية. ولا يخلو عدد واحد من عشرات التوكيدات على سلامة "النظرية الثورة" و "التنظيم الثورى" الناصريين .. نقتبس منها بعض النماذج لكى يقف القارئ على روح اللحظة – إن صح التعبير - :

"تعترف اشتراكيتنا فى الميثاق بصراع الطبقات، وتضع له تحليلاً علميًا من أرقى ما عرف من تحليلات، وهى تتطلب حل الصراع الطبقى حلاً سلميًا[17].

ويستكمل نفس الكاتب، فيتكلم فى فقرة طويلة عن ديكاتورية البروليتاريا باعتبارها شرطًا أوليًا للثورة الاشتراكية .. ولكنه يتدارك فيقول إنه بعد الحرب الثانية ظهر شىء جديد تمامًا (التشديد من عندنا) فى البلدان النامية"، "تبدأ هذه البلدان فى التحول من الثورة الوطنية إلى الاشتراكية بغير إقامة ديكتاتورية البروليتاريا، ولكن باتخاذ أشكال جديدة (التشديد من عندنا) لسلطة الشعب العاملة[18].

أما لطفى الخولى، "فيتعمق" كعادته فى التحليل بمناسبة إنشاء " التنظيم الطليعى ":

"هذه الثنائية الموضوعية لظروف المجتمع المصرى العربى الراهن هى – فى رأيى – الأساس المادى الذى يعكس بالضرورة ثنائية التنظيم السياسى فى مصر، إذ يجب أن يكون جماهيريًا وطليعيًا فى وقت واحد"، "وهذه الثنائية فى التنظيم تفيد فى ظروفنا الحالية فى تلافى أخطاء وعيوب نظام وحدانية الحزب". ثم يلجأ إلى استخدام لغة هيجل : "فالجهاز السياسى إذن هو – موضوعيًا – جزء من تنظيم كلى، وبمعنى أكثر دقة هو الجزء القادر والمؤهل (....) والعلاقات التى يجب أن تقوم بين الاتحاد الاشتراكى والجهاز السياسى هى من النوع الأخير : علاقات توحد عضوى"[19]. ثم يواصل الحديث عن مفهوم جديد، هو العضوية المزدوجة لكادر الجهاز السياسى.

وينتقل بنا محمود أمين العالم ( أعمق منظِّر للناصرية ) نقلة أخرى ذات شكل أكثر هيجلية[20] ؛ يتحدث عن الحرية فى أحد الفصول، فينتقد المفهوم الليبرالى للحرية، مقدمًا لمفهوم هيجلى للغاية: الحرية هى إدراك الضرورة. و لكنه راح يصدمنا ؛فهو لا يقصد ب "الضرورة" ما قصده هيجل ، بل حالة الطوارئ الدائمة طوال العصر الناصرى: " فإن "كثيرًا من المواطنين لازالوا يفتقدون المعنى الحقيقى للحرية ويتعلقون بأسلوب ليبرالى لا يتفق مع ملابساتنا الثورية الجديدة "، " ولعل الميثاق أن يكون أنضج ما كتب حتى الآن عن المفهوم العلمى الصحيح للحرية"، ثم يسند نفسه إلى هيجل: "يعرف هيجل الحرية بمعرفة الضرورة" [21]، ويواصل : "أى الوضعين أكثر حرية، مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952 أم مصر بعدها ؟ فى مصر قبل 1952 كانت هناك أحزاب ومعارك دستورية وبرلمان وانتخابات ووزارات تقوم وأخرى تقعد، وجرائد ومجلات مملوكة للأحزاب أو للأفراد ومعارضة برلمانية و و ( و" نسى"  أن يضيف أنه كانت هناك نقابات للعمال والطلاب وحق العمال فى الإضراب. ونقابات مهنية مستقلة ودستور يكفل الحريات الشخصية للأفراد وصحافة يسارية معلنة وشرعية الخ الخ.) وفى مصر الثورة ليست هناك أحزاب ولا صراع حزبى، ليس ثمة معارضة برلمانية بالمعنى التقليدى ولا ملكية فردية للصحف والمجلات الخ. ثم راح يتساءل : فأى الوضعين أكثر حرية ؟ "[22]. ثم يجيب على التساؤل فى فقرة طويلة قائلاً إن جوهر الحرية قبل عام 1952 كان للرجعيين والرأسماليين والإقطاع. أما بعد عام 1952 فقد "تحققت أسس أرقى للحرية" بفضل انتقال السلطة إلى "الأيدى الوطنية"، ثم حدث انتقال "من سلطة مجلس الثورة إلى سلطة الشعب العامل" و "إلى نسبة العمال والفلاحين المقررة[23]. ثم يصف الدعوة إلى تعدد الأحزاب بأنها "دعوة فى الحقيقة إلى الثورة المضادة " : "إن طريق الحرية فى بلادنا ليس طريق البرلمانية الليبرالية، ليس طريق تعدد الأحزاب، وإنما هو طريق التحالف الثورى لقوى الشعب العامل والتنظيم الثورى القائد"، "انه طريق البرلمان الشعبى والمجالس الشعبية، طريق أغلبية العمال والفلاحين الخ"[24]. ويقول فى نهاية الفصل: "وهذا هو المعنى الذى نحتفل به فى أعياد ثورة يوليو المجيدة".

 

باسم الاشتراكية، جرى بمساعدة هامة من "مفكرى" اليسار فى مصر، الذى تحول كثير منهم إلى ناصريين ، تقديم نظام يوليو كثورة اشتراكية بل واعتبار  الانتقال للاشتراكية ممكناً حين تختار السلطة هذا الحل. أى أن الاشتراكية يمكن أن تتحقق بواسطة فرد ملهم، تطورت أفكاره وهو على قمة جهاز دولة رجعى. بل وأنه من الممكن أن "يقتنع" جهاز الدولة الرجعى بضرورة ما أُسمى بالحل الاشتراكى لمشاكل المجتمع، والانتقال من الرأسمالية (أو غيرها) إلى الاشتراكية طوعًا واختيارًا. بل لقد أصبح للصراع الطبقى أسماء جديدة مثل: نظرية الوحدة والصراع، وبهذا المفهوم الجديد أصبح من الممكن أن يحل الصراع الطبقى سلميًا !!، وأصبح إذن التطور التاريخى يجرى، لا من خلال الصراع الطبقى، بل من خلال حله سلميًا .. أى من خارجه، بتدخل عامل فوق طبقى، آلة توفيقية، كما صوَّرت نفسها الدولة الناصرية، وفى أقصى الحالات يتم حل الصراع الطبقى بالنضال الفكرى، داخل "تحالف قوى الشعب العاملة". ولقد تراجع كثير من مفكرى اليسار حتى عن النضال البرلمانى وشعار الحكومة البرلمانية بل و اعتبروا الديموقراطية شيئا بورجوازيا رجعيا و أحيانا وصفت بأنها دعوة للثورة المضادة!.

 

 

 

************

انتهينا هنا من تحليل ونقد الناصرية كأفكار، وكان حكمنا الأخير أنها تحمل فى داخلها مهمة تبرير وجود النظام، و هى لم تشتبك أبداً مع الأيديولوجيات الأخرى اشتباكا حقيقيا و لم تسمح السطة بأى نقد ُيوَّجه لها  ، كما أنها قدمت نفسها للشعب كحقيقة مطلقة .. كديانة .. لا كوجهة نظر ، و هى فى هذا و إحقاقاً للحق لم تختلف عن الأيديولوجيات الأخرى المطروحة وقتها .

 الا  أنها صيغت بطريقة تقدِّم النظام فى صورة مناقضة لمحتواه الفعلى مستخدمة ترسانة من المفاهيم المستعارة ، مفرغة ً إياها من محتواها ، و فى هذا كانت متفردة فعلا و بزت كل الأطروحات الأخرى فى الساحة العربية[25]. ولكن لايكفى أن نقف عند هذا الحكم النظرى ، وإنما علينا أن نختبر مدى صحته بتحليل الواقع الملموس .. فحقيقة الفكرة لا تتبدى فى نفسها، بل فى ضدها؛ أى فى الواقع الفعلى. فعلينا الآن إذن أن ننتقل من الفكرة المجردة إلى الفكرة كوجود مادى ؛ و هى متموضعة.

 


 

[1]           هذه المبادئ هى :

1- القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين.

2- القضاء على الإقطاع.

3- القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم.

4- إقامة عدالة اجتماعية.

5- إقامة جيش وطنى قوى.

6- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

            الميثاق، ص 5.

[2]           طُرحت فكرة أن الناصرية قد تبنت الفلسفة الوضعية المنطقية. انظر مثلاً : أمير اسكندر: صراع اليمين واليسار فى الثقافة المصرية، دار ابن خلدون، بيروت ط1 1978، ص 40.والحقيقة أن الناصرية قد التقت مع تلك الفلسفة فى نزعتها التجريبية بشكل أساسى. ولكن الوضعية المنطقية لم تتحول إلى تيار فكرى، وظل رجلها المخلص فى مصر – زكى نجيب محمود – واحدًا وحيدًا. وربما أثارت كتابته قليلاً من الجدل فى الخمسينات والستينات، ولكنه لم يستطع نشر فلسفته على نطاق واسع، وكان تأثيره الأكبر على تلاميذه  تثقيفيًا بالأساس، باعتباره من أكبر المتخصصين فى الفلسفة فى مصر، ولكنه لم يكن أبدًا فيلسوف النظام. وذلك أن الناصرية لم تحتج إلى فلسفة – بالمعنى المفهوم – لمواجهة خصوصها، بدليل أن الميثاق قد أذهل الكتلة الأساسية من اليسار الماركسى.

[3]           لقد وجدت النخبة الناصرية نفسها فى البداية عاجزة عن مواجهة خصومها على الصعيد الأيديولوجى، وبلغ هذا الضعف ذروته مع اشتداد نفوذ هؤلاء الأعداء: الشيوعية والحركة القومية العربية فى المنطقة بعد حرب 1956، مما حفزها بقوة إلى اصطناع بناء نظرى. وكان عليها فى ذلك أن تستخدم نفس المصطلحات واللهجة التى استخدمها الشيوعيون والقوميون، بل وأن تتبنى بقدر استطاعتها كثيرًا من منطلقاتهم وحججهم نفسها، دون أن تنسى أن تركز على ما اعتبرته واحدًا من أهم ميزاتها على الماركسية: الدين. وقد اقتصر استخدام الدين على الوقاية من انتشار الأفكار التقدمية على نطاق واسع ومن اندفاع جمهور المثقفين وراء اتساقها الكامل ، ولذا لم تصل الناصرية إلى حد تبنى الشريعة الإسلامية، بل اكتفت بتذكير الناس بأن الماركسية (حرام)!

[4]           الطليعة، يوليو 1965.

[5]           لطفى الخولى، الطليعة، عدد مايو 1966.

[6]           كمال المنوفى، الثقافة السياسية للفلاحين المصريين، بيروت، مايو 1980.

            وقد تقرر بعد مظاهرات فبراير 1968 تخفيض الحد الأقصى من 25 إلى 10 أفدنة بقرار من عبدالناصر، وإدخال تغيير شكلى على تعريف العامل. وقد تملص عبدالناصر فى خطاباته العديدة أثناء مناقشة تعريف الفلاح والعامل من اقتراح تعريفهما بنفسه، قائلاً أنه لا يريد أن يقحم نفسه ويفرض شيئًا من عنده !

[7]           رفعت السعيد: أوراق ناصرية فى ملف سرى للغاية، دار الثقافة الجديدة، 1975، ص 38.

[8]           نفسه، ص 21.

[9]           نفسه، ص 32.

[10]         نفس الموضع.

[11]         عدد ديسمبر 1965.

[12]         كانت العضوية إجبارية فى هذا التنظيم أيضًا. انظر: عبدالله إمام، مذبحة القضاء، ص 114: نص لهيئة مفوضى الدولة فى المحكمة الإدارية العليا.

[13] لم تبتكر الناصرية شيئا فريدا فى هذا المجال ، فقد سبقتها و تفوقت عليها نظريا كافة حكومات الدول " الاشتراكية " و تفوَّق على عبد الناصر قادة اشتراكيين كبار مثل لينين و تروتسكى و ستالين الذين تحدثوا عن ضرورة الإكراه لبناء الاشتراكية و أهمية الطاعة العمياء للحزب من ِقبل العمال  و عن إمكانية بدء إقامتها فى بلد متأخر ..الخ . انظر فى ذلك أعمال لينين الأخيرة و كتاب : "الإرهاب و الشيوعية" لتروتسكى .

[14]         المرجع السابق، ص 21.

[15]            رفعت السعيد: منظمات اليسار المصرى 1950 – 1957.

            ومن الطريف أن خطاب شهدى عطية الشافعى إلى جمال عبدالناصر كان يصر على أن الثورة الاشتراكية ليست قضية اليوم بالنسبة لحزبه، بل لخص برنامجه فى :

            1- التفاف الشعب حول الحكم القائم.

            2- تحالف الطبقات الوطنية من أجل تنفيذ برنامج الحكومة.

            3-تحويل الاتحاد القومى إلى حزب فعال للشعب كله.

            4-إزالة الشقاق بين مصر والعراق.

            5- تأكيد العلاقات الودية مع المعسكر "الاشتراكى".

            وقد كتب الخطاب فى سبتمبر 1959 ونشرته "الطليعة" فى يناير 1975، ونشر رفعت السعيد أجزاء منه فى : تاريخ الحركة  الشيوعية المصرية (1957-1965) ص ص 203-204.          

[16]         لا يكتفى غالى شكرى (مثلاً) بوصف الناصرية بالثورة بل يقول: "نظلم الناصرية لو قلنا إنها كانت ثورة واحدة، فالحقيقة أنها كانت ثلاث ثورات". ثم راح يقسمها كالآتى: "الفترة الواقعة بين عامى 1952 و 1956 هى الثورة الوطنية".. " أما الفترة الواقعة بين عامى 1958 و1961 فهى ثورة الوحدة القومية" .. " وأما الفترة  الواقعة بين عامى 61 و70 رغم الهزيمة العسكرية بينهما وتدهور خطة التنمية الاقتصادية وتعاظم الطبقة الجديدة، فانها تكون الثورة الاجتماعية حيث انتقلت السلطة فى شخص قائدها من تمثيل الطبقة الوسطى موضوعيًا إلى  تمثيل قاعدة اجتماعية أوسع من البورجوازية المتوسطة والصغيرة والفلاحين والعمال". الثورة المضادة فى مصر، ص ص 375 – 376. وإحقاقًا للحق نقول إن غالى شكرى قد وصف هذه الموجات الثورية المزعومة بأنها " ثورات ناقصة "‍ (نفس الموضع).

            و نسجل هنا ملحوظة أن الإشارة لكون هذه "الثورات" ناقصة إنما يعبر فى رأينا عن عدم ارتياح الأستاذ/ شكرى لتحليله، ذلك أن كل الثورات كانت ناقصة، حتى الثورة الفرنسية، بمعنى من المعانى ..  ونسجل  ملحوظة أخرى : إن انتقال السلطة طبقيًا فى شخص قائدها لهو أمر يحتاج إلى تفسر لم يلجأ إليه أبدًا الأستاذ/ شكرى، وهى فكرة  طرحها الناصريون كثيرًا، تتلخص فى ان تطور فكر الزعيم أدى إلى تطور النظام ، دون تقديم تفسير لآلية حدوث مثل هذا التأثير السحرى !.

[17]         فؤاد مرسى : الطليعة، عدد أكتوبر، 1966.

[18]         يُفهم من هذا أن فؤاد مرسى ( الماركسى رسمياً ) يعتقد أن ديكتاتورية البروليتاريا ليست سوى "أحد أشكال" سلطة الشعب العامل !! أما فى الكلاسيكيات الماركسية فقد   اعتُبرت سلطة السوفيتيات، أو المجالس الشعبية شكلاً لديكتاتورية البروليتاريا، أى  عكس ما يقصده.

[19]         الطليعة، عدد أبريل 1965 .

[20]         معارك فكرية ، القاهرة 1965 ،ص ص154 –  187.

[21]         ليس المعنى الذى يقصده هيجل بهذه العبارة هو المعنى الذى أراد أن يقدمه لنا محمود العالم؛ فهيجل يرى أن "الحرية تعنى ان الشىء الآخر الذى تتعامل معه هو ذات ثانية، حتى إنك لا تترك أبدًا الأساس الخاص الذى تقف عليه، وإنما تشرع لنفسك وتضع قانونك الخاص" (موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ص 102). فالحرية باختصار تعنى التعيين الذاتى، أى أن تحدد نفسك بنفسك. فإذا كانت القوانين تعبر عن إرادتى، فأنا إذن حر. أما إذا كانت تعبر عن إرادة الحاكم فأنا إذن لست حرًا لأن "الحرية تستلزم ألا نشعر اننا فى حاجة إلى شىء آخر غير ذواتنا" (ص 103). ويرى هيجل أن الحقيقى هو الكلى، لذلك يكون الفرد إنسانًا حقيقيًا بقدر ما يكون فى هوية مع مفهومه كإنسان؛ ان تكون إرادته هى إرادة الكل – الإنسان كذات مفكرة؛ أى أن تكون هى إرادة العقل. أما حرية الإنسان الطبيعى فهى عكس الحرية، لأن هذا الإنسان – حسب تعبير هيجل – "ليس سيد نفسه"، "فمكونات إرادته وآرائه ليست خاصة به" (ص 103).

            فالقاعدة التى يضعها هيجل للحرية الحقيقية قاعدة أعمق كلية من فهم الأستاذ محمود العالم؛ فالحرية ينبغى أن تُفهم على نحو عقلانى، فعلى الإنسان الفرد، كذات مفكرة، أن يحدد نفسه بنفسه بهذه الصفة، وبالتالى أن يحددها وفقًا لما هو معقول، والمعقول كلى لأن العقل الإنسانى هو العقل الإنسانى عمومًا، وليس عقولاً عديدة؛ فالحقيقة – لدى هيجل - واحدة والمنطق  واحد، والحقيقة تتفق دائمًا مع العقل، فهى "المعقول" نفسه. أما "العقل" الفردى الذى يعارض المعقول، فهو ليس فى هوية مع مفهوم العقل، أى ليس عقلاً حقيقيًا . 

            وهيجل يمد كلامه على استقامته، فهو يستنبط المجتمع المدنى والدولة بطريقة تبدو منطقية. ولكنه يفعل ذلك فى الحقيقة بطريقة بالغة التعسف، ورغم ذلك فهو يقول ان "الدولة الفاسدة أو السيئة هى دولة غير حقيقية" (الموسوعة، ص 106) ويقصد الدولة التى لا تتـفق مع مفهوم الدولة كما حدده هو.والخوض فى هذه المسألة يحتاج إلى كثير من الإطالة، ولكننا أردنا فقط أن نوضح كيف ُقدِّمت "الفلسفة الناصرية" باستخدام مفلهيم لها بريقها و لكن بمعانى مناقضة لها .

[22]         معارك فكرية، ص 169.

[23]         ليس من الضرورى هنا أن نكرر ما ذكرناه حول طبيعة الحكم الناصرى الفردى. وليس من العسير على الأستاذ محمود العالم أن يستوعب مدى زيف تلك الـ 50% المذكورة، فيكفيه أن يرجع إلى تعريف العامل والفلاح، كذلك ليس من الصعوبة بمكان أن يرى بكل وضوح كيف انتقلت السلطة من "مجلس قيادة الثورة" إلى الحكم الفردى وليس إلى الشعب العامل، وأسهل من ذلك أن "يكتشف" غياب " البرلمان الشعبى" والمجالس الشعبية الخ.

[24]         فليلاحظ القارئ أن "العالم" يقصد الواقع القائم بالفعل: فالبرلمان شعبى لأنه يضم 50% عمالاً وفلاحين حسب التعريف الناصرى، ولكنه نسى (أو تناسى ؟) واقع أن أغلبية العمال والفلاحين تضم هى نفسها أغلبية من الموظفين وملاك الأراضى وفقًا للتعريف الرسمى.

[25]      أما على الصعيد العالمى فقد بزتها الستالينية ؛ الأعمق نظريا بكثير و المبررة لدولة أكبر و أعظم شأناً بما لا يقاس ، و التى شكلت تياراً فكريا واسع الانتشار و تأثيرا سياسيا هائلاً . و لكن الستالينية قد قامت على أرضية ممهدة أصلاً ؛ من تراث لينينى و حزب كبير و عريق و لم تكن بحاجة إلى استعارة  مفاهيم ..الخ بينما كانت الناصرية "عصامية"و اضطرت لاستخدام تراث غيرها .  

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1