]الفَصْلُ الرَّابِع: مُشْكِلات[

]الفَصْلُ الرَّابِع: مُشْكِلات[

لماذا ندرس المشكلات؟

نقد تربية غلاة الصُّوفية

نقد الخوانق والفِكر الخرافِي

تُراثنا بين الأصالة والمعاصرة

إشكالية التَّربية الموسيقية

إشكالية قبول العلوم الجديدة

الإشكالية الاجتماعية في مسألة تربية المرأة

من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية

 

 

 

'

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

]الفصل الرَّابع:مُشكلات[

 

لماذا نَدرس المُشكلات؟

الفصل الأوَّل أشبه ما يكون بالبوصلة المُرشدة للطَّريق والكاشِفة عن المواقع الفِكرية وكنوزها ثمَّ دَخلنا الفصل الثَّاني وعِشنا مع بعض الرَّوائع والمُنجزات الحضارية التي كانت ثمرةً لِتطبيق المُنطلقات، وفي الفصل الثََّالث عَرَضْنا بعض المُنتخبات التَّربوية والآن في الفَصل الرَّابع سنتحدَّث عن أثر التّفريط أو الإفراط في استيعاب وتَطبيق المُنطلقات وأنَّ ذلك الأمر من أهم أسباب المشكلات. إنََّ نفائس تُراثنا التَّربوي نُقطة انطلاق نحو تعمير الأرض أمَّا إذا انغلقنا في شَكليات التُّراث حَرفياً وأخذنا من دراسة الدِّين أو فهم التُّراث ما يُسَوِّغ عاداتنا المألوفة ويبرِّر تجاوزاتنا وتقصيرنا فإنَّ رَكْبَ الفِكر يَتأخر وهذا التَّأخر من أهم أسباب انحطاط واقع التَّعليم في البلاد الإسلامية قديماً وحديثاً. من المُهم هنا أن نُؤكِّد ودون مَلَلٍ على أنَّ المُشكلات التي نَتحدث عنها هي اشكالات في الفكر والتَّطبيق عند بعض أو كثير من المسلمين ولسنا نتحدث بحال من الأحوال عن مشكلات في التَّربية الإسلامية إذ أنَّ التَّربية الإسلامية تربية شاملة كاملة تقوم على الاستقامة وتُكسِب المُسلم المكانة السَّامية والمعايير العالية، وتستنكر كل مُستويات السُّوء. الحديث هنا عن التَّدين وما يُنسب للدِّين وليس عن الدِّين وتعاليمه، وحديثنا عن اجتهادات بشرية لا عن شريعة إلهية.

في هذا الفَصل مُناقشة لإشكالات عديدة منها صُعوبة استقبال العلوم الجديدة الوافدة، ومن ضمن الموضوعات التي تباينت الأنظار فيها في الفكر الإسلامي مثلاً: هل علم المنطق من العلوم المحمودة أم أنَّ ضرره أكبر من نفعه أو كما قالوا "من تمنطق فقد تزندق!" أم أنَّه كما قال الغزالى: "لا يوثق بعلمِ من لم يدرس المنطق"؟ ما موقع التَّربية الموسيقيَّة في الفكر التَّربوي الإسلامي؟ ما دور غلاة الصُّوفية في تشكيل الثَّقافة الشَّعبية من وعي زائف بالخرافات وإيمان بالبدع؟ هل تقيَّدَ المسلمون بتكريم المرأة وتوفير حق التَّعلمُّ عبر التَّاريخ وذلك بعد القرون الأولى من البِعثة النَّبوية؟ هل المدارس في الأقطار الإسلاميَّة التزمت ببناء المجتمع أم أنَّ الخلافات الفِكرية ومُخَلَّفاتها من أسباب تَردِّي المخرجات التَّعليمية عبر التَّاريخ؟

وهكذا بعد أن عشنا في الفصل السَّابق مع نسمات الماضي فإنَّنا الآن نشدّ الرِّحال مع مُفارقات مُدهشة ومُشكلات شائكة تواجه العقل المُسلم. نتلمَّس في هذا الفصل قسمات وددنا أنَّها لم تظهر على مسرح الأحداث ولكن يبدو أنَّ فلسفة الشَّافعي في طبيعة الزَّمان والأيام لها مِصداقيَّة كبيرة وذلك حينما قال "وعندَ صفوِ اللَّيالي يحدُثُ الكدرُ" وقال "والعِيشُ عيشان ذا صفو وذا كَدَرُ" ونُردِّد عتاب بَشَّار بن بُرْد (ت 167 = 784 م) في قوله "وأيُّ النَّاسِ تَصفو مَشاربه" فالنَّقص صِفة مُلازمة لِلبشر ومُناقشة المشكلات حقيقة ينبغي تَقبُّل أمرها رغم مرارتها. المُثقَّف المسلم اليوم يتطَّلع إلى جلسات مُصارحة ومراجعة لمعرفة مواطن الخلل في تاريخ الأمَّة المسلمة ونحن نعتقد أنَّ المُصارحة من مُتطلَّبات العمل التَّربوي ومباحِثه على مستوى الفرد والمجتمع. يُرْوَى عنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ أنَّهُ حثَّ أَهْلَ البَصائِر فَقَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا".

ليس من الحِكمة في شيء أن نَذْكر إيجابيَّات الحضارة الإسلاميَّة ثمَّ نَغضَّ الطَّرف عن السَّلبيات التي ظهرت في تاريخنا فالكثير من الظَّواهر السَّلبية الدَّخيلة والأصيلة في حياة الشُّعوب المُسلمة أثَّرت على أنماط التَّربية بل مازالت بعض تأثيراتها تُعيق مسيرة الإصلاح. المصطفون الأخيار كانوا صفحات ناصعة ناصحة في تاريخ التَّربية ولكنَّ الوجه الآخر للحياة لا شك في أنَّه يحتوي على أنباءٍ غير سارةٍ عطَّلت مسيرة التَّعليم وعكَّرت صفو النِّظام في ميادين عديدة. البعض لا يُحِب الخوض في مسائل شائكة فيتجنَّب الحديث عنها أو حتى الإشارة إليها ولكنَّ الإشكال لا يزول بِتجاهله بل قد يتعاظم خطره. وعلى عكس هذا التَّوجُّه فإنَّ البعض لا شغل له سوى تضخيم الأخطاء وتنفير النَّاس من الماضي بِحُجَّة الصِّدق في البحث والصَّراحة في النَّقد وهي كَلِمَةُ حَقَ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ بتعبير علِي بن أبي طالب رَضِي اللهُ عَنْهُ. الخوف من التَّغيير، ونزعة إلغاء الطَّرف الآخر وتهميش المخالفين، والتَّصلُّب في المواقف الخِلافية، والشُّعور بالوصاية الفِكرية من أصعب التَّحديات التي تواجهنا في علاج المشكلات أو حتى مناقشتها بِغَض النَّظر عن حجمها ونوعها ودرجتها. إنَّ طالب الطِّب يحتاج إلى دراسة الأمراض، والطَّالب في تخصص الخدمة الاجتماعية لا بد أن يَدْرس ظاهرة الطَّلاق، وكذلك العامل في الميدان الإصلاحي لا يَستغني عن معرفة عادِي العَوادِي من خلال فتح نافذة فكرية على الثُّغرات التي ظهرت في مسيرة المجتمع ليتجنب عوائق الدَّهر، وليتلافى الانحرافات ويأخذ العبرة مما فات.

يرى سعيد إسماعيل على (1990 م) أنَّه يجب أن نطمح في كشف ما هو جامد وغير نافع في تراثنا العربي الإسلامي من رُؤية عِلمية موضوعية فإذا كان أسلاف الأمس قد نقدوا أنفسهم وسابقيهم ومعاصريهم، فهل نتردد نحن اليوم في أن تصدر عنا أعمال علمية نقدية لفكر أمتنا، وقوعاً تحت أسر هالات وعادات تحجبنا من الحقائق (ص 2-3).

مِن مَداخل الإصلاح في كل عصر أن يقوم الباحثون بدراسة بعض السَّلبيات لمعرفة أهم التَّحديات من باب أَخْذِ الحذر منها والعمل الجاد في علاجها بحكمة. نقل المُتَّقي الهندي (ت 975 هـ = 1567 م) في كنز العمال عن حذيفة رَضِي اللهُ عَنه أنَّه قال: "إنَّ أصحاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم كانُوا يَسألون عن الخير وكُنت أَسأل عن الشَّر مَخافَة أن أُدركه"، وقَديماً قال أبو فراس الحمداني (ت 358 هـ = 968 م):

عرفتُ الشَّر لا للشَّر
فمن لا يَعرفُ الشَّر  


 

لكن لِتوقيــهِ
مِنَ النَّاسِ يقعْ فيه


كثيرة هي الدِّراسات عن المفكِّرين المسلمين وتراثهم التَّربوي وقد يغلب عليها أحد التَّوجهين السَّابقين فإمَّا الغلو في المدح أو الإسراف في النَّقد ومن الصَّعب الوقوف عند أوسط الأمور رغم كثرة التَّشَدُّق بالوسطية. المُناقشات الهادئة ضَرورة تربوية تبدأ مع التَّسليم بتعدُّد اجتهادات المُتخصِّصين في دائرة الآداب الإسلامية والمُسلَّمات العقلية. تنمو المُناقشات الهادئة مع الإيمان بأهميَّة سماع جميع الأطراف مع تَحرِّي العدل في فهمها وعرضها ثمَّ نقدها وهو الذي نُحاول أن نَلتزم به قدر الإمكان، والله المُستعان.

        

نَقدُ تربية غُلاة الصُّوفِية

لعبت الطََّريقة الْصُّوْفِيَّة دوراً كبيراً في نشر الفِكر الإسلامي ولقد أفاض الباحثون في الحديث عن مَزايا التَّربية الصُّوفية المُنضبطة بالكتاب والسُّنَّة حتى أنَّ بعض الدِّراسات الأكاديمية تُنادي بضرورة الإستفادة من الأدب الصُّوفي في مُقرراتنا الدِّراسية لما له من آثار إيجابية في تهذيب الوجدان وغرس الأخلاق (عزب، 1993 م، ص 219). قال سعيد إسماعيل علي (1991 م) في كتابه اتِّجاهات الفكر التَّربوي الإسلامي وتحت عنوان التَّصوف مصدراً للتَّربية الإسلامية إنَّ التَّصوف استطاع "بالفعل أن يلعب دوراً كبيراً في تكوين الفِكر التَّربوي الإسلامي، وكذلك في توجيه بعض مظاهر الحياة التَّربوية في العُصور الإسلامية، نقول ذلك بغض النَّظر عن الاعتقاد بصحَّة النَّهج الصُّوفي أو خطئِه" (ص 238).

قد يفوق أثر الصُّوفية  في بعض الميادين دور الفلسفة وذلك أنَّ التَّربية الْصُّوْفِيَّة راجت رواجاً عظيماً بين سواد النَّاس لبساطتها وسهولة أساليبها في مُخاطبة النَّاس كما أنَّ عدداً كبيراً من العلماء الجهابذة انضمَّ إلى قافلتها ومازال الأمر كذلك في كثير من الأقطار الإسلاميَّة. ونجح الغلاة منهم في تأليب الحكام على خصومهم من الفقهاء وغيرهم وكان الجميع يُنادي بأنَّه يُلتزم بالدِّين وأنَّ غيره يتمسَّح ولا يتمسَّك بِتعاليم الإسلام. 

الزُّهْدُ محمودٌ والغلو فيه مذموم ولا نجد نِزاعاً كبيراً في أنَّ الْصُّوْفِيَّة المُنْضَبِطَة بالسُّنَّة والكتاب هي صُوْفِيَّة صادقة مقبولة عند مُعظم العلماء وإنْ تحفَّظ البعض منهم على إطلاق كلمة الْصُّوْفِيَّة فالأصل وصف هذا المسلك بأنّه طريق الزُّهد المُشتمل على تَصفية النَّفس برياضة تتمشى مع تعاليم الدِّين. قال ابن تيميَّة "الْقُرْآنُ كُلُّهُ يَدْعُو إلَى النَّظَرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَإِلَى التَّزْكِيَةِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ" (مجموع الفتاوى، ج 2، ص 60). وإن ظهر النِّزاع فهو في غالبه قد يكون نزاعاً لفظِياً يدور حول العنوان لا المُحتوى بمعنى هل يليق أن نُسمي تلك الرِّياضة بالتّربية الْصُّوْفِيَّة أم أنَّ من الأفضل تسميتها بالتَّربية الزُّهديَّة لأنََّ الْصُّوْفِيَّة ككلمة لا أصل لها في الصَّدر الأول لوصف التَّصفية والتَّزكية.

لم يكن في زمن خير القرون من الصَّحابة ومَن بعدهم من يَعرف الْصُّوْفِيَّة بالشَّكل الذي نعرفه اليوم. ولعل العصر العبّاسي الثَّاني شهد نمواً مَلحوظاً لهذه الحركة التي انطلقت من مفهوم سليم وهو مفهوم الزُّهد ولكن مجموعة من التَّعاليم الغريبة سرعان ما سيطرت على الأصل النَّقي وما زالت الشَّوائب تأتيها من كل حدب. وبلغ بِغُلاة الْصُّوْفِيَّة أَنَّهُمْ أضافوا مُفردات ومفاهيم تَسبَّبت ومازالت تُسبِّب الفِتن المظلمة في هذه الأمَّة. من تلك المفردات والمفاهيم ترك العمل باسم التََّعبد، والرَّقص باسم الذِّكر، وترك أكل الطَّيبات باسم الزُّهد، وعدم أخذ الزَّاد في الأسفار باسم التَّوكُّل، وتقطيع الثِّياب باسم الخشوع، وترك التَّداوي بحجَّة أنَّ كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التَّداوي. أصبحت جلسات العلم والذِّكر والمواعظ في الخوانق وعند قبور الصَّالحين مَسْرَحَاً لحالات الإغماء "والسُّكْرِ الدِّيني"، وحالات الوفاة أو الصَّرع نتيجة التَّجلِيات الإلهية التي "تَطير" فيها العقول والأجساد والآمال!

والأسوأ أنَّ كلمات مثل الحلول والإتّحاد والفناء زلزلت عقول غلاة الْصُّوْفِيَّة فتركوا أثراً سلبياً على مفهوم التَّربية الرُّوحيَّة. إنَّ النَّظرة العدائية لمباهج الحياة في نظر غلاة الْصُّوْفِيَّة أفقدَت الطَّريقة ميزان الاعتدال بين التَّربية من أجل الدُّنيا والآخرة. مجموعة ضخمة من قصص التَّواكل والجهل ظهرت تحت راية التَّربية الْصُّوْفِيَّة ورغم جلالة قدر كتاب إحياء علوم الدِّين إلا أنَّه تضمَّن شيئاً غير قليلٍ منها. وحدث عبر تاريخ الْصُّوْفِيَّة والفلسفة أنَّ تَطابق مفهوم الاتحاد مع الإلحاد، وانقلب مفهوم التَّوكل إلى تواكل. وإنَّما قلنا تاريخ الْصُّوْفِيَّة والفلسفة لأَنَّهُمْا تأثَّرا تأثّراً بالغاً بميراث الفلسفة اليونانيَّة والأفكار البوذية.

الغنوصيَّة مثلاً فكرة يونانية تعني المعرفة وتطورت مع الزَّمن لتشمل المعرفة التي مصدرها الكشف والنُّور الباطني وهي معرفة عُليا لا صِلة لها بتاتاً بالدَّلائل العقليَّة والأسباب المنطقيَّة التي تُكتسب بواسطة التَّعليم. دخل هذا الفِكر بصورة أو أخرى في التَّربية عند غلاة الْصُّوْفِيَّة (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1986،ص 65، رضا، 1996، ص 76) فصارت المعارف الذَّوقية قاصمة تلغي العقل تماماً وتُصادم تعاليم الدِّين يقيناً مما أوجد الإرباك الفِكري عند عامَّة النَّاس فضعفت الهِمم وركن من ركن إلى أماكن العِبادة فانعزلوا بحثاً عن المعرفة الغنوصيَّة العليا. لعل الصِّراع الفِكري بين طبقة أهل النَّقل والعقل من فلاسفة وفقهاء مَهَّد الطَّريق للتَّربية الذَّوقية للبحث عن الحقيقة وكشف أسرار الكون وبلغ هذا التَّيار غاية التَّطرف عندما أُهمل العقل تماماً وعُطَّلت نصوص الشَّريعة وأصبح الفيض الدِّيني الشَّخصي الباطني أساس تفسير كل الوقائع.

من الكلمات الجيِّدة لسادات الْصُّوْفِيَّة قول أبي  يزيد البُسْطَامِيّ "إذا رأيتم الرَّجل قد أُعطي من الكَرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنَّهي وحفظ الحدود والوقوف عند الشَّريعة" وقال الجُنيد "مذهبنا هذا مقيَّد بالكتاب والسُّنَّة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في مذهبنا وطريقتنا". نقل الأصفهاني في حِلية الأولياء عن أبي سعيد الخراز أنَّه قال "كل باطن يخالف ظاهراً فهو باطل" (ص 3271) فكل من رام أن يُربي نفسه بعلوم باطنيَّة تُخالف الشَّريعة فقد ضلَّ سبيل الحق (السّيوطي في كتابه: الأمر بالإتباع والنَّهي عن الابتداع، ص 47).

الكُتب الْصُّوْفِيَّة الباحثة عن خلجات القلوب ونزعات النُّفوس كانت بعضها تُدرَّس في الأزهر وهي كما يقول زكي مبارك "كانت السَّبب في إفساد العقليَّة الأزهريَّة" (ص 318). تدريس حكايات السَّابقين وتعظيمها في كل حال جعل العقل المسلم يقبل المعارف ويقتدي بأخلاقيات معينة دون مناقشة لأنَّها من تُراث الصَّالحين. وكذلك كانت كرامات الصَّالحين سبباً لخمود الهمم فمن يتصفَّح قصصها يُبصر مواقع المبالغات ونظرتها إلى تهوين شأن العمل فالقارئ لها يقوم بانتظار فيض الجود الإلهي عليه من دون بذل المجهود البشري المطلوب منه. التَّربية تقوم على كِفاحٍ مُستمرٍ للتَّرقِي في سلَّم التَّعليم الذي لا سقف له كما أنَّ التَّربية الصَّحيحة تحث على الكدح في طلب العلم ولا مفرَّ من ذلك أما فضل الله سبحانه ومواهبه اللََّّدنيَّة فلا يمكن أنْ تُنْكر ولكنَّها في كل الأحوال لا تَعني التَّواني والتَّقصير وترك بذل الأسباب ولا تعني أبداً التَّكاسل في مواصلة تحصيل العلم.

من يُريد أن يكون فقيهاً في علوم الدِّين والدُّنيا فعليه أن لا ينقطع عن السَّعي في تحصيل المعارف ومِن النَّاس من يريد أن يكون عالماً ولكنَّه اشتغل عن التَّحصيل بالبطالة والخمول وقال لنفسه إنَّ الله سبحانه وتعالى "قادر على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأصفيائه بغير جهد وتعلم فمن قال ذلك ضحك عليه أرباب البصائر وكيف تطلب المعرفة من غير سعي لها واللّه يقول "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى {39}" (سُوْرَةُ النَّجم) (انظر المناوي شرح الحديث رقم 2025).    

ذكر القرطبي (2001) في تفسيره: "مذهب الْصُّوْفِيَّة بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول، وأما الرَّقص والتَّواجد فأول من أحدثه أصحاب السَّامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفَّار وعباد العجل؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزَّنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان يجلس النَّبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنَّما على رؤوسهم الطَّير من الوقار؛ فينبغي للسُّلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها؛ ولا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشَّافِعِيّ وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمّة المسلمين وبالله التَّوفيق" (انظر تفسير سُوْرَة طَه، الآيات: 90-93).

يؤمن جمع كبير من النَّاس بقدرة الشَّيخ على دفع الضُّر فيتسابقون إلى التَّبرك بالأولياء وبقبورهم وعند المزارات يقع البعض في براثن الشِّرك. لم يعد المرء يسأل الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ لكنَّه يلجأ للولي كي يُفَرِّج كُربته وزعموا أنهم يتقرَّبون لله بالتَّوسل والقَسم بالأولياء والنَّذر لهم. التَّربية الإسلامية تربط العبد بربِّه دون وساطة وغلاة الْصُّوْفِيَّة يربطون النَّاس بطرفٍ وسيط يُقرِّبهم إلى الله زُلفى.

 ومن الزَّلات التي تشوب التَّربية الْصُّوْفِيَّة المُغالية تفسير القرآن بإشارات مُتكلَّفة، ولهم استنباطات باطنية باطلة. وقد صرَّح العلماءُ في كتبهم بأنَّه يَحرم صرف شيء من الكِتاب والسُّنة عن ظاهره من غير اعتصام فيه بنقل من الشَّارع ومن غير ضرورة تدعو إليه. وعلم التَّفسير يُؤخذ من أفواه العلماء، كأسباب النُّزول والنَّاسخ والمنسوخ، ومن أقوال الأئمَّة وتأويلاتهم بالمقاييس العربية كالحقيقة والمجاز والمُجمل والمُفَصَّل والعام والخاص ثم يُفَسَّر النَّص على حسب ما يقتضيه الدِّين، فيؤول القِسم المُحتاج إلى التَّأويل على وجه يشهد بصحته ظاهر التَّنزيل ومقاصد الدِّين العامَّة، فمن لم يستجمع هذه الشَّرائط كان قولُهُ مُجَافياً للصَّواب بل لا ينال أجراً على اجتهاده. ولقد أفرط الْقَرَامِطَةُ[91] وغيرهم من الفرق الضَّالة في التَّأويل الباطني "فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ وَالإِسْلامِ بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، فَيَقُولُونَ: "الصَّلاةُ" الْمَأْمُورُ بِهَا لَيْسَتْ هَذِهِ الصَّلاةَ ..إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَالصَّلاةُ فِي حَقِّهِمْ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا و "الصِّيَامُ" كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا و "الْحَجُّ" السَّفَر إلَى زِيَارَةِ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ وَيَقُولُونَ: إنَّ "الْجَنَّةَ" لِلْخَاصَّةِ: هِيَ التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ و "النَّارُ" هِيَ الْتِزَامُ الشَّرَائِعِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ أَثْقَالِهَا". "الْعِلْمَ الْبَاطِنَ الَّذِي ادَّعَوْهُ هُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَلْ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ أَيْضًا، فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ لِلْكُتُبِ الإِلَهِيَّةِ بَوَاطِنَ تُخَالِفُ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالأَخْبَارِ" (مجموع الفتاوى، ج 35، ص 133).  

من إفرازات انتشار الخرافات والطَّلاسم والإغراق في الغيبيات نشأت معارف مُنحرفة مثل عِلْمَ الْحَوَادِثِ الَّذي يَنْدَرِج تَحْتَ عِلْمَ التَّنْجِيْم وَعِلْمَ الْجَفْر. يقول ابن تيمية في فتاويه "وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالأَسْرَارُ الَّتِي يَدْعُونَهَا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ: فَمِنْ أَكْبَرِ الأَشْيَاءِ كَذِبًا حَتَّى يُقَالَ: مَا كُذِبَ عَلَى أَحَدٍ مَا كُذِبَ عَلَى جَعْفَرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ. وَمِنْ هَذِهِ الأُمُورِ الْمُضَافَةِ كِتَابُ "الْجَفْرِ" الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ الْحَوَادِثَ وَالْجَفْرُ: وَلَدُ الْمَاعِزِ. يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي جِلْدِهِ وَكَذَلِكَ كِتَابُ "الْبِطَاقَةِ" الَّذِي يَدَّعِيهِ ابْنُ الحلي وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَغَارِبَةِ وَمِثْلُ كِتَابِ: "الْجَدْوَلِ" فِي الْهِلالِ وَ "الْهَفْتِ" عَنْ جَعْفَرٍ وَكَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ كِتَابِ "رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا". وَمِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ مَلاحِمِ "ابْنِ غنضب"، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّماً لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبَابُ الْكَذِبِ فِي الْحَوَادِثِ الْكَوْنِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لأَنَّ تَشَوُّفَ الَّذِينَ يُغَلِّبُونَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ. فَلِهَذَا كَثُرَ الْكَذَّابُونَ فِي ذَلِكَ وَنَفَقَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأُكِلَتْ بِهِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ بِالْبَاطِلِ وَقُتِلَتْ بِهِ نُفُوسٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَشَوِّفَةِ إلَى الْمُلْكِ وَنَحْوِهَا. وَلِهَذَا يُنَوِّعُونَ طُرُقَ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ فِيهِ: تَارَةً بِالإِحَالَةِ عَلَى الْحَرَكَاتِ وَالأَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّةِ الإِلَهِيَّةِ مِنْ حَرَكَاتِ الأَفْلاكِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالشُّهُبِ وَالرُّعُودِ وَالْبُرُوقِ وَالرِّيَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَارَةً بِمَا يُحْدِثُونَهُ هُمْ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالأَشْكَالِ كَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالشَّعِيرِ وَالْقُرْعَةِ بِالْيَدِ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ عِلْمَ الْحَوَادِثِ. فَكُلُّ مَا يُحْدِثُهُ الإِنْسَانُ بِحَرَكَةِ مِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ الأَجْسَامِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ عِلْمَ مَا يَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ الأُمُورِ وَسَبَبَ إصَابَتِهَا تَارَةً وَخَطَئِهَا تَارَاتٍ. فَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ مَنْ فِي دِينِهِ فَسَادٌ يَدْخُلُ فِي الأَكَاذِيبِ الْكَوْنِيَّةِ مِثْلُ أَهْلِ الاتِّحَادِ. فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ - فِي كِتَابِ "عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ" وَغَيْرِهِ - أَخْبَرَ بِمُسْتَقْبَلاتٍ كَثِيرَةٍ عَامَّتُهَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ ابْنُ سَبْعِينَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا مُدَّةَ بَقَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ[92] مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِي وَرِثُوهُ مِنْ الصَّابِئَةِ، كَمَا فَعَلَ أَبُو نَصْرٍ الْكِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفَلاسِفَةِ. وَقَدْ رَأَيْت مِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلاءِ طَوَائِفَ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ الأَسْرَارِ الْمَخْزُونَةِ وَالْعُلُومِ الْمَصُونَةِ وَخَاطَبْت فِي ذَلِكَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ وَكُنْت أَحْلِفُ لَهُمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مُفْتَرًى وَأَنَّهُ لا يَجْرِي مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ شَيْءٌ وَكَانُوا مِنْ الاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يَطُولُ وَصْفُ دَعَاوِيهِمْ. فَإِنَّ شَيْخَهُمْ الَّذِي هُوَ عَارِفُ وَقْتِهِ وَزَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الَّذِي يَنْزِلُ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ نُزُولُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عليه السلام وَأَنَّ أُمَّهُ اسْمُهَا مَرْيَمُ وَأَنَّهُ يَقُومُ بِجَمْعِ الْمِلَلِ الثَّلاثِ: وَأَنَّهُ يَظْهَرُ مَظْهَرًا أَكْمَلَ مِنْ مَظْهَرِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ" (ج 4، ص 79، باختصار).

قال الذين كتبوا في الفنون والعلوم عند المسلمين قديماً إنَّ علمِ الْجَفْر يُسمى بعلم الحروف وعلم التَّكسير: هو عبارة عن العِلم الإجمالي بلوح القضاء، والقَدر، المحتوي على معرفة كل ما كان، وما يكون كُلِّياً، وجزئِياً. وعن مَنشأ هذا العِلم فبعض كُتب التُّراث التَّربوي تُشير إلى أنَّ هذا العِلم توارثه صفوة الأشراف، ومن ينتمي إليهم ويسلك سبيلهم في التَّعلم من العلماء الكاملين، وكبار الأولياء الصَّالحين. نظراً إلى أنَّ هذا العلم يندرج تحت العلوم الباطنيَّة فإنَّهم كانوا يكتمونه عن غيرهم كل الكتمان فهو علم لأهل المراتب الفِكريَّة العالية والفُتوحات الرَّبانيَّة الكريمة. هذا مُجمل كلام القنوجي وحاجي خليفة والتَّهانوي وغيرهم في هذا الباب مما يدل على أنَّ علم الْجَفْر والبحث عنه والإيمان به استمر لعدَّة قرون واخترق العقول فآمن الكثير من نوابغ المفكرين بأنَّه من خلال علم الْجَفْر يستطيع المرء أنَّ يعرف حوادث العالَم من ماضيه إلى انقراضه وظهرت المنظومات الشِّعرية (ابن الأزرق، ص 35) عن طرفٍ من أسرار ورموز هذا العلم وانتشرت عند مشايخ المغرب والشَّام.

في تراجم العلماء قد يُشير المؤرخون إلى سعة علم العالم بمعرفته العلوم الغريبة كما يقول عبد الحيّ الحَسَني، في كتابه: "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنَّواظر" في ترجمة أحدهم بأنَّه "المُشار إليه في تَبحره في الْجَفْرِ الجامع، ووفق الأعداد وأكثر من العلوم الغريبة" (ص 588). وكان العالم في العصور المتأخرة بعد أن انتهى من مرحلة طلب العلم قد يطَّلع على أسرار علم الجفر فيطَّلع على طالعه ومن شدَّة إيمانه بهذا العلم فإنَّه قد يَثِب على الآخرين ويَتقاتل معهم إلى أنْ يُحقق ما كان مكتوباً في طالِعِهِ من وصوله لكرسي الحُكم (المحبي، ص 224). إذا كانت هذه حالة بعض أهل العلم في البحث عمَّا وقع وسيقع في مُستقبل الزَّمان فلا يمكننا أن نُكثر من عتاب عامَّة النَّاس لأنَّهم كانوا يَكترثون بعلوم غيبيَّة وهميَّة واهية يزعمون أنَّها من فيوض الكَشف والكَرامة. كيف نلومهم لوحدهم وبعض قادة الفِكر قد ضلَّت علومهم، وزلَّت فُهومهم، وفسدت تَصرفاتهم؟ وهكذا نشطت الهمم في البحث عن الْكُتُبِ السِّريةِ المنقولة عبر أهل العصمة على حدِّ زعمهم فتحوَّلت طاقة المفكرين ومداركهم إلى رصد الفضاء لا لمعرفة سُننه الكونيَّة وحقائقه العِلميَّة الثََّابتة بل لمعرفة أحوال الغيب وأسرار الدُّول، ونهايات السَّلاطين. ضاع الفِكر عندما آمن أنَّ أحوال السَّعادة والشَّقاء تَعتمد على معرفة حركات الكواكب في السَّماء. والسُّؤال الغريب الذي نسمعه دائماً هو لماذا تَخلَّفت الأُمَّة ولماذا لا تقود الأمم؟! الغريب هو أن تَتقدَّم أُمَّة من الأمم وقد تغلغل الجهل فيها وانتشرت فيها الأميَّة بعد أن تركت الفِكر والتَّعليم الإيجابي ومَجَّدَت التَّنجيم والتَّسليم السَّلبي.

الملامتية من الجماعات الصُّوفية التي ظهرت لنشر الخير ولكنها - بأفعال الغلاة منهم - انحرفت عن جوهر التَّربية الإسلامية الصَّحيحة. طريق الملامتية في التَّربية هو تعمير الباطن فيما بين العبد وبين اللَّه وهم قوم يعمرون الباطن ولا يظهرون في الظَّاهر خيراً ولا شراً (المناوي، الحديث رقم: 7877). كثير من أتباع هذه الطَّريقة يتعمَّد الظُّهور أمام النَّاس بمظهر منافٍ لظاهر الشَّرع كترك الطَّهارة الحِسِّية وعدم النُّفور من الرَّوائح الكريهة فالمهم هو باطن المرء لا ظاهر حاله كما يزعم الغلاة منهم. وهكذا غُزيت التَّربية الإسلاميَّة لا سِيَّما في القرن الثَّالث الهجري عندما حاول غلاة الصُّوفيين وغيرهم بتهذيب النُّفوس بمناهج خاصة لا تتقيد بمنهاج الإسلام وحاولوا الوصول إلى علم الباطن من خلال الفهم الرَّمزي للدِّين وإهمال التَّكاليف الشَّرعيَّة من صلاة وصيام وتكمن الخطورة الكبرى في المُتطرِّفين من أنصار الملامتية وغيرهم في تغييب مبدأ تَحَمُّل تبعات المسئولية الفردية عن تصرفاتنا وفي ذلك ذريعة لترك الفرائض وارتكاب الفواحش وهو الأمر الذي وقع فيه أدعياء الصُّوفيَّة (إمام، 1986 م، ص 117). اقتحم المُتطرِّفون من الملامتية الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين النَّاس فيسلموا من آفة الجاه وأنكر الغزالي هذا فقال أنَّه غير جائز، وأتباع هذا المذهب يربون أنفسهم ويصلحون نفوسهم بما لا يُفتي به الفقه الإسلامي (إحياء علوم الدِّين، ص 1317).

وسيرة العلماء التي تزخر بمآثر علمية جليلة نفعت البشر نجدها أحياناً – للأسف - تفتخر بكرامات الملاماتية إذ يقوم الواحد منهم بتخريب الظَّاهر فيأكل الحشيش أو يلبس مثل النَّصارى أو لا يُصلي الجمعة وهؤلاء يَعرفون خلجات النُّفوس وعندهم العلوم الغريبة وهم قدوة النَّاس (المحبي، ص 1368، الشَّعراني في الطَّبقات الكبرى، ص 568، 552). وجملة أمر الغلاة من الملامتية أنَّهم لا يؤمنون بمذهب معلوم وعقيدة واضحة وتربية معقولة لأنَّهم يدينون بالخواطر والشَّطح والخيال بل بلغ حال بعض فرق الصُّوفية أنَّ الكافر عندهم معذور في كُفره وجُحوده لأنََّ الحق لم يتجلى له وأنَّه احتجب منه (ابن المطهر، ص 407).

لا ريب أنَّ خوارق العادات تقع وقدرة الله سبحانه لا حدود لها ولكن التَّعلق بالخوارق على اطلاقها وترك التَّفكير العِلمي واهمال البحث العملي المقرون بالأدلة من الأمور الخطرة التي تَسلَّلت للعقل المسلم فشلَّت قِواه، وبدَّدت نشاطه فنشأت العلوم الغيبية الباطنية وانتشرت الخرافة والأوهام والخيال في كثير من الكتب والمجالس والمؤسَّسات الدِّينيَّة. أهم رَوافد التَّربية الباطنيَّة هي تربية غلاة الصَّوفية، والحركات الدِّينية والفلسفيَّة المُنحرفة التي تؤمن بعصمة الأولياء وتتمسح بأضرحتهم وتؤمن بوجود علوم غيبيَّة سِرِّية خارقة. كان مغَبَّة هذا كله أنَّ الأمة المسلمة ضعفت وانساقت في المبالغة بقصص الجن وتعليل كل المصائب بوجود قوى خفيَّة، ويد لعينة شيطانيَّة وهذا التَّحليل السَّاذج حيلة العاجز الذي تكاسل عن بذل الأسباب في فهم الظَّواهر الكونية. البؤساء هم الذين يلغون عقولهم ويقبلون كل ما يسمعون دون تحقيق ونقد والتَّربية السَّليمة هي التي تُحارب هذا الخلل وتحث العقل على معرفة العِلل كما تدعو إلى الإيمان بالغيب كما جاء به الوحي لا كما يروج له المُسرفون المُفلسون.

 

نَقد الخَوَانِق والفِكر الخُرافي

لقد أولى المسلمون الأوائل المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة نصيباً وافراً من الاهتمام، ومكاناً مَرموقاً في حياتهم لكنَّ هذا الحِرص لم يمنع من انحراف يسير أو خطير في مَسارات بعض المُؤَسَّسَات. في الفِصل الثَّاني كان الحديث عن مُنجزات الحضارة الإسلاميَّة حيث لَعبت المؤسَّسات الدِّينيَّة مثل الخَوَانِق دوراً كبيراً في النَّهضة التَّربويَّة واقتصرنا البحث هناك على ذكر جانب من الإيجابيات والآن جاء دور الحديث عن طرفٍ من التَّطرُّف الَّذي أصاب تلك المؤسَّسات.

من أهم سلبيات الخَوَانِق أنَّ النَّاس حرصوا على زيارة أضرحة الأولياء التي كانت أحياناً مُلحقة بالخَوَانِق والرِّبط فشدُّوا لها الرِّحال واعتقدوا فيهم اعتقاداتٍ باطلة. كانوا يخصِّصون الدُّعاء عند قبور العلماء والصَّالحين حتى أكثر بعض العلماء مِن قول "والدُّعاء عند قِبر فلان مُستجاب" ومُجرَّب وسريع المفعول، "وقَبْرُ فُلانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ"[93].

أما الخوارق والكَرامات رغم أنَّها حق إذا ثَبتت بلا مُبالغة إلا أنَّها كانت سِتاراً لنشر الفِكر الغيبي السَّاذج خاصة في زوايا مُؤسَّسات الْصُّوْفِيَّة التَّعْلِيْمِيَّة وغيرها، فهذا رَجل رَحل مع الخضر، العبد الصَّالح وتعلَّم منه، فالخضر حي إلى الآن يلتقي بالصَّالحين فيُعلِّمهم، وذاك انكشفت له الأنوار الإلهية رغم بُعده عن أداء شعائر الدِّين، وتلك المرأة ولدت خمسين طفلاً في حمل واحد، وهذا العالِم الزَّاهد يمشي على سطح الماء وهو يتمطَّى صهوة الفرس!! من مظاهر إلغاء العقل وتعطيل إمكاناته ما نقرأه عن الإيمان المُطلق بالقصص الخيالية الخرافية المنسوبة زوراً للصَّالحين، والمبالغة في تفسير الأحلام، والحديث الموصول عن خوارق الجن، وتفسير المصائب وكل المصاعب إذا نابت النَّوائب بأنَّها من مس الشَّيطان الرَّجيم، وأنها عين حاسدة أصابت الأمَّة فأفسدت كل الأمور. هذا الشَّأن سوغ فكرة ترك العمل بالأسباب واهمال التَّوكل الصَّادق على الخالق وحده. الويل والثَّبور لمن يجادل أو يُنكر بعض هذه الأمور فإنَّ مصيره قد يكون بأن يُرمى بالمروق ويُتَّهم بالعقوق.

الكثير من أوهام العامَّة ومعتقداتهم بالكرامات وبركة القبور كانت من صُنع الخيال والمبالغة فغشت الجهالة العقل المسلم "وعطَّلت قدرته على القيام بما سخَّره الله له، وهو الكشف عن القوانين التي بُنِيت على قواعدها معالم الكون والحياة. في سنة 733 هـ كثر المنجِّمون في مصر وشاع إفسادهم للنِّساء، فأمر السُّلطان النَّاصر محمد بن قلاوون بجمعهم وحبسهم وضربهم فمات منهم أربعة تحت العقوبة! وهكذا تألَّب على العقل العربي قوى من جهل وتخلف وخمول نشأت من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، كانت ملائمة لتعطيل العقل. فدولة الإسلام فقدت وحدتها الكبرى وتقسمت إلى دول تولى السِّيادة فيها أقوام اعتنقت الإسلام وآمنت به إيماناً تعبدياً والتزمت بشعائره ولم تتخطاه إلى جوهره وتحقيق مقاصده وغاياته، وفقد أهل الفكر وأحراره نصراء يرعون الحقوق، وعلت مكانة الفقهاء المتزلفين عند الملوك والسَّلاطين لدعم سلطانهم عند العامَّة. وقد زاد في عناء العقل المسلم وأفسح المجال لسيطرة المنتفعين مدعومة بكرامات الأولياء، اضطراب الحياة السِّياسية والاقتصادية، وشيوع حالة الفقر والخوف بازدياد الأعباء المالية التي كانت تفرضها ظروف الحروب المتوالية مع الصَّليبيين والمغول والمنازعات الدَّاخلية في الدُّويلات الإسلامية بين الأشقاء من أجل الاستئثار بالحكم، وحالة الخراب التي أحدثتها الكوارث الطَّبيعية من زلازل وفيضانات أو قحط كانت تُؤكل فيه الميتة ووباء يحصد النَّاس بالآلاف" (الترمانيني، 2001 م، بتصرُّف واختصار).

قال الذَّهبي "كثير من هذه الكرامات ليس لها أساس من الصِّحة، وفي بعض ذلك أشياء مُستحيلة" (ج20، ص 450). وقال ابن تيميَّة في فتاويه "وَأَمَّا الأَذْوَاقُ وَالْكَرَامَاتُ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ مِنْهُ كَانَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ بِلا شَكٍّ وَخَرْقُ الْعَادَةِ: تَارَةً يَكُونُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ لا تُخْرَقُ لَهُ تِلْكَ الْعَادَةُ فَإِنَّ خَرْقَهَا لَهُ سَبَبٌ وَلَهُ غَايَةٌ فَالْكَامِلُ قَدْ يَرْتَقِي عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَقَدْ لا يَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا وَمَعَ هَذَا فَمَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ كَرَامَةٌ إلا وَلِلسَّلَفِ مِنْ نَوْعِهَا مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا" (مجموع الفتاوى، ج 11، ص 363). غلب على بعض العلماء رؤية فحواها الرَّبط بين حركة التَّاريخ وبين حركة النُّجوم وفشت التَّفسيرات الأُسطورية والطَّائفية "وتقديس الأبطال المؤيدين بالعناية الإلهية" (إسماعيل، 2001 م، ص 44).

لا شك أنَّ الإسلام حذَّر من اتّخاذ القبور في المساجد فضلاً عن بناء القُبب عليها ولكن عامَّة النَّاس للأسف يتَّبعون مثل هذه العادات والأعراف ويتركون النَّهي الصَّادر عن الشَّرع. البعض يتكاسل عن العمل فيجلس في الخَوَانِق لأنّه زهد في الدُّنيا مع أنَّ المسلم مُطالب شرعاً بتعمير الأرض والنُّصوص بالغت في الحث على العمل والكسب مثل غرس الأشجار، وحفر الأنهار،  وطلب الرِّزق بالأسفار. وفي مقابل ذلك كله لقد نهى الإسلام عن اعتزال النَّاس فلا رهبانيَّة في الإسلام. تجويع النَّفس، ولبس بالي الثِّياب، أصبحت هذه العادات مذهباً لرياضة المريدين في تلك المُؤَسَّسَات التي قد يكون من آداب ساكنها الإعراض عن الاعتراض على تصرفات الشَّيخ وإن كانت في ظاهرها مخالفة للدِّين أو للعقل أو للذَّوق السَّليم. ومن العادات التَّعليميَّة في الجهات الدِّينية لمدَّة قرون تعظيم أمر الخرقة إذ يقوم المريد بلبس خرقة الْصُّوْفِيَّة كعُرف ديني مشى عليه كثير من جهابذة العلماء بله عامَّة الطَّلاب وبعض العلماء. الولي كان واسطة بين العبد وربِّه ولقد سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلامِ – أحمد بن تيميَّة - عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَاظَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لا بُدَّ لَنَا مِنْ وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فَإِنَّا لا نَقْدِرُ أَنْ نَصِلَ إلَيْهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ (الفتاوى، ج1، ص 35) بهذا أصبحت عقلية المُتعلم عقلية رجعية لا صلة لها بالعِلم والنَّقد ولم يُستغل العقل كما ينبغي.

هذه الممارسات التَّعليميَّة الغامضة قد تكون مُستعارة من حضارات وثنية مثل الهند واليونان ثمَّ وجدت لها بعض الأدلَّة الدِّينية الواهية فراج أمرها واستحسن النَّاس فِعلها. لا ريب أنَّ هذه الإضافات عَقَّدت وكَدَّرت الفِكر الإسلامي الصَّافي الواضح فانحرفت التَّربية عن حدود التَّوحيد الذي هو جوهر ومظهر هذا الدِّين المكين. ولعل فكرة الشَّيخ أو قبره كوسيط بين العبد وربِّه من أخطر الأفكار النَّصرانية الهدَّامة التي تسللت لحياة المسلمين فأربكت مداركهم. مما يدل على خلل عميق في نمط التَّفكير وطرق التَّربية كما يدل على جهل واضح وخلل فادح أبعد العباد عن عقيدة الإسلام وما فيه من صفاء التَّوحيد والمنهج السَّديد. ابن الرِّفاعي (ت 578 هـ = 1182 م) شيخ الطائفة الأحمدية الرِّفاعية البطائحية التف عليه خلق كثير يقال إنَّه حفظ التَّنبيه في الفِقه على مذهب الشَّافعي ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهي حيَّة ولهم أحوال عجيبة في الدُّخول في النَّار وفي التَّنانير وهي تضطرم ويلعبون بها وهي تشتعل يقال إنَّهم في بلادهم يركبون الأُسُود (ابن كثير في البداية، الجزء الثاني عشر. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، باختصار).

ولقد نقل المؤرخون عجائب تَكشف عن ضَعف واقع التَّربية العقلية والدِّينية فلقد كان بعض مَن يذهب إلى قُبور الصَّالحين يطلب المغفرة بل ويسجد للقبر[94] وفي مقام المدح يذكرون أنَّ أحد الصَّالحين صاحب كَشف "رُؤي وهو راكب حمارته يسوقها على الماء أيام وفاء النِّيل"، وغيره كان يُرى في الحج كل عام ويتواجد في عِدَّة أماكن في نفس السَّاعة وهذه صفة كبار الصَّالحين فإذا مات أحدهم أصبح قبره الفاخر في بنائه قِبلة لِلقاصي والدَّاني (ابن العماد، ج3، ص 43، ج 10، ص 471، 477). هذه القبور وقببها الفاخرة قديماً وحديثاً قد تُبنى من كدح الفقراء ومِن أمول البُسطاء إيماناً منهم بخوارق الأموات وبركة الأولياء ولهذا فهي دائماً عامرة خاصة في الموالد فلا يبخل الناس عليها وربما وضعوا فيها قناديل من فضة، وقد تُعلَّق عند القبور أشياء قد يحتاج إليها الأحياء يوماً ولا ينتفع منها الأموات أبداً.

ترك الإمام الشَّافِعِيّ بغداد مُتَّجهاً إلى مصر وذكر أنَّ الزَّنادقة أحدثوا فيها شيئاً يُسمَّونه السَّماع وكان ذلك في نهاية القرن الهجري الثَّاني. وهذه إشارة تاريخية إلى بداية ظهور الرَّقص الدِّيني الصُّوفي الذي كان ينمو مع نمو الحركة الْصُّوْفِية التي بدأت على يد الغُلاة في الانحراف في بغداد. الْصُّوْفِية حاولت أن تُواجه انغماس النَّاس وإسرافهم في حياة التَّرف وانصراف بعضهم عن الدِّين آنذاك. هذه المواجهة جرَّت الأُمَّة إلى مَصاعب جَمَّة فلم تكن التَّربية الْصُّوْفِية دائماً عِلاجاً لدفع داء التَّرف بل كانت في أوقات كثيرة أداة امتطاها الغُلاة للتَّخلص من تعاليم الدِّين، وفتح باب الزِّيادة فيه والحذف منه. قال الشَّافِعِيّ عن غلاة الْصُّوْفِيَّة: "لو أنَّ رَجُلاً تصوَّف أوَّل النَّهار لا يأتي الظُّهر حتى يكون أحمق" وقال أيضاً: "ما لَزم أحدٌ الْصُّوْفِيَّة أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً". إنَّ الشَّافِعِيّ صحب الْصُّوْفِيَّة لبعض الوقت - إنْ صحّت الرِّواية - فانتفع منهم بفوائد معدودة منها قولهم: "الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق، وإلا شغلتك بالباطل".

ذكر ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر أنَّ رِواية القصص الباطلة والمبالغة في سرد غرائب الصَّالحين من أسباب رواج البطالة والانقطاع في الأربطة والخَوَانِق. فيرى أنَّ المتزهِّدين أَدخلوا في الدِّين ما ليس منه وأَدخلوا في حياة النَّاس القصص السَّيئة لدرجة أنَّ "العامِّي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يُحسن الوضوء كلَّموه بدقائق الجنيد وإشارات الشّبلي وهما من سادات العلماء فرأى ذلك العامِّي أنَّ الطَّريق الواضح لزوم زاوية وترك الكسب للعائلة ومناجاة الحق في خلوة على زعمه. مع كونه لا يعرف أركان الصَّلاة ولا أَدَّبه العلم ولا قوَّم أخلاقه شيءٌ من مخالطة العلماء. فلا يستفيد من خَلوته. فإن امتدَّ عليه الزَّمان في تقلُّله زاد يبسه فربَّما خايلت له الماليخوليا[95] أشباحاً يظنُّهم الملائكة ثم يطأطئ رأسه ويمد يده للتَّقبيل. فكم قد رأينا من أكار[96] ترك الزَّرع وقعد في زاوية فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه. فلو قيل له عُد مريضاً قال: ما لي عادة. فلعن الله عادة تُخالف الشَّريعة. فيرى العامَّة بما يورده القصَّاص أنََّ طريق الشَّرع هذه لا الّتي عليها الفقهاء فيقعون في الضَّلال" (ص90، باختصار وتصرُّف).

إنَّ مفاهيم الحُبّ، والخوف، والرَّجاء، والإخلاص، والثِّقة بالله وحب العمل وغيرها من المفاهيم التي نجح رواد الْصُّوْفِيَّة في غرسها في نفوس النَّاس أخذت تنحرف وتضعف في مساراتها مع الزَّمن بسبب إهمال قاعدة العبادة تتحقق بالاتِّباع للدليل الصَّحيح لا الابتداع. الجهات الدِّينية مثل التَّكايا والخوانق كانت أرضاً خصبة لنشر الأفكار المُنحرفة، والحكايات المُركبة بغرض التَّرويج لفكرة عِصمة الأولياء والأئمَّة، ونشر فكرة أهمية التَّسليم المُطلق بكل علومهم وتصرفاتهم ومناهجهم في التَّعليم مع انتظار من اختفى منهم. كانت زوايا وخوانق الصُّوفيَّة مُنتشرة يجتمع فيها كثير من النَّاس فيعقدون مجالس الذِّكر ويقوم المتطرِّفون من الصُّوفية فيبكون "ويشطحون" طوال الَّليل فيرقصون حتى يقع من يقع منهم مغشياً عليه (أبو مصطفى، 1997م، ص 199) ويوهمون النَّاس أنَّ هذه الطَّريقة المُنحرفة هي طريق الهداية. مؤسسات التَّعليم أدوات لغرس المفاهيم فإذا انحرفت المفاهيم فلا يمكن تفادي التَّردِّي وهو ما أصاب الكثير من مؤسسات التَّعليم في الأقطار الإسلاميَّة ومن هنا اختلَّت الموازين بسبب خلل المفاهيم ففقدت الأمَّة مكان الصَّدارة.

ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس جملة من نقاط النَّقد للأربطة كمؤسَّسة دينية تعليمية وبما أنََّ غلاة الْصُّوْفِيَّة ظهروا في بداية أمرهم في العراق كما نقلنا عن الشَّافِعِي فإنَّ ابن الجوزي من أعلم النَّاس بنمو وانحراف المسيرة الفِكْرِية للغلاة منهم ويرى أَنَّهُمْ ابتدعوا بناء الأربطة وابتعدوا عن المساجد وهو بنيان أهل الإسلام وهم بذلك جعلوا للمساجد نظيراً يُقلِّل جمعها وأَنَّهُمْ حرموا أنفسهم من فضل المشي إلى المساجد لأَنَّهُمْ  يسكنون داخل الأربطة. يمكن تلخيص أهم أوجه النَّقد التي أوردها العلماء في حق كثير من ساكني الأربطة والخوانق بما يلي مع ذكر بعض الأدلَّة والنّقاط الإضافيّة:

أَنَّهُمْ تشبّهوا بالنَّصارى بانفرادهم في الأديرة للعبادة حيث نذروا أنفسهم للتَّأمل فتركوا الزَّواج وهم شباب وأكثرهم مُحتاج إليه. من أهم الشُّبهات التي دفعت سكان الجهات الدِّينيَّة إلى ترك النِّكاح والتّبَتّلِ أنَّهم أردوا التَّفرغ لطلب العلم والانقطاع التَّام إلى عبادة الله عزَّ وجلَّ، ومن حُججِهم أنَّ بعض كبار العلماء كانوا من العُزَّاب. وهذا المنطق غير صحيح فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ: أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فقَالَ لها: "إنّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنِ التّبَتّلِ فَمَا تَرِينَ فِيهِ؟ قَالَتْ: فَلاَ تَفْعَلْ أَمَا سَمِعْتَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجا وَذُرّيّةً} (سورة الرَّعد: آية 13) فَلاَ تَتَبَتّلْ. قوله: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً» وهم الَّذين أمر الله بالاقتداء بهداهم فقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} (سُوْرَةُ الأنعام: آية 90)" (رواه النَّسائي كتاب النِّكاح: باب النّهْيِ عَنِ التَّبَتلِ، وانظر السِّندي، حديث رقم 3207، المباركفوري، تُحفة الأحوذي، باب النِّكاح: باب ما جَاءَ في النّهْيِ عَنِ التَّبَتلِ). وورد في الحديث "تَزَوَّجُوا الودود[97] الْوَلُودَ فإِنّي مُكَاثِر بِكُم الاْمَمَ" (رواه أبو داود حديث رقم 2050 باب من تزوج الولود).

أَنَّهُمْ جعلوا لأنفسهم عِلماً ينطق بأَنَّهُمْ زُهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتَّبرك بهم.

أَنَّهُمْ  تركوا الأعمال الحرفية كالرَّعي والنِّجارة وتركوا التِّجارة بحجَّة التَّفرَّغ للعبادة والتَّبرك بقرب الأولياء. عن عمر بن الخطاب رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: "إنّي لأرى الرَّجُل يُعْجبُني فأقول هل له حِرْفَة؟ فإنْ قَالُوا لاَ سَقَط من عَيْني". قال العسقلاني في الفتح: "العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهِبة ونحوها".

أَنَّهُمْ  تركوا مخالطة النَّاس ومساعدة المحتاجين منهم. عنِ ابن عُمر رَضِي اللهُ عَنْهُما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ الذي يخالطُ النَّاس ويصْبرُ على أَذاهُم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالطُ النَّاس ولا يصْبرُ على أَذاهُمْ" (أَخرجَهُ ابن ماجَه،  باب الصَّبر على البلاء، الحديث رقم 4032).

ابتدعوا ألواناً من العبادات الدِّينية والعادات التَّعليميَّة التي لا سند لها من محكمات الدِّين مثل لبس الخرقة، والرَّقص في الذِّكر، وطاعة الأولياء طاعة عمياء، والإيمان بعصمة غير الأنبياء، وفي المولد "يحصل فيه من المفاسد والقبائح ما لا يُعبَّر عنه" ولا تليق بمن أراد أن يلزم زاوية أو خانقاه ليشتغل بالعلم ولينشأ على طريقة حَسنة (ابن العماد، ج 8، ص 533). وللأسف فإنَّ بعض كُتب التُّرَاث فيها عبارات لها تأويلات وتفسيرات تُخالف المنهج العلمي الإسلامي في التَّعلم ومنها قول بعض الأئمة "من قال لِشَيخه لِمَ لا يُفلح أبداً" (ابن العماد، ج4، ص 375)، وأنَّ الطَّالب "يَصِيرُ مع مُعَلِّمَهُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ" "ويُعَبِّد روحه لِشيخه. وهذا بدوره قد ربى فيه غير قليل من الاستعداد للانهزام" (الفاروقي، 1989 م، ص 26).

استناداً لابن الجوزي فإنَّ بعض الأَربطة كانت تأمر المريد بالذِّكر وتنهاه عن طلب العلوم الشَّرعية. قال الذَّهبي، قال أبو نصر الفاشاني: كنتُ إذا أتيتُ هبة الله في الرِّباط، أخرجني إلى الصَّحراء، وقال:اقرأ هُنا، فالْصُّوْفِيَّة يتبرَّمون بمن يشتغِلُ بالعلم والحديث، يقولون: يُشوشون علينا أوقاتنا" (ج19، ص 19). ولعل هذه الأمثلة لسلوكيَّات غريبة ولا شك أنها وقعت ولكنَّها لا تُمثِّل حالة كل الأربطة المنتشرة في ربوع البلاد الإسلامية عبر القرون.

قال ابن تيمية في فتاويه "فَصْلٌ وَأَهْلُ "الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ" يُزَيِّنُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَيُبَغِّضُ إلَيْهِمْ السُّبُلَ الشَّرْعِيَّةَ حَتَّى يُبَغِّضَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَلا يُحِبُّونَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلا ذِكْرَهُ وَقَدْ يُبَغِّضُ إلَيْهِمْ حَتَّى الْكِتَابَ فَلا يُحِبُّونَ كِتَابًا وَلا مَنْ مَعَهُ كِتَابٌ وَلَوْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ حَدِيثًا، كَمَا حَكَى النَّصرباذي أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: يَدَعُ عِلْمَ الْخِرَقِ وَيَأْخُذُ عِلْمَ الْوَرَقِ قَالَ: وَكُنْت أَسْتُرُ أَلْوَاحِي مِنْهُمْ فَلَمَّا كَبِرْت احْتَاجُوا إلَى عِلْمِي. وَكَذَلِكَ حَكَى السَّرِيُّ السقطي: أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهُ مِحْبَرَةً وَقَلَمًا خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ عِنْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّستري: يَا مَعْشَرَ الصُّوفِيَّةِ لا تُفَارِقُوا السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ فَمَا فَارَقَ أَحَدٌ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ إلا تَزَنْدَقَ. وَقَالَ الجنيد: عِلْمُنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يَنْفِرُ مِمَّنْ يَذْكُرُ الشَّرْعَ أَوْ الْقُرْآنَ أَوْ يَكُونُ مَعَهُ كِتَابٌ أَوْ يَكْتُبُ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ اسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ فَصَارَتْ شَيَاطِينُهُمْ تُهَرِّبُهُمْ مِنْ هَذَا كَمَا يُهَرِّبُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ كَلامَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لا يَتَغَيَّرَ اعْتِقَادُهُ فِي دِينِهِ" (مجموع الفتاوى، ج 10، ص 412).

نأوا بأنفسهم عن تحديات الحياة وتركوا الرِّباط في سبيل الله وجهاد الأعداء وهكذا لم تُواصل الأربطة دورها في التَّربية الجهادية. انحرفت الأربطة عن رسالتها كمنشآت عسكرية وتحوَّلت إلى واحة جلسات لتصفية الرُّوح والبعد عن واقع ووقائع الحياة نظراً لما فيها من صراعات سياسية وخلافات عقائدية. يقول د. الحوالي (1982) في كتابه العَلمانيَّة إنّ الزَّوايا انتشرت على السَّواحل الإسلاميَّة للبحر الأبيض وأنَّ الحركة السّنوسيَّة أعادت إليها الصِّبغة الجهاديَّة فترة من الزَّمان. وأنَّ الأربطة والثُّغور التي بنيت أساساً للجهاد امتد إليها انحراف الْصُّوْفِيَّة "إذ تحولت إلى زوايا وتكايا للصُّوفية وفي أحسن الأحوال أصبحت مدارس علمية صرفة لا أثر للتَّربية الجهاديَّة فيها وحتى مناهجها التَّعْلِيْمِيَّة كانت متخلِّفة ومحدودة" (ص 518).

هذه السَّلبيات تزايدت مع الوقت وأضعفت دور الخوانق وازداد الأمر سوءاً عندما جاء كمال أتاتورك الذّي أدرك أهمية الخَوَانِق والتَّكَايَا في تنشيط التَّعْلِيْم الدّيني فعمل في عام 1345 هـ = 1926م على التَّخلص منها تماماً وذلك بإلغائها ليحل مكانها الحانات والنَّوادي اللََّيلية (أوز ترك، 1986 م، ج 2، ص 232).

 

تراثنا بين الأصالة والمعاصرة

بعض المثقفين يتغافلون أو يغفلون عن التُّرَاث تماماً ويَتنصلون منه ويُسقطونه من حساباتهم الفِكْرِيَّة وهناك طائفة أخرى تتبنى المنظور الغربي المادي لإثبات نظريات لا دينية وطائفة ثالثة تعيش في أجواء الماضي ولا تريد الخروج عن إطاره جملة وتفصيلاً وينتهي مطاف هذه الطَّوائف بعدم الاستفادة الفعليَّة من التُّرَاث مع استمرار الصِّراع بين أنصار كل طائفة فكرية. إلغاء التُّراث كما يُنادي أهل الحداثة وغيرهم يعني أنَّ تاريخ المجتمع المسلم يتحول في نظرهم إلى كومة تراب ونتحول إلى كيان بلا أركان. هؤلاء يُمثِّلون عقبة ثقافية لا تفهم حقيقة التُّرَاث الفكري الإسلامي وكأن حالهم يقول لأبي تمام الطّائي:"يا أبا تمام، لم لا تقول ما يُفهم؟ فكان جوابه على البديهة: "لم لا تفهمون ما يُقال؟". المشكلة في منهج من يُطالب بِنَبذ كل ما يتصل بالماضي تتمثل في عدم قدرتهم على فهم وقراءة التُّرَاث بشكلٍ صحيحٍ وليست المشكلة في التُّرَاث نفسه الذي يحوي على الحق والباطل.

كثيرة هي التَّيارات الفِكْرِيَّة التي تبنَّت دراسة التُّرَاث فظهرت مع بداية القرن العشرين كتابات عدد من القوميين واليساريين واللِّيبراليين والإسلاميين في محاولة عصرية لفهم التُّرَاث. لقد ترك ساطع الحصري، وقاسم أمين، وهدى شعراوي، ورفاعة الطهطاوي وطه حسين وغيرهم مناهج إصلاحية للتَّربية وللتَّعليم كانت ومازالت في بعض أطروحاتها محل نقد ولكنها أَثَّرت بصورة مباشرة على المجتمعات العربيَّة خاصة والإسلاميَّة عامَّة وهي أفكار تقدميَّة كما يزعمون ساقها المغتربون في الشَّرق من الغربيين دون مراعاة لاختلاف الثَّقافات في أحيان كثيرة.

في الأدبيات "التَّقدُّميَّة" نسمع عن أبي ذر الاشتراكي، وابن خلدون العَلماني وهكذا تتحول الرُّموز التَّاريخية إلى أدوات لتبرير أيديولوجيات غربية معاصرة. جوهر التَّيار اللِّيبرالي كما يسمونه يرفض كل أمر مصدره الغيب وإن كان وحياً، ويُدافع عن ضبابية القيم ونسبية الأخلاق، ومن بنات أفكارهم البعيدة عن الصَّواب قول بعضهم أنَّ الإسلام دين عظيم ولكنه صالح لعصر السَّلف البسيط لا الخلف المعقد، ولا حاجة لنا إلى تُراث الأوراق الصَّفراء في عصر يغزو فيه الإنسان الفضاء.

يعيش العالم الإسلامي اليوم في ازدواجية فكرية. يكشف د. علي عقلة عرسان في كتابه المُثقَّف العربي والمتغيِّرات ملامح هذه الازدواجية فيقول "إنَّ غياب الدِّيمقراطية في الوطن العربي سبب رئيس من أسباب التَّخلف وتراجع مكانة الإنسان العِلْمِيَّة والعملية، وضعف دوره في الإنجاز الحضاري المعاصر، وكذلك فهي سبب تراجع قدرته على الابتكار والاختراع والإبداع. مع اختلاف على كيفية الخروج من دوامة الشَّكوى والتَّشخيص واجترار مرارة الإحباط … والانتماء للأمَّة في واقعها المعيش، وسيادة القانون، واحترام المُؤَسَّسَات التي تقيم المجتمع المدني وتمهد لقيام الدَّولة القوميَّة وبناء مؤسساتها؛ هل يكون ذلك بالشُّورى والشَّريعة، أم بالدَّساتير العصرية الآخذة بالعَلمانية، أم يكون بصيغة أخرى يقود إليها الحوار والاجتهاد والإبداع، في مناخ ديمقراطي سليم؟". موقف المُثقف في عالمنا يتأرجح بين تلك الطَّوائف الفِكرية المُتناقضة.

وبهذا يتبين أنَّ الخلاص المنشود يتمزق بين أصالة الإسلاميين المثاليَّة ومعاصرة اللِّيبراليين المُغالية فضاعت الشُّعوب في زحمة الشِّعارات وفوضي الأيديولوجيات، وتناقضت البرامج. الحاجة ماسة إلى نقلة التَّمازج والتَّوازن بين الفريقين والمفهومين. المسار الفكري التَّوفيقي الذي يتبنى نسق المعاصرة وعمق الأصالة في آن واحد والذي ينبغي أنْ يتبلور قبل أن يُكتب لنا أي تطور ملموس فإنَّه من المحال أنْ تتقدم أمَّة من الأمم وهي لا تعرف هويتها وحقيقة تطلعات مسيرتها وفي المقابل تظل تعيش على هامش الجدال العقيم والسِّجال القديم. إنَّ الفكر في عالمنا الإسلامي مُنهمك بالتَّناقضات بين مفكريه فتارة يتحاورون وتارة يتناحرون والمُستقبل يشتدُّ ظلمة والشُّعوب تفقد خطوات المشي نحو الأمل والمستقبل الزَّاهر رويداً رويداً. في ظلِّ هذا التَّبعثر الفكري القائم لا يمكن رسم مناهج تعليمية شاملة فإنَّ غموض الفلسفة التَّربوية وضبابية النَّظريات التَّعليمية من أهم عوائق التَّقَدُّم التَّربوي المنشود.

التَّنسيق بين جميع الحركات الفكرية في العالم العربي والإسلامي ضرورة لا مفرَّ منها ولعلَّ التُّراث بوَّابة لتوحيد الجهود، وتقريب الرُّؤى، ومعالجة تباين وجهات النَّظر.

إنَّ الثَّورة على ثروة التُّرَاث دفعت البعض إلى التَّوجه كلية نحو الفكر الغربي فقام بعض الاجتماعيين المختصين في العلوم الاجْتِمَاعِيَّة في الوطن العربي "يكرِّسون أوقاتاً ثمينة وجهوداً طائلة لإثبات نظريات واتجاهات وُلدت وترعرعت في مجتمعات أخرى وفي ظروف مغايرة، فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلّطونها من أعلى على الأوضاع الاجْتِمَاعِيَّة العربيّة. والحال أنّ تلك المفاهيم وإنْ كانت طريفة في ذات نفسها وجديرة بالاهتمام والدَّرس والعناية، فإنَّها أصلاً وليدة المجتمع المُصنع الغربي واستخدامها باسم كونية المعرفة العِلْمِيَّة غير وارد وغير مشروع لأنَّها لم تأخذ بالحسبان كل الأوضاع الممكنة إنسانياً، ولكن بعضاً منها فقط، فنقْلها بتلك السُّرعة والبساطة إلى المجتمع العربي يكون حجر العثرة في مسيرة البحوث الاجْتِمَاعِيَّة العربيّة". "فإنَّه يسود اعتقادٌ بين الباحثين الاجتماعيين والمُهتمِّين بالعلوم الإنسانية والاجْتِمَاعِيَّة بأنَّ علماء الاجتماع العرب لم يُساهموا إلى الآن في فهم دقيق وبنَّاء لمجتمعاتهم المحليَّة وثقافاتها. وبالرَّغم من أنّ هذا الشُّعور يشير إلى نوع ضروري من النَّقد الذاتي، إلاّ أنَّه يعكس واقعاً حقيقياً، بصرف النَّظر عن أسبابه وظروفه وملابساته". وعليه يطالب الباحثون اليوم بمراجعة تحليل التَّارِيخ الاجتماعي والتُّرَاث الإسلامي بصورة منهجية منظمة، لمعرفة ثوابته ومتغيراته، وشروط النُّهوض ببعض أنساقه وأطروحاته الأصلية مع  الاهتمام بالأعمال النَّقدية للتُّراث الفكري العالمي، على أن تكون مصادره مُتنوعة ومتعدِّدة (جراد، 2001، مُعضلات التَّجزئة والتَّأخر وآفاق التكامل والتَّطوُّر).

وإلى اليوم نجد أَنَّ غياب الرُّؤية الإسلامية الواضحة  في مؤسسات التَّعليم العالي تعيق عملية الإصلاح فإنَّ "مأساة التَّعليم الكبرى في بلاد المسلمين تتمثل يقيناً في أنَّ الأساتذة في جامعات العالم الإسلامي لا تسيطر عليهم الرُّؤية الإسلامية ولا تحفزهم قضية الإسلام" (الفاروقي، 1989 م، ص 34). من الدَّعوات المعاصرة في عملية الاستفادة من التُّراث وتجاوز قصوره وسلبيته محاولة المعهد العالمي للفكر الإسلامي (2001م) الذي أصدر مئات الإصدارات إلى جانب رعاية العديد من الأنشطة والبرامج لتعميق وتوجيه الفكر الإسلامي مُتجاوزاً حدود اللُّغة والإقليم. المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1986م) يدعو إلى تأصيل العلوم والدَّعوة إلى "أسلمة العلوم" ويُعَرِّفون هذا المصطلح بقولهم "المقصود بـ "إسلامية المعرفة": أن تواكب قدرة العقل والفِكر والمنهج المسلم حاجة الأمَّة والتَّحدِّيات التي تواجهها، وأن تُقدِّم لها الطَّاقة والزَّاد الفِكري والرُّؤية والمناهج الفكرية والحضارية اللازمة لإنجاح مسيرة جهود بناء مرافقها وأنظمتها. فالأمَّة لا ينقصها الإخلاص ولا القِيم، ولا الإمكانات البشرية أو المادية ولكنَّها تحتاج إلى فكر سليم ومنهج مُتكامل قويم ورؤية واضحة تسير على هداها وتسعى إلى تحقيقها وتُنشئ أبناءها على مُقتضاها" (ص 169). يردُّ بعض الباحثين فكرة أسلمة العلوم لأنَّ العلم لا وطن له فهي خاصيَّة إنسانية عالميَّة ولكن هذا لا يمنع من استقبال العلوم مع بيان رأي الدِّين فيها والسَّعي في عرضها في سياق الرُّؤية الإسلامية القائمة على مبدأ التَّوحيد.

يُنادي بعض المفكرين بسَلفية المنهج وعصرِية المُواجهة كموضوع حيوي في فهم الثََّوابت والمتغيرات في العمل التَّربوي اليوم فصلاح الصَّاوي يرى أنَّه ليس من "السَّلفيَّة في شيء الوقوف عند بعض المعارك التَّاريخية التي طُويت صفحاتها واندثرت فتنتها، والتَّخلي عن المعارك المعاصرة التي أجلب علينا العدو فيها بخيله ورجله، وحشد لها كل ما يملك من عتاد وعدَّة، لمجرد أنَّ سلفنا الصَّالح بسطوا القول في هذه ولم يبسطوه في تلك، ولا نعني بهذا التَّخلي عن هذه القضايا وإنَّما التَّناول المجمل لها يكفل بيان الحق من ناحية، وتجنب إحياء الفِتن القديمة وتجديد المعارك المندثرة من ناحية أخرى ثم التََّفرغ لمواجهة فِتنة العصر ومشاكله المتجدِّدة. إنَّ السَّلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدَّعوة في بعض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات والأوثان وتضرب الذِّكر صفحاً عن شِرك الأحياء والأوضاع والنُّظم المعاصرة وهو الذي لا يقل خطراً عن شِرك الأصنام في الجاهلية الأولى" (ص 192-193). تعمل الجامعة المفتوحة في الولايات المتحدة التي يعمل بها الصَّاوي على غرس مفهوم سلفية المنهج وعصرية المواجهة.

يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي (1984م) في كتابه مشكلة الثَّقَافَة: على المربيّنِ

 

"أن يعلِّموا الشَّبيبة كيف تستطيع أن تكتشف طريقًا تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلِّموها كيف تواكب الرُّوس أو الأمريكان في طرائقهم، أو كيف تتبعهم؟" (ص 118).

يرى د. أحمد شوقي الفنجري (2001 م) أنَّ أغلب الكُتب التي يؤلفها علماؤنا العرب والمسلمون والتي تُدرس في جامعاتنا اليوم تتجاهل دور العلماء المسلمين الأولين ولم تدرس التُّراث بالشَّكل المطلوب إلى الآن ومن ثَمَّ فإنَّ "تاريخ العلوم الإسلامية لم يُخدم حتى اليوم خدمة جيدة ولم يُبرز إِلى حيز الوجود في قالب عِلمي مُقنع يمكن أن يرجع إليه كل عالم مُتخصص.. لكي يستقي منه ويعتمد عليه.. ومعظم الدِّراسات التي قدمت في هذا الميدان قامت على أكتاف اللُّغويين والمؤرخين والمتخصِّصين في كتب التُّراث.. ولا شك أنَّ لهؤلاء فضلاً عظيماً لا يُنكر في التَّوعية بتراثنا العلمي.. ولكن المطلوب اليوم أن يتقدَّم العلماء المتخصِّصون لدراسة هذه المخطوطات القديمة كل في فرع تخصصه... وأن يستخرجوا منها ما أنجزه أجدادهم من اختراعات واكتشافات علمية سبقوا بها العالم... فكلمة واحدة أو إشارة علمية من عالم مُتخصِّص مؤيدة بالوثائق العلميَّة سوف يكون لها من التَّأثير العالمي أضعاف ما للعالم اللّغوي". وعليه فإنَّ الفنجري يُطالب بـ"الدَّعوة إلى إعادة كتابة تاريخ الحضارة الإسلامية فقد ظُلِمت هذه الحضارة ولم تأخذ حقها من التَّقدير والعِرفان من الشَّرق والغرب معا.. فأبناؤها الذين بهرتهم الحضارة الغربية المعاصرة قد أهملوا ماضيهم وتراثهم ولم يعطوه حقه من الدِّراسة في مؤلفاتهم، وأبحاثهم وإذا كان هذا هو موقف أصحاب الشَّأن وحملة هذا التُّراث فبديهي أن يكون موقف أصحاب الحضارة المنافسة نحو حضارتنا هو التَّجاهل على أقل تقدير. وللأسف الشَّديد أن هذا التَّجاهل لا يقتصر على المؤلَّفات العلميَّة العادية في أوربا.. ولكنه يتعدى ذلك إِلى دوائر المعارف التي تصدر في الغرب بشتى اللُّغات والتي يعتبرها العلماء مراجع دقيقة وصادقة لهم. ولولا مجهودات بعض المستشرقين المنصفين والمتخصِّصين جداً في العلوم الإسلاميَّة والحضارة الإسلاميَّة لضاعت حقائق هذا التَّاريخ في الشَّرق والغرب معاً".

تجاهد التََّوجهات الإسلامية والتَّيارات الوطنية في البلاد الإسلامية اليوم من أجل مواجهة المستجدات ومواكبة التَّغيرات فالبعض منها تعمل على محاربة البدع وتوعية النَّاس ثقافياً، والبعض منها يتَّجه نحو العمل السِّياسي النِّيابي لإحداث الإصلاح المنشود والبعض يعمل في ساحة الفكر والتَّنظير وتنقية التُّراث وهضمه والحق أنَّ جميع الجهود السَّالفة الذِّكر جديرة بالاهتمام ولكن عدم التَّنسيق بين تلك الجهات من أهم أسباب تشتيت الطَّاقات وتأخير النَّهضة الحضارية. إنَّ المُحصلة النَّهائية والغاية العليا لجميع التَّوجهات ينبغي أن تسير نحو تكامل الجهود الإصلاحية لاستيعاب متطلبات الحياة الإنسانيَّة وفق منطلقات تربوية إسلاميَّة, مُتنوعة الوسائل، مُتَّفقة الغايات. الاستفادة من بعض معطيات العلوم الغربيَّة مع منابذة الضَّار منها من أولويات الفكر الإسلامي المعاصر وأسوتنا في ذلك جهود أسلافنا من قبل حينما شمَّروا عن ساعد الجد فدرسوا علوم الأمم السَّابقة بعين ناقدة، وروح مُبدعة، فصنعوا حضارتهم الخالدة.

واليوم تشتد حاجتنا للتُّراث الإسلامي ونحن في مرحلة التَّراجع الحضاري فلقد تقلَّصت إسهامات الأمَّة وربما توقفت.

 

إِشْكَالِيَّة التَّربية الموسيقيَّة

أصبحت التَّربية الموسيقيَّة جزءاً مُهماً من أنشطة معظم المدارس التي تبدأ وتنتهي في كل يوم مع قرع الأجراس وقلَّما تخلو المناهج المدرسية من حِصص مليئة بالألحان, ولكل دولة في العالم نشيدها الوطني الخاص بها. وبدأت الوسائل الإعلاميَّة تصيغ منها البرامج المتنوعة ومنها البرامج التَّربويَّة وخاصة للأطفال بل ظهرت برامج إسلامية على ذلك المنوال. وفي دراسات تربويَّة على ألوف من الطّلاب أثبتت بعض الدراسات أنَّ التَّربية الموسيقيَّة لها انعكاسات إيجابيَّة كثيرة على شخصيَّة الطَّالب ومهاراته وتحصيله الدِّراسي[98].

أشهر روَّاد علم النَّفس التَّربوي الحديث مثل هورد غاردنر يرى أنَّ الذَّكاء الإنساني ينقسم إلى تسعة أقسام منها الذَّكاء الموسيقي ويرى أنَّ هناك علاقة إيجابيَّة بين العقل والموسيقى في مرحلة الطُّفولة المُبكِّرة كما تُشير بعض الدَّراسات.[99] ولكن لكل ثقافة خصوصياتها وليس بالضَّرورة أنَّ تكون هذه الدِّراسات مُناسِبة لجميع الثَّقافات والفِئات العمرية. ما هو رأي علماء المسلمين في الموسيقى إجمالاً وهل التَّربية الموسيقيِّة تُنبت في النَّفس داء الشَّقاء والشُّرور أم أنها تَبثّ فيها دواء الهناء والسُّرور؟ جمع من المُعَلِّمين في أنحاء العالم يزاولون مهنة التَّعْلِيْم من خلال تدريس التَّربية الموسيقيَّة فما هو رأي علماء التَّربية الإسلاميَّة برسالة هؤلاء النُّخَب؟ تحت أي باب يندرج هذا العلم وما هو تعريفه عندهم؟ ما هو رأي الفارابي وابن سينا والغزالي وابن تيميَّة وابن القيم وابن خلدون في استخدام الموسيقى في تربية الإنسان؟

المُهتمون بتقسيم العلوم يضعون علم الموسيقى تحت العلوم الرِّياضيّة. القنوجي في كتابه أبجد العلوم وحاجي خليفة في كشف الظنون والتَّهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون ذكروا هذا التَّقسيم. العلوم الرِّياضيَّة تنقسم إلى أربعة علوم: علم العدد، وعلم الهندسة، وعلم الهيئة، وعلم الموسيقى. وعلم الموسيقى يُعرف بأنَّه علم التّأليف الباحث عن أحوال النَّغمات (التَّهانوي، 1998، ج1، ص 56، 107). علم الموسيقى علم رياضي يندرج تحت العلوم الحِكمية وهذا العلم يهتم بمعرفة نَسَب الأصوات وأحوال النَّغم بعضها من بعض، وتقديرها بالعدد؛ ويبحث عن كيفية صدور النَّغمات الموزونة المؤثِّرة وثمرة هذا العلم هو معرفة تلاحين الغناء. بيَّن حاجي خليفة أنَّ علماء الفلسفة اهتموا بهذا العلم وأنَّه ارتبط في بداياته عند الشُّعوب الأخرى بالتَّذكير بالآخرة وبالحكمة وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأنيس الأرواح والنُّفوس لا مجرد اللَّهو والطَّرب.

أَلَّف العلماء بعض الكتب في علم الموسيقى مثل رسالة في الموسيقا للشّيخ الرَّئيس[100] ابن سينا (428 هـ = 1036 م) وبنفس العنوان لأبي الصَّلت أمية بن عبد العزيز (529 هـ = 1134 م). ولهذا يرى بعض الباحثين التَّربويين أنَّ الموسيقى مجال من مجالات التَّربية الجمالِية في الفكر التَّربوي الإسلامي (حسن، 1987 م، ص 922).  

ورغم هذا الاهتمام بهذا العلم فإنَّ جمهور العلماء يرون أنَّ علم الموسيقى من العلوم المذمومة وفي ذلك يقول ابن تيمية "الْفَارَابِيُّ كَانَ بَارِعًا فِي الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ "الْمُوسِيقَا" وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ وَحِكَايَتِهِ مَعَ ابْنِ حَمْدَانَ مَشْهُورَةٌ. لَمَّا ضَرَبَ فَأَبْكَاهُمْ ثُمَّ أَضْحَكَهُمْ ثُمَّ نَوَّمَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ. وَكَانَ الْفَارَابِيُّ قَدْ حَذَقَ فِي حُرُوفِ الْيُونَانِ الَّتِي هِيَ تَعَالِيمُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْفَلاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ[101] وَفِي أَصْوَاتِهِمْ صِنَاعَةُ الْغِنَاءِ فَفِي هَؤُلاءِ الطَّوَائِفِ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ وَيَجْعَلُهُ مِمَّا تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ وَتَرْتَاضُ بِهِ وَتُهَذَّبُ بِهِ الأخْلاقُ. وَأَمَّا أَهْلُ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ وَلا يَدْعُو إلَيْهِ. وَهَؤُلاءِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالإيمَانِ وَالْهُدَى وَالسَّعْدِ وَالرَّشَادِ وَالنُّورِ وَالْفَلاحِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالإِخْلاصِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَشْيَةِ لَهُ وَالإِنَابَةِ إلَيْهِ. إنَّ آلاتِ اللَّهْوِ كُلَّهَا حَرَامٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ وَغَيْرِهِ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ}" (مجموع الفتاوى، ج 11، ص 563، باختصار).

يُلخِّص الشَّوكاني (ت 1250 هـ = 1834 م) في كتابه نيل الأوطار رأي علماء الشَّريعة وحكمهم فيقول أنَّه قد اختُلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إِلى التَّحريم وذهب أهل المدينة ومن وافقهم إِلى التَّرخيص. رغم هذا الخلاف - عند البعض - فكل الفقهاء قَديماً وحَديثاً يتَّفقون على تحريم الغناء الماجن الهابط لذلك حتى المجيزين للغناء والموسيقى من العلماء يضعون شروطاً ضابطة للاستماع وعلى رأسها أنْ لا يُلهي الغناء عن الفرائض ولا يشتمل على كلمات أو حركات تُنافي المروءة أو تتضمن على ألفاظ تخدش الحياء وتخرج عن حدود الحياء والأدب.

وما زال الخلاف مُسْتِمراً إِلى اليوم بين العلماء وحتى بين مؤسسات الإفتاء. يري بعض المفتين جواز الغناء مثل القرضاوي في كتابه الحلال والحرام في الإسلام (1980 م، ص291) وكذلك علي الطَّنطاوي في فتاويه (1985م ص 106)، والبعض الآخر من العلماء اليوم يرون تحريم الغناء مع المعازف وأنَّه من مصايد وحبائل الشَّيطان ويذهب بعضهم إِلى أبعد من ذلك إذ يرون تحريم أشرطة الأناشيد الإسلامية التي لا تصحبها المعازف بصورتها الحالية حيث تُباع وتُزاحم أشرطة العلم (الألباني، 1996م، ص 181-الفوزان 1991م، ص 279، صالح بن أحمد الغزالي، ص 144) ويرى هذا الفريق من المجتهدين أنَّ أقل آفات سماع الأناشيد هو هجر تعاهد تلاوة القران الكريم والانشغال بتلك الأناشيد المتكلفة.

يرى ابن تيمية وتلميذه ابن قيم وغيرهما كثير أنَّ الموسيقى بجميع صورها -إلا ما استثناه الشَّرع كالدُّف - مُحرَّمة بنصوص قطعية من الدِّين وأنَّ آثارها في النَّفس مُدمِّرة وتقود المستمع لها إلى خبائث الأمور وتختم حياته بخاتمة السّوء. وهل آلت الأمة إلى ما هي عليه من الهوان إلا من بعد ما انتشرت آلات الغناء والقيان؟ قال ابن تيمية في فتاويه "المعازفُ هي خمرُ النُّفوسِ، تفعلُ بالنُّفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوسِ ... فالغناءُ رُقْيَةُ الزِّنا وهو من أعظمِ الأسبابِ لوقوعِ الفواحشِ" (ج 10، ص 412). يعتمد هذا الرَّأي الوجيه على جملة من الحُجج والبراهين في دعم موقفهم فمن المعلوم أنَّ ألحان الموسيقى في كثير من الأحيان ارتبطت بالسَّمر الماجن، واقترنت بالرَّقص الدَّاعر، وشرب الخمر أمّ الخبائث، وكشف مفاتن النِّساء وكل ذلك من المهالك التي ينبغي التَّنفير الشَّديد منها لأنَّ آثارها السَّلبية على العقل والدِّين والنَّفس والمال لا يمكن إنكارها لا قديماً ولا حديثاً. ,إذا كان هدف الدِّين جلب المصالح ودفع المفاسد فالأولى حفظ أسماع المتعلِّمين من هذا اللَّون من المجون وبذلك أفتى المفتون.

عندما نُراجع تُراثنا التَّربوي نجدُ الكثير من الوصايا والمواعظ في موضوع تجنيب الصَّبي سماع المعازف. "كتب عمر بن عبد العزيز رَضِي اللهُ عَنْهُ إلى مُؤدِّب ولده: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه. أما بعد فإنّي اخترتك على علم مني لتأديب ولدي، وصرفتهم إليك عن غيرك من موالي وذوي الخاصة بي، فخذهم بالجفاء فهو أمكن لأقدامهم، وترك الصُّحبة فإنَّ عادتها تكسب الغفلة، وكثرة الضَّحك فإنَّ كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشِّيطان، وعاقبتها سخط الرَّحمن، فإنَّه بلغني عن الثِّقات من حملة العلم إنَّ حضور المعازف، واستماع الاغاني، واللَّهج بهما ينبت النِّفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، ولعمري ولتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذوي الذِّهن من الثُّبوت على النِّفاق في قلبهن وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء ينتفع به، وليفتح كل غلام منهم بجزئه من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ منه تناول قوسه وكنانته وخرج إلى الغرض حافياً، فرمى سبعة ارشاق ثم انصرف إلى القائلة، فإن ابن مسعود رَضِي اللهُ عَنْهُ كان يقول: يا بني قيلوا فإنَّ الشَّياطين لا تقيل والسَّلام" (جلال الدِّين السّيوطي، الدُّر المنثور في التَّفسير بالمأثور). مِنَ النَّاحية التَّربوية فإنَّنا نجد د. عدنان باحارث (1996 م، ص 516) يختلف تماماً مع د. ملكة أبيض (1980 م، ص 142) فيعتبر وصية عمر بن عبد العزيز السَّابقة تُشكِّل نموذجاً للتَّربية الإسلامية في كل العصور في حين أنَّ الدكتورة ملكة تُنكر هذا الاستنتاج تماماً.

 ذكر بعض العلماء أنَّه يَحرم إخراج أصوات من الفم تشبه أصوات المعازف (انظر المنجد، سؤال رقم: 1867) وأنَّه لا يجوز للمرأة أن تسمع أشرطة أناشيد أعراس بأصوات رجال ومعهم دف (انظر المنجد، سؤال رقم: 10021) ولا يجوز استخدام الطَّبل للأغراض العسكرية وأنَّ القول بإباحة الموسيقى ليس قولاً مُعتبراً (انظر المنجد، سؤال رقم: 5000) ولا يُعتدّ به خاصة أنَّه لم يكن من هدي السَّلف في القرون الأولى فهو ممنوع غير مشروع في الإسلام. ومن ضمن أطروحات هذا التَّيار "إنَّ تحريم الغناء فطرة في ضمير الأمة كلها من شرقها إلى غربها، وأبلغ رد على دعوى إباحته هذه الأعداد المتزايدة يوماً بعد يوم من الفنانين الذين يسرقون أنفسهم من الأضواء، ويعلنون (توبتهم)، وهل يُتاب إلا من المعاصي والمحرمات[102]؟" (العودة، 1409هـ، ص 119). "إنَّ نشوة الموسيقى وسكرها أعظم من سكر الخمر[103]، كما ذكر أهل العلم كابن القيم وغيره" (المنجد، 1994م، ص 71، باحارث، 1996م، ص 514). قال العلامَّة ابن باز إنََّ الغناء إذا كان معه آلة لهو كالموسيقى والعود والرَّباب والطَّبل حُرِّم بإجماع المسلمين وأنَّ الاستماع إلى الأغاني منكر "ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدِّها عن ذكر الله وعن الصَّلاة" (ج1، ص 223-225).

ومما يترتب على هذا الفهم في ميدان التَّعْلِيْم جملة من التَّطبيقات وطالما أنَّ تَعَلُّم وتَعليم الموسيقى من الأمور الُمحرَّمة عند من يرى التَّحريم وبما أنّها مسألة معلومة ومحسومة عند هؤلاء فمؤسسات التَّعْلِيْم عليها التّخلّص أو على الأقل تقليص كل ما يرتبط بالموسيقى. ومِن هذا المُنطلق فإنَّ إغلاق الأقسام العِلمية القائمة على تعليم هذا الفن وما يرتبط به من فلكلور شعبي وتراث قديم أمر لا جدال فيه ولا يحتاج إلى القيل والقال وكثرة السُّؤال. وعليه يجب منع الأطفال من التِّلفاز، والألعاب الإلكترونيَّة، والأماكن التَّرفيهيَّة لأنَّ معظم برامجها تتضمَّن الموسيقى ولكونها تجرُّ إلى سماع الحرام والذِّهاب إلى هذه الأماكن ليس من الضَّرورات.

مِنْ النَّاحية التَّربوية والنَّفسيَّة إضافة إلى النَّاحية الشَّرعيَّة - ففي منظور هذه الطَّائفة - يجب التَّشدُّد في عملية مَنع الطِّفل من كل الأجهزة التي تُزيِّن له سماع المعازف وإلا سيشعر الطِّفل منذ صغره بتناقض الأسرة عندما تُخبره بأمرٍ مُحرَّم قطعاً ثم يُسمح له بمشاهدته ليلاً ونهاراً والأسوأ أن تشترى له الأسرة الأفلام الكرتونية وبرامج الأطفال المليئة بالموسيقى أو أن تذهب معه إلى صالات الألعاب المشحونة بالأغاني بل إنَّ المُشجِّعين في المباريات الرِّياضية يصطحبون معهم الطُُّبول وهي مُحرَّمة وتنزيه الأسماع من الحرام أولى من مُشاهدة أمرٍ مُباح. والأسوأ من هذا أن يَسمح الآباء لأنفسهم بمشاهدة التِّلفاز والبرامج التي تحتوي على الموسيقى ويحملون معهم الهواتف النَّقالة ذات الألحان والأجراس ثمَّ يقولون للطِّفل بأنَّه حرام فالطِّفل يومياً يرى أهله يرتعون بالمعاصي فيعيش في ازدواجية. وبما أنَّ الإسلام لا يتفق مع القاعدة الميكافيلية التي تقول بأنَّ الغاية تُبرِّر الوسيلة فلا يمكن استخدام الموسيقى في التّعليم والبدائل المُباحة كثيرة ومساحة الحلال أوسع من منطقة الحرام. من المعلوم أنَّ الطِّفل ليس في سن التَّكليف ولكن من شبَّ على شيء شاب عليه وهو الذي يجعل أمر إبعاد الطِّفل عن الملاهي المحرَّمة من أهم أولويات تنشئة المُسلم من منظور من يرى حُرمة المُوسيقى.

في رسالة أعدَّها باحارث (1996 م) كمتطلب تكميلي لنيل درجة الماجستير في التَّربية الإسلامية ينقل الباحث رأي المُفكرين الذين يرون رأيه فقط ويستنج أنَّه لا يسع الأب المسلم سوى الإذعان لحكم الإسلام في هذه الملاهي ويُرشد الآباء فيقول "ولا بأس في بعض الأحيان إذا سمع الأب صوت غناء وآلاتها: أنْ يضع إصبعيه في أذنيه إقتداءً بالرَّسول صلى الله عليه وسلم[104] عندما سمع مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطَّريق فهذا السُّلوك يؤكد للولد قُبح هذه الأصوات وشناعتها وضررها على السَّامعين كما أنَّ الأب يكون بذلك قدوة حَسنة لولده في هذا الجانب" (ص 517). في دراسة أكاديمية أخرى تسير على نفس الخط يُؤكِّد صالح بن أحمد الغزالي على "تحريم آلات العزف وشرائها وصناعتها وإعارتها والإتجار بها على أي وجه من أنواع الإتجار، وتحريم تعلمها وتعليمها وأخذ الأجرة عليها، وتحريم إنشاء المدارس والمراكز لها وتأليف الكتب، فإنَّ ذلك كله وغيره من وسائل استعمالها من مُقتضى تحريمها في الشَّرع" (ص 178).

يُؤكد بعض الباحثين مثل الزير (1989م) على أنَّ مشكلة الغناء والموسيقى واللَّهو البريء من القضايا التي تُواجه المسلم المعاصر والحق أنَّ الغناء من الفنون الجميلة ويمكن تعلّم الفنون الموسيقية إذا كانت مقيَّدة بآداب الشَّرع فلا ضير في هذا الأمر ويعتبرها قضية فرعية اجتهادية خلافية (ص 72-76). ويستمد هذا التَّوجه قوته من اجتهادات مُتواترة قديماً وحديثاً لعلماء لهم وزنهم العلمي وأدلتهم المُعتبرة. يرى محمد شلتوت (1975م)، الذي تولى مشيخة الأزهر من 1958م إلى 1964م،  في فتاويه أنَّ فِطرة الإنسان تميل إلى الملذَّات وأن الإسلام لا يقضي على الغَرائز بل يُنظِّمها وأنَّ الأصل في السَّماع الحِلّ والحُرمة عارضة. في موسوعة الفتاوى الإسلامية الأزهرية نجد جاد الحق (2001م)، الذي تولى مشيخة الأزهر من عام 1982-1996م، يرى أنَّ سماع الموسيقى وحضور مجالسها وتعلّمها أياً كانت آلاتها من المباحات ما لم تكن محرِّكة للغرائز باعثة على الهوى والغِواية أو ألهت عن الواجبات. فمن نوى ترويح نفسه وتنشيطها للطَّاعة فهو مطيع مُحسن، ومن لم ينو لا طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهاً وقعوده على باب داره مُتفرِّجاً.‏ ويؤكد جاد الحق على أنَّ القول بأنَّ تحريم سماع الموسيقى وتعلمها وحضورها بحجة سدِّ الذَّرائع أو من باب درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح ليس مقبولاً لأنَّ الموسيقى وإن كان قد يصاحبها الخمر والرَّقص وغير هذا من المنكرات إلا أنَّ هذا ليس الشَّأن فيها دائماً.‏

وذكر الزُّحيلي (2000 م) أنَّ طائفة من الفقهاء ترى جواز الموسيقى للعلاج من الأمراض النَّفْسِيَّة (ص 281) وتوسَّع أحمد مصطفى على القضاة (1988 م) في عرض وجهة الشَّريعة الإسلامية في هذا الأمر (ص 244).  يرى السِّباعي (1980م) أنَّ الحضارة الإسلامية تَفردت بالاعتناء بالموسيقى وأنَّ من أروع ما في بيمارستانات المسلمين أنَّ المؤرقين فيه من المرضى كانوا يُعزلون في قاعة منفردة يُشنفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى الشجيّة مما يدل على أنَّنا أسبق الأمم إلى معرفة ما للموسيقى من أثر بالغ في شفاء المرضى وكانت بعض الأبنية الملحقة بالمكتبات تحتوي على غُرف خاصة يلجأ إليها المطالعون للتَّرفيه وتجديد النَّشاط (ص  217، 206، 222). وأنَّ الرَّازي قد أبدع في العلاج بالموسيقى.. وظل هذا النِّظام العلاجي متبعاً في البيمارستانات الإسلامية (الفنجري، 2001 م).

يرى بعض الباحثين المسلمين أنَّ مُنجزات الحضارة الإسلامية في الميدان النَّظري والعملي كانت كبيرة في تطوير علم الموسيقى وآلاته وهو علم أدرجه المسلمون الأوائل تحت علم الحساب ويرون أنَّ اسهامات صفي الدِّين (ت 694 هـ = 1294م) والموصلي وزرياب كانت هامَّة ولقد استفاد الغرب منها إلى حد بعيد وذلك إبَّان الاحتكاك الحضاري بين الحضارتين في أسبانيا التي حكمها المسلمون لمدة 800 سنة (Sardar And Malik, 1997, P. 121). ومما يشهد لأثر الحضارة الإسلامية في الموسيقى الغربية ذلك العدد الوافر من الأسماء الموسيقية التي نقلها الأوربيون من اللُّغَة الْعَرَبِيَّة مثل مثل كلمة قانون. كانت للموسيقى مكانتها في الفكر الإسلامي، في كل العصور، يتعهدها الفلاسفة والعلماء والفضلاء ممن ساهموا في جعل الثَّقافة الموسيقية ينابيع ثروة عالمية وثقافة عالية ( مَرحبا، 1988م، ص 481، 474).

ونقرأ في تاريخ الأدب والفنون عن عَليَّة بنت المهدي أخت هارون الرَّشيد، الخليفة المشهور، فلقد كانت "أديبة، شاعرة، عارفة بالغناء والموسيقى، رخيمة الصَّوت، ذات عفة، وتقوى ومناقب" (الذَّهبي، 1994م، ج 10، ص 187). ونقرأ عن يوسف بن يعقوب (ت 185هـ = 801 م) أنَّه يَروي الأحاديث النَّبوية وهو ثقة عند علماء الحديث النَّبوي يأتيه العلماء أمثال يحي بن معين فيُحدِّثهم ويعلمهم وجواريه في بيت آخر يضربن بالمعزفة. وكان كثير من علماء المدينة المنوَّرة يترخَّصون في الغناء (الذَّهبي، ج8، ص 372). وعُرِف إسحاق بن إبراهيم الموصلي (ت 235 هـ = 849 م) بالعفاف والصِّدق والدِّيانة والأمانة وكان "رأساً في صناعة الطَّرب والموسيقا أديباً عالماً، إخبارياً، شاعراً مُحْسِناً، كثير الفضائل" (ابن العماد، ج3، ص 161). كان الخلاطي (ت 706 هـ = 1306 م) خطيب دمشق عارفاً بصناعة الموسيقى مع ديانة وعبادة. وكان إبراهيم بن ماهان (ت 188 هـ = 803 م) أحد الشُّعراء والنُّدماء للرَّشيد فاضلاً بارعاً في صِناعة الغناء وكان متزوجاً بأخت المنصور الملقب بزلزل الذي كان يضرب معه فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية. وكان ابن الهُمام (ت 861 هـ = 1456م) عالماً في الفقه والموسيقى ولأنَّ الإمام ابن حزم الظّاهري كان يرى جواز سماع الآلات فإنَّ العالِم الذي يسمع الغناء قد يقال له ظاهري (ابن العماد، ج9، ص 438، ج10، ص 340).

مُراجعة فتاوى علماء المملكة العربية السُّعودية الصَّادرة من الرِّئاسة العامة لإدارات البحوث العِلْمِيَّة والإفتاء والدَّعوة والإرشاد تقود كلها إلى التَّحذير الشَّديد من الاستماع إلى الموسيقى بكل صورها باستثناء الدُّف وما ورد النَّص الشَّرعي بجوازه ولكن وزارة الأوقاف الكويتية وفي أكثر من فتوى شرعيَّة تُؤكِّد على أنَّه ليس في الشَّرع ما يدل على تَحريم أو تحليل سماع المعازف ورغم أنَّه من الموضوعات التي تندرج تحت موطن الشُّبهات إلا أنَّ الحاجة التَّعْلِيْمِيَّة والوطنيَّة إذا تطلَّبت الموسيقى الهادفة فلا بأس بها. وعليه فالأعمال المُرتبطة بتدريس هذه المادَّة في المدارس وعزف الموسيقى في الجيش وغير ذلك من المهن تدخل ضمن المهن المباحة شرعاً استناداً إلى الفتاوى الصَّادرة من وزارة الأوقاف الكويتية. ومما جاء في تلك الفتاوى أنَّه يَحرم الغناء إذا كانت مادته محرَّمة أو أداؤه مثيراً، وإذا ألهى عن الواجب وأنَّ موسيقى الجيش لا بأس بها لأنَّها تثير الحماس في نفوس الجنود كما أن عمل المدرِّس والمُدرِّسة في تعليم مادَّة الموسيقى في المدارس لا بأس به، لأنَّه لا يُعتبر من اللَّهو، بل هو من قبيل الإيقاع للانضباط والتَّرويح عن الأطفال. وعن صوت المرأة في الغناء قالت اللَّجنة إذا كان الغناء بصوت امرأة وكان الرَّجل السَّامع له أجنبياً عنها ويحرِّك شهوته، أو خاف على نفسه فتنة حَرُم عليه استماعه وإلا فلا يَحرم. وخُلاصة رأي اللّجنة أنَّ المؤثرات الصَّوتية الموسيقية "مختلف فيها بين التَّحريم والإباحة، ولم يرد فيها نص قاطع، فهي من الأمور المشتبهة التي تُترك ورعاً، ولا ينكر على فاعلها، وإنَّما يُرشد إرشاداً، وهذا إن لم يصاحبها مفاسد بيِّنة التَّحريم كالرَّقص الماجن والإثارة والتَّعطيل عن الواجبات".

يعتقد بعض الكُتاب أن تحريم الألحان الموسيقية فيه تضييق لمنافذ التَّربية الإسلامية الرَّشيدة وأنَّ بعض التقاليد لها دورها الذي لا يُنكر في تطويق مَساحة التَّرويح (هويدي، 1988 م، ص 154- 155). ولأن الفرق بين التوضيح والتجريح مسافة فاصلة فنحن لا نتفق مع مَن يصف الطرف الثاني بأنه صاحب فكر صحراوي أو فقه بدوي ونتعجب ممن يؤمن بحرية الرأي ثمَّ لا يتَّسع صدره لرأي من يرى تحريم الموسيقى مع أنه رأي قوي قال به جمهور العلماء.

في كتاب الموسيقى الكبير حصر الفارابي غاية الفلسفة الموسيقية في أنواع ثلاثة وهي:

الألحان التي تُكسب النَّفس اللَّذة

الألحان التي تُفيد النَّفس تخيلات وتأملات

الألحان التي تُحدث في النَّفس الإنفعالات النَّفسية من هدوء أو إثارة ( مَرحبا، 1988م، ص 464).

سار ابن سينا على خُطى الفارابي في هذا الباب فاهتم بالموسيقى – علماً وعملاً - واعتبرها ضرورية لتربية الطِّفل وهي من أهم مواد الدِّراسة حتى في مرحلة ما قبل سن السَّادسة (النَّقيب، 1994م، ص 39، 42).

فنَّد الإمام الغزالي في كتابه الإحياء أدلة المحرَّمين للغناء وبشكل عام توجَّه إِلى إباحة الغناء شرعاً وأنَّ الأصل إباحة آلات الطَّرب لترويح القلوب ولكن الَّذي يهمنا في بحثنا هو الجانب التَّربوي الذي عليه مدار المناقشة. يرى الغزالي أنَّ للغناء دوراً هاماً في التَّربية وخاصة في التَّربية الدِّينيَّة والوطنيَّة. صنَّف الغناء إِلى سبعة أقسام أو وظائف تعكس فلسفته في التَّهذيب الموسيقي إِلى حد كبير و يمكن إيجازها على النَّحو التَّالي:

"إلهاب الشَّوق إِلى زيارة الأماكن المقدَّسة، وتشجيع المسلمين في الأقطار البعيدة كي يشدوا الرِّحال إِلى الحرمين الشَّريفين.

إثارة الحميَّة للقتال والدِّفاع عن العقائد والأوطان، وأغلب الشُّعوب تضع لبنيها نشيداً قومياً يتغنون به جماعات.

وصف المعارك والمبارزات وثبات الرِّجال في السَّاعات الحرجة.

إثارة الأحزان النَّبيلة التي تُعيد للنَّفس الفهم الصَّحيح لطبيعة الحياة الدُّنيا. والعمل للآخرة.

وصف ساعات الرِّضا والسُّرور، احتفاءً بها واستبقاءً لآثارِها.

الغزل الشَّريف، وشرح عواطف المُحِبين وارتقاب جمع الشَّمل.

وصف الأمجاد الإلهية، وما يليق بذي الجلال والإكرام من تمجيد وإعظام" (أبو العباس 1989 ص 10).

وعن أثر السَّماع في النَّفس يَنقل الغزالي هذه العبارة "من لم يحرِّكه الرَّبيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج" ويَشرح ذلك قائلاً: إنَّ "تأثير السَّماع في القلب محسوس ومن لم يحرِّكه السَّماع فهو ناقص مائل من الاعتدال بعيد عن الرّوحانية زائد في غلظ الطَّبع وكثافته على الجمال والطُُّيور بل على جميع البهائم فإنَّ جميعها تتأثر بالنَّغمات الموزونة" (الإحياء ج2 ص 273). وقال غيره إنَّ الذي ينكر السَّماع جامد الطَّبع لا ذوق له لأنَّ "الرُّوح يستلذ الألحان المُجددة عن المعاني كما يستلذُ روح الطِّفل الحِداء، وكذلك البهائم" (انظر الذَّهبي في الرُّخصة في الغناء والطَّرب، ص 78). واليوم يؤكِّد بعض المتخصصِّين في أصول التَّربية الإسلاميَّة على أنَّ الموسيقى لغة عالميَّة فالإنسان يتذوق النَّغم الحلو أينما كان (سعيد اسماعيل علي، انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، ج2، ص 542، التَّربية الموسيقيَّة).

الغناء وسماع الألحان بشكل عام له وظيفة التَّرفيه في رأي الغزالي ولا يجوز الإسراف في السَّماع لأنَّ التَّرفيه وسيلة وليس غاية. قاعدته في ذلك أنَّ اللَّهو "دواء القلب من داء الإعياء والملال فينبغي أن يكون مباحاً ولكن ينبغي أن لا يستكثر منه كما لا يُستكثر من الدَّواء … ومن أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التَّلطف بها لساقتها إِلى الحق عَلِم قطعاً أنَّ ترويحها بهذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه" (الإحياء ج2 ص 283). رغم هذا الموقف المُجيز لكثير من الآلات الموسيقيَّة فإنَّ الغزالي لم يحرص على وضع هذا اللَّون من التَّربية في المنهج الذي رسمه لتربية الطِّفل تربية إسلامية سليمة.

تحدث الفيلسوف الطبيب ابن الأكفاني (ت 749 هـ = 1348 م) في كتابه إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد في أنواع العلوم عن منافع علم الموسيقى فهي تؤثر في بسط الأرواح وتعديلها وتقويتها في الأفراح والحروب وعلاج المرضى (ص 220).

يجد النَّاظر في تراث ابن خلدون أنَّه عقد فصلاً عن صِناعة الغناء التي تظهر وتزدهر في مواطن العمران أمَّا في البدو فإنَّ هذه الصِّناعة لا تزدهر والسَّبب في ذلك أنَّ حياة البدو تقوم على توفير الضَّرورات المعيشيَّة في حين أنَّ الغناء كصنعة تعتبر كماليَّة ترتبط بحياة التَّرف. ذكر ابن خلدون الفقيه والقاضي المالكي في مقدِّمته الكثير من آرائه المتميِّزة في موضوعات فِكرية مُتنوعة ولكنَّه على غير عادته لم يُفَصِّل القول في الحُكم الشَّرعي في الغناء وأثره في تربية النَّفس ولكنَّه في كل الأحوال من الواضح أنَّه لم ير أهمية الموسيقى على الأقل في المنهاج التَّربوي للمتعلِّم فلم يذكر فوائدها مع أنَّه في نفس اللَّحظة لم يُحذِّر من غوائلها.

يقول د. أحمد خواجة "والجدير ذِكْره أنَّ ابن خلدون لم يَذكر رأيه في تحريم الغناء وتحليله، ولم يذكر أنَّ أحداً من الفقهاء والأئمة حَرَّمه. وقصر حديثه في فصل صِناعة الغناء عنده على حظر تلحين القرآن...ويعتبر أنَّ الغناء يحدث في العمران فقط، لأنَّه كَمالي، ولأنَّ هذه الصِّناعة لا يَستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضَّرورية والمُهمة من المعاش والمنزل وغيره. ويرى أنَّها كانت شائعة في سلطان العجم. ولم يعرفها العرب إلا بعد أن فارقوا بداوتهم وجاهليتهم، وبعد أن جاءهم التّرف وغلب عليهم الرِّفه، وبعد أنْ افترق المغنون من الفرس والرُّوم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، والغريب أنَّ ابن خلدون يعتبر أنَّ صِناعة الغناء آخر ما يحصل في العمران من الصَّنائع لأنَّها كمالية وهي أيضاً أول ما ينقطع إلى العمران عند اختلاله وتَراجعه. المهم أنَّ ابن خلدون لم يتعرض لتحليل الغناء أو تحريمه بخيرٍ أو شرٍ" (ص 112).

قامت بعض المؤسَّسات الإسلاميّة الرِّبحيَّة التِّجارية، والوقفيِّة الخيريَّة بتجاوز مَرحلة النِّقاش فبدأت بإنتاج البرامج التَّعْلِيْمِيَّة الإسلامية النَّافعة ونَبَّهت بعضها في مقدِّمة أعمالها على أنَّه نظراً لسعة الفِقه الإسلامي فإنَّ أعمالهم تتضمن الموسيقى مع توفر النُّسخ التي لا تحتوي على الموسيقى لمن يحب أن يتجنب السَّماع ونزلت مُنتجاتها إلى الأسواق. والجدير بالذِّكر، أنَّ هذه المُؤَسَّسَات الإعلامية التَّعْلِيْمِيَّة فيها لجان رقابية شَرعيَّة من أهل الذِّكر، أَفتت بجواز استخدام جميع الأدوات الموسيقيّة للأغراض التَّعْلِيْمِيَّة.

تُوصي اللَّجنة التَّربوية (1999م) المُنبثقة من اللجنة الإستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشَّريعة الإسلامية في الكويت وبحذر شديد بعدم إلزام الطُّلاب غير الرَّاغبين بحضور حصص الموسيقى في المدارس "مع إلزامهم بحضور الأنشطة الأخرى المُقامة في نفس الوقت" (ص 128) وبهذا نجد أنَّ طائفة من المُربين ترى أنَّه يجب أن تكون مادة التَّربية الموسيقية مادة اختيارية رفعاً للحرج.

والذي نراه هو ضرورة احترام جميع الأطراف وتوفير البدائل قدر المُستطاع وأنَّ التَّشدد في تبني رأي واحد مع إلغاء الآراء الأخرى كما هو حاصل ليس من مَصلحة المجتمع الذي فيه التَّوجهات المُتنوعة مع أسانيد عِلمية تَدعمها. من الواضح من خلال الدِّراسات السَّابقة أنَّ طائفة من الباحثين في الجامعات يُطالبون بمنع إنشاء المدارس والأقسام التي لها صِلة بالموسيقى، وتُحَرِّم تعلم وتعليم الألحان وهذا الرَّأي يريد تقييد المجتمع كله برأي فقهي اجتهادي مُعين ويريد صِياغة الفِكر الإسلامي والتَّربية الإسلامية بطابع واحد. بعض التَّوجهات التَّربوية اليوم تميل نحو تأطير مفهوم التَّنوع وتسعى نحو توفير المزيد من نوافذ الحرِّيات إزاء القضايا الجدلية التَّرجيحية وتدعو إلى نبذ الهيمنة الفِكرية في هذه المواطن وغيرها مهما كانت المقاصد نبيلة. في ظل هذا الإطار فإنَّ رِسالة التَّربية ينبغي – فيما نعتقد- أن تتَّجِه إلى خَلق جيل إيجابي يفهم الخلافات بين الباحثين ويحترم وجهات النَّظر ولا يُصادرها. إنَّ توجيه الفنون لا منعها من التَّوجهات المعاصرة الهامَّة حتى للأقليات فلهم حق الإختيار والابتكار فلا وصاية على تصرفات النَّاس طالما أنَّهم يستندون إلى مُبررات شرعية وعقلية وجيهة لا تضر وحدة المجتمع. توجيه الفن بمعنى غرس قيم الخير، والعدل، والجمال، والإحسان، فيه إثراء لرسالتنا التَّربوية التي تتناغم مع الألحان الوطنية، والأغاني الشَّعبية، والأناشيد التَّعليميَّة.

هذا لا يمنع من السَّعي الدَّائم لإيجاد البدائل التَّرويحية والأساليب التَّرفيهية التي لا تحوم حولها الشُّبهات. من أهم التَّحديات التي تواجه التَّربية العربية والإسلامية اليوم قضية بلورة البرامج الهادفة البعيدة عن تقليد الغرب في مفاسدهم وتساهلهم كما هي بعيدة عن تشدد الشَّرق في بعض طبائعهم وعاداتهم. ما زال الطَّريق يحتاج إلى المزيد من اجتهادات أهل الإختصاص في المجتمعات العربية والإسلامية لرسم المسارات وتحليل الممارسات للنُّهوض بفلسفة التَّربية الموسيقية كرسالة ذات مقاصد عظيمة مع التَّحذير من الموسيقى كوسيلة من وسائل تخدير الشُّعوب، وتدمير القيم، والعبث بمعاني العقيدة باسم الفن. توعية الشَّباب - على وجه الخصوص – من ألزم الواجبات التي تواجه مدارسنا من أجل ترشيد ساعات التَّرفيه مع تشجيعهم على الاعتدال في موازنة الأمور وتنمية قيم الجمال في ظل دائرة الحلال.

 

إِشْكَالِيَّة قبول العلوم الجديدة

لا يمكن حصر المؤشّرات الدَّالة على اعتناء رواد الفكر الإسلامي بالعلوم الدِّينية ولكنَّ الصِّراع الذي وقع من قرون ويقع من حين إلى حين بسبب قبول أو رفض العلوم الدُّنيوية الجديدة من التَّحولات الحَرجة في حركة التَّاريخ الإسلامي. تُراثنا التَّربوي تميَّز بقدر كبير من محاولات كسر الجمود ومحاولات الدَّعوة للاستنارة العقلية والتَّرحيب بالعلوم النَّافعة ولكنَّ ظاهرة التَّفريط بالعلوم الدُّنيوية يمكن رصدها منذ عصر مُبكِّر في تاريخنا. التَّفريط بدراسة بعض العلوم التَّطبيقية قد يكون برفضه على المستوى الفِكري أو تهميشه وإهماله على مستوى التَّطبيق العملي والنَّتيجة في النِّهاية هي حرمان المجتمع من التَّقدم والإبداع الحضاري وخلق المزيد من الازدواجية الجدليَّة، والتَّناقضات الفِكرية، والصِّراعات المذهبية.

النِّضال في طلب علم الطَّب وتوفير الأطباء كفرض كفاية لم يكن دائماً من أولويات طُلاب العلم في المدن الإسلامية. في القرن الهجري الثَّاني قال الشَّافِعِيّ "لا أعلم عِلماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطِّب، إلا أنَّ أهل الكتاب غلبونا عليه". كان الشَّافِعِيّ ذا علم كبير بعلم الطِّب وكان يتحسر على تفريط المسلمين به وكان يود أن يقرأ كُتب أبقراط في الطِّب إلا أنَّ انشغالاته في الفِقه بحثاً وتعليماً لم تدعه يتبحَّر أكثر في علم الطِّب. وهذه مُلاحظة دقيقة انتبه لها الغزالي أيضاً وطرحها على بساط المناقشة. هل أثارت ملاحظات الشَّافعي والغزالي ردود فعل ايجابية فيما بعد؟ هل حظيت الدِّراسات الطِّبية بمزيد من العناية؟ من يقرأ تراجم طبقات الأطباء يجد أنَّ اليَّهود والنَّصارى لعبوا دوراً كبيراً في الدِّيار الإسلامية عبر القرون ونبغوا في الطِّب والخلل ما زال في فِكر الأمة بمعنى عدم حث المتَّعلمين على غير العلوم التَّقليديّة وهي من الثُّغور التي تحتاج إلى متخصِّصين مسلمين. ولقد ظنَّ بعضهم أنَّ علم الطِّب مذموم كله فقيل عنهم في مقام المدح أنَّ فلاناً "لم ينظر في تقويم ولا طب، بل إذا وُصف له دواء خالفهم متابعاً للسُّنَّة" (الذَّهبي، ج 23، ص 364). فهل الدِّين يُعارض علم الطِّب؟ إنَّ الوعي السَّائد بين النَّاس وأنماط تصرَّفاتهم النّابعة من ثقافاتهم الشَّعبيّة لعبت دوراً كبيراً في ترك عناء البحث عن أسباب الأمراض وسُبل العلاج والوقاية وارتضت التَّفسير الخرافي في العلاج فراجت بضاعة المُشعوذين. وهكذا فإنَّ المُؤثرات الشَّعبيَّة وتكالب طلاب العلم على بعض العلوم وإهمال بعضها أَخَلَّ بميزان سد احتياجات المجتمع مما أضعف درجات النُّضج والتَّنوع.

ساعدت الأوضاع السَّائدة في المجتمعات الإسلامية على سيطرة التّوجُّه إلى الدِّراسات الشَّرعية فقط. يُروى أنَّ النَّووي كان قد طلب علم الطِّب في أول أمره وعندما تركَّ هذا العلم وتخلّص من كتب الطِّب انشرح صدره فأقبل على طلب علوم الشَّريعة. ولقد تنازع العلماء في المقصود بطالب العلم الذي وردت الآيات والأحاديث في ثوابه والصَّحيح أنَّ المقصود بالعلم في الإسلام على المعنى العام فإنَّ الإسلام لا يُشجع المتعلم على طلب العلوم الشَّرعية فقط -رغم أهميتها- ولكنه يُشجِّع على تعلم كل علم محمود ينفع النَّاس وعلى رأسها العلوم الدِّينية. ورد في الموسوعة الفقهية الصَّادرة في الكويت (1988م) ..والتَّحقيق حمل العلم في الأحاديث السَّابقة (طلب العلم فريضة..) "على المعنى العام، فيشمل علوم الشَّرع: علم الكلام والفقه، والتَّفسير، والحديث، وعلوم الدُّنيا. ومنها الزِّراعة، والصِّناعة، والسِّياسة، والحِرف، والطِّب، والتكنولوجيا، والحساب، والهندسة وغير ذلك من أنواع العلوم، وما يرتبط به من مصالح أمور الدُّنيا" (ج13، ص8). لا ريب أنَّ العُلوم الدِّينية من أشرف العلوم لأنَّها تقود إلى النَّجاح الدُّنيوي والفلاح الأُخروي وفي صحيح البخاري باب العلم نقرأ عن حُمَيْد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يقول "سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ".

كَشف الغزالي في مقدِّمة الإحياء وفي معرض حديثه عن بيان العلم الذي هو فرض كفاية النِّقاب عن سبب إغفال طلاب العِلم التَّخصص في علم الطِّب. يرى الغزالي أنَّ البلدان الإسلامية في عهده مَشحونة بطلاب الفقه في حين أنَّ الأطباء من أهل الذِّمَّة! حَمَّل الغزالي الفقهاء مَسئولية هذا الخلل وذكر أنَّ الطلاب كانوا يشتغلون بالفقه وهو فرض كِفاية قد قام به جماعة وتركوا الطِّب الذي لم يقم به أحد. السَّبب في ذلك كما يقول أنَّ المشتغل في الطِّب لن يحصل على عمل يصل به إلى تولي الأوقاف وحيازة مال الأيتام وتقلَّد القضاء والحكومة والظهور أمام المجتمع في ذلك العصر (ج1، ص 32).

عندما تمّ تعريب العلوم الإغريقيَّة حدثت ربكة فكرية بين أعلام التَّربية الإسلامية فبعضهم ذهب إلى تبني معظم أطروحاتهم وهم الفلاسفة مثل الفارابي ابن سينا وبعضهم توجَّه نحو نقد السَّقيم مع تبني السَّليم مثل الغزالي وبعضهم رأى فِتنة النَّاس بمثل هذه العلوم فهوَّن من شأنها مثل ابن تيمية فردَّ معظم معارفهم. ولقد بلغ الأمر إلى أن "كان الاشتغال بالفلسفة أو الانتساب إليها يُعتبر كُفراً وإلحاداً حتى أنَّ بعضهم كان ينقم على الخليفة (المأمون) لأنَّه نقل الفلسفة إلى اللَّغة العربية" (باقارش والآنسي، 1986 م، ص 167).

واجه علماء الفِكر الإسلامي سؤالاً هاماً وهو: هل يجوز تعلّم علم المنطق والكيمياء والفلسفة وطباعة الكتب بالأجهزة التّكنولوجيّة الحديثة أم أنَّها من معارف الكفار وضررها أكثر من نفعها؟ التَّساؤل الأساسي هنا هو إلى أي مدى يمكن أنَّ يؤدي هذا الخلل النَّاتج من التَّناقضات أو الاجتهادات إلى إعاقة جهود التَّنمية العِلمية وهدر فرص استثمار العلوم في الوقت المناسب؟ وفيما يلي محاولة لعرض بعض الإشكالات في رؤية العلوم والمعارف التي كانت لها انعكاسات مباشرة على تصميم واختيار عناصر مناهج التَّعليم على مدى فترات مُتعاقبة.

قال ابن تيمية في فتاويه إنَّ علم المنطق كَصِنَاعَة "قَلِيلَةُ الْمَنْفَعَةِ عَظِيمَةُ الْحَشْوِ. وَذَلِكَ أَنَّ الأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الْخِلْقِيَّةَ قَلَّ أَنْ يُنْتَفَعَ فِيهَا بِصِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ" (مجموع الفتاوى، ج 9، ص 26). الغزالي غالى في علم المنطق حتى اعتبر العالِم الذي لا يدرس هذا الفن لا يُوثق بعلمه في حين رأى بعض النَّاس تحريم هذا العلم. ورد في فتاوي السُّبكي "(‏مَسْأَلَةٌ‏)‏ فِي رَجُلٍ أَرَادَ الاشْتِغَالَ بِالْعُلُومِ الإِسْلامِيَّةِ فَهَلْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بِالْمَنْطِقِ نَافِعًا لَهُ وَيُثَابُ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَهَلْ يَكُونُ الْمُنْكِرُ عَلَيْهِ جَاهِلا‏ً؟‏ ‏‏‏(‏أَجَابَ)‏ الشَّيْخُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.‏ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ الاشْتِغَالَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ حَتَّى يَتَرَوَّى مِنْهَا وَيَرْسُخَ فِي ذِهْنِهِ الاعْتِقَادَاتُ الصَّحِيحَةُ وَتَعْظِيمُ الشَّرِيعَةِ وَعُلَمَائِهَا وَتَنْقِيصُ الْفَلْسَفَةِ وَعُلَمَائِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الاعْتِقَادَاتِ الإِسْلامِيَّةِ فَإِذَا رَسَخَ قَدَمُهُ فِي ذَلِكَ وَعَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ صِحَّةَ الذِّهْنِ بِحَيْثُ لا تَتَرَوَّجُ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ عَلَى الدَّلِيلِ وَوَجَدَ شَيْخًا دَيِّنًا نَاصِحًا حَسَنَ الْعَقِيدَةِ أَوْ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لا يَرْكَنُ إلَى قَوْلِهِ فِي الْعَقَائِدِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الاشْتِغَالُ بِالْمَنْطِقِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَيُعِينُهُ عَلَى الْعُلُومِ الإِسْلامِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا فِي كُلِّ بِحَثٍّ وَلَيْسَ فِي الْمَنْطِقِ بِمُجَرَّدِهِ أَصْلا.‏ ‏‏وَمَنْ قَالَ:‏ إنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَهُوَ جَاهِلٌ لا يَعْرِفُ الْكُفْرَ وَلا التَّحْرِيمَ وَلا التَّحْلِيلَ فَإِنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْحِسَابِ غَيْرَ أَنَّ الْحِسَابَ لا يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ، لأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي فَرِيضَةٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ مَسَّاحَةٍ أَوْ مَالٍ وَلا يَزْدَرِي صَاحِبُهُ غَيْرَهُ وَلَيْسَ مُقَدِّمَةً لِعِلْمٍ آخَرَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ.‏ ‏‏وَالْمَنْطِقُ وَإِنْ كَانَ سَالِمًا فِي نَفْسِهِ يَتَعَاظَمُ صَاحِبُهُ وَيَزْدَرِي غَيْرَهُ فِي عَيْنِهِ وَيَبْقَى يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ سُقَاطَةَ نَظَرِ مَنْ لا يُحْسِنُهُ وَيَنْفَتِحُ لَهُ بِهِ النَّظَرُ فِي بَقِيَّةِ عُلُومِ الْحِكْمَةِ مِنْ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْخَطَأُ وَالإِلَهِيِّ الَّذِي أَكْثَرُ كَلامِ الْفَلاسِفَةِ فِيهِ خَطَأٌ مُنَابِذٌ لِلإِسْلامِ وَالشَّرِيعَةِ فَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ تَصُنْهُ سَابِقَةٌ صَحِيحَةٌ خُشِيَ عَلَيْهِ التَّزَنْدُقُ أَوْ التَّغَلْغُلُ بِاعْتِقَادٍ فَلْسَفِيٍّ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَوْ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُ.‏ ‏‏هَذَا فَصْلُ الْقَوْلِ فِيهِ وَهُوَ كَالسَّيْفِ يَأْخُذُهُ شَخْصٌ يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَآخَرُ يَقْطَعُ بِهِ الطَّرِيقَ".‏

وفي كشف الظُّنون لحجاجي خليفة "أنَّ الفارابي سمى علم المنطق: رئيس العلوم، لكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النَّظرية والعملية وسماه ابن سينا بخادم العلوم وكان أهل المناطق بجزيرة الأندلس يُعبِّرون عن المنطق بأسماء وإشارات مُتعددة تحرزاً عن صولة الفقهاء حتى أنَّ بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتاباً من المنطق فاشتراه خفية خوفاً منهم مع أنَّه أصل كل علم وتقويم كل ذهن. قال الغزالي عن المنطق أنَّه مِعيار العلم حتى روى عن بعضهم أنَّه فرض كفاية وعن بعضهم فرض عين قال الشيخ أبو علي بن سينا المنطق نِعم العون على إدراك العلوم كلها وقال غيره: من كان فِكره أكثر فاحتياجه إلى المنطق متفاوتة وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة ما جهل وبعض النَّاس ربما يتوهم أنَّه يُشوش العقائد مع أنَّه موضوع للاعتبار والتَّحرير (باختصار وتصرُّف).

يذكر المُؤرِّخون أنَّه لما ملك أحد الأمراء دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيءٍ من العلوم سوى التَّفسير والحديث والفِقه ومن اشتغل بالمنطق وعلوم اليونان نُفي من البلد وكان البلد به في غاية الأمن والعدل (ابن كثير، البداية والنهاية، ج 13: أحدث سنة 635 هـ). وما زال علم المنطق من العلوم المُختلف في جواز تعلّمها بين المسلمين (الجزائري، 1403 هـ، ص 103).

وإذا تركنا علم المنطق إلى علم الكيمياء وجدنا الخلاف في قبوله أيضاً قد قسَّم رأي العلماء إلى طرفي نقيض. لقد ساهم العلماء في الحضارة الإسلامية مُساهمة كبيرة في النُّهوض بعلم الكيمياء والنَّظر فيه وفق التَّجارب والممارسات العِلْمِيَّة، ويُعتبر جابر بن حيان من أبرز علماء المسلمين في هذا الميدان. علم الكيمياء في مصطلحهم هو علم يُعرف به طرق سلب الخواص من الجواهر المعدنية وجلب خاصة خاصية جديدة إليها (حاجي خليفة في كشف الظنون). ولقد رصد المسلمون في أبحاثهم وصف أصناف "مُتعدِّدة من الأدوات المعملية التي ابتكروها، كما وصفوا عشرات من العمليات الكيميائية مثل: التَّحليل والتَّركيب والتَّنقية والتَّقطير وقاموا بتحضير الأحماض المعدنية...وقد تقدم علم الكيمياء بعد ذلك تقدُّماً كبيراً، وأسهمت الكيمياء في كثير من المجالات، فازدهرت صناعة الأدوية والأصباغ، وصناعة الحمضيات الزِّراعية، ومبيدات الحشرات، وابتكرت الألياف الصِّناعية، وغيرها من المركبات التي ساعدت البشرية، وأدَّت إلى الوصول إلى المستوى الحضاري الذي نعرفه اليوم" (إسلام، 2001م).

"وقد أطال ابن خلدون في بيان علم الكيمياء ثم عقد فصلاً في إنكار ثمرتها واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها". "إنَّ النَّاس فيه على طرفين فقال كثير منهم بامتناعه منهم الشَّيخ الرَّئيس بن سينا أبطله بمقدمات من كتاب الشِّفاء والشَّيخ تقي الدِّين أحمد بن تيمية صنف رسالة في إنكاره وصنّف يعقوب الكندي أيضاً رسالة في إبطاله جعلها مقالتين وكذلك غيرهم لكنهم لم يوردوا شيئاً يُفيد الظَّن لامتناعه فضلاً عن اليقين وذهب آخرون إلى إمكانه منهم الإمام فخر الدِّين الرَّازي فإنَّه في المباحث المشرقية عقد فصلاً في بيان إمكانه" (انظر القنوجي).

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوي "وَلَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْكِيمْيَاءِ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَلا مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَلا مِنْ مَشَايِخِ الْمُسْلِمِينَ وَلا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ  بِإِحْسَانِ. وَأَقْدَمُ مَنْ رَأَيْنَا وَيَحْكِي عَنْهُ شَيْئًا فِي الْكِيمْيَاءِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَلا يَرْجِعُونَ إلَى رَأْيِهِ فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْهُ فَقَدْ دَلَّسَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّسَ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا جَابِرُ بْنُ حَيَّانَ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْكِيمَاوِيَّةِ فَمَجْهُولٌ لا يُعْرَفُ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ". وقال "وَبِالْجُمْلَةِ: فَإِذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ اعْتَقَدُوا أَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ حَقٌّ وَحَلالٌ: فَهَذَا لا يُفِيدُ شَيْئًا، فَإِنَّ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ خَالَفَهُمْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ وَأَجَلُّ عِنْدَ الأُمَّةِ لا يَحْتَجُّ بِهِ إلا أَحْمَقُ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً فَتَقْلِيدُ الأَكْبَرِ الأَعْلَمِ الأعبد أَوْلَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمْ يَنْفَعْهُ ذِكْرُهُ لِهَؤُلاءِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلا يُفِيدُ هَذَا شَيْئًا. وَيَكْفِيهِ أَنَّ خِيَارَ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ الْقُرُونِ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ حَلالاً لَدَخَلُوا فِيهَا كَمَا دَخَلُوا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ"(مجموع الفتاوى، ج 29، ص 369). لأنَّ هذا العِلم ارتبط بصناعة الذَّهب والتَّحايل في صنع المعادن النَّفيسة وتسويقها بالغش فإنَّ الكثير من العلماء لم يحثُُّوا عليه بل حرَّموا تعلُُّمه.

هناك علاقة ظاهرة بين التّكنولوجيا والإيديولوجيا بل إنَّ الحروب الفِكْرِيَّة والصِّراعات الحضاريَّة تقع اليوم في ساحة التّكنولوجيا. الإِشْكَالِيَّة التِكْنُولُوجِيَّة وإِشْكَالِيَّة الاكتشافات العِلْمِيَّة من ضمن المسائل التي نالت سجالاً واسعاً وانعكس أثره على الحركة التَّعليمية. والسُّؤال المشكل الذي يمسّ مسيرة المستقبل هو كيف تتعامل وتتفاعل الأمّة المسلمة مع المخترعات الحديثة وما مدى الوعي في استغلالها في دائرة التَّعليم والتَّثقيف الجماهيري؟

تم اختراع الطِّباعة عام 861 هـ =  1456م في ألمانيا على يد يوهان جوتنبرغ. ومنذ ذلك القرن بدأت المجامع والجامعات المتخصِّصة في الغرب تتَّخذ من هذه السِّلاح المبتكر وسيلة لتعزيز ونشر الفكر الغربي. من اللافت للنَّظر أنَّ المسلمين في الأزمنة المُتأخِّرة، ولأسباب كثيرة، لم يَستوعبوا أهمية المطابع ولم يَكترثوا بالاكتشافات التي سبقتها في هذا الباب (ستيبتشفيتش، 1993م، ص 248) إلا في وقت متأخر ففي عام 1129 هـ = 1716م أفتى شيخ الإسلام عبدالله أفندي بجواز استخدام الطِّباعة (الموسوعة العربية الميسَّرة، 2001 م، ج3، ص 1562) وتحت ضغوط سياسيَّة وبعد طول انتظار وتحير واضطراب! في حين أنَّ النََّصارى سخَّروا هذا الاختراع في طبع الإنجيل ونشر كتبهم الدِّينيَّة والتُّرَاثية في العالم بسرعة ومُرونة. لم تعرف بعض الأقطار العربية الطِّباعة بِشكل واسع إلا في القرن العشرين. في 50 سنة طبع الغرب أكثر من تسعة ملايين كتاب وذلك في الفترة ما بين 1450 إلى 1500م بينما ظل النِّقاش ولمدة عِدَّة قرون عندنا حول جواز وجدوى هذه الآلات التي هي أسلحة عظيمة لنشر الفِكر والثَّقافة والدِّين وكذا الأمر يتكرر مع كل اكتشاف تكنولوجي مثل التَّلفاز والحاسب الآلي والفضائيات مع أنَّها "كَالسَّيْفِ يَأْخُذُهُ شَخْصٌ يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَآخَرُ يَقْطَعُ بِهِ الطَّرِيقَ".

يقول د. إحسان حقي (1981م) إنَّّ الأسباب التي أدَّت إلى انهيار الخلافة الإسلامية عِدَّة  أمور منها سوء فهم الدِّين. "لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدِّين لجأ إلى السُّلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا الجهال بفائدة المطابع فأمر السُّلطان شيخ الإسلام بأن يُفتي بأنَّ المطبعة نعمة من نعم الله وليست رِجساً من عمل الشَّيطان كما أفتى العلماء من قبل فأفتى شيخ الإسلام بجواز إنشاء مَطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كُتب التَّفسير والحديث والفِقه. ولقد أنشئت أول مطبعة في إستانبول سنة 1712م أي بعد أن كان قد مضى على المطبعة ما يزيد على قرنين ونصف القرن" (ص 733). في عام 1344 هـ = 1925م ظهرت الطَّبعة الرَّسمية الأولى للقرآن الكريم (Weiss, 2000, P. 94). تحريم الطِّباعة من جانب بعض العلماء جعل الكثير من النَّاس في الأقاليم الإسلامية "يكفرون من يطالع الصحف والمجلات بما في ذلك مجلة إسلامية شهيرة كالمنار" (حيدر، 2000 م). هذا الإتجاه استمر إلى بداية القرن العشرين وحَرَم المكتبة الإسلامية من ثمار طباعة البحوث، واثراء الفكر وانشغل العلماء في صراع طويل حول جواز الطباعة فأهملنا دراسة الغرب الذي بدأ في طباعة المصاحف وترجمتها قبلنا كما أهملنا دراسة أنفسنا (حيدر، 2001 م) حتى قام الغرب بدراسات مُستفيضة عن تراثنا ومُقدَّراتنا ومآثرنا فقاموا بنقل مخطوطاتنا إلى متاحفهم إما بقوة السلاح أو المال ثم قاموا بتحقيقها وطبعها.

عاصر المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي ( ت 1236هـ = 1821م) مَن يُجاهد الفرنسيين برسائل يخطّها بيده وفي المقابل أعدَّ نابليون مطبعة تروج لأباطيله فانتشر الفِكر الفاسد عند أبناء المسلمين وكان الفرنسيون كالأرانب بقيادة الأسد في ذلك العصر والأسد هنا هو تكنولوجيا المطابع في حين أنَّ النَّسخ التَّقليدي اليدوي كان سلاح المؤمنين في مصر والقاعدة عند الفرنسيين هي أنَّ "جيشاً من الأرانب يقوده أسد أفضل من جيشٍ من الأسود يقوده أرنب". تلك القاعدة التي وضعها نابليون يستخدمها الغرب اليوم بنفس الدَّهاء إذ ينشرون أفكارهم في الوسائل الإعلامية المتنوعة وعلى رأسها الفضائيات والإنترنت والكتب الإلكترونية عبر الوسائل التِكْنُولُوجِيَّة المتقدِّمة عِلمياً في حين أنَّ سلاحنا في نشر الفِكر الأصيل يقتصر على محاولات مُتواضعة للاعتناء بالكُتب المطبوعة ونشر أشرطة سمعية للمواعظ البَليغة.

 يقول محمد الغزالي (1982م) في كتابه مُشكلات في الحياة الإسلامية لقد فَكَّرتُ يوماً في المطبعة ومخترعها "ووددت لو أنَّ هذا المخترع النّابه رجل مسلم ..هذا الجهاز بدأ ساذجاً في الصِّين، ثم تحسَّن كثيراً في ألمانيا، وبدأ حدّاً من الكمال في هذه الأيام بعيداً عن أرض الإسلام!! تساءلت لماذا؟ إنَّ هذا الاختراع وغيره وُلِد ونما بعيداً عن مُجتمعاتنا، فهل نحن بشر دون البشر؟ " (ص56).

إنَّ الفكر الإسلامي في زمن الاستضعاف من بعد الاستخلاف يمر بنفس المعضلة فمازال البعض يتبنى اجتهاداً مُعيناً في استخدام الصُّور الفوتوغرافية والرَّسم و .... ويُصر على أنَّ اجتهاده يمثل قضيَّة قطعيَّة لا ينبغي الاختلاف فيها.. والعالم المتقدِّم مادِّياً يُصوِّر ما يشاء عبر الأقمار الصِّناعية ويُدمِّر مواقعنا ويرصد ثرواتنا ويغزو الفضاء باستخدام الحاسبات الآلية الإلكترونية ونحن ننظر وننتظر. المسلمون لم يساهموا بشكل مُباشر في بناء مُعظم الإكتشافات الحديثة فهل يستطيعون أن يلعبوا دوراً إيجابياً في الحفاظ على سلامتها، وتقديرها، وتطويرها، وحُسن استخدامها وهم لم يبذلوا شيئاً يُذكر في اختراعها؟ القوم في الغرب يسهرون الليالي ويمضون السِّنين في البحث العلمي فيتقدمون نحو الأمام ونحن إما نيام أو في خصام.

العالم الغربي من حولنا يتسابق مع العلم كفرسي رهان وأنفاس التَّنافس مسموعة في حين أنَّ العالم الإسلامي يعيش خارج السِّباق العالمي المحموم وفي المقابل يغرق في سبات عميق مذموم. تارخنا يقول إنَّ تعليم البنات، وقِراءة الصُّحف والمجلات، وتعلم اللُّغات من أكبر المُحرَّمات عند بعض العلماء في كثير من الأوقات. لقد أخذت هذه المسائل الشَّيء الكثير من الوقت والنِّقاش إلى أن استقر الرَّأي على جوازها عند الأكثرية بعد أن صار الأمر واقعاً لا مفرَّ منه. ثمار العلم كثيرة ونحن  –في تاريخنا الحديث - لا نملك فلسفة رشيدة لاستخدامها بل نستفسر ونستنكر مع كل إنتاج جديد مع أنَّه قد يكون مُجرَّد جهاز يمكن استخدامه في نُصرة الخير فهذا ميدان جهاد ويمكن استخدامه في ساحة الشَّر فهذا ميدان فساد.

ذكر اللويحق (1992) في دراسته أنَّ مجموعة من الدُّعاة إلى الإسلام ترى أنَّ المدارس والجامعات عموماً وفكرة تعليم الكتابة من الأمور المُحَرَّمة بنص الشَّرع وهذا التَّوجه فيه غلو بلا شك (ص 449). يرى هذا التَّيار المتطرِّف أنَّ الاكتشافات العصرية وجميع المبتكرات الغربية تتعارض مع تكاليف الإسلام التَّعبديَّة فهي زخارف ومضيعة للوقت وتعلُُّق بالدُّنيا والأمَّة المسلمة أمة أميَّة ينبغي أن تُحافظ على أمِّيتها وعليها أن لا تتعلَّم الحساب والهندسة!!

يشهد الرَّاصدون الغربيون -كما في كتابٍ صدر من جامعة تكساس- ممن عاشوا في الدِّيار العربيَّة في القرن الماضي بأنَّ التَّعْلِيْم قد حقق إنجازات حقيقية رغم العقبات التي ظهرت ولولا التَّغلب عليها لتعطََّلت المسيرة فعندما دخل جهاز المذياع إلى بعض البلدان العربية وبُنيت مَحطات الإذاعة أنكر بعض العلماء إمكانية البث الهوائي واعتُبر الأمر من فعل الشَّياطين وبعد جهد كبير في الإقناع وكدليل عملي تمَّ بثّ القرآن الكريم من خلاله فتمّ إقناع أحد كبار القضاة بأنَّ الأمر ليس من فعل الشَّياطين. كان تعليق القاضي بأنَّ البث الإذاعي إعجاز إلهي! ثم عندما ظهر التِّلفاز كانت المُعارضة قليلة ورغم ذلك سالت بعض الدِّماء للمعارضين والمؤيدين باسم الدِّين. لم يكن بالأمر اليسير في تلك الفترة أن يقوم المُعَلِّم في الفصل بحمل مُجسم الكرة الأرضية أو الخارطة معه لأنَّ البعض يصرُّ على أنَّ الأرض مُسطَّحة (Bird, 1995,P. 276, 284). لجان الإفتاء الضَّخمة تعقد اجتماعاً يحضره جمع من علماء العالم الإسلامي ليستعرض مسائل تستنزف فِكر المسلمين منها مشكلة الخلاف القائم حول استخدام جهاز مكبر الصوت في المسجد إذ يقول بعض طلاب العلم أنَّه لا يجوز استخدامه (رابطة العالم الإسلامي، ص 94).

ومازلنا نقرأ عن أفكار تُنكر المبتكرات التِكْنُولُوجِيَّة الجديدة وتنفي قدرتها على تحقيق بعض أحلام الماضي والمشكلة تكمن في أنَّ الواحد منهم ينتصر لرأيه المتطرِّف بإيراد الآيات القرَّآنية ويزعم أنَّ رأيه قاطع. وما زال السِّجال مستمراً فيُجادل البعض في أنَّ آرمسترون نزل على ظهر القمر عام 1969م مما جعل أحد المفكرين يلوم النظام التَّعْلِيْمي الذي فشل في تنمية العقلية المسلمة التي تُوازن بين الدِّين والعلم كواقع (Kobeisy, 1999, 65).

كتب محمود صواف كتابه المسلمون والفلك وأراد أن يبين لعلماء المسلمين أنَّ النّظريات العِلْمِيَّة التَّجريبية والاكتشافات الحديثة مثل دوران الأرض لا تتناقض مع الإسلام. في السِّتينات من القرن الميلادي الماضي اعتبر بعض العلماء هذا الكلام إفك فِكري لا ينبغي السُّكوت عليه لأنَّ علم الفلك كعلم المنطق ليس من علوم المسلمين فألَّف أحدهم كتاباً يصف هذا العلم بالزَّندقة والإلحاد وصدرت فتاوى بأنَّ الأرض ثابتة (انظر العميم، سجال بذيء من الشَّيخ الجنبيهي إلى الشَّيخ الوادعي، 2000 م، ص 54).

والإشكال المرتبط بقبول الجديد يزداد تعقيداً مع مَن يقبل التكنولوجيا ومعطياتها لأنها أصبحت حقيقة لا مفر منها لكنه يستخدمها لنشر فكر ضيق. وفي نظرة مُستقبلية مُتشائمة يقول الكاتب السّعودي "علي العميم" إنَّ كل الطّرق التِكْنُولُوجِيَّة تؤدي بكثير من المفكرين الإسلاميين والعاملين في حقل الدَّعوة اليوم إلى تشديد القبضة على المجتمع فيستخدمون التِكْنُولُوجِيا كسلطة للوصاية على النَّاس لا للتَّسامح والتَّعايش والتَّواصل. يقول العميم "فعلاقة الإسلاميين الحميمة بالتّكنولوجيا الغربية، كعلاقتهم النوستالجية بالماضي الإسلامي الزَّاهي، إذ أنهم يحنُّون إلى ما فيه من قوة عسكرية ضاربة ولا يكترثون، بما حمله في زمنه الذَّهبي النَّبيل من ثقافات وآداب وفلسفات، فتلك يعدُّونها في العديد من أشكالها، تغريباً وغزواً قديماً..فالتَّطور والانفتاح لا يتحقَّقان من خلال تطور الوسائل والتَّقنيات، وإنَّما يتحقَّقان من خلال انتساب العقليات والذِّهنيات إلى زمانها، وليس إلى زمن غارب وذاهب" (كل الطُّرق التِكْنُولُوجِيَّة تؤدي بالإسلاميين إلى روما التَّطرف،2000،، ص 1).

يرصد الغرب ما ينشر عن الإسلام في شبكات الإنترنت بل ويحرص الأكاديميون من المستشرقين على الإشارة إلى المواقع الدَّاعرة المنسوبة زوراً للإسلام. وليس ذلك بمستغرب فإنَّ الغرب مولع بتتبع الأمور الشَّاذة وتصيُّد الأخطاء، وتضخيم المتناقضات، وتكبير السَّقطات في حياة المسلمين. وإنَّنا نأمل أن تتكاتف جهود المخلصين في سبيل نشر ديننا العظيم، ونفائس تُراثنا التَّربوي السَّمح بأسلوب منظَّم مُشرِّف عصري يعكس روح التَّعاون بين المسلمين. وجد لورنس - أحد المتخصصين بمتابعة وتقييم المواقع الدِّينيَّة على شبكات الإنترنت - أنَّ المسلمين على صفحات الإنترنت وضعوا الكثير من المواد التَّعْلِيْمِيَّة حول الإسلام وأنَّ موضوع المرأة في الإسلام فيه عشرات المئات من الصَّفحات وربما آلاف الصَّفحات (Lawrence, 2000, 247). إنَّ المعركة مع كثيرٍ ممن ينتمي إلى الاستشراق سِجال بل اتسعت الرّقعة لتشمل صفحات لهم التَّفوق التَّقني في استخدامها وهذا التَّحدي ينبغي أن يوضع في عين الإعتبار في عملية إعداد الطَّالب المسلم الذي يفقه عصره ويذود عن حوض دينه بسلاح العصر.

كشف الباحث الفنان د. خالد النَّجدي في دراسته عن قلَّة المدارس الاجتهادية في العالم العربي المعنيّة باستغلال الحاسب الآلي لأغراض التَّعليم فيما يتصل بالخط العربي وفن التَّصميم التّكنولوجي. يعتقد النَّجدي أنَّ استغلال الحاسب في مؤسساتنا التَّعليميَّة، وعرض الفن العربي عالمياً، وتشجيع الإبداع في هذه المضامير الفنِّية التّكنولوجية من التَّحديات التَّعليمية الكبرى التي تواجهنا ومن أهم المسئوليات التي يجب أن نحملها بأمانة وكفاءة لخدمة تراثنا في هذا العصر (Alnajdi, 2001).

لقد ضعفت الهمم العِلْمِيَّة حتى أنَّ المسلم  ليتألم من أنَّه يلبس ما لا يصنع، ويأكل ما لا يزرع، ويستخدم في معيشته أجهزة لا يعلم عن صنعها شيئاً، إلى أن أصبح همُّ بعض الطُّلاَب عندنا أن يتخرَّج من الجامعة وهمّه شبر في شبر بحجم الشَّهادة الورقيّة التي حصل عليها وعلَّقها على جدار منزله وكذا حال كثير من المُعَلِّمين كانت الدِّراسة لهم تذكرة مرور للتَّعيين في المهنة. لا بأس بأن ينتفع المرء بالغايات المادية طالما أنَّها في دائرة الحلال ولكن المؤسف أن يبدأ وينتهي المطاف بأهداف لا تَسمو بالفِكر ولا تنهض بالمجتمع. كي نُدرك جسامة الخلل في العقلية المسلمة المعاصرة يمكننا أن ندرس المفاهيم التي شاعت وتشوهت في أوساطنا فبعض العقليات تَظن أنَّ الذُُّنوب فقط هي تلك التي تكون مع التَّفريط الذي يقع منَّا في ميدان أداء العِبادات المحضة أما التَّقصير في بناء أُمَّة قوية عادلة والتَّفريط بالعلوم العصرية قد لا تعدُّ من الأمور التي تُؤرق حس المسلم. آيات العبادات في القرآن الكريم لا تُربط في أحيان كثيرة بآيات النَّظر في الآفاق وتعمير الحياة وإقامة العدل ومعرفة السُّنن الكونية.

قبل أن يُجاوز الإنسان الأرض إلى القمر قال ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر عن همَّة المسلم الطَّموح الذي يتطلَّع إلى معالي الأمور "فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه فلو كان يُتصور للآدمي صعود السَّموات لرأيت من أقبح النَّقائص رضاه بالأرض" (ص 125).  ومن المخزي اليوم أن يتطلَّع الغربي إلى غزو الفضاء باسم العلم ويطمع العربي في غزو الأشقاء بسلاح الظلم! كيف تخلَّف المسلمون عن ركب العلم والإسلام يحض عليه؟ كيف يُترجم المسلمون توجيهات الدِّين في شأن العلم إلى واقع نسمع خفقه في جنبات الآفاق؟ لماذا يُعارض الكثير من العلماء كل جديد باسم الدِّين ثمَّ قد يرضخون للواقع لاحقاً عندما يمر قطار التَّقدم ولا فضل لنا في مسيرته؟ إلى أي مدى يعيش العقل المسلم في تناقض في قبول الجديد وما دور المؤسسات التَّعليمية في بناء الشَّخصية الإسلامية ذات التَّربية الإيمانية والآفاق العِلمية؟


الإِشْكَالِيَّة الاجْتِمَاعِيَّة في مسألة تربية المرأة

تكريم المرأة في الإسلام موضوع لا يمكن إنكاره من قِبَلِ أهل الدِّراية والرِّواية ولكن هل سار المسلمون فكراً وواقعاً في المسار الإسلامي الصَّحيح في تعاملهم مع المرأة في المراحل التَّارِيخِيَّة المختلفة؟ هل طُبقت المبادئ؟ هل واقع المرأة المسلمة ينسجم ويُترجم موقع المرأة في الشَّريعة الإسلاميَّة؟ إذا كان الرَّجل في العالم الإسلامي لم ينل حقه السِّياسي في التَّعبير عن رأيه فهل من الحِكمة الحديث عن حقوق المرأة المسلوبة؟  هل يحق للمرأة أن تتعلم وتتوسع في التَّعْلِيْم العالي أم أن نصيبها يجب أن ينحصر بالتَّربية الأساسيَّة استناداً لكتابات وممارسات الكثير من المفكرين الإسلاميين؟ إلى أي مدى أثَّر تُراثنا القديم في واقعنا الأليم وما أوجه الشَّبه بين الحالين؟

 وضع المرأة المسلمة اليوم عموماً يتناقض ويتعارض مع حقوقها المقرَّرة في الشَّريعة. من الأهمية بمكان تثقيف المرأة لتكون مُعلِّمة تساهم في تنمية أسرتها ومجتمعها. إنَّ بعض النِّساء في العالم العربي والإسلامي يعشن مع أثقال الأغلال المتمثلة بالعادات القبليَّة البالية … فليس لهنَّ حق التَّعْلِيْم أو اختيار الزَّوج فوقعنَّ فريسة سائغة لغول الجهل وظلام الأميَّة … وبعضهن على النَّقيض الآخر إذ وقعنَّ تحت غيبوبة الانبهار بكل ما هو غربي حتى أصبحنَّ بلا هوية واضحة.

مازالت بعض الصيحات العربية العَلمانية المتهافتة تصرُّ على النَّيل من الإسلام تحت شِعار حُرِّية المرأة وكل الممارسات الخاطئة لفهم الإسلام اتخذوها شاهداً لهم ونسبوها زوراً وبهتاناً إلى تعاليم الدِّين وما فَقهوا أنَّ الإسلام أسمى من أن يظلم المرأة لأنَّه دين جاء لحمايتها حقاً ونصرتها صِدقاً. والحقّ أنَّ الغرب النَّصراني لم يعرف إلا حديثاً كتابات تتحدث عن حقوق وواجبات بل وإنسانية المرأة بالشَّكل الذي نراه مَبسوطاً في كثير من صفحات تُراثنا الفِكري الذي استضاء بنور الإسلام.

من الأمور المدهشة أنَّ تتحدى نوال السَّعدواي - وغيرها كثير - تعاليم الإسلام في شأن المرأة في حين أنَّ دِراسات الغربيين مثل جون اسبوزيتو وكارن آرمسترون تُؤكِّد على سمو الرِّسالة الإسلاميَّة التي حرَّرت المرأة من الظَّلم. هناك تيار عَلماني لا ديني لا يرى الخلاص إلا في الحياد عن الدِّين، ولا يكترث بكتابات المفكرين القدماء أو المعاصرين، بل يُجاهر بإلغاء أحكام الشَّريعة بحجة عدم صلاحياتها لعصرنا وهو تيار فَقَدَ الهوية الإسلامية ورغم منهاجه الخاطئ الذي ينص على علمنة كُلِّية يقوم هذا التَّيار بدور تنويري أحياناً عندما يكشف السِّتار عن أوجه الظُّلم التي تقع على المرأة في المجتمع وتتستر باسم الدِّين كما نجد في كتابات نوال السعداوي. تعمل السَّعداوي على نشر أفكارها ونقد الإسلام داخل وخارج العالم العربي، باللَّغة العربيّة وبغيرها من اللّغات (El-Saadawi, 1980, 1985)، في الإعلام وفي الجامعات في حين أنَّ أنشطة معظم المُفكرات المسلمات مازالت في نطاق إقليمي محدود.

الرِّجال شقائق النِّساء بداية صفحة تاريخية لتحرير المرأة ورغم أنَّ الإسلام رسم بسماحته إطار حياة المرأة بما يحفظ لها مكانتها إلا أنَّ الكثير من الباحثين يرون أنَّ انحرافاً ظهر في التَّطبيق في فترات كثيرة من تاريخنا وأنَّ الفِكر الإسلامي مازال يعيش في إِشْكَالِيَّة مُرتبطة بقضية دور ومكانة المرأة.

وللأسف نحن في العالم العربي والإسلامي يحلو لنا أن نتحدث عن مساوئ الشُّعوب الغير مسلمة وفي المقابل لا نعترف بسبقهم في ميادين لهم فيها قصب السَّبق. لا نملك الإحصاءات الدَّقيقة عن قضايا انتهاك حقوق النِّساء والرِّجال في بلادنا اليوم ولكن لا شكَّ في أنَّ المرأة المسلمة قد تُزوج ممن لا تريد تحت الضُّغوط الاجْتِمَاعِيَّة وأحياناً تُمنع من حق التَّعْلِيْم تحت شِعار السِّتر، ولمدَّة قرون قام البعض بحرمانها من الميراث بِحيلٍ ماكرة … الضَّرب المبرح والتَّقليل من شأن المرأة وإساءة استخدام نظام تعدد الزَّوجات … قتل الشَّرف…وتسلُّط الرَّجل … بحاجة إلى دراسة ومعالجة جادة من منظور إسلامي يُوازن بين حقوق كل من الرَّجل والمرأة .

الانفصام الذي يعيشه البعض هو الافتخار بتكريم الإسلام للمرأة وهو حق لا ريب فيه ولكن واقعنا المرير في كثير من الأحيان لا صلة له بتلك المبادئ العظيمة وحياة سلفنا الكريم في أمسهم المنصرم …إنََّ الاكتفاء بالتَّغني بأمسنا دون بذل الأسباب لمقارعة العِلل مرض نفسي يجنح بنا إلى النُّكوص وإلى اجترار الماضي والاكتفاء بالحنين. 

إذا حاول المرء اليوم أن يَستحضر أسماء عالمات يفتين في الشَّرع ويُقبل عليهن النَّاس في الفتيا فلن يجد إلا القليل فهل شحَّ العطاء وهل غاض نبع العلم في زماننا أم أنَّ حفيدات أم المؤمنين عائشة لم تُفتح لهنَّ فرص التَّعْلِيْم ليكنَّ مثل الرِّجال النّابغين الَّذين نهلوا من ينابيع الفِكر والمعرفة؟ إنَّ بُعد المجتمعات الإسلامية عن الإسلام تصوراً وتصرفاً في بعض الميادين أضرَّ بالجميع وخاصة النِّساء فجعل من الاعتصام بالعادات أساس الاحتكام إذا يرجع النَّاس إِلى العادات في حياتهم العملية ويقنعون بها وإن كانت مُخالِفة للحق المبين. بل أحياناً قد تُسمى البنت تسمية قبيحة يخجل الباحثون من ذكرها مع أنَّ الإسلام أرشدنا بشدَّة إلى حُسن اختيار الأسماء.

بعض الباحثات المسلمات أشرنَّ إلى أنَّ المرأة المسلمة اليوم عليها أن تُواجه التَّحديات التي تعصف في وجهها وخاصة مُشكلة الأمِّية وجهل النِّساء بحقوقهنّ التي أعطاهنَّ الشَّرع الحنيف لدرجة أنَّ المتخصِّصين في الشّؤون القانونية يرون أنَّ الأميَّة القانونيَّة بين النِّساء في أقطار عربية كثيرة أصبحت ظاهرة مُنتشرة بشكل كبير.

المراد بأميَّة النِّساء القانونيَّة أنَّ المرأة تجهل حقوقها الأساسيَّة التي كفلها القانون. ورد في كتاب دليل المرأة القانوني الذي أعدَّه مكتب الدكتورة بدرية العوضي للمحاماة والإسثشارات القانونية والبيئية في عام 1994م :"لا يستطيع أحد أن ينكر انتشار الأُمِّية القانونيَّة لدى المرأة الكويتيَّة مما جعلها عاجزة عن الدِّفاع عن حقوقها القانونيَّة ووسيلة سهلة لاستغلالها من قِبل الآخرين لتحقيق مصالحهم نتيجة جهلها لأبسط المبادئ القانونيَّة السَّارية في الدَّولة" (ص5).

وإذا تتبعنا العوامل التي ساعدت على اضمحلال دور النِّساء الحضاري وتردِّي أوضاعهن عموماً فإنَّ بعض المتخصِّصين في الشَّريعة يُشيرون إلى "اجتهادات الفقهاء المخالفة لنصوص الكتاب والسُّنة الصحيحة". ولهذا فإنَّ تغيير أوضاع المرأة المسلمة المعاصرة لتتَّفق مع تعاليم الإسلام غاية يسعى إليها المخلصون وهذا لا يعني أنَّ كتب الفقه مملوءة بالأخطاء ولكن بعض الآراء فيها ليست مُطابقة لما تقتضيه نصوص الشَّريعة الإسلامية (القيسي، 2000 م، ص  16، 17، 79). يقول المُفكِّر والأديب محمد الغزالي (1341-1416 هـ = 1917- 1996م) في سِفره الوجيز قضايا المرأة بين التَّقاليد الرَّاكدة والوافدة (1990م) مع اضمحلال الفكر الدِّيني في الأعصار المتأخرة هبط المستوى الإنساني للمرأة في ميدان العلم والأدب بعد أن نمت مورثات اجتماعية خاطِئة، ومِرويات تُسيء للإسلام (ص 70). "الحق أنَّ قضايا المرأة تكتنفها أزمات عقلية وخُلُقية واجتماعية واقتصادية، كما أنَّ الأمر يحتاج إلى مراجعة ذَكية لنصوص وردت، وفتاوى تورثت وعادات سيئة تترك طابعها على أعمال النَّاس. لا بدَّ من دراسة متأنية لما نشكو منه، ودراسة تفرِّق بين الوحي وما اندس فيه، وبين ما يجب محوه أو إثباته من أحوال الأُمَّة" (ص 177).  العلماء مسئولون عن الدور الغائب للمرأة رغم المساواة الثََّابتة في القرآن الكريم ويُشير الغزالي إلى أنَّه عاصر في أكثر من بلد إسلامي بعض العلماء وكثير من النَّاس أنكروا تعليم المرأة في الجامعة (ص 36). يحتوي فِكر محمد الغزالي - كما يري بعض الباحثين- على ثورة إصلاحية مُعاصرة اتَّصفت بالرُّؤية التُّراثية النَّاقدة، وبالجرأة النَّادرة لتمكين المرأة في برامج التَّربية ونظم المجتمع (الميلاد، 2001 م، ص 128).

يرى نوفل (1994م) أنَّ الفتيات لهن وضعاً خاصاً عند كثير من فلاسفة التَّربية الإسلاميَّة. فعلى الرَّغم من اهتمام الإسلام الواضح بتحسين الوضع الاجتماعي للمرأة واهتمامه بتربيتها، فإنَّ الأحاديث المتأخِّرة الموضوعة وما بُني عليها من مبادئ اجتماعيَّة وتربويَّة قد وضعت المرأة في مكانة سيِّئة. هذا الاتّجاه السَّلبي في النَّظر إلى المرأة والتَّعامل معها وتعليمها تبنَّاه عددٌ من علمائنا (ج1، ص284).

لقد بالغ بعض العلماء حتى قالوا إنَّ نُقصان عقل المرأة لا يُشجِّع على تعليمها العلوم ولا يلقيق بالعاقل التَّعويل على مشورتهنَّ.  يقول الأبراشي "إنَّ القابسي الفقيه القيرواني لا يرى بأساً من تعليم المرأة القرآن والدِّين لا التَّرسل والشِّعر.. وإنما تتعلم ما يُرجى له سلامه ويؤمن عليها من فتنته، وسلامتها من تعلُّم الخطِّ أنجى لها وهو رأي يُسيء الظَّنَّ بالمرأة ولا تقول به أكثرية المسلمين" (ص120 ، انظر أيضاً الملحم، 1998 م، ص 60). وهكذا منذ القِدم يمكننا أن نُلاحظ إِشْكَالِيَّة تعليم المرأة في تيارين كلٌ له أدلته الدِّينيَّة حيث يرى الفريق الأول أنَّ تعليم المرأة يشمل ما لا غنى لهن عنه من لوازم الحياة وتدبير المنزل أي أنَّ التَّعْلِيْم ضرورة وليس من الحقوق التي ينبغي أن تتمتع به المرأة في دراسة كل علم نافع كما هو شأن الرَّجل. الفريق الثَّاني يميل إلى النَّظر إلى النُّصوص الشَّرعيَّة وتفسيرها على أنَّ التَّفريق بين الرَّجل والمرأة في طلب العلم غير صحيح وأنَّ الأصل المساواة.

عن موقف المفكِّرين المسلمين من تعليم المرأة ترى د. زينب حسن (1987م) أنَّ الإسلام بلا شك أكَّد على حق المرأة في التَّعْلِيْم ولكن بين المفكرين لم يكن تعليم المرأة من الأمور التي أجمع عليها المفكرون فمن خلال الاستقراء نجد فريقين متناقضين أحدهما يدعو إِلى عدم تعليم المرأة غير الدِّين والقرآن والفريق الثَّاني يقول بتعليم المرأة ولقد استمر هذا التَّضارب في الرَّأي إِلى وقتنا الحاضر (ص973).

ولقد أجاز بعض العلماء قديماً أنْ تتعلم المرأة القراءة ولكنها يجب أن لا تتعلم الكتابة. يقول القرضاوي في فتاويه المعاصرة "وقد وقف بعض العلماء يوماً في وجه تعليم المرأة، ودخولها المدارس والجامعات من باب سدّ الذََّرائع حتى قال بعضهم: تُعلَّم القراءة لا الكتابة! حتى لا تستخدم القلم في كتابة الرَّسائل الغرامية ونحوها! ولكن غلب التَّيار الآخر ووجد أنَّ التَّعلم في ذاته ليس شرّاً، بل ربما قادها إلى خير كثير" (ج2، ص 373). وإذا كان الأمر بهذا الشَّكل فلماذا نسمح للرَّجل أن يتعلم بلا حدود أو قيود رغم فساد الزَّمان أم أنَّ الرَّجل لا تُحَدِّثه نفسه بكتابة الرَّسائل الغرامية؟!

ومِن الأسباب التي دفعت البعض إلى معارضة التَّوسُّع في تعليم البنات هو انبهار وافتتان دعاة تحرير المرأة بالغرب ومهاجمة الدِّين إذ كان غرض التَّعْلِيْم هو اتباع الأنموذج الغربي المُتحلِّل من القيم والأخلاق. يرى حسن البنا (ت 1368 هـ =1949م) - وهو رائد من رواد الإصلاح في القرن العشرين - أنَّ المرأة للمنزل أولاً وأخيراً وأنَّها ليست في حاجة إلى التَّبحر في اللُّغات المختلفة والتَّبحر في دراسة القوانين ويختم حديثه عن تعليم المرأة بقوله "علِّموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: وتدبير المنزل ورعاية الطِّفل" (مجموعة آثار الإمام حسن البنا، ص 58). وهذه الفِكرة مُقاربة لما ذهب إليه المودودي (ت 1400 هـ = 1979 م) وسيد قطب وهي أفكار لم تَسلم من ضغط الواقع والمرحلة الحرجة للأمة المسلمة في منتصف القرن الماضي حيث كانت أكثر الدُّول الإسلامية تُعاني من حِراب الإحتلال الأجنبي. 

إنَّ التَّعلل بفساد العصر، وشيوع الفِتن، يجعل بعض المفكرين يعلِّقون على هذا المنطق بقولهم "وكأنَّ بعضنا أحرص على المرأة من الله الذي شرع لها حدود وظيفتها، وهو الخالق لها، العالم بتقلب الأحوال، والأزمان، والفساد والصَّلاح" (حَسنة، 1991، ص 67).

تسللت أحاديث واهية إلى واقع المسلمين تهون من شأن تعليم المرأة. قال بعض العلماء عن حديث "لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف وعلموهن سورة النُّور": "فالنَّهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على مَن يُخشى من تعليمها الفساد". عشرات من الأحاديث النَّبوية الضَّعيفة والموضوعة والمُنكرة مبثوثة أحياناً في كُتب الفقه والأخلاق والتَّاريخ تُخالف تعاليم الدِّين وتُنافي مُسلَّمات الفكر السَّوي بل تدعو بصراحة إلى الإستبداد والظلم مثل حديث "طاعة النِّساء ندامة" فأي مُعضلة واجهت المرأة الفاضلة أكبر من حرمانها من حق استشارتها في أمر زواجها وتقرير مصيرها؟ وفي شرح الحديث السَّابق قال بعض شُراح الحديث "وعُلم من ذلك أنه لا يستشير امرأة، كيف وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بنقص عقلها وفي خبر: طاعة النساء ندامة فإن لم يجد من يستشيره شاورها وخالفها فقد روى العسكري عن عمر رضي الله عنه خالفوا النِّساء فإن في خلافهن البركة" "وقيل: من أطاع عرسه لم يرفع نفسه وقال الحكماء: من أراد أن يقوى على طلب الحكمة فليكف عن تمليك النساء نفسه لا ضرر أضر من الجهل ولا شر أشرّ من النساء قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة في صلح الحديبية" كما ذكر المناوي في فيض القدير إلى أنَّه يمكن استشارة النساء في الأمور الهَينة الآمنة كما أشار إلى أنَّ أكثر ما يفسد الملك والدُّول طاعة النِّساء.   

باسم الإسلام وتحت الغلو في القاعدة الفقهية "سد باب الذَّرائع" نجد ممارسات خاطئة في احتقار المرأة وتهميش دورها وإلزامها قعر بيتها فلا تخرج إلاّ في يوم زفافها إِلى بيت زوجها ثم إِلى قبرها حتى أصبحت أمِّية النِّساء ذات نسب عالية في البلاد الإسلامية والأسوأ من ذلك الخلل أنَّه في بعض المجتمعات الخليجية مثلاً إذا ذُكرت كلمة "امرأة" في المجلس تُتَّبع بقول أجلّكم الله في بعض الأحيان!! وللرَّجل المتزوج الحق في أن يُلغي عقد قران ابنة عمِّه إذا تزوجها غيره لأنَّ له حقّ "حكر" ابنة العم عليه وإن كان هو أكبر منها بخمسين سنة.

كتب محمد العوضي (1997 م) عن احتكار البنات وديكتاتورية الرِّجال فتكلم عن ذلك العُرف الظَّالم الذي يُسمونه في الخليج بـ"التَّحجير" أو "الحجز" أو "الاحتكار" وقال تعددت الأسماء والجرم واحد "من المسؤول عن هذه الجريمة الاجتماعية؟! إنَّ بعض الأعراف والتَّقاليد البالية لها سلطة على عقولنا ونفوسنا أكثر من النُّصوص الشَّرعية وأنَّ الرِّجال يمارسون دكتاتورية مُطلقة ضد الإناث ولا عجب من ذلك إنَّه في بعض الأحيان تصل درجة الاحتكار إلى التَّلويح باستخدام السِّلاح والتَّهديد بالقتل لمن كتب كتابه شرعاً وقانوناً إن لم يتنازل عن حقِّه ويطلِّق المظلومة البريئة...في أي قرن نعيش؟ ما هذه الفوضى؟ في أي غابة ولدنا؟ ومن أي الكهوف تحدرنا؟" (ص 31).

ومن نصائح الشَّعراني في العهود المحمدَّية "وامنع يا أخي زوجتك من الخروج ما استطعت لتكون راضية بك لا التفات لها إلى غيرك، والله يتولى هُداك". إنَّ بعض أقوال علمائنا النَّمطية التي قد تكون مُستمدة من بيئاتهم المتشدِّدة أو المتأثِّرة بعاداتهم الموروثة في موضوع المرأة وتحتاج إِلى التَّأويل الحسن وأن تفسر في ضوء قواعد الإسلام العامة وعلى رأسها أنَّ النِّساء شقائق الرِّجال. ما زال الخطاب الإسلامي اليوم وأدبيات بعض المصلحين تنظر إِلى المرأة بنظرات مُتأثِّرة بالبيئة المورثة. إنَّ بعض البّاحثين اليوم يدعون إِلى ضرورة تنقية التُّرَاث الإسلامي بهدف التَّحقيق العلمي مع مراعاة السِّياق التَّارِيخي والاعتراف بفضل مَن سبق.

ذَكر الخولي (1991 م) أنَّ ابن الجوزي كان مُتشدداً في تربيته للمرأة فيما يتَّصل بالتَّربية الأسرية وكانت نظرته تأخذ وجهة نظر الرَّجل وحاجاته الفسيولوجية التي عبَّر عنها بصراحة مُثيرة. تميل التَّربية الأسرية عنده نحو السَّيطرة على المرأة والتَّحذير منها، وعدم الثِّقة بها إلا من وراء أسوار منيعة. يرى الخولي أنَّ بعض تلك المفاهيم مازالت عند بعض المسلمين (ص 100-102).

وباسم الدِّين آمن الرِّجال باستشارة المرأة ومخالفتها واستدلوا بـ"شاوروهن وخالفوهن … " وظنَّ البعض أنَّ الشِّدة في معاملة النِّساء من تمام الرُّجولة، وكمال الفحولة وفي الحديث "لا يُسْألُ الرَّجُلُ: فيمَ ضَرَبَ امْرأتَهُ" (رواه أبو داود) مع أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم خيركم لأهله وأنَّه صلى الله عليه وسلم كان خير النَّاس لأهل بيته  …كان رقيقاً معهم، رفيقاً بهم … كان يُخِيط ثَوبه ويحلب شاته ويخصف نعله وما ضرب امرأة قط وهو القائل: النِّساء شَقائق الرِّجال! إنَّ المسلمين أخذوا الدِّين والوحي من لِسان النِّساء وأسانيدهن أصبحت مُعتمدة في أعظم الأمور فكيف يَشكك البعض اليوم بعقلية المرأة ويحتقرها ويحتكر الحياة والعلم والإدارة للرَّجل! الفروق الطَّبيعية بين الجنسين أصبحت ذَريعة واهية لتهميش دور المرأة في الارتقاء بنفسها وبخدمة المجتمع.

لا شك في أنَّ النِّقاش في قضايا المرأة والخلاف فيه له انعكاساته الواضحة في الواقع التَّربوي اليوم وفي طرق التَّنشئة الاجتماعيَّة. فمثلاً هل تكتفي المرأة بلبس الحجاب على أن تكشف عن وجهها وكفيها أم عليها ستر جسدها كله أم يحق فقط أن تكشف عن عينيها أم أنَّ أجمل ما في المرأة ذلك الموطن وستره واجب أم أنَّ لها حق كشف عين واحدة والأفضل العين اليُسرى لترى الطَّريق[105] فقط كما تدل آثار السَّابقين من الصَّالحين؟ كل هذه الاحتمالات قديماً وحديثاً لاقت جدلاً كبيراً في حُكمها بين تحريم وتحليل في صفوف العلماء ويمكن مُشاهدة بعض آثارها في حياة النَّاس. ابنة هدَّدها أهلها بالضَّرب إذا غطَّت وجهها وطلبوا منها أن تُغطي شعرها فقط والفتوى الشَّرعيَّة تقول للبنت: لا تستجيبي لأهلك وعليك أن تنصحيهم بحكمة وإن لم يستجيبوا لك فلا طاعة لهم[106]!

يرى التُّويجري أنَّه خير للنِّساء أن يلزمن بيوتهنَّ فلا يرين الرِّجال الأجانب ولا يرونهنَّ وأنَّ من أعظم الفتنة أن تُشاهد المرأة التِّلفزيون الذي تظهر فيه صور بعض الشُّبان الذين لهم حظ من الحُسن والجمال مما يرغبهن في فعل الفاحشة. ويَذكر أنَّه قد ورد التَّحذير من طاعة النِّساء لأنَّ الغالب عليهنَّ السَّفه واتِّباع أهوائهنَّ وشهواتهنَّ وورد في كلام السَّلف الصَّالح أنَّ النِّساء من أسفه السُّفهاء. ثمّ ناقش التًّويجري ضرر الاختلاط وخطر السُّفور في الجامعات وانتهى إلى أنَّ بقاء المرأة على جهلها مع تمسكها بالدِّين خير لها من الدُّخول في مثل تلك المدارس والجامعات (ص 70، 72، 73، 129، 130، 272). بعض علماء الشَّريعة اليوم يرون أنَّه لا ينبغي للمرأة أن تكون مُحامية لأنَّ المحامي يحتاج إلى الاختلاط بالخصوم وهو ممنوع شرعاً للمرأة (المنجد، 2001، سؤال رقم 11551). وكذلك لا يجوز للرَّجل أن يُلقي محاضرة في قاعة فيها نساء إذا لم يتوفر الحجاب الكامل وهو تغطية الوجه واليدين وإذا كانت النِّساء ملتزمات بالحجاب الكامل فالأفضل أن تكون النِّساء وراء حجاب (المنجد، 2001، سؤال رقم 7413).

تسلَّلت آثار واهية مُضطربة في كتب الحديث النَّبوي والأدب، والكـتب الشَّرعية وتعكس التّفكير النّمطي لصورة المرأة في أذهان النَّاس وبعض العلماء. تحدَّث الرَّاغب الأصفهاني في كتابه محاضرات الأدباء عن أهمية الحث على حفظ النِّساء من الخمر والكتابة وذَكَرَ بعض النُّصوص الدِّينيَّة والحِكم لدعم رأيه (انظر ص 1004-1005).

ونقرأ في كتبنا التُّرَاثية عند الآبدي في عون المعبود شرح سنن أبي داود مُناقشة رأي من لا يُجيز تعليم المرأة وأنَّ الخلاف كان يدور حول جواز تعليم المرأة أو عدم جوازه شرعاً: "وما قال على القاري في المرقاة يُحتمل أن يكون جائزاً للسَّلف دون الخلف لفساد النِّسوان في هذا الزَّمان فكلام غير صحيح. وقد فصلتُ الكلام في هذه المسألة في رسالتي عقود الجمان في جواز الكتابة للنِّسوان، وأجبت عن كلام القاري وغيره من المانعين جواباً شافياً".

قال القرطبي في شرحه لسورة العلق "تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشَّاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضَّمير بما لا ينطلق به اللِّسان، فهو أبلغ من اللِّسان". وورد في نهج البلاغة المنسوب للإمام على رَضِي اللهُ عَنْهُ: "المرأة شر كلها وشر ما فيها أنَّه لا بد منها" (ص 205، انظر أيضا العاملي في الكشكول ص 395).

الحسبة وظيفة شرعية ذات رسالة اجتماعية عظيمة ظهرت منذ عهد الخلفاء الرَّاشدين يقوم المحتسب بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وإرشاد النَّاس إلى الصَّواب، والإصلاح بينهم خاصة في الأسواق والأحياء السَّكنية وللمُحتسب حق مُعاقبة المتجاوزين وكانت العادة أنَّ الكتاتيب تُفْصَلُ عن المساجد وقد تكون قريبة من الحوانيت. ينبغي أن يكون المحتسب عالماً عارفاً بالشَّريعة ولقد لعب المحتسب دوراً كريماً عبر التَّارِيخ ولكن شأن هذه الوظيفة هو شأن جميع مؤسسات التَّعْلِيْم التي قد يُساء الاستفادة منها عندما تنحرف عن رسالتها الأصيلة الصَّحيحة.

ورد في كتاب "‏نهاية الرُّتبة الظَّريفة في طلب الحسبة الشَّريفة‏" ما يلي: "‏ولا يُعلِّم ‏[‏المؤدب]‏ الخط امرأة ولا جارية، لأنَّ ذلك مما يزيد المرأة شراً وقيل‏:‏ إنَّ مثل المرأة التي تتعلم الخط مثل حيّة تُسقى سماً".‏ ذلك الكتاب ‏صنَّفه ‏عبد‏ ‏الرحمن‏ ‏بن‏ ‏نصر‏ ‏بن‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏االشَّيزري‏‏ (‏ت‏ ‏774 هـ = 1372 م)‏ وهو‏ ‏كتاب‏ ‏في‏ ‏السِّياسة‏ ‏الشَّرعية وفيه باب عن" الحسبة على مؤدبي الصِّبيان‏". ولا يختلف هذا التَّوجه عما ورد في كتاب "معالم‏ ‏القربة‏ ‏في‏ ‏معالم‏ ‏الحسبة" ‏الذي صنفه ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏أحمد‏ ‏القرشي‏ ‏المعروف‏ ‏بابن‏ ‏الأخوة الذي قال "ولا يعلم الخط امرأة ولا جارية فقد ورد النَّهي بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهم الغرف ولكن علموهن سورة النُّور}‏ وقيل:‏ إنَّ المرأة التي تتعلم الخط كمثل الحية تُسقى سماً‏". أمر أحد الخلفاء بمنع "النِّساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهاراً، فأقاموا سبع سنين" (ابن دقماق[107]، 1982، ص 205، الذَّهبي، ج15 ص ، 175، ابن العماد، ج 5، ص 62).

إِشْكَالِيَّة المرأة لها قسماتها قال الفيلسوف ابن رشد في بيان بعضها "لا تدعنا حالنا الاجتماعية نبصر كل ما يوجد في إمكانيات المرأة، ويظهر أنهنَّ لم يخلقنَّ لغير الولادة وإرضاع الأولاد، وقد قضت هذه الحالة من العبودية فيهنَّ على قدرة القيام بجلائل الأعمال، ولذا فإنَّنا لا نرى بيننا امرأة مُزينة بفضائل خلقية، وتمر حياتهن كما تمر حياة النَّباتات، وهنَّ في كفالة أزواجهن أنفسهم، ومن هنا أيضاً، أتى البؤس الذي يلتهم مدننا" (النَّجار، 1999 م، ص 141).

يُخبرنا التَّاريخ أنَّ المرأة المسلمة كانت تَبني المدارس ولكن لا يحقُّ لها أن تَدرس فيها فهي لن تُصبح مُدَرِّسة في المدارس ولن تُصبح قاضية في المجالس فلذلك كان التَّعليم داخل نِطاق الأسرة أو الأخذ عن المشايخ وفق نظام الإجازة هو المتنفس والمنفذ لتحصيل العلم وبذلك تستطيع المرأة المسلمة أنْ تُخفِّف العزلة النَّاتجة من حِرمانها دخول المدارس التي ظلت لأكثر من ألف سنة حكراً للذُّكور في كافة الأقاليم الإسلاميَّة. ثمَّ بعد الألف سنة وبعد أن دخلت المرأة الغربية الجامعات لم تكن مسألة دخول المرأة المُسلمة للمدرسة والجامعة من الأمور السَّهلة. إلى هذا اليوم والضُّغوط الاجتماعية تحدّ من انطلاقة التَّعليم مع أنَّ الدِّين يُنادي بفتح كل السُّبل الآمنة لنشر العلم بين الجميع أو كما قالتْ أم المؤمنين عَائِشَةُ رَضِي اللهُ عَنها: نِعْمَ النّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقّهْنَ فِي الدِّينِ. باب النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مفتوحاً لتعليم النِّساء كما كانت المساجد تشهد أفواج المتَّعلِمات ثمَّ مع الوقت حُرمت المرأة من حق دخول المدارس التي بدأت تَنتشر في كل مكان وأَغلقت المدارس أبوابها الذَّهبية في وجه حواء. الأزهر الشَّريف، والمدارس النِّظاميَّة التي بناها نظام المُلك، والمدرسة المستنصريَّة في بغداد يقوم المعلمون بالتَّدريس فيها ومُنعت المرأة من ذلك مع أنَّ العصر النَّبوي المبارك لم يشهد أي حالة منع لانطلاقة تعليم المرأة حتى أنَّ الحواجز النَّفسيَّة - مثل الحياء والخجل والجهل - لم تستطع من الحيلولة بين الإناث وبين تحصيل العلم. نساء الأنصار نجحنَّ في كسر الحواجز العائقة لتحصيل العلم وكذا كان حال التَّابعيات ثمََّ بدأ الضَّعف يدب وبدأ الخير يقلّ حتى كاد أن يجف النَّبع.  

ولأنَّ المرأة كانت غائبة عن التَّعلَّم في مؤسسات التَّعلِيم العالي فإنَّ اسمها لا يَكاد يَظهر في ميدان التَّأليف لعدَّة قرون فالمؤلفات التي كتبها الرِّجال العلماء فيما مضي تفوق بآلاف المرات ما أبدعته عقول بنات حواء. قلَّما تقوم امرأة في الماضي بتأليف كتاب أو جمع رسائل علميَّة شأنها شأن الرَّجل لا لنقص فيها بل لعدم تشجيعها على التَّأليف ولعدم حُصولها على فرص تعليميَّة عادلة، وتَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لا تَشْتَهِي السُّفُنُ. درس السُّيوطي والسَّخاوي وابن عساكر[108] عند عشرات من العالمات في علم الحديث وحصلوا على إجازات منهنَّ فلماذا تلاشت هذه الظاهرة العلمية؟ أقطار العالم العربي تعج بأسماء علماء ولجان الفتوى ولكنَّنا من النَّادر أن نصادف اسم امرأة تُشارك في هذا الشَّأن الجليل. كل المفسرين للقرآن الكريم إلى عصر قريب هم من الرِّجال.

العقلية التي تزدري النِّساء امتدت إلى مناطق ثقافيَّة كثيرة وظهرت في أدبنا العربي بعدَّة صور فأنشدوا:

القبر أخفى سترة للبنات


 

ودفنها يُروى من المكرمات


وقال البحتري:

ومن نِعَمِ اللّه لا شَكَّ فيه
لقولِ النبيُّ عليهِ السلامُ


 

حياةُ البنينَ وموتُ البناتِ
مَوْتُ البناتِ من المكرماتِ


وقال أبو العلاء المعري (449 هـ = 1058 م):

علِّموهنَّ الغَزْلَ والنَّسجَ والرَّد
فصلاةُ الفتاةِ بالحمدِ والإِخـ  


 

نَ[109] وخَلُّوا كتابةً وقـــراءةْ
ـلاصِ تجزي عن يونسٍ وبَراءةْ ‏


إنَّ المعري في معظم شعره ساء ظنه بالنِّساء ورفض أن يتعلَّمن وإذا كان ولا بد من تعليمهن أساسيات الدين فهو يرى بصراحة أنَّه يجب أن يكون ذلك في ظروف مُشدَّدة من رجل عجوز (رجب، 1999 م، ص 69).

يرى عرابي (1999م) أنَّ صورة المرأة الاجتماعية في الثّقافة التّقليديّة ظلَّت في الغالب موضوعاً للشِّعر والأدب كمادة للغزل والحُب لا العلم والعقل والإنتاج الذي يُعلي شأنها وأنَّ العقليَّة التَّقليدية والأعراف السَّائدة اليوم لا ترى في تعليم الفتاة سبيلاً لصعودها الاجتماعي بقدر ما تعتبره وسيلة عَصرية تزيد من فُرص الزَّواج أي أنَّنا فتحنا أبواب المدارس في وجه المرأة ولم نفتح بعد أبواب الثَّقافة والحياة (ص 44). وجدت الباحثة فوزية أبو خالد (1999 م) أنَّ أكبر الصُّعوبات التي تواجه الباحث في قضايا المرأة ومجالات تعليمها اليوم وجود ستار حديدي يحول بين الباحث والمعلومات المُتاحة عن وضع المرأة وهي ما تسميه "التَّابو" المحرم الاجتماعي في العالم العربي (ص 200).

إنَّ الحساسيَّة الشَّديدة تجاه قضايا المرأة تمنع بعض الباحثين من المجاهرة بالرَّأي فضلاً عن كشف الازدواجية الموجودة في التُّراث، ونقد الواقع التَّعليمي، وذلك خوفاً من سيف الوصاية الفكرية الذي يُنكِر التَّجديد ويُشهِّر بكل مُخالف، وخوفاً من الضُّغوط الاجتماعيَّة، وكسباً لسيادة المصالح السِّياسيَّة التي تُمارس على نطاق واسع في العالم العربي. قلَّما يتحرَّر المفكر، والباحث، والصَّحافي من الخضوع لعائق من تلك العوائق بدرجة من الدَّرجات. أنماط التَّعليم ومجالاتها ما زالت تخضع في كثير من جوانبها للنُّظم الاجتماعية التَّقليدية العربية لا المصلحة العامَّة التي تتَّفق مع الحقوق الشَّرعية. رغم الحديث الطَّويل عن قِيم المساواة والعدالة التي تنص عليها الأديان، وقوانين حقوق الإنسان، وسياسات التَّعليم في البلدان فإنَّ الكفاءة وحدها لا تُؤهل الإنسان في عالمنا العربي كي يتبوأ مناصب قيادية في المؤسسات التَّعليميَّة وغيرها.

التَّحولات الاجتماعيَّة في عالمنا العربي غالباً تحدث بعد فشل محاولات شَعبيَّة وفكريَّة في رفض التَّغيير وهو ما حدث تاريخياً مع توفير حق تعليم المرأة في بلادنا. كل قضية جديدة نافعة نتبناها بعد هدر الجهود في معارضتها وعندما تتحول إلى واقع لا مَفر منه، نتركها لنبدأ معركة فِكرية أُخرى في عملية التَّجديد. متى نقبل التَّجديد في الوقت المناسب، ونضعه في القالب التَّقدُّمي الذي يُلبي احتياجاتنا دون أن تمر الأمَّة في كل مرَّة بهذه الدُّوامة؟ هل القضية قضية الحساسية الشَّديدة نحو قضية المرأة في التَّركيبة الاجتماعيَّة أم أنَّ الفِكر يعيش في ازدواجية تستنزفه ولا تُسعِفه في عملية استيعاب التَّغييرات؟ وهل هذه الاشكالات الفكرية المانعة من المساهمة الحضارية المنشودة للمرأة المسلمة اليوم ناتجة عن أزمة انبثقت من غياب منهج صحيح في التَّفكير، والحوار، ومُعالجة الخلاف، وموازنة الأمور؟ إلى أي مدى يتم احتكار الدِّين والتُّراث لتكييف الممارسات الاجتماعيَّة التَّقليدية، ومُحاربة الفِكر التَّجديدي المُعتدل إذا صحَّ التَّعبير؟

إذا كان كثير من الباحثين يرون أنَّ المرأة المسلمة كانت ومازالت تحظى بمكانة جيِّدة في الفِكر الإسلامي فإنَّ التُّرابي وغيره يرون أنَّ الحقيقة مجافية لذلك. بعيداً عن نقد التُّرابي الواضح لمسار بعض الفقهاء نقتبس فيما يلي رأيه في الواقع الاجتماعي للمرأة المسلمة وسبيل النَّهضة من وجهة نظره. عن ضياع حقوق المرأة يقول المفكر السِّياسي المعاصر حسن التُّرابي في كتابه المرأة في تعاليم الإسلام "والغيرة التي يجدها الرِّجال في شأن المرأة تزين لهم دائماً أن يضاعفوا الوسائل لاحتكار المرأة. ويبدو جنوح التَّقاليد الوضعيَّة وجورها في كثير من المجتمعات التي تَستبد فيها أهواء الذُُّكور كالمجتمع العربي والفارسي والهندي، ولما كان الإسلام قد انتشر في تلك المجتمعات في أول عهده ولم تكن حركة التَّوعية بتعاليم الإسلام والتَّربية بحدوده وتقواه مواكبة لحركات التَّوسع التَّبشيري، وقد بقيت بعض الأوهام والأوضاع الجاهليَّة. وقد انتهى فكر المسلمين وواقعهم إلى تغيير جل الأحكام المتَّصلة بالمرأة – ما كان أصله في العقيدة أو الشَّريعة – لا تخاطب بدعوة ولا تُكلف بتربية إلا تبعاً لرجل، لا حرية لها في اختيار زوج تحبُّه ولا في فِراق زوج تقليه ولا حق لها من حيث هي زوجة في المشاورة والمعاشرة بالحسنى ولا مجال لها في كثير من الأحايين – للتَّملك أو الاتجار والتَّصرف في أموالها وربما تُحرم بحيل شتى من الميراث. ولما تقلَّص دورها في الحياة إلا أن تتَّخذ زوجاً، وكانت معايير الزَّوجة الصَّالحة لا تشمل الدِّين بل تركِّز على الكفاءة النِّسبية، وقد أهمل أهلها تربيتها وتذكيرها بواجبات العِبادة العينية فضلاً عن العبادة الكفائية. أمَّا في مجال الحياة فقد حُرمت المرأة تماماً من الإسهام الأدبي في تقويم الحياة الإسلامية، ولربما يكون لها نصيب في اعمار الحياة المادية ولكنَّه في الغالب تسخير تُباشره المرأة غير منفعلة بأي معنى من معاني الخير إذ لا تُربّى على شئٍ من المقاصد التَّطوعيَّة. ولعل أقسى ما جرى على المرأة هو عزلها من المجتمع، فجعل ظهورها كله كشف عورة حتى الصَّوت، وسمى وجودها حيث يوجد الرِّجال اختلاطاً حراماً، وأمُسكت في البيت بذات الوجه الذي لم يشرعه الدِّين إلا عِقاباً لإتيان الفاحشة، بدعوى تجريدها لتربية الأولاد وخدمة الزَّوج، سوى أنَّها لم تتهيأ لرعاية البيت بعلم ولا تجرِبة. وكيف يصلح مُربياً من عُزِل عن المجتمع ما دامت التَّربية الأسريَّة ليست إلا إعداداً للحياة الاجْتِمَاعِيَّة لمادَّة تربوية تُؤخذ كِفاحاً من قِيم المجتمع وعلاقاته" (باختصار).

يختم التُّرابي طرحه عن كيفية حلِّ إِشْكَالِيَّة المرأة المسلمة المعاصرة بما يلي "إنَّ الثَّورة على الأوضاع النّسوية التَّقليدية آتية لا محال، ولئن كان للإسلاميين داع من دينهم لإصلاح القديم ولطي البعد القائم بين مُقتضى الدِّين الأمثل في شأن المرأة وواقع المسلمين الحاضر فإنَّ اتجاهات التَّحول في الحاضر تدعو بوجه مُلح إلى المبادرة والتَّعجل في الإصلاح الإسلامي قَبل أن ينفلت الأمر وتتفاقم الاتجاهات الجاهليَّة الحديثة. وليحذر الإسلاميون من أن يوقعهم الفزع من الغزو الحضاري الغربي والتَّفسخ الجنسي المقتحم في خطأ المحاولة لحفظ القديم وترميمه بحسبانه أخف شرّاً وضرراً، لأنَّ المحافظة جهد يائس لا يُجدي. والأوفق بالإسلاميين أن يقودوا هم النَّهضة بالمرأة من وحل الأوضاع التَّقليدية لئلا يتركوا المجتمع نهباً لكل داعية غربي النَّزعة يضل به عن سواء السَّبيل مُستظهراً بتبرم النَّاس من جنوح أوضاع المرأة وباتجاهات الحياة الحديثة – فضلاً عن أنَّ الدِّين يقتضيهم ابتداء أن يكونوا أئمة" (باختصار).

بين ضِفاف الفِكر والشِّعر تَصف د.سعاد الصباح إِشْكَالِيَّة المرأة بكلماتٍ صريحة صارمة فتقول في أسئلتها الدِّيمقراطية:

هل تَستطيع امرأة في زمن الإحباط والكآبة

أن تدعي الكِتابة

وكل شيء حولها مذكّرٌ

السَّيف في قاموسنا مذكَّر

والفِكر في تاريخنا مذكّر

والشّعر في أدبنا مذكّر

والقمر الجميل في سمائنا مذكّر

والحب في حياتنا مذكّر

والظلم في منذ نشأته مذكّر ..مذكّر

تقول الباحثة آمال قرداش بنت الحسين‏ (2001 م) "ولا بد من الاعتراف أنَّ قضية المرأة وأبعاد دورها في المجتمع والحياة ما يزال من الثُّغور المفتوحة في الفكر الإسلامي، والسَّبب في ذلك - فيما نرى - العَجز عن التَّعامل مع الواقع وتقويم مسيرته من خلال القيم الثَّابتة الواردة في الكتاب والسُّنَّة…إنَّنا ما نزال مستمرين في حالة الهزيمة والنَّاظر في أدبيات الفكر الإسلامي على مدى نصف قرن أو يزيد بالنِّسبة لدور المرأة وموقعها في الحياة، يجد أقدارًا من التَّناقض والاضطراب والتَّحليل والتّحريم والتَّبعثر الفِكري.. ولعل هذه الإصابات الفِكْرِيَّة والفقهية وانتشار عقلية المسوغات والذَّرائع، إنَّما حصلت بسبب العجز عن إدراك الواقع وإبصار وجهته المستقبلية، وسوء النَّظر إلى محل تنزيل النَّص على حياة النَّاس بحسب استطاعتهم. فالتَّسويغ والاستسلام، دائماً هو مُركب العاجز المتخاذل" (باختصار).

قال عمر عبيد حسنه في مقدِّمة كتاب الباحثة آمال "لقد حُرمت المرأة من بعض ما أعطاها الله من الحقوق باسم سدّ الذّرائع.. حُرمت من المشاركة في الحياة، والذِّهاب إلى دور العبادة والعلم، باسم حمايتها من الفتنة والفساد، فشاع الجهل وضعفت عرى التَّدين وفسدت التَّربية الأسرية والتَّربية الاجْتِمَاعِيَّة معاً، بسبب أُمِّية المرأة وجهلها".

       لا بد أنَّ الظَّواهر الاجْتِمَاعِيَّة الخاصة بوضع المرأة بدأت تشدُّ اهتمام علماء الاجتماع والباحِثين في ميدان المرأة وأخذوا يشعرون بالحاجة إلى مزيد من الدِّراسات الميدانيَّة الجادَّة بعيداً عن تهويلات التَّحقيقات الصحفية التي قد تقوم برصد أوجه معاناة المرأة في المجتمعات الإسلامية الحديثة سواءً في المجتمعات الرِّيفيَّة أو الحضريَّة. من الموضوعات التي قد تحتاج المزيد من الرَّصد والتي قد تُحجب حقائقها بسبب العادات والتَّقاليد المتشدِّدة الموضوعات التَّالية: تزويج الفتاة بغير رضاها لابن العم  –حِرمان المرأة من التَّعْلِيْم العام والتَّعْلِيْم العالي - تهميش دور المرأة سياسياً واجتماعياً -استغلال المرأة في ممارسة البغاء في الأماكن التي تعاني من تردِّي الأخلاق وانخفاض الدَّخل الاقتصادي - النَّظرة الاجْتِمَاعِيَّة الدُّونية الخاطِئة للمرأة في كونها أقل قَدراً من الرَّجل - عملية الختان وتطبيقاتها الغير سليمة صِحياً ونفسياً - اللّجوء للعنف في حل الخلافات الزُّوجية -آثار زواج المسيار والزَّواج بنيَّة الطَّلاق والزَّواج العرفي على حقوق المرأة - الحيل المستخدمة لإبعاد البنات من الميراث - الضُّغوط العالمية باسم حقوق المرأة ودورها في تلويث فكر المرأة المسلمة - سوء استخدام حق تعدُّد الزَّوجات والأضرار التي تتعلَّق بالأسرة - العادات الاجْتِمَاعِيَّة ودورها في مُقاومة جهود المراكز الاستشارية لشئون العائلة - ما هو دور التَّربية في علاج هذه المشكلات وكيف يمكن عرض التُّراث كمادّة تُعزِّز الخير؟

هذه الموضوعات قد تطرحها الصُّحف فتكشف ما أمر الله بستره مِن نشر تفاصيل جرائم اغتصاب وظلم والمطلوب دراسة هذه الظَّواهر في عالمنا الإسلامي وتنبيه المربِّين على كيفية التَّعامل معها. لا شك أنَّ التَّنشئة الاجْتِمَاعِيَّة الغير مُتشبِّعة بالشَّريعة والمَحرومة من العدالة من أهم عوامل الخلل والاضطراب في البناء الاجتماعي فضاعت الحقوق وظهرت الانقسامات الفِكرية.

تطرَّق المفكر المعاصر عمر عبيد حسنة (1421هـ-1991م) في كتابه مراجعات في الفكر والدَّعوة والحركة إلى إِشْكَالِيَّة المرأة المسلمة فكتب عن المرأة والوأد التَّربوي كموضوع من موضوعات فلسفة التَّربية التي تفرض نفسها على الفِكر التَّربوي الإسلامي لأنَّ المرأة المسلمة لم تأخذ موقعها السَّليم اليوم إذ تراجعت التَّربية الإسلاميَّة وتحكَّمت التَّقاليد الاجْتِمَاعِيَّة حتى وصلت الأمور إلى درجة من التَّطرف والغلو فحُرمت المرأة من التَّعْلِيْم والقيام بمسئولية الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وأُلغيت ذِمَّتها المالية، وحقها في الإرث باسم فساد العصر. عمر عبيد حسنه يتساءل وهل يمكن للمرأة المسلمة أن تُؤدي المرأة وظيفتها وهي جاهلة بالحياة؟ في الختام يُنادي بضرورة تحرير المرأة من العادات والتّقاليد الاجْتِمَاعِيَّة التي تُعامل بها المرأة باسم الدِّين وهي ليست من الدِّين وهذا هو دور رواد التَّربية الإسلامية من مُفكِّرين وباحثين ومعلمين ومُربين (ص 66-68).

يؤكّد بعض الباحثات المسلمات على أنَّ الدِّراسات التَّاريخية تَكشف عن جمود المرأة المسلمة وغيابها عن المساهمات العلمية الفاعلة في العصور المتأخرة فقبل 300 سنة إلى الآن والمرأة المسلمة حتى في العلوم الشَّرعية لها مشاركات قليلة. هذه ظاهرة طارئة ويجب دراستها بعمق ففي العصور الزَّاهرة للحضارة الإسلامية كانت المرأة المسلمة تقوم بتأهيل العلماء من الرِّجال فتمارس التَّدريس ولها أنشطتها السِّياسية والاجتماعيِّة ثم بدأ الانحدار لأسباب عديدة (Bewley, 1999, P. 2).

تُؤكّد الدُّكتورة عائشة يوسف المناعي (2001 م) في بحثٍ من بحوثها على أنَّ الأعراف السَّائدة في مجتمعات المسلمين، لا تمثل الوضع الحقيقي لمكانة المرأة في الإسلام. وتطرح أسئلة مهمة مثل: لماذا عادت المــرأة بعد العــصر الأول إلى ما يشبه منزلتها قبل الإسلام؟ أو لماذا عادت (الرُّوح الجاهليَّة) إلى الظهور مرة أخرى وبصور شتى؟ لماذا اليوم نعد اسم المرأة كشخصها عورة لا يجــوز أن يُعرف! ونقول: ما للمــرأة وهذه الشـُّـؤون؟ وجوابها تستوحيه من استقراء التَّارِيخ وتركّز على أنَّ النّظـــام الاجتماعي الجديــد في العهد الأول لم يتـرسّــخ بعد الفــتح كما رسخ في بيوت المهاجرين والأنصار.. ولم يَجِد في المجتمـع الإســلامي بعد ذلك ما يستدعي مطاردة الأعراف الجاهلية ومنعها من الظهور مرة أخرى!.. وربّما كان لتوسّع الإسلام في بعض البيئات التي كانت تستبدّ بها أهواء الجاهلية كالمجتمع الفارسي والهندي أثر في بقاء الأوضاع الجاهلية المتعلقة بالمرأة، لأنَّ حركة التَّوعية بتعاليم الإسلام والتَّربية بحدوده وتقواه لم تكن مواكبة لحركات التَّوسع والانتشار هذه. وقد ترتب على بقاء هذه الأوضاع والأوهام الجاهلية، عبر سيادة المظاهر الإسلامية العامَّة، أنَّ المجتمع الجديد أخذ ينسب كثيرًا منها إلى الدِّين ليضفي عليها حُجة شرعية وليستبقي نفوذها على نفوس النَّاس.

ترى د. عائشة أنَّ خطاب كثير من الإسلاميين اليوم يتَّسم بالعموميات والوعظيات في بعض الأحيان، والذي يساير الأعراف والتَّقاليد التي تهمِّش المرأة وتعتدي على حريتها وتكاد تلغي كيانها.. في أحيان أخرى. قام الخطاب الديني بمنع النِّساء من العمل والتَّعْلِيْم، منعاً للفساد والانحلال! وقد سمى بعض الكُّتاب هذا الوضع بالوأد التّدريجي للنِّساء! يرى البعض أنَّ المرأة يكفيها أن تتَّقن القراءة والكتابة، فمالها وللشَّهادات المدرسية العالية والعلوم الجامعية الحديثة؟! وقد اقترح أمين عام جماعة مِن الجماعات الإسلامية في دولة خليجية عدَّة اقتراحات لمعالجة النَّقص في الميزانية العامَّة للدَّولة، منها اختصار فترة تعليم البنات، بحيث لا تتجاوز المرحلة الثَّانوية فقط، وذلك بهدف تربيتهن وإعدادهن ليكنَّ ربات بيوت، قال: وفي حال إصرارهنَّ على إكمال دراستهن فيجب أن يُسمح لهن بالتَّخصص فقط في مجال التَّدريس والتَّمريض" (باختصار).

مما سبق يتّضح أنَّ تحرير المرأة المُسلمة اليوم وِفق الضَّوابط الشَّرعية يُنادِي به جمعٌ من المفكِّرين في ظلِّ صمت الآخرين. إنَّ تراثنا الإسلامي يحتوى على موادٍ ساهمت في ترسيخ ظاهرة التَّقليل من شأن المرأة، وضرورة عزلها عن حياة وحركة المجتمع، وهذا كلّه عمل على تهوين أمر تعليمها. الدَّلائل تُشير إلى أنَّ الفكر الدِّيني يُعاني من كمٍ غير قليل من المُتناقضات في شأن المرأة وأنَّ النُّصوص الدِّينية استُخدمت لتبرير العادات الرَّاسخة المُخالفة للدِّين. ساهمت كل أشكال التَّبعثر الفِكري في غموض الفلسفة التَّربوية وبروز ممارسات تعليميَّة مُتناقضة كلها تزعم أنها تملك حصانة مُقدَّسة وتدَّعي حراسة الحقّ والعدل. رغم اختلاف التَّوجهات السَّابقة إلا أنَّها في النَّهاية نجحت في إقصاء المرأة عن المساهمة الحضاريَّة وشكَّكت المجتمع في قدرات النِّساء وكردَّة فعل لهذا ترك بعض المثقفين والمثقَّفات الحل الإسلامي لأنَّ أصحابه من المُصلِحين يَدورون مع العادات لا الحقوق. 

 

مِنْ أَسباب انهيار الحضارة الإسلامية

المُحِبُّ لِدينِه لا يَنفك عن التَّفكير في أسباب انهيار الحضارة الإسلامية وما آلت إليه الأمَّة من ضَعف وشتات، فإنَّ تشخيص الدَّاء بدقَّة وتحليل الوقائع بأمانة واصلاح الأوضاع من مُستلزمات الشِّفاء بإذن الله. سقطت الحضارة المسلمة بالتَّدريج بعد أن نجحت في وثبتها العملاقة في التَّربع على عرش القيادة الحضارية وبناء صُروح شامخة للعلوم والمعارف لمدة عدَّة قرون. مع اتساع رقعة الدَّولة الإسلاميَّة ضعف الإبداع والاجتهاد في ميادين العلوم المختلفة ووفدت ثقافات غيَّرت تُربة التَّربية العربية الإسلامية فنبتت نباتات ضارَّة استحكمت فيها العَصبيات العِرقيَّة الخاصة، وتراكمت العثرات فاختلطت الثَّوابت بالمتغيرات ودخلت مفاهيم سلبية حلت محل القيم الأخلاقيَّة والمعايير العلمية. بذلك خبت جذوة العمل العِلمي الجاد الموصول ودبت الفُرقة في أوصال الأمة لشيوع قِيم مُتخلفة لا تحفل بحقيقة العقيدة النَّقية، ولا تُقدر العَطاء الفِكري، ولا تشجِّع التَّجديد التَّنويري، ولا تُعلي من شأنَّ العمل اليدوي، ولا تجاهد من أجل الوحدة. لا حظ أبو حامد الغزالي العد التَّنازلي لمستوى الأمة في نهاية القرن الخامس الهجري فهرع نحو رفع شعار إحياء علوم الدِّين الذي بدوره فيه إحياء لعلوم الدُّنيا ولكن جهود المجتهدين اختلت موازينها مع ضعف وضع الأمَّة حينذاك وكانت قاصمة الظَّهر مع جحافل ضربات الصَّليبين المُتواصلة، وهجمات المغول التي دكَّت البلاد دكاً. 

"أصبحت الخلافات الجُزئيَّة والخلافات الفَرعيَّة أساساً لعصبيَّات مَذهبيَّة فرَّقت جمع المسلمين وحَجبتهم عن النَّظر العميق إلى جوهر الأشياء وإلى القضايا الرَّئيسيَّة والمشكلات الكبرى في الحياة وأضعفت شعورهم بوحدة العالم الإسلامي ووحدة قضاياه ومُشكلاته. لقد ضُيقت مفاهيم الإسلام الأصليَّة واختلت القيم والموازين واختلفت النِّسب التي أقامها بين نواحي الحياة من عبادة وعمل وتهذيب للنَّفس وتحصيل للعلم وكسب للعيش وإنفاق للمال وجهاد في سبيل إقامة العدل بين النَّاس فغلبت على المسلمين جدليَّة اليونان في العقيدة، وصوفيَّة الأعاجم والانعزاليَّة والتَّواكل والكسل في الحياة" (المبارك، 1970 م، ص 39). بات التَّصور الصَّحيح لمبادئ الإسلام غريباً في حسِّ ووعي الجماهير المسلمة بعد أن أصبحت بِدع القبور موضع التَّقدير، وخرافات الغيب تخترق العقول. التَّربية الباطنيَّة المُغاليَّة المجافية للصَّواب أفرزت ضعف الوعي الفِكري وأدَّت إلى الخواء الإيماني فلا يكاد الفِكر يُنكر إسراف الأمراء وانحراف العلماء.

وهكذا فإنَّ الطَّامة التي وقعت بالأمَّة بدأت عندما تحطمت معاني وتطبيقات بعض المنطلقات الإسلاميَّة الفِكريَّة الأصيلة وما عادت أُسس التَّفكير العلمي المرجعيَّة الضَّابطة للأمَّة المسلمة المُتضامنة بل أصبح التَّسليم بشطحات الأولياء ومبالغاتهم، والخضوع لجشع الأمراء وتجاوزاتهم مسار ومدار الحركة الاجتماعية والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة فكانت نكبة فكرية أضعفت المجتمع المسلم. معاني التَّوحيد الرَّفيعة التي هي أقوى مصادر نهضة الأمَّة المسلمة أصابها التَّهميش والتَّشويش وتحولت المناهج والمؤسسات التَّعليمية مرتعاً خصباً لنشر التَّكاسل والتَّخاذل باسم التَّصوف أو ميداناً لأتون نار الحروب المذهبيَّة المُلتهبة باسم علم الفِقه. يقوم كيان الأمة المؤمنة العالمة العاملة على العمل بأركان القرآن ومتى وقع التَّفريط في هذا المبدأ فإنَّ الأمَّة بلا شك مصيرها إلى أن تُصاب بالوهن في عطائها، والضِّيق في معيشتها، والارتباك في إدراكها. الحياة ميدان كدح يحترم المجتمع العاقل العامل فيمنحه التَّقدم ويهبه المهابة أما المجتمع الخامل الجاهل الذي إذا أفلس لام النَّاس فلا ينال إلا التَّأخر عن الرَّكب في هذا الميدان. هكذا هي سُنَّة الله في المجتمعات "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {62}" (سُوْرَةُ الأحزاب).      

أشار محمد الغزالي (1986م، 1996 م) وأبو الحسن النَّدوي (1978م) وغيرهما إلى عدَّة أسباب هامَّة  سبَّبت وتُسبب ضعف الأمَّة لن نتناولها بالتَّفصيل ولكن سنشير إلى أهمها ونضيف إليها ونصيغها على هيئة نقاط وهي كالآتي:

شيوع التَّصور الجزئي للإسلام وفصل الدِّين عن الدَّولة نظرياً وعملياً وتضخيم الجزئيات الدِّينية الخلافيَّة. يذكر محمد الغزالي في كتابه سر تأخر المسلمين والعرب أنَّ محمد رشيد رضا[110] قال "لم يُقصِّر المُصنفون من المتقدِّمين والمتأخرين في شيءٍ من علم الكتاب والسُّنَّة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سُنن الله تعالى في الأمم! والجمع بين النُّصوص التي وردت في ذلك، والحث على الاعتبار بها! ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام وقواعد الكلام، لأفادوا الأمَّة بما يحفظ دينها ودنياها وهو ما لا يُغني فيه التَّوسع في دقائق مسائل النَّجاسة والطَّهارة والسُّنن، والإجارة، فإنَّ العلم بِسُنن الله تعالى في عباده لا يعلوه إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، بل هو مِنه، أو مِن طُرُقه ووسائله" (ص 10). مِن سُنن الله الكونية معرفة عواقب الحُكم الفردي، والطُُّغيان الاقتصادي، والتَّمادي في الغي وهذه المعرفة ينبغي أن تُؤدي إلى مُحاربة الظُّلم بسلاح العِلم والحِلم والحِكمة.

الثَّقَافَة الإسلامية في طورها القائم تحمل مخلَّفات القرون الماضية مثل شيوع أفكار غيبية تحثُّ على التّواكل والبدع والضَّلالات مع إهمال قانون السَّببية. "السَّبب المهم في التَّخلف الحضاري هو "شيوع التَّدين المُزيَّف، ووقوع الثَّقافة الدِّينية اجمالاً بين طوائف من ذوي المعادن الرخيصة أو المُعتلَّة ... ويغلب على هؤلاء التَّأثر بالزُّهد الهندي أو النَّصراني، والرَّغبة في الدُّنيا، وعصيان نداء الفِطرة، والغرام بالمبتدعات، واتهام النَّزعات العقلية.." (محمد الغزالي، 1996 م، ص 77).

مع مرور الزَّمن تغلبت الطِّباع السَّلبية الخاصة بالدُّنيا وعلومها وقلة الاحتفال بالعلوم التَّطبيقية وهدر الطَّاقات في المسائل الخلافيَّة الجزئيَّة. شاعت فكرة ازدراء الصِّناعات والحِرف مثل الحِدادة والنِّجارة وإلى عهد قريب كانت بعض مُؤسسات التَّعليم بِطريقة أو بأخرى تغرس في نفوس المُتعلمين هذا الاتجاه المُنحرف. "كنَّا ندرس ونحن طلاب أنَّ لفظ "آل" لا يُضاف إلا إلى الأشراف، فلا يُقال آل الحجام ولا آل الإسكاف " (الغزالي، 1996م، ص 76). الكثير من علماء المسلمين لم يعتنوا بالعلوم الطَّبيعيَّة التَّجريبيَّة وبالعلوم العمليَّة المثمرة المفيدة اعتناءهم بعلوم جدليَّة فلسفيَّة. يقول النَّدوي عن تراثنا مقارنة بِتراث الغرب "وإنَّ ما خلفوه من كتب في الطَّبيعيات والكونيات والتَّجارب العِلْمِيَّة، وإن كانت مما استفادت به أوربا في نهضتها وأقرَّت بقيمتها، إلا أنَّها تتضاءل جداً أمام هذه المكتبة الهائلة الزَّاخرة التي أنتجتها أوربا في القرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر فقط، فمهما افتخرنا بآثار علماء الأندلس وحكماء الشَّرق، فإنَّها لا تعد شيئاً بجانب الإنتاج الغربي الضَّخم في العلم والحِكمة والتَّجربة والاختبار، لا في الكميَّة ولا في الإبداع ولا في الابتكار، ولا في التَّدقيق العلمي ولا في الإتّقان الفنَّي" (ص 194). وفي شأن التَّقليل من قيمة العلوم الغير شَرعية يتداول العلماء ما حكاه أحد العلماء من " أنَّ الخليل بن أحمد رُؤي في النُّوم فقيل له: ما فعل بك ربُّك قال: غَفر لي، قيل: بما نجوت قال: بلا حول ولا قوة إلا باللَّه قيل: كيف وجدت علمك أي الأدب والشِّعر قال: وجدته هباءً منثوراً". رغم أنَّ الخليل حفظ للأمَّة لغتها وخدمها خدمة جليلة.

فقر القيادة المبتكرة ونقص في القياديين من أصحاب التَّأثير الجماهيري والفِكر الإستراتيجي الجماعي وفي مقابل ذلك انتشر النَّموذج القيادي الفردي المتسلِّط. إنَّ البطش والإرهاب يحجب نهضات الشُّعوب ويُعيق مسيرتها الثَّقافية والتَّطبيقة. إنَّ توسيع نطاق الحرِّيات من أهم مُقومات الأمن والإستقرار.

نشأ الانحراف الاجتماعي من دخول عادات وافدة لتحل محل القيم الإسلامية مما سبب تَدني وضع المرأة في عصور الضَّعف وتفشي الأمِّية بين صفوف النِّساء. "إنَّ جمهرة من علماء الدِّين وضعت صعوبات رهيبة أمام تعليم المرأة في شتى المراحل" (الغزالي، 1990 م، ص 24). ومع بداية القرن الواحد والعشرين يمكن أن نُلاحظ بوضوح في كثير من المُجتمعات الإسلامية مِظاهر استحكام العادات العربية القديمة المُنافية للدِّين مثل العَصبية القبلية والولاء المُطلق للدَّم. مازالت القبيلة من المعايير الحاسمة في الأمور الهامَّة مثل الزَّواج، والولاء والتَّرشيح والإنتخاب عند شريحة كبيرة من المُثقين المُسلمين.

تخبّط السِّياسة الماليِّة في المجتمع فانتشرت الرِّشوة والبطالة المقنعة والبطالة الصَّريحة.

الفساد السِّياسي بعدما وسد الأمر إلى غير أهله واختل ميزان الأمن والأمانة. لقد شهدت الأقاليم الإسلامية منذ العصر الأموي انحرافات ضارَّة بالتَّربية الإسلامية فقد انتشرت القصص تحت وطأة الصِّراع السِّياسي  (أبيض، 1980م، ص 88). كما نشأت الازدواجية في التَّربية الإسلامية (أبيض، 1980م، ص 95، 198) وتتمثل في ظهور طبقتين ثقافيتين الأولى هي طبقة أبناء الأمراء والخلفاء ممن درسوا العلوم الكثيرة التي تؤهلهم للمراتب النَّبيلة في حين كانت الطَّبقة الثَّانية - التي تَشمل السَّواد الأعظم من النَّاس – تقتصر على دراسة العلوم الدِّينية ممن درسوا على يد المعلمين لا كبار المؤدبين. إنَّ مقومات ومكونات الثَّقافة عند الطَّرفين جعلت نظراتهم مُختلفة في تعلم العلوم والقدر المطلوب للانفتاح على ثمار الحضارات الأخرى.

ضعف الاجتهاد العلمي. في ميدان الفقه كان نهج التَّقليد هو السَّائد بين العلماء وفي المدارس فمنذ سقوط بغداد في القرن السَّابع الهجري إلى الوقت الحاضر كما يقول د. عبدالكريم زيدان (1996 م) "لم ينهض الفقه من كبوته ولم يُغير الفقهاء نهجهم" (ص 126) رغم المحاولات الجادَّة لبعض العلماء لفتح باب الاجتهاد إلا أنَّ الجمهور من العلماء ظل يتقيد وينغلق في كُتب الشُّروح والحواشي لفهم المتون.

من السَّهل للخطباء والمصلحين أن يُلقوا اللَّوم كلَّه على الحُكَّام والقادة السِّياسيين في تفسير أسباب وهن الأمَّة وقد تُصفِّق الجماهير السَّاخطة لهذا التَّوجه ولكن الأمر أعمق من ذلك. قال أبوحامد الغزالي "إنما فسدت الرَّعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء" (ج2، ص 234).

انحراف المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة عن دورها وعدم تجديد رسالتها حسب مقتضيات العصر. أصبحت الخَوَانِق مساكن للخاملين وضعفت المعاهد العِلْمِيَّة فانشغلت بحروب فِكْرِيَّة مذهبيَّة شغلتها عن التَّعْلِيْم والدَّعوة ونقد الواقع بشكل شامل وبنَّاء. مِن الأمانة العِلْمِيَّة أن نذكر أنَّ تعمير المدارس لم يكن دائماً لتنوير الفِكر وتطويره بل العكس قد يكون صحيحاً في بعض الأحايين إذ تكون المدارس والمعاهد تدميراً أو تخديراً للفكر ولوحدة الأمَّة. ذكر سيد سابق رحمه الله (2000 م) في مقدِّمة كتابه الشَّهير فقه السُّنة أنَََّ الرُّوح الرَّجعية والتَّعصب للمذاهب الفقهية وضعف العزائم دفعت ببعض علمائِنا إلى إغلاق باب الاجتهاد مما سبب خمود الحركة العقليَّة، ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون، ولا يَعرفون غير الحَواشي وما فيها من إيرادات واعتراضات وألغاز حتى وثبت أوربا على الشَّرق تصفعه بيدها وتركله برجلها. ويرى السَّيد سابق أنََّ إنشاء المدارس وتضييق دائرة التَّدريس على مذاهب مُعينة من أسباب الرُّكود الذي كان من آثاره أن فرَّقت الأُمَّة شيعاً وأحزاباً حتى أنهم حادوا عن جادَّة الصَّواب فاختلفوا في حكم تزوج الحنفيَّة بالشَّافِعِيّ فقال بعضهم لا يصح وقال آخرون يصح قياساً على الذَّمية من أهل الكتاب!! مِنَ المُحْزن أنْ نجد في تاريخنا صفحات لا تليق بعظمة هذه الأمَّة كأن نقرأ مثلاً عن حادثة وقعت سنة 470 هـ = 1077 م بين العلماء من مذهبين اشتدَّ بينها الخلاف والجدل واشتعلت نار الفتنة وكان كما قال أحد المؤرخين: ولِكل من الفريقين طائفة من العوام وقُتل بينهم ما يُقارب من عشرين قتيلاً وجُرِح آخرون ثم سكنت الفِتنة. مِنَ المُحْزن أنْ نقرأ عن غضب وغلظة بعض النَّاس مع محمد بن جرير الطَّبرى (ت 310 هـ = 922 م) بسبب اختلاف المذهب حتى رموا داره بالحجارة ودُفن في داره لأنَّ بعض العوام مَنعوا من دفنه نهاراً مع أنَّه كان أحد كِبار أئمة الإسلام الأوائل في فن التَّأليف والتَّاريخ والتَّفسير إذ مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة كما يقول ابن كثير في ترجمته (ج 11: ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة).

لم تحفل مناهج المؤسسات التَّعليمية الإسلامية بمبتكرات الفِكر الإنساني في العلوم المُتنوعة، فالمدرسة النِّظامية ولمدة أكثر من ثلاثة قرون لم تهتم بالعلوم الدنيوية. كانت المدرسة النِّظامية بجميع فروعها مدرسة كما يقول د. محمد أحمد جاد صبح (1993 م) "للعلوم الشَّرعية والعربية، وليست مدرسة للعلوم الحكمية والفلسفية، ولم يدخل واحد ممن تناولوها بالحديث عنها، أنَّ منهَجَها تضمن دراسة الطِّب، والفَلك، والرِّياضيات. ولعل ضيق منهج المدرسة النِّظامية حينئذٍ، يُترجم عن الحياة العلمية التي سادت الأُمَّة الإسلامية" (ج1، 290-291، انظر أيضاً ص 289).

 العوامل الخارجية من كيد الأعداء وتسلِّط جيوشهم. ولقد وضعنا هذا العامل في الأخير لأنَّه أضعف العوامل فالجبهة الدَّاخلية إن كانت مُحصَّنة فإنَّها تستطيع أن تصمد أمام هجوم الأعداء فضرّهم أقل من الضَّرر إذا كان داخلياً. ضعف المناعة أو على حد تعبير مالك بن نبي "القابلية للاستعمار" مُقدِّمة طبيعية تَسبق انهيارات الأمم. لا شك أنَّ بعض الأحداث التَّارِيخِيَّة لا يمكن نسيانها ولعبت دوراً كبيراً في دخول الأمَّة إلى منحنى تاريخي أعاق الأمَّة من إتمام مسيرتها الحضارية. لقد اخترق هولاكو حفيد جنكيز خان البلدان وأحرق المدن الإسلامية ومزَّقها الواحدة تلو الأخرى وهجم على بغداد عاصمة العلم سنة 656 هـ = 1258م في عهد المستعصم بالله آخر الخلفاء العبَّاسيين وكان فيها 36 مكتبة عامَّة. ذكر ول ديورانت أنَّ هولاكو وجنوده "أعملوا فيها السَّلب والنَّهب والقتل أربعين يوماً كاملة فتكوا فيها بثمانمائة ألف من أهلها على حدِّ قول بعض المؤرخين. وهلك في هذه المذبحة الشَّاملة آلاف من الطُّلاَب والعلماء والشُّعراء ونُهِبَت أو دُمِّرت في أسبوع واحد المكاتب والكنوز التي أنفقت في جمعها قرون طوال وذهبت مئات الآلاف من المجلدات طعاماً للنِّيران..ولسنا نعرف أنَّ حضارة من الحضارات في التَّارِيخ كله قد عانت من التَّدمير الفجائي ما عانته الحضارة الإسلامية على أيدي المغول" (ص 3131).

وبذلك الحَدث الهائل تهاوت صروح بغداد كما سقطت الدَّولة الأموية من قبل والتي استمرت من سنة 661-750م. وإذا كان العصر الأموي عصر التَّوسع في الفتوحات فإنَّ العصر العباسي هو عصر التَّوسع في العلوم وإرساء دعائم التَّعْلِيْم العالي المنظَّم ونشر مؤسساته في الأقاليم. سقطت بغداد "مدينة السَّلام" بعد أن كانت حافِلة بالكتب والمكتبات والمساجد والمدارس لمدة مئات السِّنين وانتهى الفصل الأخير من حياة العباسيين في بغداد بعد أن استمرت لمدة خمسة قرون من سنة 132هـ =750 م إلى سنة 656 هـ = 1258م.كانت الخلافة العبَّاسيَّة مالكة لناصية القوَّة ولها النُّفوذ والهيبة والحضارة حتى أنَّ المؤلفين يُطلقون على العصر العباسي "العصر الذَّهبي للحضارة الإسلامية" وصدق ربُّ العِزَّة في قوله"وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (سُوْرَةُ آل عمران، آية: 140).

لا يمكن لمسلم أن ينسى تلك الحوادث الأليمة كما وصفها قلم المؤرِّخ العظيم ابن الأثير في كتابه الكامل في التَّارِيخ حيث يقول بلهجة حَزينة مُتردِّدة عن قدوم التَّتر إلى بلاد الشَّام "لقد بقيتُ عدَّة سنين مُعْرِضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لِذِكْرِها، فأنا أُقدِّم إليه رِجلاً وأُؤخر أُخرى، فمَنْ الذي يَسهل عله أنْ يَكتبَ نعي الإسلام والمسلمين ومَن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تَلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنتُ نَسياً مَنسياً .. حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا مُتوقف ثم رَأيتُ أنَّ تركَ ذلك لا يُجدي نفعاً فنقول: عَمَّت الخلائق وخَصَّت المسلمين فلو قال قائل: إنَّ العالم مُذ خلق الله سُبْحَانَهُ وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً فإنَّ التَّواريخ لم تَتضمن ما يقاربها ولا ما يُدانيها" (ص 4319).

هناك علاقة قوية بين سقوط الأمم وبين انحراف فِكر العلماء والمثقفين لأنَّ هذا الانحراف سَيسري أثره إلى الثَّقافة العامَّة في المجتمع فيتأثر بها. قال ابن تيمية في فتاويه "وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ هَؤُلاءِ (التَّتار) دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ ظُهُورُ الإِلْحَادِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَنَّهُ صَنَّفَ الرَّازي كِتَابًا فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالأَصْنَامِ وَعَمَلِ السِّحْرِ سَمَّاهُ "السِّرُّ الْمَكْتُومُ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ" وَيُقَالُ: إنَّهُ صَنَّفَهُ لأُمِّ السُّلْطَانِ عَلاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ لَكْشِ بْنِ جَلالِ الدِّينِ خَوَارِزْم شاه وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِ الأَرْضِ وَكَانَ للرَّازي بِهِ اتِّصَالٌ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ عَلَى أَوْلادِهِ وَصَنَّفَ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ "الرِّسَالَة الْعَلائِيَّة فِي الاخْتِيَارَاتِ السَّمَاوِيَّةِ"… وَأَهْلُ النُّجُومِ لَهُمْ اخْتِيَارَاتٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلاً أَخَذَ طَالِعًا سَعِيدًا فَعَمِلَ فِيهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ لِيَنْجَحَ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَكَرُوا كَثْرَةَ مَا يَقَعُ مِنْ خِلافِ مَقْصُودِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَكَمْ يُخْبِرُونَ مِنْ خَبَرٍ فَيَكُونُ كَذِبًا وَكَمْ يَأْمُرُونَ بِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ شَرًّا والرَّازي صَنَّفَ الاخْتِيَارَاتِ لِهَذَا الْمَلِكِ وَذَكَرَ فِيهِ الاخْتِيَارَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ فِي "السِّرّ الْمَكْتُوم "فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَدَعْوَتِهَا مَعَ السُّجُودِ لَهَا وَالشِّرْكِ بِهَا وَدُعَائِهَا مِثْلَ مَا يَدْعُو الْمُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ، بَلْ أَعْظَمَ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى الزُّهْرَةِ بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَهَذَا فِي نَفْسِ الأَمْرِ يُقَرِّبُ إلَى الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: إنَّ الْكَوْكَبَ نَفْسَهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَإِلا فَالْكَوَاكِبُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ لا تَأْمُرُ بِشِرْكٍ وَلا غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي تَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهَا مَلائِكَةً وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ فَلَمَّا ظَهَرَ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ بِسَبَبِ مِثْلِ هَذَا الْمَلِكِ وَنَحْوِهِ وَمِثْلِ هَذَا الْعَالِمِ وَنَحْوِهِ مَا ظَهَرَ مِنْ الإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التُّرْكَ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارَ فَأَبَادُوا هَذَا الْمُلْكَ وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ" (ج 13، ص 117، باختصار).

       أوجز ابن تيمية أسباب سقوط الحضارة الإسلامية وخرج بجملة من السُّنن القرآنية نرى مِصداقيتها في مسيرة التَّاريخ فقال"فَكَانَ الإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالْجِهَادُ عَنْ دِينِهِ سَبَبًا لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَبِالْعَكْسِ الْبِدَعُ وَالإِلْحَادُ وَمُخَالَفَةُ مَا جَاءَ بِهِ سَبَبٌ لِشَرِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَلَمَّا ظَهَرَ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ الإِلْحَادُ وَالْبِدَعُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ وَلَمَّا أَقَامُوا مَا أَقَامُوهُ مِنْ الإِسْلامِ وَقَهْرِ الْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ نَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ، تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}" (مجموع الفتاوى، ج 13، ص 177).

إنَّ ضعف التَّعليم وفشله في حماية الذَّات والمجتمع يقف وراء قواصم لا عاصم لها إلا الإيمان الصَّادق والتَّربية الصَّحيحة كي تكون الأمَّة مُحصَّنة داخلياً آمنة بحصونها الحضارية وعندها قابلية لرفض النُّفوذ الخارجى والتَّدخل الأجنبي. ولكي تقوم الشُّعوب برسالتها حقَّ القيام فعليها أن تعرف سرَّ تأخرها وسبب تخلفها ثمَّ عليها أن تتدارك الخلل وتتَّبع الأسباب لترى الجوانب الإيجابية تعود من من جديد إلى حياتها، وتعود العافية لبدنها.

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1