|
||||||||||||||||||||||
"لم يَدَع جنود الاحتلال شعرة في ذقني أو صدري إلا نتفوها، حتى شككت أنه يمكن أن تنبت لي لحية مرة أخرى، واقتلعوا أظافر قدمي ويدي، ولكني والله ما شعرت بألم، ولم أتفوَّه بآهة واحدة.. فقد كنت أردد القرآن".. هكذا قال صلاح شحادة راويًا لزوجته ما حدث معه في المعتقلات الصهيونية.
إنه الرجل
الذي أسس كتائب القسام، وابتكر اقتحام
المستوطنات، وطور السلاح، بدءًا من الهاون والمضادات للدبابات، ثم القذائف
والصواريخ، حتى أصبح المطارَد رقم "
وُلِد
شحادة
تروي
شقيقته سميرة -
وتضيف
شقيقته: كان لصلاح منذ صغره شعر ناعم ووسامة بادية، وكان يولي اهتمامًا
بمظهره، وتميز بهذا بين جميع أطفال القرية؛ وهو ما جعله موضع حسدهم، فأراد
أحد الشبان -وكان يكبره بـ "لطمني على وجهي وحملني للمنزل -هكذا تروي شقيقته-، والسبب أنني ذهبت إلى المدرسة -وأنا في الصف الثاني الثانوي- مكتحلة، فنهاني، ولكني لم أرتجع، وكانت المرة الوحيدة التي ضربني بها"، وتتذكر والدموع تغالبها: "وقعت على الأرض مغشيا علي من شدة صفعته، فحملني على كتفه وأعادني إلى المنزل".
ما كاد
القائد شحادة يتجاوز
وعندما لم يجد الأب من سبيل لصد ابنه عن طريق الجهاد أعاده إلى قرية بيت حانون ثانية، ومن ثم أصر والده على أن يلحقه بجامعة الإسكندرية ليبعده عن هذا الطريق، ولكن صلاح تعرف في الإسكندرية على مجموعة كبيرة من الشبان الفلسطينيين من حركة "الإخوان المسلمين"، وخاصة الدكتور "أحمد الملح" لتبدأ الحياة الجهادية للقائد شحادة.
"أخاف عندما أصافح أحدا أن أكسر يده وأنا لا أشعر".. هكذا كان الشهيد يقول في وجل، كان يجيد لعبة الجودو، وحصل على الحزام الأسود. وفور عودته من الإسكندرية عمل في مديرية الشئون الاجتماعية.. أعلن المدير الصهيوني أن كل موظف يخرج في جنازة المدير السابق سيعطيه دونمًا من الأرض، لكن شحادة حرّض جميع العاملين على عدم الخروج، وفور علْم المدير بأمره عاقبه.. فما كان من شحادة إلا أن قدم استقالته، وقال: "الرزق على الله، ولن أركع أو أخضع يوما لكم".
تعرض عام
استمر التحقيق معه لمدة عام متواصل دون أن تظفر المخابرات منه بأدنى اعتراف؛ لذلك حُكم عليه بالاعتقال لمدة عشرة أعوام وغرامة مالية رفض القائد دفعها ليقضي حكما بالسجن الإداري عقب الغرامة ستة أشهر ليصل إجمالي ما قضاه في السجن عشرين شهرا وعشر سنوات. وأقسم شحادة فور خروجه أن يواصل العمل العسكري، وفي الاعتقال الأول استطاع أن يحمل كبسولة العمل (قصاصة ورق مكتوب عليها رسائل القادة في السجن) إلى قيادة الحركة في الخارج، وكذلك في معتقله الأخير.
مكث خلف
قضبان الاحتلال
وبعد الفورة (الاستراحة) يبدأ شحادة بتغذية المعتقلين ثقافيا في درس الصباح الذي يحضره جميع المعتقلين، بينما كان يؤثر مجموعة من إخوانه الذين قرأ في شخصياتهم الجرأة والقيادة في دروس خاصة عن موضوع "الصحة النفسية". وإن لكم في "مشاهدة الأفلام البوليسية" لأجرا أما باقي النهار فكان شحادة يقضيه في مطالعة الكتب الغنية بها مكتبته داخل المعتقل، التي تشمل كافة التخصصات من طب واجتماع وعلم نفس، بالإضافة إلى الكتب الإسلامية، وفي ساعات المساء يستمع إلى نشرة الأخبار، ثم يعقد جلسة ثقافية أخرى لمناقشة المعتقلين حول آخر تطورات الساحة السياسية، ثم يعود لمشاهدة البرامج السياسية أو الأفلام البوليسية والأمنية، وخاصة البريطانية منها، ويدون ملاحظاته عليها، وكان يجمع إخوانه، ويدربهم على تدوين ملاحظاتهم حتى ينمي حدسهم، ويزيد قدرتهم على تحليل الأحداث.
"أعدتها إلى منزلها تبكي" بهذه الجملة كان يلخص شحادة قصته مع والدة الجندي الصهيوني "أيلون سعدون" التي كانت تتردد كثيرًا على صلاح ليخبرها عن مكان جثة ولدها، ويؤكد صديقه "محمد" كان يرد عليها بلطف وأدب شديد "دعي مخابراتكم التي تدعي أنها لا تقهر لتخبرك عن مكانه".
ويُشار إلى
أن الجندي سعدون قُتل في عام
"نعم القائد
والجندي".. بهذه الجملة وصف الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة المقاومة الإسلامية
حماس القائد شحادة، ويضيف: "منذ أن بايع
شحادة حركة الإخوان المسلمين في عام
وأكد ياسين
أن شحادة تولى مسئولية الجناح العسكري لحماس
عام
"لقد استطاع شحادة أن يحقق من الإنجازات ما عجز الكثير عن فعله في سنوات عديدة؛ نجح في تطوير الجهاز العسكري لحركة حماس كمًّا وكيفًا، مدّ الجهاز بأعداد كبيرة من الشبان، وقام بتدربهم وتجهيزهم، وتطوير الصناعة العسكرية المتواضعة خلال عامين.. بدءا بالهاون ثم الصواريخ مثل القاذفات ومضادات الدبابات، كما يعود لشحادة فضل الإبداع في التخطيط لاقتحام المستوطنات، والانطلاق بالجهاز العسكري من قيود السرية التي تكبل الحركة". ويعتقد الرنتيسي أن استشهاد القائد شحادة ترك فراغًا كبيرًا في الحركة، لكنه كان مميزا بإعطائه الشباب فرصة الإبداع وخوض التجربة؛ وهذا ما سيجعل الجهاز يتقدم في الأيام القادمة.
لم ينسَ القائد شحادة قضية الأسرى، ولم يغفل عنها يوما.. فبعد خروجه من السجن سعى إلى بثّ الحياة من جديد في جمعية النور، وتقديم الخدمات لأهالي الأسرى، والإشراف على شئون الأسرى داخل المعتقلات.
يُذكر أن
جمعية النور أُسست في عام
"عشت شهرين في عصر الصحابة".. بهذه الجملة وصفت ماجدة قنيطة حالها مع زوجها صلاح شحادة قائد الجهاز العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام الذي استشهد في الغارة الإسرائيلية الغادرة على حي الدرج بغزة الإثنين 22-7-2002. شهران فقط هما عمر الحياة الزوجية التي قضتها ماجدة -27 عاما- مع القائد شحادة المطلوب رقم (1) لجيش الاحتلال الإسرائيلي. حاورتها شبكة "إسلام أون لاين.نت" في منزلها بحي الشيخ رضوان بقطاع غزة حيث أكدت أن حياتها كانت مليئة بالمغامرات، محفوفة بالمخاطر مع زوج روحه على كفه، عاشق للجهاد والانتقام من الأعداء، إلا أنها كانت أفضل أيام عمرها. وحول قصة زواجها من القائد الشهيد شحادة قالت ماجدة: "لم يسبق لي أن التقيت بالشيخ المجاهد شحادة قبل زواجنا، ولكن كنت أسمع عنه وعن بطولاته وجهاده، وتمنيت لو تسنح لي الفرصة بأن أفوز بمشاهدته ولو لحظة واحدة كحال غالبية الشبان الذين يحلمون بالحياة الجهادية". وتتابع ماجدة: "فجأة تحول هذا الحلم إلى حقيقة عندما أرسل الشيخ شحادة إلى والدي مع بعض الإخوة المجاهدين يطلبني للزواج منه، فوقع الخبر على أهلي كالصاعقة.. ولم يدر أبي ماذا يفعل: أيضحي بابنته أم يرفض طلب قائد مجاهد ضحى بنفسه من أجل وطنه؟!! فعرض أبي الأمر عليّ.. ولا أنكر أنني في الوهلة الأولى خفت وارتعبت.. كيف؟ ولماذا اختارني أنا دونًا عن كل بنات غزة؟ ثم قلت لأبي ولا أدري من أين جاءتني كل هذه الجرأة: إنني موافقة على الزواج.. يكفيني أن أكون عروسا له في الجنة، ولعل الله يكرمني بالشهادة معه مقبلة غير مدبرة". وقالت: إنها أخذت منه عهدا بأن يشفع لها وأن تكون عروسه في الجنان إن شاء الله إذا استشهد. يشار إلى أن القائد شحادة من مواليد 4-2-1953، وقد خرج من المعتقلات الإسرائيلية بتاريخ 13-5-2000 بعد اعتقال دام 10 سنوات و20 شهرا، ورزقه الله من زوجته الأولى التي استشهدت معه في مجزرة غزة بست بنات، استشهدت إحداهن أيضا في المجزرة.
ورغم الأعباء الثقيلة المنوطة بالشيخ شحادة من إدارة للجهاز العسكري لحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتنسيق بين الجهاز العسكري والسياسي للحركة، فإنه كان يحاول أن يعطي زوجته حقها، وعن هذا تقول ماجدة: "كان دائما يضع مخافة الله أمام عينيه وكأنه يمشي على الصراط، وكأن الجنة والنار ماثلتين أمامه، يفتش عن نيته قبل أن يخطو خطوة، لا تغفو عينه إلا بعد الساعة السابعة صباحا، ينام ساعتين أو ثلاثا تقريبا، ثم يصحو ليتناول طعام الإفطار معي، وكان يحب دائما أن يساعدني ويعمل معي حتى يخفف رتابة العمل، ثم يجلس في مكتبه يستقبل المكالمات، ويرد على الرسائل التي كانت تأتي إليه بكثرة من الشبان عاشقي الشهادة، أو رسائل إدارية تخص الجهاز، وإذا شعر بالتعب كان يخفف عن نفسه بأن يجاذبني أطراف الحديث عن ماضيه". وتضيف زوجة الشهيد: "كنت أحاول أن أستفيد من كل كلمة يتفوه بها زوجي؛ لأنه كان يزن الكلمة قبل أن ينطق بها، وكل كلمة يلقيها بذرة يحرص على أن تنمو وتترك أثرا إيجابيا في مستمعها".
وأشارت ماجدة إلى أن القائد صلاح شحادة كان حريصا جدا على أموال حركة حماس، "ويدقق كثيرا كيف صرف الشيكل الواحد، ويحاسب معاونيه بشدة على ذلك" ودللت على هذا قائلة: "وجد رصاصة في المنزل ملقاة على الأرض فغضب غضبا شديدا وتناولها بسرعة وهو يقول: من يتهاون بالقليل يمكن أن يتهاون بالكثير".
وعن احتياطاته الأمنية أوضحت ماجدة "أنه كان يهتم بشدة بهذا الجانب، وكان سلاحه الشخصي لا يفارقه حتى داخل المنزل". وأشارت إلى أنه كان يقول: "لا يظنوا أن قتلي سهلا، فلست ممن يُقتل ولا يدافع عن نفسه، ولن يقتلوني دون خسائر". وتضيف: "كان لا يركب السيارة فورا، بل كان أحيانا يمشي قليلا ثم يركب السيارة، وأحيانا نأخذ سيارة أجرة إلى مسافة قصيرة ليتأكد أنه غير مراقب أو أن أحدا يتبعه، فننزل من السيارة الأجرة ونستقل سيارته أخرى، وأحيانا كان يقود السيارة بنفسه، وكنا لا نستقر في بيت، ولا نمكث في البيت الذي نستأجره أكثر من 7 أيام، وأحيانا أقل؛ حيث تنقلت خلال الشهرين في 5 بيوت". كما أكدت ماجدة أن القائد شحادة كان في ساعات المساء الأولى يخرج برفقتها ليروح عن نفسه وعنها، إما إلى شاطئ البحر، أو إلى وسط المدينة وبصحبة اثنين من مرافقيه. وتضيف: "حياته حقا كانت في خطر، ولو علم اليهود بأمره لقصفوا المكان الذي به، أو انزلوا جنودهم لخطفه، ولكن الخوف لم يعرف يوما طريقا إلى قلبي؛ لأنه كان يتعامل معي كإنسان عادي يريد أن يعيش ويغتنم كل فرصة في الحياة ليخدم دينه وحركته وجهاده، وعندما كنت أنهاه وأطلب منه أن يأخذ الحيطة والحذر أكثر فيقول لي: أريد أن أغتنم كل لحظة من حياتي؛ فأيامي معدودة، وسألقى ربي، وأريد أن ألقاه وهو راض عني؛ فالشهادة عندي أسهل من شربة ماء يتناولها أحدنا". وتصف ماجدة والدمع يفيض من عينيها: "كان نعم الزوج المثالي، إذا شعر بالملل أو التعب -خاصة أنه كان أحيانا يواصل الليل بالنهار- مارس الرياضة، وإذا وجد بعض الأعمال المنزلية كان يقوم بها بنفسه، فكنت أنهاه وأقول له: يكفيك ما عليك من أعباء جهادية؛ فيرد عليّ بقوله: لست خيرا من رسول الله، لقد كان يساعد أهل بيته فدعيني أحيي سنته". وأضافت أنه كثيرا ما كان يجلس ليراجع حفظه من كتاب الله. وسكتت برهة لتكمل بنبرة حزينة: "كان يتمنى -رحمه الله- أن ينهي مراجعته لحفظ القرآن الكريم الذي أجاد حفظه أثناء مكوثه في المعتقل، ولكن لكثرة أشغاله لم يتمكن إلا من مراجعة بضعة أجزاء".
وحول أهم ما تعلمته من القائد القسامي تقول: إنها تعلمت منه التواضع وامتلاك الأعصاب الهادئة، والتصرف في الأمور بحكمة، مشيرة إلى أنه كان يقول لها: إن القائد يجب أن يكون هادئ الأعصاب لا ينفعل. وتضيف ماجدة أنها عندما سألته: أين تعلمت هذا؟ قال لها: "في السجن، كان الوقت يمر ببطء، كنت في زنزانة عتمة طولها أقصر مني، وعرضها لا يكفي لأنام، وظلامها لا أرى منه يدي، ورائحتها كريهة، في الشتاء أبرد من الثلج، وفي الصيف رطوبة قاسية، لا أعرف فيها الليل من النهار، ومع ذلك عشت ولم أشعر فيها بأي ألم".
وأضافت: "كان حقا صحابيا في القرن الحادي والعشرين، لقد كان أمّة تفيض بالحب والتسامح، فقد كان يقول: يجب أن نربي الأجيال القادمة على الحب والتواضع". وتؤكد ماجدة أنه كان شديد التواضع، لا يغضب أحدا منه، وكان على استعداد لأن يخاطر بروحه في سبيل أن يزيل غضب أي إنسان عنه؛ لأن شعاره كان دائما: "أحب أن ألقى ربي وليس في كتابي مظلمة لأحد، أريد أن أفوز بالجنان ورضى الرحمن"، وتستكمل ماجدة: "كان يمتلك سحرا عجيبا يمكنه من أسر القلوب بنظرة واحدة منه، وفرض احترامه على العدو قبل الصديق". وتكمل ماجدة وقد شخصت ببصرها جانبا وكأن شحادة ماثل أمامها: كان إذا سمع صوت الأناشيد الإسلامية التي تحض على الجهاد خاصة نشيد "هيأت لي أمي فراشا" يبكي بكاء شديدا ويقول لي: "ودعت شهداء كثيرين من خير شباب الحركة الإسلامية سبقوني إلى الجنة، أوشك أن أقبّل قدم أحدهم وأنا أودعه وأرجوه أن يسلم لي على صاحبة رسول الله وأبي بكر وعمر، وأرجو من الله أن يجمعني بأولادي الاستشهاديين وصحابة رسول الله".
وتصف زوجة الشيخ شحادة ليلة وداعه لجثمان أحد الاستشهاديين فتقول: "عاد إلى المنزل بعد منتصف الليل بعدما ذهب لذوي أحد الاستشهاديين بنفسه ليبشرهم بخبر استشهاده، وليخفف عنهم مصابهم، وأخذ يقول لي: إني أشم رائحة المسك تعطر ملابسي وتملأ المكان، وظلت رائحة المسك في أنفه حتى بعدما اغتسل وبزغ الفجر".
وعن آخر ما تلفظ به القائد شحادة معها قالت وقد بدت ابتسامة حزينة على شفتيها: "كان -رحمه الله- يشعر أن منيته قد اقتربت، وأنه سيستشهد في هذا المنزل، وأكد أنه إذا بقي حيا سيغادره يوم الثلاثاء أي بعد استشهاده بيوم". وذرفت الدموع من عينيها بغزارة قبل أن تكمل بصوت متقطع: إنه ظل يقول لها: "اعرفي قدرك، أنت زوج القائد صلاح شحادة، فارفعي رأسك عاليا، وحافظي على اسمه، واجعلي بيته مفتوحا لكل محتاج، وأوصيك ببناتي خيرا".
|