التحررية الجماعية      Communism libertarian

الحرية دون مساواة استغلال  المساواة دون حرية استعباد

**********************************

الصفحة الرئيسية

عشوائيات ومعضلات

ترجمات

متنوعات ومختارات

مقالات الراية العربية

مقالات سؤال الهوية

شريف يونس

الفسائل

مقالات إنهيار عبادة الدولة

العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى

تقدم علمى و تأخر فكرى

الجات ونهب الجنوب

الناصرية فى الثورة المضادة

مواقع أخرى
ENGLISH

مراسلات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
كتاب الناصرية فى الثورة المضادة

عادل العمرى

لفصل الأول السياسة العامة(2)

ثانيًا: السياسة الخارجية

 

* إلى حد انتهاء النفوذ الأجنبى المباشر، يبدو الاستقلال السياسى نقيًا خالصًا، ولكن جامدًا ساكنًا. إلا أن الدولة، لسبب بسيط، هو أن هناك دول أخرى تكون مضطرة إلى ممارسة استقلالها، أى إلى التعامل بإرادتها مع الآخر. وفى عصرنا هذا لم تعد هناك دولة لا تتعامل مع العالم الخارجى، فوجودها نفسه لم يعد إلا وجودًا على الساحة الدولية، وبذلك لا يعتبر استقلالها مجردًا وإنما يتشكل فى شبكة علاقاتها الخارجية. وبقدر ما تكون السياسة الخارجية مجالاً لتحقق الاستقلال بقدر ما تكون نفيًا له، فالدولة فى علاقاتها مع العالم تواجه بإرادات الدول الأخرى، المختلفة بالطبع مع إرادتها هى. فحين ننظر إلى فكرة الاستقلال السياسى تبدو لنا للوهلة الأولى وكأنها فكرة التخلص الكامل من النفوذ الأجنبى، ولكن بمجرد أن نتوصل إلى هذه النتيجة تبرز أمامنا فورًا حقيقة مضادة: فالدولة المستقلة هى عضو فى المجتمع الدولى، ولذلك تضطر إلى التعامل مع هذا المجتمع وفقًا لتوازنات تتحدد خارجها وتتفاعل مع إرادتها، أى أنها كما تبدو الآن تقع تحت طائلة النفوذ الأجنبى، الذى لا تتحقق إرادتها إلا فى ظله وبالتفاعل معه. إلا أن الأمر يتبدى الآن فى صورة نفوذ أجنبى غير مباشر. وقد رأينا مصر الناصرية تتمتع بالاستقلال المباشر عقب حرب 1956، إلا أنه كان استقلالاً ناقصًا، فظل للقوى الأجنبية نفوذ مباشر تمثل فى شروط الانسحاب الاسرائيلى من سيناء عام 1957، وسوف يتبين لنا لدى تـناول السياسة الخارجية كيف حققت الناصرية عمليًا ذلك الاستقلال المنقوص. فقد بدا لنا فيما سبق أن مصر الناصرية قد باتت بعد الحرب حرة الإرادة، ولكى نكشف إلى أى حد كان هذا الأمر حقيقيًا سنقوم بتحليل "الإرادة" الناصرية فى سياستها الدولية.

     ومن الحقائق الثابتة تاريخيًا أن الدولة فى سياستها الخارجية تنطلق من مصالحها الكلية (المباشرة وغير المباشرة) لنظامها السياسى – الاجتماعى لا من مبادىء مجردة، ولكنها تعتمد الأخيرة بقدر ما تكون صالحة فى اللحظة المعنية للتعبير عن تلك المصالح، مع ضرورة أن تؤخذ فى الاعتبار ضغوط القوى الاجتماعية المتناقضة والدول الأخرى أيضًا، وما نقصده هنا بالمبادىء المجردة هو بنية الأفكار التى تتبناها الدولة بشكل فعلى، بغض النظر عن الشعارات الديماجوجية مثل حقوق الإنسان" و" نزع السلاح".. الخ. وسوف نتبنى هذه الفكرة خلال تحليلنا القادم للسياسة الناصرية. ونحن ننبذ منذ البداية (دون أن نرى حاجة للتحليل والتفنيد) تلك الطريقة فى التفكير التى تتصور أن سياسة الدولة تعبر عن شخصية حاكمها أو تصوراته المجردة أو عن أهداف عامة مجردة تحملها هذه الدولة منفصلة كليًا عن مصالح القوى الاجتماعية التى تعبر عنها ومثلما يحدث دائمًا فإن السياسة الخارجية الناصرية عبرت عن العلاقة بين المصالح الكلية للنظام الاجتماعى القائم وتصور الناصرية عن المصالح التى تمثلها، وكان هذان الطرفان فى حالتنا هذه متمايزين بوضوح، لأن السلطة؛ أى الناصرية كانت متميزة بوضوح عن الطبقة المسيطرة، فكانت الأولى لا تستند مباشرة إلى تأييد الثانية، بل ظهرت فى ظرف توازن سياسى بين مختلف القوى المتصارعة عام 1952. ولذلك فإنها فى سياستها الخارجية كانت مضطرة إلى الإعلان عن نفسها بوصفها معبرة عن حالة توازن داخلى، فكان عليها أن تجتهد للدفاع عن مصالح النظام القائم ، وفى نفس الوقت كانت مضطرة إلى تبنى شعارات ترضى طموحات الطبقات الأدنى، وبالأخص الانتلجينسيا، خاصة أن هذه الأخيرة كان لها حلفاء موضوعيين أقوياء فى البلاد العربية والعالم كله. وقد منحت حالة الاستقطاب الدولى حكومة يوليو فرصة كبيرة لممارسة سياسة " بونابرتية" (بالمعنى المجازى للكلمة) فى الخارج. ومن عادة الأنظمة المعتمدة على توازنات داخلية معقدة من هذا النوع، أو تلك التى تشعر بضعف داخلى أن تلجأ إلى محاولة تحقيق انتصارات خارجية حقيقية أو وهمية، وقد يعرضها هذا إلى انتكاسات خطيرة، ومن الواضح أن البيروقراطية الناصرية كانت ضمن ذلك النوع من النظم.

وإذا كان الهدف الأسمى للناصرية هو استمرار وتدعيم وجودها كسلطة، فإن هذا الهدف كان يستلزم كما رأينا من قبل الالتزام بالنظام الاجتماعى القائم، دون إهمال صلة قوية – أدبية على الأقل – بالطبقات الأدنى وممثليها. و فى الخارج فكان هذا المنطق يعكس نفسه، فالتناقضات الداخلية، علاوة على تأثرها الكبير بالتناقضات الدولية، قد وجدت فى الخارج صورتها غير المباشرة، فلكل نقيض حلفاؤه وخصومه فى الخارج. ولصياغة سياسة خارجية قابلة للتحقق كان من الضرورى وضع هذه التناقضات فى الاعتبار، فكان العمل على الحفاظ على التوازن الخارجى القائم يعد أمرًا ضروريًا لاستمرار بقاء الوضع الداخلى على ما هو عليه.

 

1- الناصرية فى العالم العربى:

سبق لنا أن حللنا الناصرية فيما يتعلق بالقومية العربية وقد توصلنا إلى أن منطقها فى هذا الصدد قد تلخص فى ضرورة التعاون مع الأنظمة القائمة، على أساس أنها قادرة على "قطع خطوات على طريق الوحدة العربية"، أما التحقيق النهائى للوحدة فيعتمد على إقناع "قوى الشعب العاملة" فى البلدان العربية دون اللجوء إلى العنف.

ويعبر هذا المنطق عن حالة الناصرية فى قمة صعودها، الذى تحقق عند أكثر اللحظات مواتاة لاستغلال التناقضات الداخلية والخارجية. ورغم أن هذه الفكرة قد تبلورت بعد عشر سنوات من انقلاب 1952، إلا أن منطقها كان يتحقق منذ البداية، فالحل الوسط كان دائمًا منحى ثابتًا للناصرية فكانت تسعى باستمرار إلى تحقيق حالة توازن دائمة بين اليمين واليسار. وفى السياسة الخارجية استمر المنطق نفسه فى العمل. وفى المنطقة العربية لم تحدد الناصرية بشكل حاسم ما إذا كانت مع الوحدة العربية أم ضدها، مع اليسار أم اليمين، مع الحكومات أم الشعوب، وحتى فى ألمع اللحظات والتى استمرت بضعة أشهر حين رفعت شعار "وحدة القوى التقدمية"، إنما كانت تدفع اليسار ضد اليمين القوى الزاحف فى المنطقة لتحقيق نفس الحل الوسط، بدليل أن الهجوم الفعلى على اليسار غير الرسمى لم يتوقف فى الداخل أو الخارج بل وظل التنسيق الفعلى يتم مع القوى الوسطية فى المنطقة. ويتضمن الحل الناصرى كما هو واضح ايجاد صيغة وسط لحل المسألة الوطنية، فاليسار بوجه عام – كان معادياً بشدة للغرب ، أما اليمين فكان يميل إلى التمسك بصيغ التبعية المختلفة، أما الصيغة الوسطية فتتمثل فى إبعاد الوجود الاستعمارى المباشر من المنطقة؛ تلك الصيغة التى لا تعنى انتصارًا كاملاً لليسار ولا هزيمة كاملة لليمين وتكون بالتالى الصيغة الأكثر مواتاة لانتعاش القوى التى كانت متلائمة معها؛ أى الناصرية ومثيلاتها فى المنطقة.

وفى ظروف تفجر الحركة القومية العربية وامتدادها القوى إلى مصر فإن الصيغة الوسط الدائمة هى تلك التى طرحها "الميثاق" وحللناها من قبل، أما الحركة القومية فكان لابد من اعتبارها منافسًا خطيرًا ينبغى استيعابه أو القضاء عليه كبديل عن الاندماج فيه أو التبعية له.

و كما حددنا من قبل لا تسلك الدول وفقًا لقناعات أيديولوجية بحتة أو لاعتبارات مثالية أو شريرة، بل وفقًا لمصالحها الذاتية، وإذا استوعبنا جيدًا هذه الحقائق نستطيع أن نفهم كثيرًا ما قد يبدو من غرائب السياسة الدولية.

 

تجربة الوحدة مع سوريا:

 

                                                                                       " لم يكن هناك خطر عاجل من قيام انقلاب شيوعى، ولكن كان من المحتمل أن يغتنم الانتهازيون الفرصة وأن يكسبوا عن طريق استغلالهم تأييد الشيوعيين والسمعة التى يتمتع بها الاتحاد السوفيتى، وكنا نخشى خشية أكيدة ما قد يسفر عن هذا الائتلاف من نتائج فى الانتخابات النيابية التى كان من المقرر إجراؤها فى هذه السنة، وما قد تؤدى إليه هذه النتائج من تطور فى انتخابات رئاسة الجمهورية، وكان لزامًا علينا أن نختار هذه اللحظة لتحقيق الوحدة ".

صلاح البيطار

 

مما له دلالته أنه بعد الحرب العالمية الثانية أخذت الدولة المصرية وخاصة مؤسسة السراى تتبنى مشروع القومية العربية، فتزعَّم الملك فاروق بتشجيع بريطانيا [1] الدعوة لإقامة جامعة الدول العربية، بل تهور فأعلن الحرب على اسرائيل رغم أنف رئيس وزرائه عام 1948. ومما يكمل الصورة أن كل من ملك الأردن وملك السعودية فى ذلك الوقت كان يبدى تعاطفه  مع شعارات القومية العربية. والدلالة الأساسية لهذه الظاهرة هى أن الحركة القومية كانت متصاعدة بالفعل، ممثلة فى الانتليجينسيا العربية التى كانت وقتئذ تشكل الكتلة الأكثر فعالية – سياسيًا – فى المنطقة. ودرءًا لخطر هذه الحركة رأت تلك الحكومات أن تحتويها بدلاً من أن تصطدم بها فالأفضل لها أن تحمل هى الشعارات القومية بدلاً من أن تعترف علانية بأن المثقفين الثوريين هم زعماء الحركة الحقيقيين، خاصة أن الأحزاب القومية الكبرى كانت معادية للشيوعية بشدة (خاصة "البعث")، أى يمكن التعامل معها[2]. وأكثر من ذلك أن هذه الحكومات كانت على استعداد لأن تتنافس فيما بينها على الحركة القومية[3]، خاصة أن هذه الأخيرة لم تكن تضع فى اعتبارها تحرير البلاد العربية من الاستعمار فحسب بل وتحريرها أيضًا من الحكومات القطرية.

والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفسر كثيرًا من الظواهر التى بدت فى المنطقة إلا إذا فهمنا جيدًا الكيفية التى تفكر بها حكوماتها ومنطلقاتها الحقيقية فى الحركة، فليس من السهل أن نقسم العالم إلى قسمين: مع القومية العربية، ضد القومية العربية، ثم نعتبر الطرف الأول ثوريًا والثانى رجعيًا. إن كثيرًا من الأمور يصبح غريبًا إذا تمسكنا بهذا التقسيم المبسط، فعلى سبيل المثال وجدنا الملك حسين أثناء حرب 1956 يعلن فى إذاعة عمان "هنا القاهرة" بل ويضع قواته تحت تصرف الحكومة المصرية، بل وجدنا نورى السعيد فى العراق يهاجم العدوان بشدة، كما رأينا حلفًا قويًا يتكون بين مصر الناصرية المعادية للتبعية المباشرة والعربية السعودية التى كانت مجرد أحد أدوات شركة أرامكوالبترولية ، وسوف نرى بعد قليل كيف كان الإمام البدر يدعم الجبهة القومية فى جنوب اليمن ويكتب القصائد فى هجاء الاستعمار، وسوف يكون من الغريب أن نعرف موقف كل من فرنسا والسعودية والاتحاد السوفيتى من الوحدة المصرية السورية التى اعتبرها الناصريون وحلفاؤهم عملاً ثوريًا. ومثلما كانت أهم حقائق الفترة التالية للحرب العالمية الثانية فى مصر، هى بروز الطبقات الأدنى والانتليجينسيا كقوى مستقلة ومؤثرة، كانت أهم حقائق نفس الفترة على الصعيد العربى بروز الحركة القومية العربية كقوة بارزة لديها أسلحتها التنظيمية البالغة القوة، ممثلة خاصة فى حزب البعث العربى الاشتراكى. كما شهدت أوائل الخمسينات مزيدًا من الصعود القومى فى المنطقة؛ الكفاح الوطنى المسلح فى المغرب العربى والمد القومى فى مصر والسودان والشام والحركة القومية فى الجزيرة العربية وجنوب اليمن. ومن الأمور الملفتة للنظر أن الحركة الشيوعية هى الأخرى كانت تنمو بسرعة، خصوصًا فى المشرق العربى، حيث أصبح الحزب الشيوعى العراقى هو أكبر أحزاب العراق وأصبح الحزب الشيوعى السورى من أكبر الأحزاب فى سوريا وأكبر حزب شيوعى فى الشرق الأوسط[4].

وقد وجدت الناصرية نفسها فى مواجهة ليس مطالب الحركة الوطنية فى مصر فحسب، بل وأيضًا ضغط القومية العربية فى المشرق العربى[5]. والأمر لا يتوقف عند المطالب الشفهية، بل ويحمل فى طياته إمكانية قيام حكومات عربية قومية على غرار حكومة سوريا عام 1920 ( أو حكومة البعث الراديكالية عام 1966 )، وامتداد التطلعات الوحدوية إلى مصر، بل واستثمار حكومات عربية أخرى للشعارات القومية. والأمر الأدهى أن رجال الأعمال فى سوريا بدأوا أيضًا منذ نهاية حرب 1956 يضغطون على مصر الناصرية لتتبنى مشروع الوحدة مع سوريا لتخليصهم من ضغوط القوميين والشيوعيين.

وكانت هذه المشكلات التى واجهت الناصرية تنمو بسرعة، وخصوصًا مع النصر السياسى الجزئى فى حرب 1956 والذى ساهمت فى تحقيقه الحركة القومية العربية التى أصبح لها بذلك نصيب ملموس من اهتمام الحكومة الناصرية، كما تصاعد النفوذ السوفيتى فى الشارع العربى. ولا يمكن أيضًا إهمال ضغوط الولايات المتحدة على الحكومات العربية لإقامة حلف دفاعى لا يمكن أن تقبله الحركة القومية العربية القوية. ومن الممكن الآن أن نوجز الضغوط الواقعة على الحكومات العربية فى المشرق فيما يلى:

- الضغوط الداخلية من أجل إقامة دولة عربية موحدة مستقلة.

- الضغوط الغربية من أجل تكوين حلف دفاعى.

- بالإضافة إلى التناقضات الاجتماعية الحادة التى حفزت الحركات الثورية فى معظم تلك البلاد.

وقد وجدت الحركة القومية العربية فى أول سقوط لنظام ملكى فى المنطقة أملاً عريضاً ومثلما نظر الشعب السودانى إلى سعد زغلول، نظر كثير من العرب المشرقيين  إلى عبدالناصر بنفس الطريقة، خاصة بعد تصريحاته التى رفض فيها مشروع الحلف الدفاعى.

وعلى سبيل المثال توجهت المظاهرات إلى سفارة مصر فى العراق فى مايو 1953 لتطالب بأن ينص الدستور المصرى المرتقب على عروبة مصر[6]. بينما طالبت المظاهرات فى سوريا بالوحدة الفورية مع مصر. وازداد تطلع الجماهير العربية نحو مصر الناصرية بعد عقد صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفيتى. وهكذا سارت الأمور، فكلما استجابت الناصرية للشعارات القومية ازدادت تطلعات وضغوط القوميين عليها من أجل المزيد. وكان موقف المنظمات القومية والشيوعية من معاهدة 1954 نذير خطر لعبد الناصر بقدر ما أظهر مدى عنفوان الحركة القومية العربية (ولكن سرعان ما تجاوزت الأحداث معاهدة 1954 -انظر أعلاه). وقد ظهر هذا العنفوان فى قمته ابان حرب 1956، فقد اضطرت الحكومات المحافظة إلى اتخاذ مواقف يمكن بالمقاييس العامية المباشرة أن توصف بالثورية: فقطعت حكومة لبنان علاقاتها مع بريطانيا، وأرسل نورى السعيد قواته إلى الأردن بغرض الاشتراك فى الحرب "ومحاصرة اسرائيل"، وفتحت الحكومة السعودية معسكرات التدريب للمتطوعين وأعلنت التعبئة العامة ووضعت جيشها تحت تصرف مصر، هذا علاوة على إرسال الدعم المادى إلى مصر، وقطع إمداد البترول العربى عن المستعمرين. ولم يبخل حاكم عربى واحد بحنجرته، فأُطلقت الشعارات القومية المتطرفة واشتعلت العواصم العربية وإذاعاتها بالهجوم المحموم على المستعمرين. ولكن هذه الأمور يمكن تفسيرها على ضوء المفاهيم و الحقائق التى ذكرناها أعلاه.

وكانت أول خطوة وحدوية بين الأنظمة العربية بعد الحرب الثانية هو إقامة جامعة الدول العربية. وقد أدى تطور الأحداث فيما بعد، خصوصًا اعتداءات اسرائيل، إلى تكوين حلف ثلاثى واتفاق دفاع مشترك بين مصر وسوريا والسعودية عام 1956. وبعد أن قام الملك حسين بطرد "جلوب باشا" من الأردن، عقد "الاتفاق الرباعى" عام 1957 لتقديم المساعدة المالية للأردن ردًا على قطع بريطانيا لمساعداتها لنظام الملك حسين.

ولم يكن الخوف من الحركة الثورية العربية هو السبب الوحيد الذى يفسر لنا مواقف الأنظمة العربية من قضايا المنطقة، فرغم أن هذه الأنظمة كانت فى الفترة التالية مباشرة للحرب الثانية تابعة للغرب على نحو مباشر، فإنها، رغم تبعيتها، لم تكن لتمانع فى الوصول إلى وضع أفضل على الساحة الدولية وعلى ساحة الشرق الأوسط بالذات؛ فمن الأفضل دائمًا للحكومات أن تحصل على قدر أكبر من حرية الحركة إزاء العالم، خاصةً أسيادها. وفى حالتنا هذا أصبح وجود اسرائيل منذ 1948 أمرًا يدخل فى حساب الأنظمة الشرق أوسطية ككل، فاسرائيل تستهدف لا قهر الشعوب العربية فحسب، بل والأنظمة القائمة أيضًا. ولذلك – وبغض النظر عن الحركة القومية العربية – رأت الأنظمة العميلة فى المنطقة فى اسرائيل خطرًا كبيرًا على وجودها نفسه، بشكل مباشر وبشكل غير مباشر (عن طريق إثارة وجودها نفسه للنزعة القومية العربية)[7]. كذلك كانت البلدان الكبيرة فى المنطقة تتنازع السيادة على الكيانات الأضعف، كما كانت تتخوف من بعضها البعض.

ومما يستكمل خريطة السياسة الشرق أوسطية فى الفترة المذكورة تحديد طبيعة تطلعات بلدان المنطقة، خصوصًا أن الفترة كانت تشهد حراكًا سياسيًا واسعًا. فهناك حساسية تقليدية بين تركيا وبلدان المشرق العربى، فحين تكوَّن حلف مصر – سوريا – السعودية، قامت تركيا فورًا بحشد قواتها على حدود سوريا، وكذلك استنفر العراق قواته تخوفًا من مصر من جهة وتحسبًا لتركيا من جهة أخرى. وفى نفس الوقت كان حكام العراق يتطلعون إلى ضم سوريا، بينما كان هذا الأمر يقلق حكام السعودية، ولذلك وجدنا السعودية تشجع الوحدة بين مصر وسوريا باعتبارها أهون من "الهلال الخصيب"، فالوجود المصرى فى سوريا لن يكون أخطر من دولة كبيرة تشمل العراق وسوريا وتخضع لحكام العراق الملاصقين للخليج (حتى فرنسا كانت ترى أن الوفاق المصرى السورى أهون من الوفاق العراقى السورى[8])، ورغم العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة، اتخذت الأنظمة العربية مواقفا " قومية" لإرضاء الحركة القومية من جهة ولاستخدام ضغطها لتحجيم النفوذ الاستعمارى عليها من جهة أخرى. ففى 1957، عندما عُقدت معاهدة بين سوريا والاتحاد السوفيتى دبَّرالرئيس أيزنهاور محاولة انقلاب فى سوريا وتم حشد الأسطول السادس فى نفس الوقت، كما تدفقت الأسلحة على لبنان والعراق والسعودية والأردن وتركيا. لكن كان نتيجة لاحتشاد القوات التركية أن أعلن كل من لبنان والأردن إخلاصهما " للتضامن العربى" كما أعلن نورى السعيد تأييده لحكومة سوريا وقام بزيارة رسمية لها. وبذلك فشلت الولايات المتحدة فى إرهاب سوريا. وفى الجنوب العربى كان الإمام يتطلع لضم جنوب اليمن إلى مملكته ولذلك شجع ثوار الجنوب على مقاومة الاستعمار البريطانى وتبنى الشعارات القومية العربية، أملاً فى طرد الإنجليز من عدن لضمها إلى مملكته. وهكذا لم تكن الشعارات والمواقف الجزئية تعنى دومًا شهادة بالثورية ولا بالرجعية، فالظاهرة لا تتضح على حقيقتها إلا عبر تحليل محتواها الداخلى.. ولذلك لا يمكننا أن نحكم على التجربة الناصرية فى الوحدة العربية إلا عن طريق تحليل هذه العملية من داخلها وبالتفصيل.

فى أوائل الخمسينات كانت الحركة القومية، ممثلة أساسًا فى حزب البعث، تتصاعد بشكل خطير، وخصوصا أن سوريا كانت ابان القرن الأخير معقل القومية العربية، وفى نفس الوقت كانت (كما قال تشيلدز) الحقل المفضل لانتشار الشيوعية فى الفترة من 1955- 1958[9] ، ورغم قوة الحزب الشيوعى (المعارض لفكرة الأمة العربية) اضطر إلى الاعتراف بفكرة الوحدة العربية ولكنه لم يطرحها كمشروع الساعة وإنما تركها للتطور التاريخى – حسب تعبيررئيس الحزب؛خالد بكداش نفسه – ويدلنا هذا على مدى عظم المد الوحدوى. وكان البعث يتبنى كذلك أفكارًا اجتماعية أكثر راديكالية من أفكار الحزب الشيوعى نفسه. ومعنى هذا أن صدامًا اجتماعيًا مروعًا كان مرتقبًا، وخاصة أن الجيش نفسه كان يموج بتيارات راديكالية، ولم يكن للطبقة المسيطرة حزب منافس بحق لحزب البعث القوى، علاوة على ضعف سيطرتها على الجيش، مما حجم كثيرًا من قدراتها القمعية، لذلك اضطر ممثلو النظام إلى ترديد الشعارات القومية، و لكن بحذر. وقد أخذ التهديد الاستعمارى أشكالاً متعددة فى مواجهة المد الثورى فى سوريا من حشد قوات الدول المجاورة إلى هجمات اسرائيل إلى حشد الأسول السادس.. الخ وكانت النتيجة المباشرة تصاعد الحركة القومية فى سوريا ومطالبتها بالوحدة الفورية مع مصر. أما رجال السياسة الرسميون فاقترحوا بديلاً هو الوحدة الفيدرالية.

فى النهاية استطاع الضباط البعثيون و"القوميون العرب" فرض وجهة نظرهم بالقوة على الحكومة، التى لم تكن تملك القوة الكافية لمواجهة الموقف، وباختصار كان مطلب الوحدة قد انطلق من أعماق الشعب السورى، لا ردًا على التهديدات الامبريالية المباشرة ولا ردًا على الحشود العراقية بل تبلور الشعور القومى عبر عقود عديدة. وكان مطلب الوحدة يشكل على العكس استفزازًا خطيرًا للقوى المحافظة بالمنطقة.

وفى النهاية اضطرت الطبقة المسيطرة نفسها إلى الموافقة على مبدأ الوحدة مع مصر، لمسايرة الحركة القومية ولاتخاذ الوحدة مع النظام المصرى كحماية لها من اليسار السورى [10]، ومن استفزاز الأنظمة المجاورة. ومن المفهوم أن التفاهم مع نظام يوليو كان أهون من التفاهم مع حزب البعث والحزب الشيوعى من قِبَل تجار وسماسرة سوريا، فالناصرية أصبحت فى نظر تلك الطبقة صمامًا للأمن، وكذلك كانت فى نظر الوحدويين ولكن بطريقة مختلفة، ولنأخذ فى الاعتبار أن خوف " البعث" من استيلاء الشيوعيين على السلطة قد ساهم فى دفعه إلى أحضان الناصرية.

أما الأوضاع فى مصر فكانت مختلفة، فرغم نمو النزعة القومية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تتبلور الحركة القومية العربية فى أشكال منظمة مماثلة لتلك التى تكونت فى المشرق العربى، ولم تشكل بالتالى قوة ضغط تُقارن بمثيلتها فى الشام. والحقيقة أن الجماهير فى مصر كانت أكثر إحساسًا بالانتماء لوادى النيل منها بالانتماء للعرب ككل، وأكثر شعورًا بالقطرية منها بالقومية. باختصار لم تكن فكرة القومية العربية فى مصر قوة فعلية أو احتمالية تهدد النظام القائم لا قبل يوليو 1952 ولا بعده. ولم يكن للضباط طموحات واسعة فى المنطقة العربية، بل كانت فكرة الوحدة العربية كإجراء فورى غير مقبول بالنسبة لهم، ولا نبالغ إذا وصفناها بانها كانت فكرة مخيفة بالنسبة إليهم، ويمكن استشفاف هذه الحقيقة من تتبع الأحداث منذ ما بعد حرب 1956 وحتى إتمام الوحدة المصرية السورية فى فبراير 1958. فعلى سبيل المثال أعلن عبدالناصر لأعضاء "الوفد" السورى الذى حضر إلى القاهرة لمناقشة قضية الوحدة (يناير 1958) "إن الجيش السورى مسيس واعتماد على قيام الانقلابات".. "أمضيت 5 سنوات لإبعاد الجيش المصرى عن السياسة"[11]، كما أعلن رفضه بوضوح للوحدة الفورية ودعا إلى التدرج وإقامة العلاقات الثقافية والاقتصادية وغيرها، وتحت الإلحاح البالغ من "الوفد" السورى اقترح عبدالناصر تحديد مدة انتقالية (5 سنوات) يتم خلالها التمهيد للوحدة [12]. وإزاء هذا لجأ القوميون فى سوريا إلى ممارسة الضغوط الإعلامية ضد الناصرية: "أين الأهداف التى ناديت بها وأعلنتها، وهل تترك سوريا تتنازعها الأحقاد، وهل تترك سوريا تضيع"، "هل يرضى عبدالناصر أن يترك سوريا العربية تهوى فريسة الشيوعية أو للعناصر الانتهازية ؟"[13]. وأ صدر حزب البعث فى سوريا بيانًا عام 1957 بمناسبة عيد الجلاء عن مصر طلب فيه من حكومتى البلدين إقامة الوحدة فورًا. ولم تكن الحركة القومية فى سوريا فقط هى التى تتطلع إلى الوحدة مع مصر، بل تمتعت بتعاطف سائر جماهير عرب المشرق. وحسمت الناصرية ترددها أخيرًا وقبلت الوحدة بشروط :  إقصاء الجيش السورى عن السياسة وحل الأحزاب فى سوريا وتوحيد القيادة السياسية. وكان أن قُبلت هذه الشروط من قبل كافة الاتجاهات فى سوريا باستثناء الحزب الشيوعى، وذلك فى ظل حالة من الشغف والتعصب لفكرة الوحدة سيطرت على الجماهير السورية[14].

ومن الجدير بالملاحظة أنه قد سبق إعلان الوحدة عقد اتفاق عسكرى بين مصر وسوريا عا م1957 ينص على:

- توحيد الجيش.

- إرسال خبراء عسكريين مصريين إلى سوريا.

- تزويد الجيش السورى بالسلاح.

- إرسال قوات مصرية إلى سوريا.

وتم إرسال هذه القوات بالفعل فى أكتوبر 1957.

وكان قد سبق ذلك اتفاق آخر عام 1955 بعد اعتداء اسرائيل على البلدين نص على:

1- عقد اتفاق للدفاع المشترك.

2- العمل على قيام الوحدة الاقتصادية.

3- عدم الارتباط بأحلاف عسكرية.

ومن الواضح أن كل هذه الإجراءات كانت كافية ، فى ظل صعود الموجة القومية فى المنطقة وهزيمة بريطانيا وفرنسا فى حرب 1956 (سياسيًا) لحماية سوريا ضد المؤامرات الاستعمارية، أما إجراء الوحدة نفسه فلم يكن ليضيف شيئًا ملموسًا فى هذا الصدد ولكنه كان يتضمن إضافة هامة من نوع آخر، هى حق الناصرية فى التدخل فى إدارة سوريا مباشرة، بما فى ذلك إشرافها على حل الأحزاب وإبعاد الجيش عن السياسة. وبمعنى أكثر بروزًا تسريح الحركة الثورية (القوميون – الشيوعيون) وإبعادها كذلك عن الجيش. ولا نزعم بالطبع أن القرار بإقامة الوحدة كان مخططًا من قبل أى من النظامين لتحقيق أهداف محددة تمامًا إلا أن مسار الأحداث كان يحمل ميلاً معينًا؛ فالنظام السورى كان يتعرض لخطرين، أولهما: حلف بغداد وتوابعه،  خاصة  نظام بغداد، وثانيهما: الحركة الثورية فى الداخل. وقد استطاعت اتفاقيتا 1955 – 1957 مواجهة الخطر الأول، أما الطريقة التى تمت بها الوحدة (الشروط الناصرية) فهى من الناحية الموضوعية مضادة للخطر الثانى ممثلاً فى الأحزاب القائمة فى سوريا والجيش المسيَّس. وقد تمت الوحدة بضغط الحركة القومية أساسًا ولم ير النظام السورى إلا أنها أفضل من الاصطدام بالجماهير المتمردة فى سوريا، ورأت الناصرية أنها أفضل بالشروط سابقة الذكر من سقوط سوريا فى أيدى اليمين أو اليسار، ومن تعرضها للإحراج أمام الجماهير العربية التى كانت تتكلم باسمها. أما الفكرة القائلة بوجود دوافع اقتصادية للطبقة المسيطرة فى مصر وراء إجراء الوحدة فتتركز على مجموعة من التلفيقات أكثر مما تعتمد على وقائع حقيقية[15].

ومما لا شك فيه أن أى رجل أعمال يهمه أن يعمل فى سوق أوسع ولا جدال فى أنه يرحب بإجراء مثل الوحدة المصرية السورية فى حالة إذا ما كان يعرف أنه لا يوجد فى سوريا منافسين أقوياء فى نفس الفرع الذى يعمل فيه. ومن المؤكد أن الطبقة المسيطرة فى مصر كانت فى الخمسينات أقوى من مثيلتها فى سوريا، وهذا فى حد ذاته أمر مشجع لها على الترحيب بخطوة الوحدة من زاوية اقتصادية إلا أن طموحات تلك الطبقة لم تصل إلى هذه الدرجة أبدًا، فلم يكن حل مشاكلها الكبرى يتضمن فتح أسواق بلدان متخلفة، إذ لم يكن لديها الكثير لتصديره إليها. وكانت المخاطر السياسية لاكتساح السوق السورى أكبر بكثير من المكاسب الاقتصادية المنتظرة، ولذلك لم تطرح فى الأدبيات التقليدية لمفكرى رجال الأعمال المصريين فكرة اكتساح الأسواق العربية (باستثناء أحلام طلعت حرب التى دُفنت معه) ولم تكن فكرة الوحدة العربية من الأمور التى تلفت أنظارهم كثيرًا، بل كانت المطالبة المستمرة طوال عدة عقود بفتح باب التصدير إلى الاتحاد السوفيتى أكثر إلحاحًا بكثير من فتح الأسواق العربية. ولم تتجاوز الناصرية طموحات رجال الأعمال. ويمكننا إيجاز العلاقات الاقتصادية بين مصر وسوريا بعد إتمام الوحدة فيما يلى:

1- لم تنتقل إلى سوريا رؤوس أموال مصرية ولم تفتح الشركات المصرية فروعًا لها هناك بل تم فرض قيود على نشاط المواطنين المصريين العاديين فى سوريا[16].

ومن الوقائع الطريفة أن بعض تجار التجزئة المصريين سافروا إلى دمشق وافترشوا بعض الأرصفة، مما أثار التجار السوريين، فقدم الأخيرون شكوى إلى عبدالحكيم عامر ضد التجار المصريين، فأمر فورًا باعتقالهم وترحيلهم إلى مصر فى اليوم التالى، ويضيف أحمد حمروش أن هذه ربما كانت المرة الوحيدة التى حاول فيها المصريون توزيع بضائعهم فى سوريا[17].

2- لم يتم توحيد النظام الجمركى ولا العُملة، بل أصدر أكرم الحورانى قرارًا بزيادة الجمارك فى سوريا بعد الوحدة، وصدر قرار آخر بعدم إخضاع السلع فى البلدين لرسوم الاستيراد ولكن لم يطبق هذا القرار على التبغ والملح والسكر لأنها تدر ربحًا كبيرًا لسوريا. وبالنسبة لحجم التبادل التجارى بين البلدين نجد أنه تطور كالتالى[18]:

 

حجم التبادل السنوى (مليون جنيه)

السنة

1.7 م. ج

1948 – 1957

4.4 م.ج

1958

13.7 م. ج

1959

 

 

الميزان التجارى:

0.553 م. ج لصالح مصر.

 

1958 =

1.651 م.ج لصالح سوريا.

1959 =

 

 

وارادت مصر من سوريا:

1.922 م.ج

 

1958 =

7.742 م.ج

1959 =

 

 

صادرات مصر إلى سوريا*:

2.475 م.ج

 

1958 =

6.091 م.ج

1959 =

         * بلغت صادرات مصر الكلية فى 1959 نحو 191 مليونًا من الجنيهات

 

وتدل هذه الوقائع على أن التبادل التجارى بعد الوحدة  لم يكن فى صالح مصر فى الدرجة الأولى.

3- صدر قرار فى 1961 بحظر خروج النقد من سوريا وحظر الاستيراد إلا وفقًا لشروط قاسية.

4- تم حظر بيع أية أوراق نقدية بواسطة البنوك السورية.

5- قدمت مصر لسوريا دعمًا ماليًا:

13.5 مليون ليرة فور قيام الوحدة لمواجهة عجز الموازنة.

3 مليون جنيه مصرى سنويًا.

9 مليون جنيه استرلينى كتحويلات نقدية.

6- قامت مصر بدفع رواتب الضباط المصريين فى سوريا.

7- ظلت فروق الأجور كما هى ( لصالح السوريين ) بين البلدين كما ظلت الميزانيتان منفصلتين.

ومن الواضح أن الناصرية لم تمارس أى نهب لسوريا، بل على العكس دفعت لمساندة النظام السورى ملايين الجنيهات وحصلت الشركات السورية على فرصة العمل فى سوق مصر الأكبر بكثير من سوق سوريا.

ونحن لا نقصد بهذا سوى  نفى دور العامل الاقتصادى فى إتمام عملية الوحدة، لأنه لم يكن له  أى اعتبار فى قيامها.

 

إتمام الوحدة:

تمت الوحدة بشروط عبدالناصر الثلاثة، وكان الحزب الشيوعى قد رفض الشرط الخاص بحل الأحزاب، كذلك رفضته بعض الأجنحة داخل "البعث"، إلا أن ميشيل عفلق حسم الأمر بنفوذه القوى، وبذلك دخلت الناصرية إلى سوريا من أوسع الأبواب. وبعد حوالى شهر انضم اليمن إلى الوحدة ولكن على أساس فيدرالى. وقد نظر الإمام إلى الناصرية كعون لـه على تحرير الجنوب العربى من الاحتلال البريطانى من أجل ضم الجنوب إلى الشمال اليمنى تحت حكمه.

فى البداية استولى الناصريون على الوزارات الأهم (الخارجية – الداخلية – الحربية – الصناعة) وتركوا للقوميين السوريين 4 وزارات فقط. وامتدت إلى سوريا أفرع للمخابرات المصرية والاتحاد القومى وكافة المؤسسات السياسية والأمنية الناصرية. ومن أجل إبعاد الجيش عن السياسة تمت تصفية الشيوعيين والعناصر الراديكالية من الجيش بسرعة، فسُرَّح 94 ضابطًا  ونقل 20 ضابطًا إلى مصر. وتم نقل 850 ضابطًا مصريًا إلى سوريا بدلاً منهم، كما تم توزيع الضباط المصريين فى مناصب قيادية هامة فى الجيش السورى دون اعتبار للكفاءة، مما أدى إلى استياء الضباط السوريين. وقامت المخابرات بملاحقة فلول الأحزاب المحلولة فى الجيش. وكان من الطبيعى أن تصطدم الناصرية بالحزب الشيوعى نظرًا لرفضه حل نفسه، أما حزب البعث فكان له موقف آخر، إذ أنه وافق على حل نفسه ودخول الاتحاد القومى ولكنه فوجئ بالاتحاد القومى يتشكل بطريقة "ناصرية"، أى على شاكلة مثيله فى مصر، ففُتح أمام عناصرغير مسيسة وانتهازية وكان هذا أحد أهم خلافات البعثيين مع الناصريين، كما كان الحزب يرى ضرورة الاستعداد العسكرى لمواجهة اسرائيل ومنعها من تحويل مجرى نهر الأردن بالقوة كما تم من قبل (عام 1953) بينما كان عبدالناصر يرفض فكرة استخدام القوة فى هذا الموضوع. وكان الخلاف الثالث بين الطرفين هو رفض "البعث" تعيين الضباط فى مراكز حساسة على أساس انتمائهم السياسى .  كما نشبت خلافات أخرى أقل أهمية (منها اختلاف وجهات النظر فى معالجة الإصلاح الزراعى)[19]. اضطر وزراء البعث الأربعة إلى الاستقالة فى 31/12/1959 معلنين استيائهم من النظام الناصرى، وبدأ الحزب حملة إعلامية عنيفة ضد الحكومة منذ ذلك الوقت بينما جرت اعتقالات واسعة لأعضائه، كما بُدِء فى طرد كثير من الضباط من الجيش السورى بتهمة الانتماء إلى حزب البعث بعد أن كانت التهمة الرسمية قبل ذلك هى الانتماء للحزب الشيوعى. كذلك قامت الحكومة من جانبها بحملات تشهير كبرى ضد الحزب[20]، وأصبحت الناصرية تعتبر الأخير حزبًا رجعيًا ومعاديًا للقومية العربية. والحال أن السلطة قد أعلنت حربًا شعواء على الشيوعية والحركة القومية بعد قيام ثورة العراق بسبب ما سببته من نمو نفوذ الشيوعيين فى سوريا ولبنان والعراق طبعًا، وخوفًا من امتداد موجة الثورة إلى بقية المنطقة.

الانفصال:

لم تضف الوحدة المصرية السورية جديدًا لسوريا – كما أسلفنا من مواجهة محاولات القوى الخارجية لاحتوائها أو التدخل فى شئونها داخلية، ولكنها أضافت للطبقة المسيطرة فى سوريا أدوات القمع الناصرية ضد الحركة الثوريةفى الداخل، بالإضافة للتأثير الكبير لخطوة الوحدة نفسها. وكان من أهم "إنجازات" الوحدة الاندماجية تحطيم الحزب الشيوعى فى سوريا ولبنان وبعثرة "حزب البعث العربى الاشتراكى"، عماد الحركة القومية، لا بفضل أدوات القمع فحسب بل والأهم منها أن الوحدة، بالطريقة التى تمت بها، كشفت عن الضعف الأصيل الكامن داخل الحركة القومية فى سوريا، والمتمثل أساسًا فى طوبويتها. قد بلغ حزب البعث آخر مداه فى الطوبوية حين وافق على حل نفسه والتسليم للناصرية رغم الاختلاف الكبير فى البرامج السياسية حتى فيما يتعلق بالمسألة القومية نفسها.

ورغم التنازل فقد عاد الحزب نفسه (الفرع السورى) يؤيد الانفصال، متعاطفًا مع ما كان يسميه بالرجعية التى كانت ألد أعدائه من قبل، وكان من نتائج هذا الاضطراب أن انفصل أكرم الحورانى من الحزب ليشكل "الحزب العربى الاشتراكى" (شارك فى حكومة الانفصال) أما ميشيل عفلق فعقد مؤتمرًا "قوميًا" للحزب، بينما وقع صلاح البيطار على وثيقة الانفصال ، أما الفرع العراقى فأدان الانفصال.. وأخيرًا راح الحزب يزداد تحللاً بعد انقلاب 1963 ليصير تدريجيًا مجرد مؤسسة بيروقراطية لا تحمل من ثورية "البعث" سوى تاريخها.

وهكذا كان نصيب القوى التى فرضت الوحدة فرضًا هو التصفية … بينما ظل أعداء القومية العربية أكثر تنظيمًا وأكثر قوة. وبكلمات أخرى كانت الوحدة بمنطقها الخاص معادية للوحدة الحقيقية. وقامت الناصرية " بواجبها" فى سوريا على أتم وجه بحيث لم تعد المنطقة تشهد منذ الخمسينات ذلك العنفوان للحركة القومية.

والحقيقة أن الوحدة المصرية السورية لم تكن فقط نكبة للتقدميين فى سوريا بل كانت بداية هجمة رجعية واسعة النطاق فى المشرق العربى بقيادة الناصرية. ففى مؤتمر الجامعة العربية الذى انعقد بعد الوحدة عام (1958) نصت القرارات على احترام الأنظمة العربية القائمة (وهو نص ذو مغزى محافظ فى تلك الفترة) والدعوة للتضامن العربى مع نفى وجود خلافات عربية، وهو أمر ذو دلالة هامة هو الآخر. كا اشتملت المناقشات والقرارات على تأييد غير مباشر للناصرية، وفى الوقت نفسه أوقفت الهجمات الإعلامية بين مصر والعراق (نورى السعيد) والأردن ولبنان تمامًا، وعاد الوئام بين كافة الأنظمة العربية بعد ضرب الشيوعيين فى المنطقة وإضعاف البعث (السورى). (وسوف نرى عما قليل كيف عاد الوئام أيضًا بين الناصرية والبلدان الغربية ). وأيدت الناصرية انقلاب اللواء شهاب فى لبنان، الذى قطع الطريق على اليسار اللبنانى، وذلك فى حماية الأسطول الأمريكى.

وبالرغم من تأييد عبدالناصر للثورة العراقية فى البداية فقد أعلن بعد قليل عداءه للحكومة التى تمخضت عنها، واشتدت حملات الدعاية ضد العراق من إذاعة القاهرة بسبب اتساع نفوذ الشيوعيين، ولم تتوقف مؤامرات المخابرات المصرية ضد الثورة العراقية حتى تم انقلاب 1963، المضاد للثورة، بمساعدة مصر. وتم تعيين رئيس للعراق (عبدالسلام عارف) بواسطة ضباط عبدالناصر[21]. كما طاردت المخابرات المصرية (والأمريكية والشهابية) العناصر اليسارية فى لبنان. وضمن هذه الموجة الرجعية، التحالف الناصرى مع إمام اليمن ومنحه صك الوطنية.

أما فى مصر فكانت اعتقالات عام 1959 الموجهة للشيوعيين الذين كانوا قد حققوا نموا ملحوظًا بعد حرب 1956 مواكبًا لارتفاع أسهم الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط، وكأن الناصرية قد أرادت أن تعلن للعالم بأنها ليست شيوعية. كما أن ازدياد نفوذ الشيوعيين، خاصة أنهم قد توحدوا فى حزب واحد عام 1958 قد حفز الناصرية على شن تلك الحملة[22]. كذلك كانت الناصرية قد استنفذت تحالفها غير الرسمى مع الحركة الشيوعية والحركة القومية العربية. كما كان قيام ثورة العراق ومشاركة الحزب الشيوعى فيها خطرًا جسيمًا على الناصرية، إذ أصبح نظام قاسم مركز جذب للشيوعيين العرب وقطبًا منافسًا للناصرية على الصعيد القومى، مما حفز الناصريين على شن حملتهم.

وقد تلَّون الإعلام الناصرى ابان الفترة بلون بالغ العداء للشيوعية، فطُرحت فى الأسواق عديد من الكتب المعادية للشيوعية، ترجم بعضها عن رجال المخابرات الأمريكية وغيرهم، وساهم عبدالناصر نفسه فى تلك الحملة بشكل يفتقد تماما إلى الموضوعية. فراح مثلا  يربط بين الصهيونية والشيوعية، ولم يخل خطاب واحدة تقريبًا من خطبة طوال فترة الوحدة من اتهام الشيوعيين بالعمالة أو الصهيونية [23]. كانت تصفية الحزب الشيوعى المصرى تتم باسم القومية العربية، فاتخذت الناصرية لنفسها صفة القومية فى الوقت الذى كانت تصفى أكبر دعائمها فى ذلك الوقت (البعث)، كما أعلنت حربها على الشيوعية باعتبار الأخيرة معادية للقومية. وكانت الشهور الأخيرة من عام 1958 هى الفترة التى شهدت على صفحات الجرائد فى مصر معاركاً جبارة خاضها الإعلام الناصرى كحرب مقدسة ضد الشيوعية فى المنطقة ككل وضد ثورة العراق التى كان الحزب الشيوعى وجماهيره هم جسمها الرئيسى.

ولم يكن موقف الأنظمة العربية والغرب من الوحدة المصرية السورية بالغ العداء كما صورته الدعاية الناصرية، ومن الملاحظات الجديرة بالإشارة أن المملكة السعودية كانت من مؤيدى الوحدة بل وكانت كذلك معادية لفكرة الهلال الخصب، وذلك خوفًا من نمو نفوذ العراق، ولهذا السبب باركت الوحدة الناصرية. أما العراق قبل الثورة(الرجعى جدًا !) فكان معاديًا لتلك الخطوة لأنها قطعت عليه الطريق إلى دمشق وهى هدفه القديم، وأعلن نورى السعيد من جديد تكوين "الاتحاد الهاشمى" مع الأردن، فالملك حسين كان يواجَه فى الداخل بحركة ثورية نشطة متعاطفة مع الناصرية وتطمح إلى السلطة، ولذلك كان يفضِّل – حفاظًا على عرشه -  التحالف مع نورى السعيد ضد عبدالناصر  أما عراق الثورة ثم عراق عبدالكريم قاسم فكان ضد الوحدة لأسباب تتعلق بأنها وحدة ناصرية بالذات، فالحزب الشيوعى العراقى – كما سنرى- كان يعارض الوحدة الاندماجية (لأسباب أيدلوجية تخصه )، أما عبدالكريم قاسم فكان هو نفسه فى وضع يشبه وضع عبدالناصر من زاوية معينة: أنه كان مستندًا إلى البيروقراطية العراقية، ولكن فى وجود صراع طبقى عنيف وتوازن سياسى بالغ التوتر، فكان عداؤه للناصرية منطلقًا من روح المنافسة على زعامة المنطقة[24].

أما الدول الغربية فقد اختلفت مواقفها: فأعلنت فرنسا بوضوح عن تأييدها للوحدة، خوفًا من ضم العراق (التابع لبريطانيا) لسوريا، أما بقية الدوائر الغربية فلم تر فى خطوة الوحدة ما يستحق هجومها البالغ. وبرغم الانتقادات والدعاية المضادة للناصرية فقد رأت دوائر الغرب فى الوحدة شيئًا أفضل من الوضع الثورى الذى دام فى سوريا سنوات. وقد استأنفت الولايات المتحدة، مساعداتها لمصر بعد الوحدة، كما وقعت معها فى 6 مايو 1959 معاهدة حول بيع فائض السلع الغذائية الأمريكية لها بمبلغ 21.5 م. ج، كما تم اعتماد الجنيه المصرى كعملة دفع لأول مرة بعد انقطاع دام ثلاث سنوات[25]. كذلك تمت تسوية مسألة التعويضات الأنجلو- فرنسية وأوقفت تجميد الأموال المصرية فى لندن وباريس واستأنفت الدولتان تجارتهما مع مصر. ومن جانبها رفعت حكومة عبدالناصر الحراسة عن 1362 حالة من الأجانب عام 1959، وراحت انجلترا وفرنسا تدفعان أسعار وارداتها من مصر بالعملة الصعبة، مما ساعدها كثيرًا على زيادة احتياطها النقدى[26]. وهذا التحسن الواضح فى العلاقات بين الناصرية ودول الغرب لا يعنى بالضرورة أن الأخيرة قد أصبحت ترى فى الناصرية ربيبتها، ولكنها تدل على أن موقفها من الوحدة المصرية السورية لم يكن معاديًا تمامًا، إن لم يكن غير معاد على الإطلاق، وعلى الأقل لم تعتبر الوحدة أمرًا بالغ الخطورة على مصالحها. أما الاتحاد السوفيتى فلم يعلن عداءه أو تأييده للوحدة على نحو واضح. ومن المؤكد أن الوحدة العربية هى أمر لا تقبله ولا ترحب به القوى الكبرى فى العالم، إلا باعتباره وضعًا مؤقتًا أو جزئيًا فى أفضل الحالات، وقد سبق أن رأينا كيف شجعت بريطانيا فكرة الوحدة العربية وساعدت كثيرًا على إقامة جامعة الدول عام 1945 على أساس استخدام الشعارات القومية فى مواجهة الحركة الشيوعية وحتى فى مواجهة التيارات القومية الراديكالية. والحقيقة أن الوحدة الناصرية قد أدت بمنطقها الداخلى إلى تحطيم القوى الوحدوية فى الشام، وهى العماد الرئيسى للحركة القومية العربية، وبهذا المعنى فان الوحدة كانت فى حقيقتها هى الانفصال نفسه؛ الانفصال "بالقوة". وقد قرر رجال الأعمال فى سوريا الانفصال بعد استنفاذ الغرض من الوحدة مع مصر، وخاصة بعد أن بدأت الناصرية تمس مصالحهم على نحو مباشر فى إجراءات يوليو 1961. ومن الطريف أن الجيش السورى الذى فرض الوحدة على الناصريين هو نفسه الذى لعب الدور المباشر فى فصمها، بانقلاب 1961، وذلك بعد "تطهيره" من العناصر القومية المتطرفة. وقد نجحت الطبقة المسيطرة فى سوريا – مثلما فعلت نظيرتها فى السودان من قبل – فى التشهير بالناصرية باستثمار فساد جهاز الأمن الناصرى فى سوريا وسياسة القمع وانتشار ألوان الفساد البيروقراطى، كما ساهمت الدعاية الغربية التى اشتدت قبيل الانفصال – وبعد أن انتهت الناصرية من تحطيم اليسار السورى – فى تقوية نفوذ الانفصاليين.

كان الانفصال السورى ضربة كبيرة للناصرية، فخروج سوريا من الوحدة كان يعنى سحب الثقة من زعامة الناصرية للقومية العربية، خاصة أن نظام عبدالكريم قاسم كان لا زال قائمًا فى العراق. فرغم أن الوحدة كانت بالنسبة للناصريين ورطة – من الناحية السياسية وحتى الاقتصادية – فإنها كانت ورطة إجبارية إلى حد بعيد، فرضتها ظروف المنطقة ككل. ولذلك كان الخروج من تلك الورطة يخلق أخرى اعمق، إذ أن الفضائح التى أُطلقت من عقالها مع الانقلاب السورى كانت تمس الديماجوجية الناصرية فى الصميم، وكان الانفصال يفقد الناصرية مساحة واسعة صالحة لإنتاج وترويج ديماجوجيتها فى العالم العربى.

وقد أخذ عبدالناصر مع حدوث الانقلاب يورط نفسه أكثر: "قد يعتقد بعض الناس أنى سأنتهز هذه الفرصة حتى أعلن فك الجمهورية العربية المتحدة، أنا مسئول تجاه كل سورى وتجاه كل مصرى وتجاه كل عربى فى هذا الوطن العربى، مسئول عن هذه الجمهورية وعن هذه الوحدة".. "لن أعلن هذا أبدًا (أى فك ج ع م) بأى حال من الأحوال مهما جابهنا من المتاعب". ولكن فشل قواته فى القضاء على الانقلاب [27] زاد موقفه حرجًا، فاضطر إلى تغيير لهجته الواثقة، ولكنه لم يستطع أبدًا أن يحتفظ بماء وجهه: "وإنكم تعرفون أننى اتخذت منذ أيام قرارًا بأن لا تتحول الوحدة العربية بين مصر وسوريا إلى عملية عسكرية" !، "إننى أطلب إلى جميع القوى الشعبية المتمسكة بالجمهورية العربية المتحدة والوحدة العربية أن تدرك الآن أن الوحدة الوطنية داخل الوطنى السورى تحتل المكانة الأولى" (رغم أنه كان قد وصف الانقلاب بالرجعية والعمالة للاستعمار مرارًا)، "لقد طلبت من وزارة الخارجية ألا تقف ج.ع. م. حائلاً أمام عضوية سوريا فى الجامعة العربية [28]. كما أطلق عبدالناصر الكثير من عبارات الندم على موافقته على إتمام الوحدة متهمًا القوميين فى سوريا والشعب السورى بالضغط عليه[29] ، وبالتالى حمَّل السوريين مسئولية الفشل من البداية إلى النهاية. وبذلك كان يتخلص من كل مسئولية، وفى نفس الوقت كان يحاول احتواء خصومه الجدد بتبنيهم، فقد راح يهدد ويتوعد حين كان يشعر بأنه قادر على تحطيم حكومة الانفصال، إلا أنه بعد تيقنه من عجزه حاول تبنى الانقلاب فعليًا دون أن يتباه صراحًة، بل ظل يهاجم – فى نفس الوقت– الحكومة الانفصالية تأكيدًا لإيمانه بالوحدة.

وقد كان الانفصال كهزيمة كبيرة للناصرية – دافعًا قويًا للبحث عن انتصارات بديلة فى الداخل والخارج، فكان أحد العوامل وراء الضربات الجديدة الموجهة ضد رجال الأعمال المصريين وأحد العوامل وراء تحول ضد الإمام أحمد و تشجيع الانقلاب عليه ودخول حرب اليمن. كما دفع الانفصال عبدالناصر إلى تشديد هجومه الإعلامى على الاستعمار، مصورًا فشل الوحدة كنتيجة لمؤامرات خارجية بدلاً من الاعتراف بالفشل الذاتى. وكان هذا الأسلوب (أى تفسير الفشل بمؤامرة الاستعمار والرجعية) معتمدا دائما لدى الناصرية.

مباحثات الوحدة[30]:

بعد انقلاب 1963 فى كل من سوريا والعراق أصبح حزب البعث مشاركًا فى السلطة فى كل من البلدين، كما أعلنت الحكومتان الجديدتان عن رغبتهما فى الوحدة مع مصر، ومن أجل تحقيق هذا الغرض – كما أُعلن رسميًا – جرت مباحثات بين البلدان الثلاثة خلال عام 1963. ويتضح من مراجعة ملف المباحثات أن أى من الحكومات الثلاث لم ترغب فى الوحدة الا تحت قيادتها. وبالنسبة للناصرية كان الدرس السابق قد ترك آثارًا عميقة؛ ففى النهاية أعلن عبدالناصر بوضوح أنه لا يرغب فى الوحدة فى ظل حزب البعث بوجه عام.

 

المسألة الفلسطينية:

تحتل القضية الفلسطينية أهميتها لدى النظام المصرى من عدة زوايا: أولها: الخطورة التى يشكلها وجود دولة يهودية توسعية فى المنطقة على مصالح الأنظمة القائمة نفسها. وثانيها:الاعتبار الكبير من ِقبل الحركة القومية العربية لتلك المسألة بشكل جعل من الأخيرة دافعًا كبيرًا لنمو الأولى خلال الثلاثينات والأربعينات، بل وكانت هى العامل الحاسم فى ترعرع فكرة العروبة فى مصر. ومما لا شك فيه أن الحركة القومية العربية، أو على الأقل، وجودها الكامن يشكلان ضغطًا مهمًا على النظام القائم. وثالثها: الأثر الذى خلفته الهجرة اليهودية وإقامة اسرائيل من طرد للسكان العرب من فلسطين، والذين صاروا بالتالى لاجئين فى البلدان العربية المجاورة، مشكلين عبئًا أمنيًا – سياسيًا عليها.

ولذلك لم يكن لحكومة يوليو 1952 أن تتملص إلى ما لا نهاية من اتخاذ موقف من هذه القضية. وقد سارت فى البداية مسارًا سلبيًا تمامًا منها[31]، بل وتجاوزت بعد قليل سلبية حكومات ما قبل 1952، فحاولت إيجاد مخرج سهل وغير مكلف لقضية اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة (مشروع سيناء)[32]، ثم محاولة الصلح النهائى مع اسرائيل (مفاوضات باريس 1954)، ولكنها لم توفق فى أى منهما بسبب الانتفاضات الشعبية فى قطاع غزة بالنسبة للأول وتعنت اسرائيل نفسها بالنسبة للمفاوضات. ويبدو أن فشل محاولة الناصرية قد لقن الأخيرة درسًا قاسيًا وكشف لها عن حقيقة توازنات القوى فى المنطقة. فقد اكتشفت مثلاً أن هدنة 1949 ليست هى نهاية طموحات الصهيونية، رغم اعتراف الأنظمة العربية باسرائيل من الناحية الفعلية وفقًا لهذه الهدنة[33].

ورغم هذه المهادنة الفعلية كانت الدعاية الناصرية معادية لاسرائيل تمامًا، تمشيًا مع ميل الحركة القومية العربية (لم يشذ عن هذه القاعدة بلد عربى واحد). بل وراحت الدعاية الناصرية تقنع الجماهير العربية بأن الحكومة تعد العدة وتجهِّز الجيوش لتحرير فلسطين بالقوة وإعادة اللاجئين إلى ديارهم بعد تحطيم الدولة الصهيونية. وكثيرًا ما هدد عبدالناصر نفسه بضرب اسرائيل ومن وراءها، بل وصُوَّرت اسرائيل فى الدعاية كمجموعة من العصابات الضعيفة والتى لا حول لها ولا قوة، والتى لا تصمد أمام الجيوش العربية الجرارة ! وباختصار قدّمت الدعاية الناصرية نظامها فى شكل متشدد للغاية ومعادٍ للصهيونية عداء جذريًا، وهى الصورة الوحيدة التى كان من الممكن أن ُترضى الجماهير العربية. ورغم هذا لا نستطيع أن نعد هذه الدعاية المكون الأساسى للفكرة الناصرية حول القضية الفلسطينية، تلك التى لا تتضح إلا بتحليل وجهة النظر الرسمية، والتى تكونت لدى حكومة الضباط من خلال المحاولة والخطأ ابان أعوام 52-1955. وقد بدأت هذه منذ البداية كفكرة عامة ومجردة، وأخذت تتحدد مع تحدد الناصرية نفسها.

وتعبر لنا الخطوات الأولى للحكومة الناصرية عن فكرتها العامة حول القضية الفلسطينية؛ فالمفاوضات مع الغرب ومع اسرائيل لتسوية القضية بشقيها (اللاجئين، الحدود) تمثل محاولة للبحث عن حل وسط ما، بإجراء بعض التعديلات على نتائج حرب 1948. وفى 1955 وبعد فشل الناصريين فى إيجاد مثل هذا الحل، أعلن عبدالناصر صراحةً عن فكرته وعلى الملأ، ففى باندونج أصدر تصريحًا بأنه يعتقد بأن ما عرضته الأمم المتحدة عام 1948 يكمن اعتباره حلاً ُمرضيًا [34]. ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر الناصرية ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة. وقد تكرر التصريح السابق نفسه على لسان عبدالناصر أكثر من مرة[35].

وقد قام الرئيس التونسى بورقيبة عام 1965 بالمبادرة باقتراح حل وسط من أجل التوصل إلى سلام دائم وعلاقات طبيعية بين الدول العربية واسرائيل، فقدم مشروعًا محددًا للحل النهائى للقضية الفلسطينية، يتلخص فى تنفيذ قرار التقسيم الذى أصدرته الأمم المتحدة عام 1947[36].

وفور إعلان بورقيبة لاقتراحاته هبت أجهزة الإعلام العربية الرسمية بوصفه بالخائن والعميل وأعلنت الأنظمة العربية عن تمسكها بقرارات مؤتمرات القمة العربية ورفضها الاعتراف باسرائيل والصلح والتعايش معها. وكان المؤتمر الأول للقمة العربية قد انعقد فى يناير 1964 بمناسبة محاولات اسرائيل المتكررة لتحويل مجرى نهر الأردن، وأصدر القرارات التالية:

1- إنشاء قيادة عربية موحدة بقيادة الفريق "على عامر".

2- إعداد الدراسات لتحويل مياه نهر الأردن فى سوريا ولبنان.

3- التوقيع على ميثاق الدفاع العربى المشترك الذى ألزم كافة الدول العربية الموقعة عليه بأن تعتبر أى اعتداء على خطوط هدنة 1949 اعتداءً عليها جميعًا.

4- إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية على أن تخضع أية عملية يقوم بها الفدائيون لموافقة القيادة العربية الموحدة. واتفق المجتمعون على تجنب استفزاز اسرائيل وإعطائها حجة لشن الحرب قبل إكمال الجانب العربى استعداداته وتهيُئه القتال.

أما المؤتمر الثانى فعقد فى سبتمبر 1964، وتقرر فيه البدء فورًا فى تحويل مجرى نهر الأردن فى سوريا ولبنان. وأما المؤتمر الثالث (سبتمبر 1965) فأعلن فيه أغلب الحكام العرب أنه ليس بإمكانهم تخصيص اعتمادات إضافة للقيادة العربية الموحدة، كما اتخذ المؤتمر قرارًا يقضى بالتضامن العربى والتعايش السلمى بين الأنظمة السياسية العربية المختلفة والعمل على حل المشاكل القائمة فى البلاد العربية (مثل مشكلة اليمن – الحملة العراقية على الأكراد). وفى هذا المؤتمر جُمدت القيادة العربية الموحدة وشلت أعمالها[37].

ومن الواضح أن مؤتمرات القمة لم تقدم بديلاً محددًا لاقتراحات بورقيبة اللاحقة باستثناء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية مع تكبيلها ، فكانت بديلاً شكليًا تمامًا. فلقد كان تجميد الأوضاع أفضل لدى الأنظمة العربية من معارك غير مضمونة النتائج، وأفضل من حلول سلمية تثير معارضة شعبية واسعة. ومن الواضح أن بورقيبة كان يختلف مع بقية الحكام العرب فى شىء واحد أساسى؛ هو أنه كان أكثر صراحة ووضوحًا فى التعبير عن أحلام هؤلاء، وقد قدم حلاً وسطًا يتناسب إلى حد كبير مع الأفكار الناصرية ككل، وهو حل مثالى بالنسبة للأنظمة العربية. إلا أنه حل لم تكن  تستطيع هذه الأخيرة تبنيه صراحةً فى ذلك الوقت، أمام الجماهير المتقدة حماسًا وعداء للصهيونية ولأى تنازل مهما كان ضئيلاً أمام اسرائيل. وكانت الأنظمة نفسها تضطر فى سياق إظهار نفسها بمظهر قومى إلى إشعال نيران تلك الحماسة أكثر وأكثر، وقد قام بورقيبة نفسه بفضح هذا التناقض بطريقة مباشرة: "إننى التزمت دائمًا لغة الإخلاص ولكن القادة أبدوا أثناء المحادثات تفهمًا أكبر بكثير مما أبدوه أمام الجماهير"… "فهؤلاء الزعماء يعمدون فى سبيل الهتاف لهم إلى الظهور على جانب كبير من الوطنية فيلاطفون الميول وَيعدونهم بتحقيق آمالهم بين عشية وضحاها، وبمجرد ما يحاول زعيم – والحالة تلك – تدبير وسيلة تستهدف حلاً وسطاً ًًًًً إلا ووجد نفسه متضايقًا فى أعماله وفى طرق تصرفه[38] " ويتعذر على الدول العربية القيام بأية عملية هجومية فى الوقت الحاضر لسببين: أولهما أنها غير متأهبة لمواجهة الحرب، ولا قابلة لمبدأ تسلل عصابات المقاومين من أبناء فلسطين"[39]. وراح بورقيبة يفضح مقررات القمة: "وكانت خطتنا تستهدف أحد أمرين: إما أن ترضخ اسرائيل لمقررات المنظمة الدولية –وهو الأبعد- فتسمح برجوع اللاجئين وتتنازل عن قسم من الأرض المحتلة، فتغير بذلك معطيات المشكل لصالح العرب، وذلك بقيام دولة فلسطينية حرة تكون هى قاعدة الانطلاق للمعارك القا دمة من أجل الحل النهائى، وأما – وهو الأقرب – أن تصر اسرائيل على الرفض (…) وبذلك يكون الموقف العربى هو الأقوى فى صورة استعمالنا القوة لتطبيق القانون الدولى"[40]   "واعتقادى أن الشخصيات الرسمية التى تسرعت إلى إبداء الاستنكار إنما فعلت ذلك بغية مرضاة ج.ع.م. وذلك لأسباب داخلية لا تغرب عن أحد"[41].

كذلك قام الرئيس التونسى بإرسال خطاب إلى عبدالناصر يحمل نفس المعانى: "ولقد قلتم لى بلسانكم خلال خلال محادثة لنا عن ذلك (يقصد قضية فلسطين) أنكم أثرتم موجهة من الغضب لما صرحتم به فى مؤتمر باندونج بأن ما عرضته الأمم المتحدة سنة 1948[42] يمكن اعتباره حلاً مرضيًا فأجبتكم بأنى مستعد لاتخاذ مواقف جريئة فى هذا الصدد وأضفت مازحًا: وآمل أن لا تهاجمنى عندئذ أبواق إذاعة القاهرة وصوت العرب".. "وإن الخطة التى اقترحتها فى أريحا والقدس ولبنان ثم شرحتها ووضحتها فى تصريحات متوالية لا تختلف فى الجوهر عن الموقف الذى أعلنتم عنه سنة 1955، وقد تقدمت بهذه الخطة نفسها فى الخطاب الذى ألقيته فى الاجتماع الأول لرؤساء الدول العربية بالقاهرة فى جانفى ( يناير) من سنة 1964"  … " وهى لا تختلف (أى خطته) فى جوهرها عن الموقف الذى عبرتم عنه باقتضاب فى تصريحاتكم الأخيرة إلى مجلة "رياليتى" ووكالة أنباء "أوبرا موندى"، إذ قلتم ما معناه أن العرب راضون بما طالب به الأفارقة والآسيويون سنة 1955 من رجوع إلى مقررات الأمم المتحدة فى خصوص قضية فلسطين"[43]

وفى خطاب لبورقيبة راح يعلق على مهاجمة عبدالناصر لمقترحاته قائلاً: "ولئن ذهبت أنا إلى اعتبار تطبيق تلك المقررات مرحلة مرحلة نحو الحل النهائى فان المفهوم من تصريحات الرئيس المصرى أن المقررات الدولية تمثل أقصى ما يمكن أن يطالب به العرب والفلسطينيون من حقوق".. "وقد تنبه الصحفى ممثل المجلة الفرنسية (يقصد رياليتى ) إلى هذه النقطة فقال: لنفرض لحظة – وإن كان ذلك غير واقعى – أن اسرائيل تقبل برجوع اللاجئين العرب وأن مقررات الأمم المتحدة يمكن تطبيقها، فإنه يبقى بعد ذلك لا محالة كيان دولة اسرائيل وسط العالم العربى، فهل تقبلون ذلك ؟ الجواب (يقصد جواب ناصر): إن الأمم الأفريقية الآسيوية قالت فى ندوة باندونج أنها ترضى بتطبيق مقررات الأمم المتحدة والدول العربية متفقة معها فى ذلك"[44]

 

الخلاصة أن الناصرية لم تذهب بخصوص القضية الفلسطينية أبعد مما ذهبت "الأمم المتحدة" ، و لم تكن لها خطة مختلفة . 

 

     ومعنى ذلك أن الناصرية( ومعها كل الأنظمة العربية) وقفت من اسرائيل موقفًا دفاعيًا بحتًا، أما تحطيم الدولة الصهيونية فلم يكن أبدًا أحد مشاريعها العملية.

أما فى الدعاية الجماهيرية فكان روح الكلام مختلفًا تمامًا عن روح المواقف الرسمية، ولا نجد تفسيرًا لهذا الاختلاف سوى خوف الأنظمة من الحركة القومية العربية، التى كانت لا تزال قوية حين أعلن بورقيبة عن مشروعه. وليس هناك من شك فى أن الأنظمة العربية فى ذلك الوقت كانت تتمنى أن تضعف اسرائيل إلى أقصى حد حتى يقل خطرها على تلك الأنظمة. إلا أن تحقيق هذه الأمنية كان يتطلب منها ما يفوق طاقتها، فالأمر يحتاج إلى تعبئة الجماهير العربية وإجراء إصلاحات اجتماعية جذرية، تمكن من إعداد اقتصاد قوى وجيش قادر على هزيمة اسرائيل، ولذلك وجدنا أنه، رغم الدعايات الملتهبة والتهديدات العنيفة ولغة الإصرار على دق طبول الحرب، لم تتخذ الأنظمة العربية – ويهمنا فى هذا المقام النظام الناصرى - خطوة عملية فعالة تمكنها من إلحاق الهزيمة بذلك العدو القوى.

فعلى الصعيد العملى لم تكن الناصرية جادة حتى فى تطبيق أفكارها الوسطية حول القضية الفلسطينية. فرغم إدعائها التجهيز للحرب ضد اسرائيل ورغم الأناشيد الحماسية والأغانى الداعية للحرب والواعدة للشعب الفلسطينى باسترداد أرضه وشيكاً  … الخ، لم تعمل حكومة يوليو حسابًا يذكر ليوم الحرب مع اسرائيل. وبعكس ما روجته الدعاية الرسمية طوال سنوات 1955 – 1967، لم تُعد الناصرية جيشها للقتال ضد اسرائيل، لا فى الهجوم ولا حتى فى الدفاع. ورغم تفاخرها بامتلاك "أقوى جيش ضارب فى الشرق الأوسط" وبالاستعراضات العسكرية المبهرة، كان الجيش حتى 1967 أقرب ما يكون إلى جماعات الكشافة، وقد أبرزت حرب 1967 هذه الحقيقة على نحو فاضح. فكان ذلك الجيش يضم عناصرا لا يصلح أغلبها للقتال (الغالبية العظمى من الجنود أميون، ضباط سيئو التدريب، قيادة لا هم لها سوى اللهو). كما كانت بنية الجيش نفسها لا تؤهله للدخول فى أعمال عسكرية حقيقية، من حيث الضبط والربط ونظام التدريب وخطط العمليات.. الخ، كما أنه برغم توفر الإمدادات العسكرية السوفيتية لم يكن التدريب كافيًا على الإطلاق لإعداد مقاتلين، كما لم تكن عمليات الصيانة والإصلاح تتم بالشكل الملائم، وعلاوة على ذلك انغمس الضباط فى لهو معمم، أثناء حرب اليمن خاصة[45]. ولم يكن إعداد الجندى، يستهدف إعداد مقاتل، بل إعداد عبد يصلح لتقديم الخدمات الشخصية للقادة والقيام بأعمال السخرة المدنية .فلم يجر إعداد العدة للمواجهة العسكرية التى زعم النظام أنه يُعد لها مع اسرائيل، واكتفت السلطة بالإيحاء بأنها تستعد  للحرب التى لم يتحدد بعد أوانها و تزعم أن لديها أكبر قوة عسكرية فى الشرق الأوسط، وأنها على وشك سحق العدو، وذلك بخلاف تصريحات رجالها أمام ممثلى الدول الأخرى وكذلك تصريحاتهم الجماهيرية فى اللحظات الحرجة[46] . ففى تلك اللحظات كان "الزعيم" يضطر إلى الاعتراف بعجزه  (فى 1962 مثلاً أعلن ناصر أمام المجلس التشريعى لقطاع غزة أنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين[47]). ونلاحظ أن صفقة الأسلحة السوفيتية عام 1955 قد جاءت فى إطار دفاعى محض وبعد غارات اسرائيل على غزة خلال عام 1955، أما قبل ذلك فقد كانت الناصرية قد خفضت الميزانية العسكرية. وقد برز ضعف الناصرية على نحو مكشوف فى 1964 بمناسبة تحويل اسرائيل مجرى نهر الأردن؛ إذ قررت الدول العربية القيام بمشروع تحويل مضاد، إلا أن الطائرات الاسرائيلية قامت بالإغارة على مواقع العمل، فما كان من الأنظمة إلا أن أوقفت المشروع تفاديًا لحرب شاملة مع اسرائيل[48].

ولا شك أن تحلل بنية الجيش لم يكن راجعًا فقط إلى عدم النية فى القتال، فبعض العوامل يتعلق بفساد القيادة العسكرية نفسها، تلك القيادة التى تمتعت بنفوذ قوى فى سلطة الدولة ككل، وضيق أفقها وعدم كفايتها من الناحية الفنية. كما يتعلق أيضًا بمبالغة النظام فى المحافظة على جيش سلس القياد بإبعاد المتعلمين من صفوفه بقدر الإمكان و تسليم المراكز القيادية "لأهل الثقة "، بالإضافة بالطبع إلى عدم وجود تصورلدى القيادة العسكرية لفكرة شن حرب فى المستقبل ضد اسرائيل، حيث لم يكن هذا هدفًا فعليًا على جدول أعمال الناصرية . ولا ينفى هذا تمنيات الأخيرة بكسر شوكة اسرائيل ، إلا أن الأمانى  شىء والامكانية الواقعية شىء آخر (نقصد هنا الامكانية بمعنى محدد؛ الامكانية فى ظل ظروف مصر والمنطقة ابان الفترة الناصرية).. إمكانية ذلك الكيان المسمى بالناصرية ، ضيق الأفق و المفتقد للبصيرة .  

وقد انكشف تخاذل الناصرية فى مواجهة اسرائيل فى عدة مواقف كان أهمها تخاذلها ابان فترة الوحدة أمام مشروع اسرائيل لتحويل مجرى الأردن (بينما نجحت سوريا وحدها فى وقف هذا المشروع عام 1953، بالقوة). كما لم تنفذ بحزم ميثاق 1963 الخاص بنفس الموضوع[49].

ورغم ميثاق الدفاع المشترك بين الدول العربية لم تقم الطائرات المصرية (ولا السورية) بحماية الأردن حين شنت اسرائيل هجومًا على بلدة السموع الأردنية فى 13 تشرين الثانى عام 1966 باعتبارها مقرًا للاجئين الفلسطينيين وفدائيى منظمة التحرير الفلسطينية[50]. والحقيقة أن هذا التخاذل الذاتى كان يفوق حتى الضعف الموضوعي للنظام نفسه.

وفى 1966 وقع انقلاب عسكرى فى سوريا وجاءت حكومة بعثية يسارية قررت التحضير لإعلان الحرب على اسرائيل فورًا. وكان بإمكان هذه القيادة أن تستقطب تعاطف الجماهير العربية، كما كانت عامل تهديد بجر الناصرية إلى معركة خاسرة مع اسرائيل (ويبدو أن هذا العامل الأخير قد تحقق فعلاً كجزء من كارثة 1967).

وشهدت صفحات الجرائد وأبواق أجهزة الإعلام الأخرى فى مصر هجومًا بالغًا على الحكومة السورية، متهمة إياها بالطيش والمغامرة. وكانت الحجة الرسمية هى أن العرب لم يصبحوا بعد مهيئين للحرب. وكانت هذه الحجة هى دائمًا الشماعة التى علقت عليها الناصرية تخاذلها، بينما لم تكن تعمل فى الواقع على تهيئة نفسها للحرب المحتمة مع اسرائيل.

وبجانب العجز والتهادن من جانبها، لم تسمح الناصرية فى الوقت نفسه للفدائيين الفلسطينيين بالانطلاق من الأرض المصرية أو حتى من قطاع غزة للقيام بعمليات ضد اسرائيل، بل وكانت أجهزة الأمن تعتقل وتعذب الفدائيين فى السجون المصرية، خوفًا من "استفزاز" اسرائيل فى وقت "لم يستعد فيه العرب بعد" !  وهى حجة تبدو منطقية تمامًا؛ فالناصرية لا تجهز نفسها للنضال ضد اسرائيل، وبذلك تكون أيضًا غير جاهزة لمواجهة نتائج الأعمال الفدائية . إلا أنه بعد استكمال اسرائيل عملية تحويل مجرى نهر الأردن (1964) وانكشاف عجز الأنظمة العربية عن وقف هذه العملية، وتكون 30 منظمة فلسطينية فى الكويت، مما يعكس تعطش الشعب الفلسطينى للنضال بعد يأسه من الناصرية والأنظمة العربية بوجه عام[51]، وخاصة مع نمو " فتح " المتكونة منذ 1958، قامت الدول العربية بزعامة مصر بتكوين "منظمة التحرير الفلسطينية "، قطعًا للطريق على المنظمات المستقلة عن الأنظمة وإلقاء" بمسئولية تحرير فلسطين على عاتق الشعب الفلسطينى ولضمان سيطرة الأنظمة على كفاح الفلسطينيين، تجنبًا لاستفزاز اسرائيل. ونجحت الناصرية فى جعل أحمد الشقيرى الموالى لها رئيسًا للمنظمة. وبذلك راحت تبدى نفسها فى صورة المناضل ضد الصهيونية، ولم تنس بالطبع أن تكبل هذه المنظمة بكل القيود الممكنة[52]. وقد لعبت منظمة التحرير الفلسطينية بعد انضمام "فتح" إليها دورًا ملموسًا فى توريط الناصرية فى حرب 1967 كما سنرى بعد.

وقد اكتفت الأنظمة العربية جميعًا باتخاذ موقف سلبى من اسرائيل، تمثل فى المقاطعة الاقتصادية (التى لم تطبق تطبيقًا كاملاً قط)، بالإضافة إلى عدم الاعتراف الدبلوماسى ورفض التعامل المباشر معها فى المنظمات الدولية واللقاءات الرياضية … الخ. بينما كانت هى تعد العدة للقضاء على المقاومة الفلسطينية وإخضاع الأنظمة العربية نفسها.

ويعد موقف الناصرية من القضية الفلسطينية موضوعيًا وذاتيًا فى الوقت نفسه، فمن الناحية الموضوعية لم يكن من السهل – فى معركة بين أنظمة-  لنظام  متخلف أن يواجه على نحو جذرى نظامًا أكثر تقدمًا من الناحية التاريخية (اسرائيل) دون أن يتجاوز ذاته؛ أى بالتحديث الجذرى ، كما أن الظروف المعقدة – الداخلية – والخارجية – للنظام الناصرى قد حرمته من طاقات هائلة. ومن الناحية الذاتية لم يكن هذا النظام يملك من الكفاءة ما يمكِّنه من استغلال طاقاته المادية المحدودة، وذلك بسبب عوامل التخلف السياسى– الثقافى[53]. كذلك كان العمل الفعلى لتحقيق حل وسط؛ أى لتحقيق الفكرة الناصرية يواجه بعامل مضاد قوى، هو تحمس الحركة القومية العربية للقضية الفلسطينية، وربما كان حل المشكلة نهائيًا يمثل هو نفسه مشكلة للأنظمة العربية، حيث ينتهى وجود العدو الخارجى الذى تبرر به استمرار فسادها ومعاناة الجماهير ومطالبتها لها بالحافظ على "الوحدة الوطنية". فوجود تحديات خارجية يلعب تقريبًا دور الانتصارات الخارجية وربما يكون دورها أكبر، فهى تبرر الشعارات فوق الطبقية وتؤجل حل القضايا الاجتماعية، وكبت الصراعات الداخلية. (وقد استخدمت اسرائيل هى الأخرى العدو العربى فى لم شمل كيانها المصطنع).

 

حركات التحرير العربية:

بعد قيام الوحدة المصرية – السورية فى فبراير 1958 بعث الإمام أحمد بن يحيى إلى عبدالناصر رسالة جاء بها: " من أمير المؤمنين الناصر لدين الله الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين ملك المملكة المتوكلية اليمنية. إلى فخامة الرئيس جمال عبدالناصر. لقد استخرت النجوم وبعد الحساب الطويل تبيَّن لنا أن نجمكم يكسب نجم الآخرين ويغطى عليه، ولهذا نريد أن ننضم إليكم، والولد البدر فى طريقه إلى عندكم لبحث الأمور ونقل رأينا "[54].

تلخص لنا هذه الرسالة طابع الحكم الإمامى كله، وهو فى تفصيلاته كان شيئًا أكثر بشاعة مما تستطيع الكلمات أن تصوره. وقد أدى هذا الوضع إلى تفجر الصراع الاجتماعى فى شمال اليمن، الذى شهد عددًا من الهبات قاد معظمها ضباط الجيش وذلك لوضع حد لحكم الإمامة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد لعب الضباط المدربون على الأسلحة الحديثة الدور الأكبر فى الحركة الثورية فى اليمن.

وكانت انتفاضة 1948 هى أبرز هذه الانتفاضات، استطاع خلالها الضباط الاستيلاء على السلطة لمدة خمسة وعشرين يومًا[55].

رغم بشاعة الإمامة وقفت الناصرية منها موقف الصديق والحليف، بل وأرسل عبدالناصر رسالة للإمام عام 1955 يهنئه فيها بانتصاره على محاولة انقلابية قامت بقيادة عدد من الضباط المستنيرين الذين عرضوا تولية الإمامة لشقيق الإمام أحمد، والذى نجح فى سحقها وإعدام قادتها[56]. ولم تكن هذه التهنئة مجرد عمل دبلوماسى، بل لم تتوان إذاعة صوت العرب عن إدانة حكمة الانقلاب قبل هزيمتها[57].

وبعد سنوات قليلة، كانت الوحدة بين مصر وسوريا واليمن[58]. وقد عُقدت صلات الصداقة بين "إمام" الناصرية وإمام اليمن، إلا أن هذه العلاقات كانت أقوى مع ولى عهد اليمن: البدر، بل وكانت البعثة العسكرية المصرية فى اليمن ابان فترة الوحدة تساند البدر ضد الضباط الثوريين. وقد استمر شهر العسل بين مصر الناصرية واليمن والسعودية منذ انقلاب يوليو 1952 حتى أوائل الستينات. ثم جاء الجفاء من قبل الإمام أحمد؛ إذ أنه رأى – لاعتبارات ما – أن يؤيد عبدالكريم قاسم ضد الناصريين، كما أعلن سخطه على قرارات التأميم فى يوليو 1961 فى مصر وإعلان "الاشتراكية" الناصرية، وأخذ يُطلق الأشعار فى هجاء الاشتراكية. ومنذ ذلك الوقت بدأت الناصرية تؤيد المعارضة الجمهورية فى اليمن، خاصة بعد الانفصال السورى فى 1961. إذ اهتزت بهذا الانقلاب الصورة القومية للناصرية، ولكنها سرعان ما وجدت بديلاً فى المعارضة الجمهورية فى شمال اليمن، فتبنت الجناح اليمينى فى هذه المعارضة وعلى رأسه عبدالرحمن البيضانى، الذى مُنٍح تسهيلات هامة فى القاهرة وأغدقت عليه الأجهزة الناصرية وعلى رجاله فى اليمن وخارجه، بينما لم يتمتع الضباط الراديكاليون والذى كانوا يعدون العدة للاستيلاء على السلطة بالفعل بأى دعم [59]. وقد أعدت جماعة من الضباط من اتجاهات سياسية مختلفة خطة للاستيلاء على السلطة دون الاستعانة بأية قوة خارجية على أساس أن مصر – التى أخذوا منها الضوء الأخضر – سوف تمد لهم يد المساعدة فى الوقت المناسب، ونجحت خطتهم بالفعل وتمت الإطاحة بالإمام البدر فى سبتمبر 1962. وجاء التدخل المصرى فى اليمن بغرض تعويض ماء الوجه المفقود فى سوريا، فكان تحقيق نصر خارجى (كانت الناصرية تتوقع أن يكون سهلاً) كفيلاً بامتصاص نتائج الانفصال السورى ولو على نحو جزئى، كذلك كانت الناصرية تسعى إلى مد نفوذها فى المنطقة العربية فى سياق صراعها المحتدم آنذاك مع الأحزاب القومية العربية ونظام عبدالكريم قاسم. وبدأ التدخل بسرية واحدة ثم تطور – أو بمعنى أصح -  تورطت الناصرية تدريجيًا بسبعين ألف جندى [60].

ويُعد التدخل المصرى فى اليمن من القضايا التى أثير حولها بعض الجدل داخل النظام الناصرى وتعرض للانتقاد من قبل العناصر الأكثر محافظة داخل النخبة. وصورت الدعاية الرسمية هذا التدخل بأنه مجرد تطبيق لمبدأ مساعدة الثورة ضد الرجعية فى "الوطن العربى " .

والحقيقة أن الدور الناصرى فى اليمن كان معقدا. فقد رأينا الناصرية من قبل تؤيد الإمام ضد الضباط الراديكاليين، حتى أصبحت مصالحها تتطلب موقفًا آخر. وبتحليل الدور الناصرى ككل سنجد أنه لم يختلف كثيرًا عن هذا الدور فى سوريا، إذ جاء التدخل لصالح الجمهوريين بوجه عام لتثبيت الصورة القومية للناصرية، ولكنه فى الحقيقة قد ترافق مع تحطيم الاتجاهات القومية والتقدمية فى اليمن، فقد أيدت الاتجاهات القبلية (البيضانى – العمرى – الايريانى – النعمان) ضد الجمهوريين الراديكاليين (عبدالله السلال – عبدالله جزيلان... )، وقامت المخابرات الناصرية بتعقب وتصفية الشيوعيين والجمهوريين الراديكاليين والقوميين العرب، الذين شكلوا مجالسا فلاحية راحت تستولى على الأرض من كبار الملاك. وقد بدأت تصفية العناصر الثورية بعد تشكيل أول وزارة جمهورية. وقد عاملت الناصرية معارضيها فى اليمن بالنفى أو التشهير بهم أو احتجازهم فى القاهرة وأحيانًا بالإعدام [61]. وفى الوقت نفسه لم تعمل على إقامة دولة مركزية قوية، فشجعت القبائل بالرشوة [62]، كما لم تعمل على تسليح الجيش الجمهورى جيداً، بل استولت مرات عدة على الأسلحة السوفيتية التى أُرسلت إليه[63]. وبعد تعرضها لهزائم مريرة عام 1964[64]، راحت الناصرية تبحث عن حل وسط بين الجمهوريين والملكيين، كما قدمت تنازلات للسعودية عام 1965 من أجل إنهاء الحرب، وأخيرًا خضعت لشروطها وانسحبت عام 1967. وكان النتيجة النهائية سيطرة العناصر اليمينية على الحكم، خاصة بعد انقلاب 1967 الذى أطاح بعبدالله السلال بتأييد عبدالناصر.

ومن شمال اليمن انتقل نفوذ الناصرية إلى الجنوب أيضًا، فبينما ساعدت بريطانيا القبائل الملكية فى الشمال، دعمت الناصرية قوات الجبهة القومية فى عدن التى كانت تكافح الوجود البريطانى، وقد بدأ هذا الدعم فقط بعد أن قدمت بريطانيا السلاح للملكيين فى الشمال بينما لم تقدم الناصرية أى سلاح لثوارالجنوب قبل ذلك. وفى البداية حاولت الحصول على اعتراف بريطانيا بالجمهورية دون جدوى، فلجأت إلى دعم ثوار الجنوب. وبدأ الدعم فى 1963 حين اشتد هجوم الملكيين الذى استمر حتى 1964 بنجاح.أما بعد ذلك فقد اتجهت الجبهة القومية إلى اليسار وبدأت عناصرها المقاتلة تتبنى الماركسية وتطرح أفكارًا ثورية. ومنذ بروز هذا التحول توقفت الناصرية عن إمداد الجبهة القومية بالسلاح، بل وقامت ذات مرة بتوجيه الدعوة لبعض قادتها إلى القاهرة للحوار واعتقلتهم عدة شهور[65]. وفى مواجهة الجبهة القومية أنشأت الناصرية ما أسمته "منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل"، شكلتها من مشايخ القبائل وأعوانهم وزودتهم بالسلاح.

ومن هنا أصبح هدف الناصرية الأساسى فى جنوب اليمن منع قيام حكومة راديكالية بعد الاستقلال الذى بدا أمراً حتمياً، بتدعيم المشايخ والضغط على الجبهة القومية لإجبارها على الانضمام تحت لواء المشايخ إلى جبهة "تحرير جنوب اليمن"[66]. إلا أن النتيجة كانت عكس ما أرادت فقامت حكومة يسارية راديكالية فى الجنوب بعد أربع سنوات من الكفاح المسلح.

وخلاصة القول أن الدور الناصرى فى اليمن لا يمكن تفسيره بدوافع أيديولوجية مباشرة، وإنما بمصالح الناصرية، وكان مسار هذا الدور هو العمل على عقد اتفاق وسط بين قوى التحديث والرجعية اليمنية. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الناصرية لم تعمل أبدًا على تحقيق فكرتها السلمية عن الوحدة العربية رغم وجود عشرات الألوف من جنودها فى اليمن، ولم تقترح أصلاً هذه الفكرة على الشعب اليمنى. وبدلاً من ذلك شجعت القبائل وفقًا لمبدأ استعمارى تقليدى: فوق َتُسد، وكانت النتيجة هى قيام حكم رجعى موالى للسعودية فى شمال اليمن. وكانت النتيجة النهائية لهذا النظام هى تحول اليمن بخطى سريعة من بلد قبل رأسمالى إلى بلد تابع – متخلف، وهو يمثل خطوة إلى الأمام بالنسبة لظروف "اليمن السعيد" ولكنها خطوة ساهمت مع خطوات أخرى فى قطع الطريق على تحولات أكثر راديكالية كانت ممكنة... ولكى يكون الأمر واضحًا فان علينا أن نقارن بين ما حدث فى شمال اليمن وجنوبه من حيث مستوى التحديث. وإذا كانت الناصرية قد ساهمت فى إنقاذ الجمهورية اليمنية من السقوط تمامًا، فهى بالمقابل قد ساهمت فى القضاء على – أو على الأقل – إضعاف التيارات التقدمية والحركة الشعبية، معرقلةً بالتالى من قيام نظام جديد أكثر ديموقراطية. أما إذا كانت قد ساهمت فى نجاح الجبهة القومية – دون أن تقصد – فى الجنوب فهذا لا يمنحها أى صك ، فالإمام أحمد هو الآخر قد قدم نفس المساهمة.. علينا اذن أن نتمثل  منطق الأحداث مع الأحداث نفسها.

أما فى الجزائر فلم تصل الأمور إلى حد تدخل الناصرية عسكريًا، ولم تتطلب قيام دور ناصرى مباشر خاص. وقد ساهمت مصر الناصرية فى تدعيم ثوار الجزائر بالمال والسلاح وتدريب الرجال، وذلك فى سياق سياستها المعادية للاستعمار المباشر (القديم). ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأسلحة المصرية كانت تصل إلى الجزائر عن طريق البحر وعن طريق البر عبر ليبيا بالاتفاق مع الملك السنوسى وبتشجيع بريطانيا[67] . كما حصل الثوار على أسلحة من دول عربية أخرى وبعض دول أوربا[68]. أما تدريب الأفراد فكان يتم فى عدة دول منها تونس والمغرب والعراق وألمانيا الشرقية[69]، حيث تسابقت تلك الدول فى تدعيم الثورة، ومع ذلك كان المصدر الرئيسى للأسلحة هو أسلحة العدو الفرنسى ذاته، التى كان يستولى الثوار عليها (75% من مصادر أسلحتهم حتى نوفمبر 1975[70].

 

الأنظمة العربية:

لم تستهدف الناصرية فى علاقتها مع الأنظمة العربية تحقيق أحلام امبراطورية كما صورتها أحيانًا الدعاية الغربية، وقد تناولنا من قبل بالتحليل الموقف النظرى للناصرية من الأنظمة العربية وتبيَّنا كيف أنها لم تنظر إلى  هذه الأخيرة كعدو لا للوحدة العربية ولا للناصرية نفسها باستثناء نظام عبد الكريم قاسم ، الأكثر يسارية و ديموقراطية و عداءً  للغرب من الناصرية !.

وقد شهدت الفترة الناصرية معاركاً طاحنة بين أطراف عديدة على الساحة العربية: الحركة الشيوعية – الحركة القومية – الأنظمة – القوى الاستعمارية – الصهيونية. وكانت الناصرية تقيم تحالفها مع هذا الطرف أو ذاك بحيث تحافظ بقدر الإمكان على وجودها. وبخصوص الأنظمة العربية فقد اختلفت واتفقت مع هذا الطرف أو ذاك إلى هذا الحد أو ذاك، بالغة أحيانًا حد القطيعة الكاملة، حين رأت أن نظامًا معينًا يهدد زعامتها للعالم العربى بشكل مباشر، خاصة عراق عبدالكريم قاسم. وهى قد فضَّلت دائمًا المصالح القطرية المباشرة أو غير المباشرة على أية مصالح أخرى. ومن وجهة نظرنا كانت "استراتيجية" الناصرية دفاعية تمامًا من حيث المحتوى على الأقل. فقد تعرضت للحركة الشيوعية وللحركة القومية من هذا المنظور، فهى لم تقدم نفسها للعالم كرسالة روحية ولم يكن لديها فى الوقت نفسه إمكانية إلحاق ما أسمته بالأمة العربية بركابها، وقد تبين لنا ذلك فى مثال الوحدة السورية وفى حرب اليمن وفى موقفها من القضية الفلسطينية.

وموقف الناصرية من الأنظمة العربية الأخرى هو الوجه الآخر لموقفها من الحركات الثورية الراديكالية فى المنطقة. وقد أشرنا من قبل إلى وقوف كافة الأنظمة العربية المحافظة وراء الناصرية ابان الموجة الرجعية التى قادتها فى المشرق العربى فى 1958 – 1959.

وقد كانت الناصرية  تقاوم -  فى حدود معينة - الأنظمة العميلة على نحو مكشوف [71]، وذلك فى إطار مقاومتها لفكرة الحلف المشترك مع الغرب، وهى لم تتوان فى فترة تكوين حلف بغداد عن التحالف مع السعودية واليمن[72]، أكثر الأنظمة العربية تأخرًا وهجمية فى ذلك الوقت، مشكِّلة ما عُرِف باسم "الحزام الجنوبى"[73]، بالإضافة إلى سوريا طبعًا. وفى فترة لاحقة وقفت ضد مشروع الحلف الإسلامى بقيادة السعودية. فكانت تقف فى أغلب الوقت ضد الاستعمار المباشر وكأنها تختار للآخرين ما اختارته لنفسها؛ فالمحافظة على استقلالها سياسيًا يتطلب تحقيق استقلال أكبر عدد من الدول، وبمعنى أكثر عملية، يتطلب القضاء على البؤر التى تحمل خطرًا على استقلالها السياسى، وإزالة فكرة الاستعمار المباشر نفسها من السياسة الدولية.

وكانت الناصرية فى نفس الوقت تجتهد لإلحاق الهزيمة بأى منافس محلى قوى، وكان أخطر منافس ظهر لها (ضمن الأنظمة العربية) هو نظام عبدالكريم قاسم. وفى مواجهة الأخير التقى عبدالناصر بالملك حسين وأعاد معه العلاقات المقطوعة، كما تصالح مع الملك سعود، بل ولم ُيبد أية معارضة لنزول قوات بريطانية فى الكويت لمواجهة تطلعات قاسم لضمها للعراق[74]. كذلك دبر عبدالحميد السراج (وزير داخلية سوريا خلال فترة الوحدة) وبموافقة ناصر حركة انقلابية دموية ضد قاسم، ولكنها سُحِقت بعنف من قِبل الحزب الشيوعى العراقى، بمباركة من الحكومة العراقية. وقد مثَّل نظام عبدالكريم قاسم شبحًا مفزعًا للناصرية، إذ أنه قدم نفسه للشعوب العربية كنظام معاد للاستعمار، أكثر راديكالية وديمقراطية وأقل تسلطًا من الناصرية.. أى طبعة عراقية جذابة من البونابرتية، إلا أنه كان الأضعف بحكم ظروف الاستقطاب السياسى الحاد فى العراق، وضعف مكانة العراق فى العالم العربى مقارنة بمكانة مصر وتأثيرها القوى.

وبعد قاسم طرحت حكومات سوريا والعراق على مصر فكرة قيام اتحاد ثلاثى، فكان موقف الناصرية سلبيًا إلى أبعد حد وتبلور فى النهاية فى رفض صريح بحجة وجود حزب البعث فى السلطة [75]، ذلك أن الأخير كان خصمًا قويًا ومزعجًا كما رأينا من قبل.

وقد مرت تحالفات الناصرية مع الأنظمة العربية بعدة مراحل: فبدأت بمحور مصر – السعودية فى مواجهة فكرة الحلف الدفاعى مع الغرب، ثم مصر – العراق بعد توقيع اتفاقية الجلاء فى 1954، ثم مصر – سوريا – السعودية – الأردن – اليمن، فى مواجهة مشروع حلف بغداد. وبعد ذلك جاءت الوحدة السورية فحرب اليمن، وتبعتها مرحلة مؤتمرات القمة التى دعا إليها عبدالناصر لمواجهة مشاريع اسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن. وقد انتهت مؤتمرات القمة بدون أية نتائج ملموسة، وذلك تحت شعار "وحدة الصف". وفى لحظة تالية ظهر شعار "وحدة الهدف" فى 65-1966 فى مواجهة الهجمة الاستعمارية الجديدة فى المنطقة والعالم الثالث عمومًا. ورُفع أخيرًا شعار "وحدة القوى التقدمية"، فبدأت مرحلة تعاون بين الناصرية وبعض المنظمات الموالية لها ( المتبنية للفكر الناصرى ) فى المنطقة وأحيانًا مع بعض المنظمات اليسارية الصغيرة (مثل الحزب الشيوعى السودانى)، إلا أن نفس هذه الفترة شهدت مزيدًا من التقارب والتعاون بين الناصرية والقوى القبائلية والمحافظة فى شمال وجنوب اليمن، ومارست ضغوطًا شديدة من قبلها على الاتجاهات التقدمية فى هذين البلدين، ومواجهة الجناح اليسارى لحزب البعث السورى، وتهادنًا ملموسًا مع رجال الأعمال فى مصر نفسها رغم اتجاه الدعاية يسارًا!. والحقيقة أن التشدد فى الشعارات جاء مترافقًا مع تدهور قوى الناصرية وشعورها بالخوار، فرفعت الشعارات الراديكالية كغطاءٍ للمسار الفعلى للواقع. ومن الملاحظ أن الدعاية الناصرية قد اتجهت أكثر نحو اليسار منذ منتصف الستينات رغم (أو بسبب) الانهيار الاقتصادى وبدء تفكك النظام السياسى، فى إطار الدفاع عن النفس ولتبرير الفشل والهزائم بعوامل خارجية. وقد رُفع شعار "وحدة القوى التقدمية" بعد تصفية أو إضعاف الجسم الرئيسى للتيارات الراديكالية بتأييد الأنظمة القائمة وقتذاك !!.

وبعد هزيمة 1967 عادت الناصرية من جديد إلى شعار "وحدة الصف" لتتطابق الشعارات مع الواقع الفعلى، إذ عاد الوئام بين الأنظمة العربية فى مؤتمر الخرطوم عام 1967، وانسحبت القوات المصرية من اليمن وتوقفت المخابرات الناصرية عن إثارة القلأقل فى المشرق العربى، وتوقف الناصريون عن مهاجمة الأنظمة العربية الأشد رجعية، بل على العكس ترعرعت الصداقة من جديد بين مصر والسعودية بعد تقسيم نفوذهما فى اليمن خلال مؤتمر الخرطوم.

منذ الآن فصاعدًا تصبح مصر الناصرية ضمن الجناح الأكثر محافظة من الأنظمة العربية وباتت تعتبر على الساحة السياسية الرسمية العربية ضمن الحمائم.

هكذا كانت الناصرية تقف – موضوعيًا – مع بقية الأنظمة العربية فى خندق واحد، ولكنها اجتهدت فى الحفاظ على استقلالها  السياسى، مثلما بذلت أقصى جهدها لقهر الثورات العربية، حفاظًا على وجود الأنظمة، وهى ضمنها. فكانت تتخذ موقفًا وسطًا بين الأنظمة المحافظة والمنظمات الراديكالية، ولكن فى اللحظات الحرجة كانت دائمًا ما تعود إلى رشدها فتنضم وتقود – غالبًا – الطرف الأول.

 

2- الناصرية فى مواجهة القوى الاستعمارية :

تحقق لمصر تحت حكم الناصريين استقلالها المباشر ( منقوصا )، فكان من الطبيعى أن تعمل الحكومة على المحافظة على هذا الإنجاز، وبالتالى على مقاومة أية محاولة لزعزعة هذا الاستقلال. وضمن وسائل الدفاع تدعيم محاولات الاستقلال السياسى للبلدان المستعمرة. وقد رأينا كيف كلف هذا الأمر مصر حرب 1956، التى أدت مع ذلك إلى تصفية الوجود البريطانى فى قناة السويس.

وقد رأينا كيف رفضت الناصرية دخول حلف بغداد ومشروع أيزنهاور. والحقيقة أنها لم تكتف بالرفض، بل عملت بكل السبل على إفشالهما، فقامت بتكوين ما يشبه الحلف مع سوريا واليمن والسعودية أسمته بالحزام الجنوبى فى مواجهة حلف بغداد (أو الحزام الشمالى). وكان لمعارضتها للحلف – تأثير على تصاعد المعارضة الوطنية فى الأردن، بل ونجاحها فى استلام الوزارة عام 1957، وفى محاصرة النظام العراقى الذى سقط بثورة 1958. ومن الملاحظ أن حلف بغداد قد تعرض لمقاومة كافة الأنظمة العربية المعنية عدا نظام العراق نفسه، كذلك كانت اسرائيل تعارض قيام الحلف.

وبعد حرب السويس تقدمت الولايات المتحدة بما أسمى بمشروع أيزنهاور، الذى تضمَّن تقديم المعونات الاقتصادية لدول الشرق الأوسط لمساعدتها على مقاومة الشيوعية مع استعداد هذه البلاد لقـبول التدخل الأمريكى العسكرى فى الوقت المناسب لوقف أى خطر شيوعى. وكانت صيغة المشروع مستفزة للأنظمة القائمة فى المنطقة حيث أشار لوجود "فراغ" فى الشرق الأوسط بعد انسحاب بريطانيا من قناة السويس. وفى مواجهة هذا المشروع تقدم السوفيت بمشروع مضاد يقضى بامتناع الدول الأربع الكبرى عن تصدير أسلحتها للشرق الأوسط مقابل وقف الولايات المتحدة لمشروع إقامة حلف عسكرى فى المنطقة. وقد وافقت ثلاث دول عربية على مشروع أيزنهاور، هى: ليبيا والعراق ولبنان، بينما تحفظت كل من السعودية واليمن ولم تستجب اسرائيل بينما وافقت الأردن شفويًا فقط[76].

وقد تزعمت الناصرية الدول الرافضة لمشروع أيزنهاور، فشنت حملة إعلامية واسعة ضده وساعدت حركات المعارضة الوطنية فى المشرق العربى مشكلة ضغطًا على حكومات لبنان والأردن والعراق. وقد توقف المشروع تحت تأثير مقاومة المنظمات القومية (البعث أساسًا) وكذلك الناصرية وحكومة السعودية. أما فى لبنان فقد اشتعلت الحرب الأهلية على أثر اغتيال صحفى ناصرى فى بيروت، وقام الجيش اللبنانى بدور مهدئ، مكتفيًا بفصل الفرق المتحاربة كما اضطر كميل شمعون إلى الاستقالة تحت ضغط الولايات المتحدة مفسحًا الطريق أمام اللواء شهاب ليحكم لبنان فى ظل توازن سياسى – عسكرى. وجاءت مع شهاب حكومة رشيد كرامى، فقامت بسحب موافقة لبنان على مشروع أيزنهاور. وإبان الحرب الأهلية اللبنانية قرر نورى السعيد دخول لبنان لمساعدة اليمين اللبنانى، وعلى أثر إصداره أوامر التدخل للجيش تمرد الجنود واشتعلت أخيرًا ثورة العراق، منهية نظام نورى السعيد ومعه أشياء كثيرة، منها مشروع أيزنهاور. وقد أيدت الناصرية حكومة شهاب فى لبنان وأيدت الثورة العراقية فى البداية.

وبقيام ثورة العراق سقط نهائيًا مشروع الحلف الدفاعى للشرق الأوسط. وقد لعب الدور الأساسى فى إفشال المشروع وكذلك مشروع أيزنهاور الحركة القومية فى المشرق العربى، بالتحالف طبعًا مع الناصرية والحكومة السعودية، والموافقة الصامتة من جانب اسرائيل بالطبع، التى كانت ترفض قيام الحلف، خوفًا من تسليح الدول العربية وتمتين علاقتها بالغرب للدرجة التى تمس دورها الخاص فى المنطقة كقاعدة استراتيجية له. أما موقف الناصرية – التى استفادت كثيرًا من الحركة القومية فى الشام والعراق – فكان فى سياق دفاعها عن استقلالها السياسى.

ولم تكتف الناصرية بموقف الدفاع المحض فى مواجهة المحاولات الاستعمارية لحرمانها من الاستقلال السياسى، بل بادرت – خاصة بعد حرب 1956 – إلى الهجوم، ولكن المحسوب والمحدود الأهداف. فهى لم تشعر بالخطر عند الحدود فحسب، وإنما لمسته حيث وجد الاستعمار المباشر عمومًا أو الحكومة العميلة بشكل مباشر، خاصة أن اسرائيل كانت تمارس نشاطًا واسعًا فى أفريقيا، فعقدت صلات قوية مع كثير من حكوماتها.. وفتحت الأسواق أمام صادراتها، وكانت تجد ظروف التغلغل أسهل فى البلدان الأكثر ارتباطًا بالغرب. فكان من أهم أهداف التوجه المصرى إلى أفريقيا موازنة نفوذ اسرائيل، ولكن ظل دائمًا هدفها الأهم هو مقاومة الاستعمار المباشر. وقد قدمت الناصرية قروضاً و معونات مالية محدودة لبعض بلدان أفريقيا وبعض حركات التحرر الوطنى ذات التوجهات الاجتماعية المعتدلة، كما قامت بتدريب بعض مقاتلى هذه الحركات عسكريًا فى مصر وزودتها بالسلاح ومنحت اللاجئين السياسيين حق اللجوء السياسى، كما وجهت إذاعات خاصة باللغات المحلية الأفريقية... الخ.

وقد وقفت الناصرية دائمًا عند حدود مساعدة حركات مناهضة الاستعمار المباشر ولكنها لم تقدم المساعدة بنفس القدر لحركات التحرر اليسارية، وكذلك رفضت تقديم المساعدات إلى الحركات الثورية الراديكالية المعادية للأنظمة المعتدلة أو الرجعية، فعلى سبيل المثال رفضت هى ومجمل الدول الأفريقية تمثيل ثورا الكاميرون فى مؤتمر الدول الأفريقية المنعقد عام 1960 فى أديس أبابا، وقد علق محمد فايق وزير الإعلام الناصرى حتى 1971 على هذا الموقف بصراحة كاملة: "السبب الحقيقى كان يكمن فى رغبة الدول الثورية الأخرى وعلى رأسها مصر أن يكون العمل الجماعى الثورى فى أفريقيا موجهًا فى هذه الحقبة ضد الاستعمار مباشرة وليس ضد حكومات أفريقية مهما كان اتجاهها"[77]. وتتضح حقيقة توجه السياسة الناصرية فى الخارج بشكل كامل فى موقفها من أزمة الكونغو[78].

     ونستطيع القول بأن مساعدات الناصرية لحركة "التحرير الوطنى" الأفريقية كانت سياسية أكثر منها مادية[79]، وموجهة أساسًا لمواجهة الوجود الاستعمارى المباشر ونفوذ اسرائيل. وقد سارت سياسة الناصرية إزاء "حركة التحرير الوطنى" فى آسيا وأمريكا اللاتينية على نفس النهج، ولكن كان اهتمامها الأكبر موجهًا لأفريقيا.

ومن الواضح أن الناصرية حتى فى ممارستها لفكرة مقاومة الاستعمار المباشر لم تندفع كثيرًا فى الكفاح السياسى، فقد تمثل أساسًا فى الدعاية والدعم السياسى والدبلوماسى مع قليل من الجهود المادية التى تتناسب مع ضعف إمكانيات مصر الاقتصادية – العسكرية، فلم يكن الدور الاقتصادى والعسكرى لمصر الناصرية يتناسب أبدًا مع حجم البيانات "الثورية" التى أصدرتها وعدد المؤتمرات التى حضرتها[80]. بينما بخلت حتى بالكلمات على الحركات الراديكالية المعادية للحكومات القائمة.

 

3- التوجه العام للسياسة الخارجية للناصرية:

مثلما راحت الناصرية تلعب على التناقضات الاجتماعية – السياسية فى مصر والعالم العربي، وجدت أنه من الممكن لها. أن تلعب أيضًا على التناقضات الدولية، ولكن فى مصر كانت تستغل الصراع بين قوى محتضرة سياسيًا بينما فى الخارج وجدت نفسها تتحرك بين قوى عملاقة، ولذلك كان من الطبيعى أن تجد نفسها على ملعب الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

فبعد الحرب العالمية الثانية بسنوات قلائل بدأت الحرب الباردة من جانب الغرب ضد الاتحاد السوفيتى، وامتدت إلى الشرق الأوسط، فى شكل محاولة لإقامة حلف عسكرى تقوده الولايات المتحدة. وكان من الممكن تحقيق هذه الخطة بسهولة ما لم تشتعل الحركة القومية العربية خلال الأربعينات والخمسينات بشكل أدى إلى عرقلة فعلية للمخططات الغربية، وأجبر الحكومات العربية على رفض هذه الفكرة، بل وادى إلى تغيرات سياسية ملموسة فى بعض الأنظمة العربية القائمة (سياسيًا على الأقل)، بل ومنح الطبقات المسيطرة العربية فى بعض البلدان فرصة تحقيق بعض المكاسب على حساب الاستعمار، باستخدام الحركة الجماهيرية. وبذلك وجد الاتحاد السوفيتى حلفاء موضوعيين له فى الشرق الأوسط.

وقد اختارت الدبلوماسية السوفيتية التحالف مع الأنظمة الأكثر فعالية فى المنطقة، ولو على حساب التيارات الأكثر راديكالية، الأقل قوة بوجه عام. وهكذا فُتح باب الشرق مرة ثانية للاتحاد السوفيتى (بعد أن فقدوا علاقاتهم الحسنة مع العربية السعودية من قبل)، بدءًا بصفقات السلاح مع مصر وسوريا واليمن، وإقامة علاقات ثقافية وتجارية واسعة مع مصر وسوريا. وبذلك وجدت الناصرية أمامها فرصة سانحة لاستغلال التناقض بين الشرق والغرب، بالإضافة لاستغلال الحركة القومية العربية مع لجمها أو حتى ضربها فى الوقت المناسب. وبهذا التوجه أصبح بمقدورها أن تساوم الطرفين وتستفيد من كليهما، وتحقق بالتالى درجة ملموسة من النمو الاقتصادى، وتحافظ على الاستقلال السياسى للبلاد لفترة ما.

ولم ينشأ هذا التوجه "المحايد" بعد انقلاب 1952، بل ظهر كفكرة وكميل قوى قبل ذلك، فطالما نادى كبار ملاك الأراضى فى العشرينات – الثلاثينات بزيادة التعامل مع الاتحاد السوفيتى، وأخذ هذا التعامل فعلاً فى النمو حتى وُقَّعت اتفاقية عام 1948 أصبحت بموجبها كل من مصر والاتحاد السوفيتى الدولة الأولى بالرعاية فى العلاقات التجارية [81]، كما اتسع التبادل التجارى بين البلدين، حتى لجأت الولايات المتحدة إلى قطع المعونات الاقتصادية عن مصر عام 1952 (قبل انقلاب الضباط) لهذا السبب. وكان العجز المتزايد عن تصريف القطن هو الدافع الأساسى لزيادة التبادل مع الاتحاد السوفيتى، بجانب رغبة بعض كتل الطبقة المسيطرة فى استخدام التناقضات الدولية. وقد تبدت هذه الرغبة فى مطالبة بعض ممثلى هذه الكتل بعقد اتفاقية عدم اعتداء مع الاتحاد السوفيتى فى 1951، بل وتقدمت حكومة "الوفد" بطلب للحصول على السلاح من الكتلة الشرقية عامى 1951، 1952[82]، كما قررت نفس الحكومة عقد معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتى عام 1952، وكان من المقرر إبرامها يوم 26 يناير، إلا أ ن حريق القاهرة وإقالة "الوفد" من الوزارة قد منعا ذلك. كذلك ُطرح فى مجلس النواب شعار "نصادق من يصادقنا ونعادى من يعادينا" ولقى ترحيبًا عامًا داخل وخارج المجلس. وقد بررت الأوساط الرسمية هذا التوجه "الحيادى" الجديد للطبقة المسيطرة بفكرة أن رفض الشيوعية لا يعنى عدم قبول التعامل مع البلدان "الاشتراكية"[83]. وقد ترافق مع هذا الميل نحو الشرق بداية حلول النفوذ الأمريكى فى نفس الوقت محل النفوذ البريطانى على صعيد الاقتصاد.

وبعد انقلاب يوليو لم تنحرف الناصرية عن هذا التوجه العام، فبرغم المعاهدة البريطانية والتحالف مع الولايات المتحدة و"التفرغ لمحاربة الشيوعية" بالتنسيق مع نورى السعيد.. كانت ترفض بحسم فكرة إقامة حلف عسكرى مع الغرب، ورفعت شعار الحياد منذ البداية، واهتمت بزيادة التعاون الاقتصادى مع الاتحاد السوفيتى (وهى نفس توجهات حكومة "الوفد" الأخيرة)، ثم لجأت فى النهاية إلى شراء السلاح منه بالفعل، وبذلك طبقت الناصرية فكرة الحياد، الذى مكنها من تقوية نفوذها فى الداخل، كما مكنها من لعب دور خارجى أكبر بكثير من حجمها الحقيقى، فقد تمكنت بالدعم السوفيتى العسكرى والاقتصادى من مقاومة الاستعمار فى آسيا وأفريقيا، وساهمت مع الحركة القومية العربية فى إسقاط حلف بغداد ومشروع أيزنهاور. وقد تضمَّن هذا التوجه نقيضه؛ فقد تحقق الاستقلال السياسى تجاه المعسكرين معًا، ولم تكن مقاومة الاستعمار فى الخارج تستهدف استبداله بالهيمنة السوفيتية، بل استهدفت إحداث توازن بينهما لتحقيق أكبر قدر من حرية الحركة لمصر الناصرية على الساحة الدولية. وقد ساهمت الناصرية لعدة سنوات فى تحقيق هذا التوازن . وقد تمثل "حياد" دول "عدم الانحياز" فى وقف مشاريع الأحلاف الامبريالية إلى حد ما، والمساهمة فى تحقيق الاستقلال السياسى المباشر لكثير من المستعمرات.

ولدينا تعليق أخير على السياسة الخارجية للناصرية.. فإن هذه السياسة لم تخرج إلا قليلاً على الخط الأمريكى العام، وذلك أن تصفية الاستعمار المباشر، التقليدى كان هدفًا أمريكيًا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بغرض تطبيق نظام "الباب المفتوح" بحيث تتمكن الولايات المتحدة، وهى الأقوى اقتصاديًا، من وراثة مستعمرات بريطانيا وفرنسا[84].

ولذلك مثلاً وجدنا أن إمداد ثوار الجزائر بالسلاح كان يتم بتأييد أمريكى ضمنى، وفى 1956 وقفت الولايات المتحدة إلى حد كبير ومن الناحية العملية مع الناصرية، ولم تستاء من دعمها لحركات التحرر فى العالم الثالث، إلا فى حالة الكونغو، حيث بدأت الناصرية تعتدى على الهيبة الأمريكية بدون ترَوّى. وربما لعب موقف الناصرية من أزمة الكونغو دورًا فى تحول موقف الولايات المتحدة منها فى اليمن. ففى بداية الانقلاب الجمهورى أيدت الجمهورية والدور المصرى فى تصفية المعارضة الملكية على أن تنسحب مصر بعد أداء مهمتها، مع ضمان عدم المساس بالنظام السعودى من جراء الحرب الأهلية فى اليمن. إلا أن الولايات المتحدة قد انحازت بشدة للموقف السعودى فى 1964، مع أزمة الكونغو والنمو الكبير فى العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتى[85]. والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة منذ 64 – 1965 قد قررت شن هجوم شامل فى العالم الثالث لوراثة النفوذ الأوربى المتضعضع.. وسوف نعود لهذه المسألة فى القسم الثالث.

 

ثالثًا: الاستقلال السياسى لمصر الناصرية:

 

يبدأ الاستقلال السياسى للدولة – منطقيًا- بالتخلص من النفوذ السياسى الأجنبى.. المباشر، ولكنه يواجه بتهديدات مستمرة يتم التعامل معها وعمل حسابها فى السياسة الخارجية للدولة. ويتحقق الاستقلال السياسى على نحو مطلق بتحقق إرادة الدولة إزاء الدول الأخرى على المستوى الاستراتيجى. فى هذه الحالة لا تتحرك الدولة وفقًا للظروف الخارجية أساسًا، بل وفقًا لإرادتها هى فى المقام الأول، وبالإضافة إلى ذلك تستغل تلك الظروف لمصلحتها، بل وربما تساهم فى خلقها. وبكلمات أخرى يكون الاستقلال السياسى المباشر هو الوجود المستقل للدولة، ولكن الاستقلال الفعلى، فهو تحقق هذا الوجود فى الخارج. وبتعبيرات سياسية، يتخذ الاستقلال الحقيقى شكل الارتباط المطلق بين الاستراتيجية والتكتيك، فتكون السياسات الجزئية والمباشرة مصاغة وموجهة لتحقيق استراتيجية محددة سلفًا. والاستراتيجية ليست بضعة شعارات عامة أو مقولات مجردة بل هى تصور كلى يمكن ترجمته إلى خطط وقرارات عملية قابلة للتنفيذ.و فى الحقيقة لا يمكن أن يتحقق ما يمكن اعتباره استقلالاً سياسياً دون وجود استراتيجية ثابتة نوعا ما و تكتيكات مرتبطة بها و إرادة فاعلة لتحقيقها .

فهل حققت الناصرية استقلالها السياسى الحقيقى ؟

.. لا يبدو لنا ذلك.

بغض النظر عن عدم اكتمال الاستقلال المباشر (شروط انسحاب اسرائيل فى
1956)، فان الناصرية لم تضع استراتيجية سياسية، وظلت "أفكارها" مجرد شعارات غير مرتبطة بخطة محددة لتحقيقها. وفضلاً عن ذلك حُكمت سياستها الخارجية بواسطة فعل الآخرين ورد الفعل من جانبها: ففى 1956؛ أول صدام حقيقى مع الغرب، لم يستعد الناصريون للحرب ولم يتم  التجهيز للمقاومة رغم حشد القوات المعادية فى قبرص،  كما لم يُحدَد المكان الذى سيبدأ العدوان عليه حتى بعد بدء الغارات الجوية ، رغم وصول معلومات من الخارج تؤكد نية الهجوم الثلاثى!. وبعد ذلك تمت الوحدة السورية كرد فعل لضغط الشعب السورى ثم لضغط الطبقة المسيطرة هناك. كذلك كانت حرب اليمن ورطة أملتها ظروف الانفصال السورى. ثم جاءت مغامرة حشد القوات فى 1967 بنتائجها المعروفة كرد على تهديدات اسرائيل لسوريا وكاستجابة لضغط الأردن وسوريا و "فتح"، وكان المأمول هو أن تكون النتائج مشابهة لنتائج عملية الحشد عام 1960. هذه هى أهم أحداث السياسة الخارجية الناصرية. وكان ضمن أسباب هذه الورطات المتتابعة رغبة الناصرية فى تحقيق انتصارات خارجية تعزز بها من هيبتها فى الداخل، وتحقق بها زعامتها للأنظمة العربية للحفظ على أمنها الخاص فى مواجهة هذه الأنظمة نفسها، واستخدامها فى نفس الوقت كأوراق لعب مع المعسكرين العالميين. وتعبر هذه الورطات عن التناقض الحاد بين الشكل الذى اضطرت الناصرية إلى تمثله، أى الشكل الثورى، وبين المضمون الرجعى لسياستها المضادة للثورة فعليًا. ففى ظل تناقض من هذا النوع كانت الشعارات تطلق للاستهلاك المحلى دون خطة تنفيذ بعيدة المدى وحقيقية ومع ذلك ( و لذلك أيضاً) كان النظام مضطر أحيانًا إلى ابتلاع شعاراته نفسها، خاصة أن اللعب باللامعقول لم يكن يتم ولم يكن يمكن أن يتم بالعقل على نحو كامل.

وفى مواجهة اسرائيل وجدنا الناصرية تفتقد – حتى على صعيد الدعاية – لفكرة واضحة المعالم عن مصير هذه الدولة، حتى فى حالة دخول الجيش المصرى إلى تل أبيب. والأهم أن مصر الناصرية لم تضع أية خطة لمواجهة اسرائيل على المدى الطويل (والقصير أيضًا !) لا على الصعيد السياسى ولا العسكرى و لا الدعائى ولا حتى الاقتصادى. وحتى بخصوص المشكلات الجزئية تصرفت بطريقة عشوائية وبدون إصرار[86]. ومن أبرز هذه المشكلات مسألة تحويل مجرى نهر الأردن الذى اتخذت بصددها الحكومات العربية مواقفا ضعيفة وغير مخططة. أما الجيش فلم يُجهز إطلاقًا لخوض حرب حقيقية سواء هجومية أو دفاعية.

أما بخصوص الوحدة العربية، فرغم رفع الشعارات الطنانة لم تحدد الناصرية خطة ومشروعًا للعمل من أجل تحقيق هذه الشعارات.

ومن الملفت للنظر أن الناصرية قد تحالفت على الصعيد العالمى بشكل أساسى مع قوى وسيطة أو مترددة ، على شاكلتها. بل وعملت على المحافظة على هذه القوى، سواء على صعيد الأقطار العربية أو العالم الثالث، والأهم من ذلك أنها تصدت بقوة للتيارات الراديكالية فى الوطن العربى والتى كان من الممكن أن تلعب دورًا فى وضع استراتيجية قومية عربية. وحتى التعاون مع السوفيت كان أولاً جزئيًا، وثانيًا كان  مع دولة باتت تميل بشدة إلى الحل الوسط مع الغرب، خاصة فى عهد خروشوف (57-1964) و ثالثا لم يكن تحالفا قط .

وكان نهج رد الفعل بمثابة تطبيق لفكرة المحاولة والخطأ التى تعبر بشكل مباشر عن غياب استراتيجية سياسية، وتبلور هذا النهج فى شعارات وسطية رد- فعلية: نصادق من يصادقنا ونعادى من يعادينا، الحياد الإيجابى وعدم الانحياز. ومن الناحية العملية كان التوجه العام للسياسة الناصرية توجهًا دفاعيًا وقصير المدى، بغرض المحافظة على الاستقلال المباشر. وتم هذا بالاعتماد على توازنات القوى الكبرى لا بالاعتماد على الذات فى الأساس بدليل أن اهتزاز هذه التوازنات أدى – بعد أن أُجهضت الحركة القومية العربية – إلى اهتزاز استقلال مصر السياسى بشدة خلال الفترة الساداتية. والأدهى أن الناصرية قد حطمت فى الداخل تلك القوى التى كان من الممكن أن تدشن مسارًا للاعتماد على الذات، ولذلك حققت استقلال مصر المباشر باللعب على التناقضات الدولية بأكثر من خلق ركيزة داخلية قوية لسياسة مصرية مستقلة خالصة.. بل بلغ الأمر حد خلق نفوذ صورى ومصطنع للاتحاد السوفيتى بعد 1967 فى صورة وجود عسكرى مباشر. فكان السلاح السوفيتى يوازن المعونات الاقتصادية الغربية (قبل 1966)، والخبراء السوفيت مع خبراء الغرب والوجود العسكرى السوفيتى فى الشرق الأوسط عمومًا مقابل الوجود الأمريكى.. وكان يتم اتخاذ القرارات الهامة بالتشاور مع كل من الطرفين ووفقًا لتوازن القوى بينهما. لذلك كان الاستقلال المتحقق مرهونًا بتوازنات القوى الكبرى وعلاقاتها ببعضها، وهذا ما أفقد الاستقلال السياسى معناه الحقيقى: الاعتماد على الذات.

ومثلما يحدث لأية مؤسسة لا تمتلك برنامجًا استراتيجيًا، وقفت سياسات الناصرية بين الصراع الدائر بين القوى الكبرى، فتارة تلعب لصالح الغرب وتارة أخرى تلعب لصالح الشرق، ولكن كانت المحصلة النهائية بالطبع لصالح الطرف الأول، وهذا الأمر ينبغى أن يكون مفهومًا تمامًا: فقد حققت الناصرية انتصارات على الامبرياليين، ولكنها كانت انتصارات من النوع التكتيكى، مثل مسألة حلف بغداد، وهو أهم الانتصارات التى شاركت فى صنعها على الإطلاق، أما الانتصارات التى حققتها لصالح الغرب فكانت من النوع الاستراتيجى، وأهمها على الإطلاق كان تحطيم الحركة الشيوعية فى مصر والشام (ومساهمتها فى تحطيم الحزب الشيوعى العراقى)، وكادت فى فترة معينة أن تحطم الجناح الراديكالى للثورة فى جنوب اليمن كما فعلت فى شماله، بالإضافة إلى ذلك لعبت الناصرية الدور المباشر والأهم فى إلحاق الهزيمة بالحركة القومية العربية وتخريبها. أما المكاسب التى نالها الاتحاد السوفيتى بفضل سياسة الناصرية فكانت من النوع التكتيكى، مثل إقامة علاقات وثيقة مع مصر وسوريا واليمن، أو الحصول على بعض التسهيلات العسكرية.. الخ، ولكن الخسائر كانت أفدح وتمثلت فى منع قيام أنظمة راديكالية فى المنطقة تصلح كحليفة استراتيجية للاتحاد السوفيتى، باستثناء نجاح الجبهة القومية فى جنوب اليمن الذى فشلت الناصرية فى منعه.

يمكننا أن َنصِف استقلال مصر الناصرية بأنه حرية رد الفعل ، الذى لا يتضمن استقلال الإرادة التى كانت مفتقدة .

ويبدو أن تحقيق الاستقلال السياسى المطلق فى عالمنا المعاصر هو أمر ممكن فقط للبلدان التى تتمتع ببنية اجتماعية – اقتصادية مستقلة، معتمدة على ذاتها ومتماسكة على الصعيد الداخلى، وهذا الأمر الأخير افتقدته مصر الناصرية، ذلك أن الدولة فى سياستها الخارجية – بوجه عام – تخرج ذاتها، فالسياسة الخارجية هى الوجه الآخر للسياسة الداخلية، وفقدان التوجه المستقل الاستراتيجى على الصعيد الخارجى يعكس فقدانه على الصعيد الداخلى أيضًا.

ولكى تكتمل رؤيتنا، فسوف نلقى الضوء على السياسة الاقتصادية - الاجتماعية للناصرية، فى الفصلين القادمين.

 


 

[1]           أعلن ايدن أنه يؤيد أية حركة بين العرب تعزز وحدتهم "بشرط أن ينال أى مشروع استحسانًا عامًا (نبيه بيومى عبدالله: تطور فكرة القومية العربية فى مصر، ص 185.)، انظر أيضًا هامش 74.

[2]           مما يدل على وعى مؤسسات الغرب بخطورة الحركة القومية، وعلى تفكيرها فى احتوائها – كما نشير هنا – عن طريق الحكومات العميلة نفسها ما قرره "مجلس الحرب بالشرق الأوسط" فى لندن فى 10-13 مايو 1945. إذ قرر أن السياسة البريطانية فى الشرق الأوسط بعد الحرب يجب أن تدور حول أربعة محاور، منها:

            " إقامة شكل من أشكال الاتحاد العربى، على أن يكون اتحادًا واهنًا مفكك العرى لامتصاص التيار القومى السائد فى المنطقة الذى يشكل خطرًا على المصالح البريطانية. ويتولى هذا الاتحاد التنسيق السياسى بين حكومات المنطقة فى فترة ما بعد الحرب".

            (رءوف عباس حامد: أمريكا والشرق العربى فى الحرب العالمية الثانية. فى: السياسة الأمريكية والعرب، سلسلة كتاب المستقبل العربى (2)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 بيروت، يونيو 1982، ص 39، نقلاً عن:

Great Britain, Foreign Office,: F.O. 371 /34925, Casey to Eden, 20/5/1943).

[3]           من الشعارات الشهيرة التى تبنتها الحكومات العربية فى المشرق العربى كان شعارى: سوريا الكبرى، والهلال الخصيب.

[4]           ارجع إلى:

            أرسكين تشيلدز: الطريق إلى السويس. ترجمة: خيرى حماد، الدار القومية للطباعة والنشر، الفصل 14.

لاكور: الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط، ص 226، ص 323.

W. Laqueur: Communism and Nationalism in the Middle East, p. 166

[5]           لم تكن هذه الضغوط مما يمكن إغفاله إطلاقًا، فالحركة القومية العربية كانت تتطلع إلى دور مصرى خاص وقيأدى، ومن الأمور الملفتة للنظر أن الجماهير العربية خارج مصر كانت أكثر تعاطفًا مع الحركة الوطنية المصرية مما كانت الأخيرة متعاطفة مع الحركة الوطنية فى البلدان العربية الأخرى. وللوقوف على مدى قوة تطلع الحركة القومية إلى مصر نذكر أنه فى 1951 – 1952 سارت المظاهرات فى المشرق العربى تأييدا لإلغاء معاهدة 1936 وقامت حركة تشكيل كتائب من المتطوعين للمشاركة فى حركة الكفاح المسلح فى قناة السويس … الخ

            طارق البشرى: المرجع السابق، ص 488.

[6]           ذوقان قرقوط: تطور الفكرة العربية فى مصر 1805-1936، بيروت 1972.

            وقد نص دستور 1956 المؤقت، لأول مرة فى التاريخ على أن "مصر دولة عربية مستقلة". أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 135.

[7]           يتضح من خطاب الأمير عبدالإله إلى الرئيس الأمريكى روزفلت، أن الأمير كان يفهم طابع الحركة الصهيونية بطريقة معقولة جدًا، وأنه كان يملك من المبررات ما جعله يخاف من قيام اسرائيل.

            انظر نص الرسالة فى: صالح صائب الجبورى – محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية، ص 984.

            والأطرف من هذا أن نورى السعيد قد تقدم بمشروع أكثر راديكالية ووضوحًا وعملية من معظم المشاريع التى طرحت وقتئذ لحل المشكلة الفلسطينية، وذلك عام 1942، وهو يقضى باتحاد الشام فى سوريا الكبرى ثم إقامة اتحاد مع العراق، مع السماح لكل من يهود فلسطين وموارنة لبنان بالإدارة الذاتية، وإخضاع الهجرة اليهودية لموافقة دولة سوريا. وقد قوبل هذا المشروع برفض الدول المعنية والعربية السعودية تمامًا !! ورغم أن المشروع يتضمن أطماع العراق خاصة، إلا أن هذه الأطماع – كما نعتقد – كانت - فى حدود هذا الطرح – تتمشى مع مصالح الحركة القومية العربية ومصالح الفلسطينيين.

            انظر مهدى عبدالهادى: المرجع السابق، ص 87.

[8]           أحمد عبدالرحيم مصطفى، الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

[9]           تشيلدز: المرجع السابق، ص 322.

[10]         نصحت المخابرات العامة المصرية عبدالناصر بتأجيل خطوة الوحدة بعد أن درست الوضع فى سوريا، إلا أن عبدالناصر لم يستطع أن يتملص حتى النهاية. وقد ذكر عبداللطيف بغدأدى أنهم، أى الناصريون، قد اضطروا للاستجابة تفاديًا لنفوذ الشيوعيين المتزايد فى سوريا".

            أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص 49.

وقد تناول هيكل بالتفصيل عملية الوحدة المصرية السورية، وذكر كثيرًا من الوقائع التى تعضد رأينا. انظر: ما الذى جرى فى سوريا، الدار القومية للطباعة والنشر، روض الفرج، القاهرة، 1962.

[11]         نقلاً عن أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص 47.

[12]         ساطع الحصرى: الأقليمية.. جذورها وبذورها، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1963، ص 84.

وقد اعترف عبدالناصر بعد الانفصال بأنه قد قبل فكرة الوحدة بضغط الشعب السورى (خطاب بتاريخ 5/10/1961) – مجموعة خطب وتصريحات وأحاديث الرئيس جمال عبدالناصر).

[13]         أرسكين تشايلدز: المرجع السابق، ص 327.

[14] وبعد الوحدة، ورغم تحقق الشروط الثلاثة، عبر عبدالناصر عن ندمه قائلاً: "إن الخطوات التى تمت كانت متسرعة وغير مدروسة"، وذلك ردًا على مطالبة عبدالسلام عارف له بالوحدة مع العراق بعد ثورة 1958. وقد جاء هذا الرد بعد أيام قليلة من قيام ثورة العراق.

            أرسكين تشايلدز: المرجع السابق، ص 337.

[15]         على سبيل المثال زعم أنور عبد الملك أن المؤسسات المصرية راح تفتح فروعها فى سوريا، مستغلة الجماهير السورية. المرجع السابق، ص 149.

[16]         حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص ص 57 – 58.

[17]         المرجع السابق، ص ص 76 – 77.

[18]          نفس المرجع .

[19]          نفس المرجع، ص ص 63-66.

[20]         على سبيل المثال قام عبدالناصر بإلقاء 23 خطابًا خلال 23 يومًا قضاها فى سوريا فى فبراير ومارس 1960، هاجم فيها جميعًا حزب البعث. حمروش: نفس المرجع، ص 74.

[21]         حمروش: المرجع السابق، ص 189.

[22]         ذكر هيكل نفسه أن اعتقالات 1959 كانت بسبب ازدياد قوة الشيوعيين واتجاه السلطة إلى التعاون مع الاتحاد السوفيتى، مما هدد بنمو نفوذهم أكثر. نحن وأمريكا، القاهرة، 1967.

[23]         ضمن ما قاله – على سبيل المثال -  (1959) : "الشيوعية هى أكبر عون للصهيونية، وأن الأخيرة تعمل على إقامة منظمات شيوعية تخدع الناس بكلام معسول عن العامل والفلاح، وأن هنرى كورييل كان صهيونيًا يموَّل أكبر منظمة شيوعية فى مصر، وأن الشيوعيين يساعدون الصهاينة فى احتلال وادى النيل لتحقيق حلمهم".

[24]  كان عبدالكريم قاسم أكثر تشددًا من عبدالناصر تجاه الغرب، هذا بعكس ما صورته الدعاية الناصرية ومن الطريف أنه عارض وحدة مصر وسوريا فى الوقت الذى كان يتطلع فيه إلى ضم الكويت للعراق، بينما عارض عبدالناصر هذه الخطوة الأخيرة رغم تأييده لمشروع الهلال الخصيب الذى أعلن قبيل الثورة العراقية ردًا على وحدة مصر وسوريا !!

[25]  بريماكوف – بيليايف: مصر فى عهد عبدالناصر، ص 90.

   وأضاف هيكل تعليقه الخاص بهذا الصدد، فذكر أن استئناف المعونات الأمريكية لمصر عام 1958 كان راجعًا إلى تصاعد نفوذ الشيوعيين فى العراق وسوء التفاهم بين مصر والاتحاد السوفيتى (والذى ترتب على قمع الشيوعيين فى سوريا – المؤلف)، وكان تشجيعًا له على مواصلة حربه ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتى. (نحن وأمريكا).

[26]         بريماكوف – بيليايف: المرجع السابق، ص 86.

[27]         حاول عبدالناصر أن يقمع الانفصاليين، فأرسل لواء مظلات إلى اللاذقية، إلا أنه أُسر بأكمله وفشلت العملية. حمروش: المرجع السابق، ص ص 91 – 92.

[28]         نُقلت هذه العبارات من خطابات عبدالناصر التالية للانفصال السورى مباشرة.

[29]         على سبيل المثال قال عبدالناصر فى أحد خطابات بعد الانفصال أنه نزل عند توسلات الوحدويين السوريين لإنقاذ سوريا، وأنه قد طلب منهم فترة انتظار خمس سنوات قبل إتمام الوحدة السياسية ولكنهم أبوا.

            أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 273.

[30]         نُشرت "مباحثات الوحدة" بالقاهرة فى 1964.

[31]         فى البيانات الأولى لحكومة الضباط لم يرد ذكر لقضية فلسطين. كما قرر نجيب بصراحة أن مسألة فلسطين لا تهمه. كما لم يأت ذكر للمسألة فى برنامج هيئة التحرير عام 1953.

            وقد ذكر نجيب بالحرف: "ولم ترد اسرائيل كنقطة فى جدول أعمالنا … كان اهتمامنًا مركزًا على تحرير مصر". كلمتى للتاريخ، ص 144.

ثم قام عبدالناصر سنة 1954 بتخفيض الميزانية العسكرية خمسة ملايين جنيهًا، مصرحًا لريتشارد كروسمان على حد زعم الأخير – "أنه لا يشغل نفسه باسرائيل، وإنما يركز على التنمية الداخلية فى مصر" وأنه يعتقد "أن اسرائيل ليست خطرًا على مصر إلا لأن مصر ضعيفة اقتصاديًا واجتماعيًا، (محمد حسنين هيكل: قصة السويس، ص 22).

[32]         اقترحت الحكومة الأمريكية مشروعين آخرين بخلاف هذا المشروع: مشروع الجزيرة، ومشروع جونسون، لتوطين اللاجئين فى سوريا ولبنان والأردن، وقد وافقت كل من سوريا والأردن إلا أن مقاومة الشعب الفلسطينى حالت دون تنفيذ المشروعين.

عبدالقادر ياسين: شبهات حول الثورة الفلسطينية، ص 101.

[33]         وفقًا لهدنة 1949، اتفق الجانبان، العربى والاسرائيلى على قرار وقف إطلاق النار عند الخطوط التى انتهت بها حرب 1948، وهى الخطوط التى ظلت قائمة حتى 4 يونيو 1967. ويعد هذا إقرارًا من جانب الأنظمة العربية بشرعية دولة اسرائيل، وفقًا للعرف الدولى. وقد ذهب محمود رياض، وزير خارجية مصر الناصرية لفترة طويلة نفس المذهب (مذكرات محمود رياض {1948 – 1978}، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1981، ص 154.

[34]         مهدى عبدالهادى: المسألة الفلسطينية ومشاريع الحلول السياسية(1934 – 1974)، بيروت، ط1، 1975، ص 251.

[35]         ذكر بورقيبة (المرجع السابق) التصريح التالى لجمال عبدالناصر إلى مجلة "ريالتى" الفرنسية: "وعندما تستكمل المنظمة (أى م.ت. ف) استعداداتها سوف نشرع فى العمل من أجل تطبيق مقررات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين وبحقوق العرب فى فلسطين ".. "إن أمة تسعى إلى فرض مقررات الأمم المتحدة لا يمكن أن تُنعت بوصفها معتدية"، ص 258 – ص259.

[36]         نفس المرجع، ص 242 – 264.

[37]         صالح صائب الجبورى – المرجع السابق، ص ص 445 – 448.

[38]         مهدى عبدالهادى: المرجع السابق، ص 247.

[39]         نفس المرجع، ص 250.

[40]        نفسه ص ص 254 -255

[41]        نفسه ص 256

[42]        صدر القرار 194 عام 1948 من الجمعية العامة بتدويل القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين. مجلة شئون عربية، عدد نوفمبر، ديسمبر 1983، ص 276.

[43]       نفسه ص 252

[44]        نفسه ص 259

[45]         تعد مذكرات محمد فوزى وثيقة تشهد على حالة الجيش الناصرى حتى 1967. انظر أيضًا كتاب صالح الجبورى، سابق الذكر.

[46]         من هذه اللحظات الحرجة إعلان الحكومة السورية فى أواخر 1966 رغبتها فى شن الحرب ضد اسرائيل لمنعها من تحويل مجرى نهر الأردن بالقوة، مما أرغم الناصريين، الذين بُهتوا بهذه الدعوة، إلى إبداء بالغ انزعاجهم علنا والى التنصل مباشرة من المسئوليات القومية التى قرروا من قبل تُحملها.

[47]         عبدالقادر ياسين: شبهات حول الثورة الفلسطينية، ص 62.

[48]         تريفور. ن. دوبوى: النصر الُمحيِّر، ترجمة: الهيئة العامة للاستعلامات (768)، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة، مصر، (صدر عام 1988)، ص 263.

[49]         شبلى العيمسى: فى الثورة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1971، ص 4.

[50]         صالح الجبورى: المرجع السابق، ص ص 447 – 448.

[51]         عبدالقادر ياسين: شبهات حول الثورة الفلسطينية، ص 62-63.

[52]         وبرغم تمويل الدول العربية للمنظمة لم تنجح هذه فى قطع الطريق على "فتح" أو حتى فى منافستها. واضطرت الأنظمة فى النهاية إلى دعوة فتح لدخول المنظمة، متنازلة عن شرط فرضه ياسر عرفات وهو أن يكون رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بعد هزيمة 1967.

[53]         فى عبارة شهيرة بليغة لهيكل، قال إننا (يقصد الأنظمة العربية) نلاعب اسرائيل الطاولة بينما هى تلاعبنا الشطرنج.

[54] عبدالله جزيلان: التاريخ السرى للثورة اليمنية، مكتبة مدبولى بالقاهرة، ط 2 1979، ص 12.

[55]         للوقوف على بعض التفصيلات، انظر: محمد يحيى الحداد: تاريخ اليمن السياسى، عالم الكتب، القاهرة، 1976، ص ص 379-384.

[56]         عبدالله جزيلان: المرجع السابق، ص 14، أحمد حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص 200.

[57]         محمد يحيى الحداد تاريخ اليمن السياسى، ص 391.

[58] من الطريف أنه ليس الناصريين فقط هم الذين دعموا الإمام أحمد، بل أيد "الشيوعيون" اليمنيون أيضًا ما أسموه "بالدور التقدمى" للإمام خلال الخمسينات.

Fred Halliday: op.cit., chapter three.

[59]         انظر عبدالله جزيلان – المرجع السابق.

[60]         أحمد حمروش: المرجع السابق. نقلها عن جمال عبدالناصر نفسه، ص 234.

[61] Fred Halliday. op. cit., p. 116          

[62]         بلغت الرشوة الموزعة على القبائل خلال فترة الحرب اليمنية 60 مليون جنيه استرلينى، أحمد حمروش: المرجع السابق، ص 231. 303 Fred Halliday. op. cit., p. 115- 116

[63]         Op.cit. pp. 115-116

[64]         بلغت الخسائر 10 آلاف قتيل حسب ما ذكر حمروش: المرجع السابق، ص 261. بينما ذكر هاليداى (المرجع السابق) انها بلغت 15.195 قتيلا فى الفترة من أكتوبر 1962 ويونيو 1964، ص 111.

                                                                                                                  Fred Halliday. op. cit., p. 212                  [65]   انظر كذلك فيتالى ناؤومكين. كفاح الجبهة القومية من أجل الاستقلال. اليمن الجنوبية والديموقراطية الوطنية – دار التقدم – موسكو 1980. ترجم فى 1984، الفصل الرابع.

 

[66]         نفس الموضع.

[67]         أحمد حمروش: المرجع السابق، ص 383.

[68]         جوان جليبى: ثورة الجزائر، ترجمة: عبدالرحمن صدقى أبو طالب. الدار المصرية للتأليف والترجمة (صدر عام 1959)، ص 135.

[69]         نفس المرجع، ص 133.

[70]         نفس المرجع، ص ص 134 – 135.

[71]         لم يمنع هذا من تحالف الناصريين مع نظام نورى السعيد عام 53-1954  ، ومع السعودية منذ بداية انقلاب 1952 وحتى حرب اليمن.

[72]         كان نظام الإمامة رغم تأخره الاجتماعى وهجميته يرفض الخضوع للهيمنة الاستعمارية، وقام الإمام بتوزيع مصادر أسلحته، فعقد صفقة أسلحة مع الاتحاد السوفيتى عام 1956. وكانت بعض الدوائر فى اليمن ترفض الاكتفاء بالمعونة الأمريكية وترى ضرورة موازنتها بعلاقات مع السوفييت.

[73]         المرجع السابق.

[74]         حمروش: قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الثالث، ص 170.

[75]         انظر "مباحثات الوحدة".

            وقد أورد حمروش (المرجع السابق) بضع تعليقات لعبدالناصر على مسألة الوحدة الثلاثية المقترحة: "إذا كان البعث هو الذى يحكم سوريا وستكون الوحدة معه فأنا على غير استعداد للبحث إطلاقًا". كما أعلن أنه يخشى تطبيق المثل القائل: "أنا وخويا على أبن عمى".. وخلال المباحثات كتب هيكل (صحفى الرئيس) مقالا هاجم فيه حزب البعث أذيع 12 مرة من الإذاعة المصرية: ص ص 119 – 128.

[76]         أحمد عبدالرحيم مصطفى: المرجع السابق.

[77]         محمد فايق: عبدالناصر والثورة الأفريقية، دار المستقبل العربى – القاهرة، 1982، ص 165.

[78]         أيدت مصر الناصرية ومعها كثير من الدول الأفريقية حركة المقاومة التى قادها لومومبا (كانت غانا أكثر الدول تحمسًا للومومبا وكذلك ليبيا والمغرب) ضد الاستعمار البلجيكى. بينما أيدت 20 دولة أفريقية تشومبى الذى كان يُعد رجل بلجيكا والمستند أساسًا للمرتزقة البيض من أوربا وجنوب أفريقيا.

            واستمرت مساعدة مصر وبلدان أخرى لأنصار لومومبا بعد أن نجحت قوات تشومبى فى قتل الأول والسيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد. وبعد ذلك أقيمت حكومة معتدلة (وغير عميلة مع ذلك) ضمت أنصار لومومبا وتشومبى فى ائتلاف واحد، بينما ظلت بعض العناصر الراديكالية تسيطر على بعض المناطق بغية إقامة حكومة ثورية. ولكن الناصرية رفضت مساعدة هذه الحركة" باعتبار أن ما كان يحدث خلال هذه الفترة فى الكونغو من صراع وقتال إنما كان من شئونه الداخلية"، رغم أن تلك الحكومة عادت وطردت أنصار لومومبا الراديكاليين.

            إلا أن الناصرية راحت تساعد الثوار مرة أخرى بعد الغزو الأمريكى – البلجيكى عام 1964، فالشعب الكونغولى أصبح من وجهة نظر مصر الناصرية لا يواجه مجرد حكومة لا تمثله بل يواجه غزوًا استعماريًا مباشرًا "لا يمكن السكوت عليه وإلا لكان إهدارًا للكثير من القيم والمبادئ التى لم يمض على إعلانها من القاهرة إلا أيامًا عندما عُقد مؤتمر عدم الانحياز الثانى وقبله مجلس رؤساء منظمة الوحدة الأفريقية". واتخذت تنزانيا وبرازافيل نفس الموقف الناصرية، وعادت الأخيرة مرة أخرى لقطع المعونات عن الثوار بعد انسحاب قوات الغزو، وقام رئيس الكونغو بطرد تشومبى من الحكومة ووعد بالتخلص من القوات الأجنبية فى بلاده.

            محمد فايق: المرجع السابق، الفصل الخامس، ويضيف بالنسبة لموقف الناصرية أن مساعدتها للومومبا كانت غير حاسمة، ففى سبتمبر 1960 قامت بسحب قواتها من الكونغو بعد أن تدخلت الأمم المتحدة لصالح الولايات المتحدة مباشرة.. تاركة لومومبا بلا مساعدة، لتسقط حكومته ويُقتل، وقد كان يعتمد تمامًا على القوات المصرية. وكان قرار عبدالناصر يعنى عدم الرغبة فى "الانحياز" للموقف السوفيتى ضد الولايات المتحدة. أنور عبدالملك: المرجع السابق، ص 178.

[79]         يحيى الزيات: دراسة فى الاستراتيجية المصرية 1945 – 1985.

[80]         مقارنة بين دور كل من مصر الناصرية واسرائيل فى غانا نكروما:

            1- دور اسرائيل:

-           وقعت فى 1957 اتفاقية تجارية مع غانا وتبعتها اتفاقية شاملة فى مختلف الميادين من ضمنها النشاط التجارى والفنى.

-           اعتمدت اسرائيل على الخامات الآتية المستوردة من غانا: الكاكاو – البن – التبغ – الأخشاب – الأحجار الكريمة، مقابل إعادة تصدير هذه المواد نفسها مصنعة إلى غانا بالإضافة إلى مواد البناء والمعدات الكهربائية والأدوات المعدنية.

-           بلغت صادرات اسرائيل إلى غانا عام 1965: 5.348 مليون دولار، مقابل واردات بـ 0.875 مليون دولار، أما فى 1971 فبلغت الصادرات 3.103 مليون دولار مقابل 0.847 مليون دولار.

-           أقامت اسرائيل عدة معارض تجارية فى غانا بالإضافة لاشتراكها فى معرض غانا الدولى عام 1967 (عام سقوط نكروما).

-           حتى 1968 وقعت اسرائيل 5 اتفاقيات مع غانا ضمن 60 اتفاقية مع دول أفريقيا.

-           قدمت اسرائيل لغانا قروضًا بلغت 20 مليون دولار، بالإضافة إلى الهبات والمنح.

-           أقامت اسرائيل مشروعات فى غانا تعتمد على التكنولوجيا الاسرائيلية (مطارات – موانئ – طرق – مائة مزرعة تعاونية – تربية دواجن) كما شاركت فى إنشاء شركة ملاحة.

-           اتفاقية للتعاون فى مجال الرى وتدريب البعثات الغانية فى مجالات الزراعة المختلفة.

-           إرسال خبراء فى مجالات: الطب – التعليم – الاقتصاد – الشباب – تنظيم النقابات العمالية – الفن والثقافة.

-           على الصعيد العسكرى: الإشراف على إدارة وتدريب الطيارين والشرطة والبحرية منذ 1961.

-           تدريب أعضاء منظمات الشباب على السلاح.

2- دور مصر الناصرية:

-           بلغ حجم التبادل التجارى عام 1965: 1.5 مليون جنيه مصرى (3.705 مليون دولار).

-           بعثات تعليمية فى الجامعات المصرية.

-           بعثات من الأزهر.

عصام محسن الجبورى: العلاقات العربية الأفريقية 1961-1977، دار الحرية للطباعة، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981، ص ص 265 –270، ص ص 408 – 409.

[81]         فؤاد المرسى: العلاقات المصرية السوفيتية، ص 242.

[82]         قام وزير الحربية فى 1951 بتوقيع عدة عقود لاستيراد أسلحة من بعض الدول منها: تشكيوسلوفاكيا. وفى 1952 (23 يناير) أبلغ وزير الخارجية المصرى نظيره السوفيتى رغبة الحكومة المصرية فى شراء أسلحة سوفيتية.

            فؤاد المرسى: العلاقات المصرية السوفيتية (1943-1956)، ص 176.

[83]  فؤاد المرسى: المرجع السابق، ص 118.

[84]  من الأمور المعروفة تمامًا أن المخابرات الأمريكية كانت تتضمن جناحًا "ناصريًا".. أى مؤيدا للناصرية، ومنه مايلز كوبلاند وكرميت روزفلت، وعلى حد تعبير محمد حسنين هيكل رأى هذا الجناح أن عبدالناصر "معاد للاستعمار التقليدى ومعاد للشيوعية ومن ثم فان على الولايات المتحدة أن تتفهم دوافعه وأن تساعده فى حدود معينة"، الأهرام 24/10/1988.

ويتضح من مقال هيكل المذكور أن رجال المخابرات الأمريكية كانوا على اتصال وثيق بكبار رجال الدولة الناصرية وأن عبدالناصر كان يتعامل عن قرب مع ممثلهم الأهم فى مصر: كرميت روزفلت، حتى 1956.

[85]  أحمد يوسف أحمد: السياسة الأمريكية ومحاولة احتواء الثورة فى اليمن الشمالية: 1962 – 1967. نُشرت فى: السياسة الأمريكية والعرب، ص ص 159 – 171، سبق ذكره.

[86]         أقر محمد حسنين هيكل بذلك  : "ونحن فعلاً بشكل عام ليس لنا تصور محدد للصراع العربى الاسرائيلى وكيف يُحل فى النهاية". حديث مع محمد حسنين هيكل قام به محمد عودة وفيليب جلاب: قصة السوفيت مع مصر، إعداد فيليب جلاب، (أجرى الحديث مع هيكل عام 1974)، دار الثقافة الجديدة، ص 153.

 

 

القسم الأول: الانقلاب

الباب الأول : مسارالأوضاع المحلية بعد الحرب العالمية الثانية

الباب الثانى: حكومة الضباط

الباب الثالث : الثورة و الثورة المضادة

القسم الثانى: الناصرية

الباب الأول: الحكم الناصري

الفصل الأول  منطق الحكم

الفصل الثانى تشكُّل الحكم

الفصل الثالث   فلسفة الحكم

الباب الثانىالسياسة الناصرية

الفصل الأول السياسة العامة(1)

الفصل الأول السياسة العامة(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(1)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(2)

الفصل الثانى: السياسة الاقتصادية(3)

الفصل الثالث:التوجه العام للسياسةالناصرية

الباب الثالث: حقيقة الناصرية

القسم الثالث: سقوط الناصرية

الباب الأول انهيار النظام

الباب الثانى انقلاب السادات

الباب الثالث الساداتية و الناصرية

 

للاتصال

 [email protected]

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين ومحظور الاقتباس منها دون الإشارة لمؤلفيها

 بعض المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن موقف و رأى الموقع و تيار اليسار اللاسلطوى

Hosted by www.Geocities.ws

1