]الفَصْلُ الثَّانِي: مُنْجَزَات[

*   من كتاب تراثنا التربوي : ننطلق منه ولا ننغلق فيه

*    د. بدر محمد  ملك      د. لطيفة حسين الكندري

 

 

]الفَصْلُ الثَّانِي: مُنْجَزَات[. 4

المُسلمون شَيَّدُوا صُرُوح العلوم 4

عِلْمُ الحديث النَّبوي. 8

عِلْمُ المعاجِم اللّغوية 12

عِلْمُ الْطَّبَقاَت.. 20

عِلْمُ التَّرْجَمَة 25

عِلْمُ الحسَاب.. 31

عِلْمُ المناظر 33

عِلْمُ الهيئة 35

عِلْمُ الحِيَلِ. 39

عِلْمُ الطِّب.. 43

تجديد الرَّازي لطرق دراسة وتدريس العلوم الطِّبيَّة 50

البيمارستانات وأنشطتها التَّعليمية 62

تأسيسُ الْمَدَاَرِس ووظائفها 66

الحياة المدرسيَّة وبعض المُصطلحات الإداريّة 75

الكتاتيب.. 80

الأزْهَر الشَّريف.. 89

المدرسة النِّظَامِيَّة 91

المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة 94

الخَوَانِق والزَّوايا والربط. 99

وظَائِف الخَوَانِق. 104

بعض الضَوابِط الشَّرْعِيَّة للخَوَانِق. 109

الكُتب والمكتبات العامّة 110

الإسهامات الحضاريَّة للمرأة المسلمة 122

الرِّحْلَة العِلْمِيَّة في دُنْيَا الإسلام 137

تَعلِيمُ العميان. 147

حَقائق الْتَّارِيْخ تَنطق بروعة تُراثنا 154

الحَضارة ثمرة المُنجزات لا المُعجزات.. 159

 


]الفَصْلُ الثَّانِي: مُنْجَزَات[

المُسلمون شَيَّدُوا صُرُوح العلوم

تناول الفصل الأول من كتابنا هذا شرح المنطلقات الْنَّظَرِيَّة التي مِن شأنها أن تَقود إلى نهضة واقعيَّة والآن سنرى ثمرة تَطبيق المنطلقات ونتصفَّح بعض الصَّفحات النَّاصعة من ثروتنا التَّربويَّة ويتمثَّل هذا في عرض أدلَّة علميَّة تحكي جوانب العظمة الحضاريَّة. إنها حقاً وصدقاً صفحات ناصعة مُشرقة بالعطاء العميم، والمستنيرة بالنَّشاط العظيم لأنها فتَّقت أبواب منهج تربوي في فروع مختلفة من العلوم والفنون والآداب. لقد نقل المسلمون الميادين العلمية إلى آفاق رحبة استفادت ومازالت تستفيد منها الإنسانيَّة. وقاموا بتشييد صَرح العلوم، وحازوا على قَصَبَ السَّبقِ في تَعليم الإناث، وتأسيس الْمَدَاَرِس والمكتبات لعامة النَّاس، وتنشيط الرِّحْلَة في طَلَبِ الْعِلْمِ، والعِناية بتعليم الْعُمْيَانِ ووضع أساسيات إنسانيَّة كفلت انطلاقة تطبيقيَّة للتَّربية الخاصَّة للمعاقين ممن يواجهون العوائق والتَّحدِّيات الحِسية. جميع هذه المنجزات - وغيرها أكثر وأعمق - في تراثنا التَّربوي كانت ضمن المساهمة الإنسانيَّة الإيجابيَّة المُتميِّزة في التُّرَاث العالمي. شيَّد المسلمون صُروح العلوم وتراثهم الخصيب يُثبِت حقيقة هذا الأمر بالأدلَّة المُتواترة والتي سنورد شَطْراً منها إن شاء اللّهُ قريباً في هذا الفصل بعد مُقدِّمة لا بد منها.

المُنصف الذي يستقصي طرفاً من تراثِنا الفِكري الوافر، سيعلم عظمة شأن المسلمين الذين نبغوا في علوم شتى كالجبر والصَّيدلة والطِّب والجغرافيا والفلك والتَّرْجَمَة وعِلْمِ الحيل والكيمياء ثم يرى براعتهم في نشر الْعِلْمِ بعد الفهم، شَرقاً وغَرباً عبر بوابات الْمَدَاَرِسِ التي بنوها في آسيا وأفريقيا وأوربا. قام المسلمون الأوائل بالتَّفتيش عن الْعِلْمِ في كل مكان فلم يُهملوا عِلْمَ السَّابقين من الأمم فأخذوا فكرة الإسطرلاب من اليونان، وطوَّروا في وظائفه وتصنيعه ليعمِّروا الحياة بعلوم راقية تخدمهم أيضاً في أمور دينهم. وبذلك العطاء وضعوا منهج الإسلام في التَّفكير الْعِلْمِي في موضع التَّنفيذ وتحولت النُّصوص الشَّرعية إلى خطاب عملي يسير على هديه خبراء التَّربية والتَّعْلِيْم في الحضارة الإسلاميَّة. كان المعلمون يُطالبون طلابهم بالتَّخصُّص ثم التَّعمق في هذه العلوم دون الإخلال بالضَّوابط الأخلاقيَّة كي يكون الْعِلْمُ مصدر تعميرٍ وهناء، لا تدمير وشقاء.

كانت ثقافات العالم تبني مناهجها الدِّراسيَّة على قاعدة العلوم السَّبعة الحرَّة (Seven liberal Arts) وهي تشتمل على النَّحو, والبلاغة, والمنطق, والحساب, والهندسة, والفلك, والموسيقى. هذا المنهج عرفه اليونان وتوسع به الرُّومان وسار عليه رجال الدِّين في أوربا في فترة العصور الوسطى وأضافوا إليها العلوم الدِّينيِّة. كانت هذه المناهج  تُدَرّس للطَّبقة الأرستقراطية كما كان هذا الأمر سائداً من قبل (Clabaugh & Rozycki, 1990, p. G7). وبما أنَّ الإسلام لا يخص ولا يحتكر الْعِلْم في طبقة المُختصين في العلوم الدِّينية فإنَّ العلوم التي عرفها المسلمون وشيَّدوا صروحها كانت أرحب في نطاقها من منهج العلوم السَّبعة الحرَّة كما عرفها وطبَّقها الأوربيون في القرون الوسطى.

درس المسلمون علم الأوائل وهي "علوم الأمم السَّابقة من هند وفرس ويونان، وتشتمل على الفلسفة، والطِّب، والرِّياضيات، والهندسة، والفلك وتعرف بعلوم الحكمة أو العلوم العقلية، ويُعْرَفُ أصحابها بالحكماء، تمييزاً لها عن علوم القرآن، والحديث، والفقه، التي تعرف بالعلوم النَّقلية ويُعرف أصحابها بالعلماء" (الترمانيني، 2001 م).

قام المسلمون بجميع طبقاتهم بتشييد العلوم لهدف واضح وهو توحيد الله سُبْحانه ثم عمارة الأرض من دون الإخلال بمبدأ تطبيق مكارم الأخلاق. لم يُدمِّروا البيئة للحصول على منافع سريعة آنية، ولم يَنسوا القيم الأخلاقية في نشر الْعِلْمِ واستخدامه في دائرة الواقع، ولم تكن العلوم المادِّية الدُّنيوية غاية علومهم. لَقَد ذمَّ القرآن الذين "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {7} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ {8} أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {9} ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون {10} اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {11} (سُوْرَةُ الرُّوم). وهكذا تُصبح مسألة التَّوحيد المركز الحضاري الذي تتمحور حوله العلوم وتقوم عليه صروحه، وإلا كبا الفِكر، وانحرف المسار، وأصبحِ الْعِلْمُ المادي يقود الإنسانَ والمجتمعَ نحو الإلحادِ، والإلحاد يقود إلى الفساد، والفساد يعني خسارة الدُّنيا والآخرة.

لقد شيَّد المسلمون صرح العلوم ومن أول يوم من تاريخ الإسلام فقام كل من الرَّجل والمرأة، والأبيض والأسود، والغني والفقير، والأعمى والبصير فأسسَّوا أركانها في حقل العلوم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة ولهذا تختلف مُكونات ومُنتجات الحضارة الإسلامية عن سائر الحضارات. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ {24}" (سُوْرَةُ هُود).

قالَ ابن قيم الجوزيَّة عن مكانة الأمة المسلمة ومنزلتها بين سائر الأمم من حيث العلوم والمعارف الْنَّافِعَة أنَّ الْصَّحَابَة "كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكَّاهم، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وفضَّلهم في الْعِلْمِ، والعملِ والهدى، والمعارف الإلهية، والعلوم الْنَّافِعَة المكمِّلة للنُّفوس، على جميع الأمم. فلم تبق أمة من الأمم تُدانيهم في فضلهِم، وعلومهِم، وأعمالهِم، ومعارفهِم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة، وعِلْم، وهدى، وبصيرة، إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما" "هداية الحيارى (تهذيب)". وهكذا فإنَّ العلوم الخاصة بالتَّربية وتهذيب الأخلاق "المكمِّلة للنُّفوس"، وتطبيق مبادئ العدالة في واقع التَّعليم من أهم ميادين عطاء الحضارة الإسلاميَّة. 

قال حاجي خليفة في مقدِّمة كتابه كشف الظُّنون مُبيناً دور المسلمين في تشييد صروح العلوم: "فلما كان كشف دقائق العلوم وتبين حقائقها من أجلِّ المواهب وأعزِّ المطالب قيَّض اللهُ سُبحانه وتعالى في كل عصر علماء قاموا بأعباء ذلك الأمر العظيم وكشفوا عن ساق الجد والاهتمام في التَّعليم والتَّفهيم سيما الأئمة الأعلام من علماء الإسلام … فمنهم من استنبط المسائل من الدَّلائل فأصَّل وفرَّع ومنهم من جمع وصنَّفَ فأبدع ومنهم من هذَّب وحرَّر فأجاد وحقَّق المباحث فوق ما يُراد، رحم الله أسلافهم وأيدَّ أخلافهم".

"وقد ارتفعت عدَّة نداءات في الآونة الأخيرة في أنحاء العالم الإسلامي تطالب بتدريس تاريخ العلوم الإسلامية. من ذلك قرارات صدرت بمناسبة احتفال العالم الإسلامي بإطلالة القرن الخامس عشر الهجري. كما أنَّ مؤتمر الطِّب الإسلامي الذي عقد في تركيا سنة 1984 قد نادى بإدخال مادة الطِّب الإسلامي في جميع كليات الطِّب بالعالم الإسلامي". والسَّبب في ذلك يعود إلى أهمية معرفة تاريخ العلوم وأنَّه يكشف عن فضل المسلمين في إرساء كثير مما لا يعرفه الأحفاد عن الأجداد كي يحذوا حذوهم في تعمير الحياة.

إنَّ الْعِلْمَ الحقيقي قادَ المسلمين إلى الإيمان الواعي، والإيمان قادهم إلى التَّواضع، فكلَّما زاد عِلْمُ الواحد منهم انكسر الكِبر في نفسه فاستصغر عِلْمَهُ وعرف نقصه فلا يَغترّ بالدُّنيا ويَعلم: "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {3} (سُوْرَةُ لُقمان).

سوف يجد القارئ الكريم فيما يلي أنَّ كل العلوم التي أبدع فيها المُسلمون إنَّما انبثقت من مشكاة توجيهات القرآن الكريم الذي هو منبع العلوم وأمُّ المعارف النَّافعة. قال السيوطي في مقدمة كتابه الإتِّقان إنَّ القرآن "مُفجِّر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها".كانت هذه الملاحظة الأخيرة المُهمَّة قبل الحديث عن بعض العلوم التي أشاد المسلمون صروحها.

 

عِلْمُ الحديث النَّبوي

عِلْم الحديث النَّبوي الشَّريف ظهر مع ظهور الإسلام إذ حرص الْصَّحَابَة على نقل السُّنَّة النبوية بدقَّة لأنَّه لا يمكن فهم القرآن الكريم من دون الرِّجوع للسُّنة فهي شارحة له عِلْماً وعملاً وكما قال الشَّافعي في الرِّسالة "وسنَّة رسول الله مُبَيِّنَة عن اللهِ معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه". وعلاوة على هذا التَّعليل المنطقي فإنَّ التَّوجيهات القرآنيَّة والنَّبويَّة تَستوجب بذل كافَّة الجهود من أجل طاعة واتباع الهدي النَّبوي الشَّريف. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} (سُوْرَةُ الحشر). عن عبد اللّه بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيءٍ تسمعه ورسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتكلم في الغضب والرَّضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأوْمَأ بإصبعه إلى فِيه [فمه] فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقٌّ" (سُنَنُ أبي دَاوُد: الجزء الثَّاني، باب في كتاب العلم،  الحديث رقم: 3646).

لقد أشرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على عَمَلِيَّة تعليم الْصَّحَابَة أهمية سُنَّته وكيفية تطبيقها بأسلوب صحيح، ونقلها بمنهج أمين. مازال المسلمون يتوارثون هذا الإرث الكريم على أنَّه رحمة للعالمين ومنهاج تربية وحركة وحياة وحضارة في كل الأزمنة ولكل الأقاليم فالعِبرة بعموم الألفاظ النَّبوية لا بخصوص الأسباب الْتَّارِيْخيَّة.

لأهل الحديث مراتب عِلْميَّة يتدرج فيها الطَّالب حتى يُصبح عالماً في صنعة الحديث أولها مرتبة الطَّلب وهي تكون مع الطَّالب المبتدئ ثم المُحدِّث وهو الأستاذ الكامل ويُسمَّى الشَّيخ والإمام أيضاً. فإذا ضاعف العالِم جهده وتوسَّع في هذا الفن فإنَّه يصل مرحلة أعلى من تلك وهي رُتبة الحافظ وهو العالم الذي أحاط عِلمه بمائة ألف حديث متناً وإسناداً وتبحراً في معرفة أحوال رواته من ضعف وقوة في حفظهم ومعرفة أمانة كل راوٍ في سند الحديث وما قيل عنه. ومن المراتب العالية في عِلْمِ الحديث مرتبة الحُجَّة وهو العالِم الذي أحاط عِلْمُه بثلاثمائة ألف حديث. ابن عبد البّر يُسمَّى بحافظ أهل المغرب، والخطيب البغدادي يُسمى بحافظ أهل المشرق وهما من عُلَمَاء القرن الخامس الهجري.

من مفاخر هذا العلم أنّه عرف منهج الأسانيد كمنهج لحفظ الحقائق التَّاريخيَّة ولقد أقرَّت طائفة من المُنصفين الغربيَّين بدقَّته وتميُّزه بعد دراسات نقديَّة امتدت لعدَّة سنين للمخطوطات القديمة (Malek, p. 99-103 ) قال عبد اللّه بن المبارك: الإسناد من الدِّين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، وعنه رحمه اللّه - مَثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السَّطح بلا سُلَّم. وقال سفيان الثَّوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل. وعَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ. فَانْظُرُوا عَمّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ. وقال الشَّافِعِيّ رضي اللّه عَنْه: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليلٍ. وَقَالوا: "بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَومِ الْقَوَائِمُ. يَعْنِي الإِسْنَادَ. وقيل: ليس لأحد مِنَ الأمم كلها قديمها وحديثها إسنادٌ موصول إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم. قال أبو حاتم مُحَمَّد بن إدريس الرَّازي: لم يكن في أمة من الأمم مُذ خلق اللّه آدم أمناء يحفظون آثار الرُّسل إلا في هذه الأمَّة. وعليه فإنَّ هذا الْعِلْم الشَّريف عِلْم إسلامي أصيل لو عَرف غير المسلمين ما يشبهه لحفظوا دينهم وتُراثهم من التَّحريف والتَّشويه والضَّياع ولَتفاخروا بتميِّز تُراثهم وعظمة جهود أسلافهِم.

استناداً إلى كتابات ابن عبدالبر في جامع بيان الْعِلْم والخطيب البغدادي في كتابه تقييد العِلم نجد أنَّ كلمة عِلم إذا أُطلقت دون تقييد تعني عند الماضين: عِلْم الحديث النَّبوي الشَّريف ولذلك يقول المؤرخون فطلب فلان العِلم وجلس في مجلس العِلم أي أنَّ فلاناً طلب عِلمَ الحديث. كان هذا هو الدَّارج ولمدَّة عدَّة قرون.

إنَّ كُتب الحديث النَّبوي لها فوائد عظمى في تهذيب وإرشاد المسلم. عن القيمة العِلْمية لمنهج عِلْم الحديث يُقرّ حتى بعض المستشرقين بأنَّ هذا العمل الدَّؤوب للمحدثين أوجدَ عِلماً من أدق العلوم في جمع الأخبار الْتَّارِيْخية وهذا ما تراه نابيا أبات الأمريكية (1897- 1981م) من خلال دراساتها للمخطوطات العربية لمدَّة طويلة وبعناية بالغة وكذلك هو رأي الباحث الألماني هورالد موتزكي الذي يؤكدِّ في دراساته على- أنَّ منهج المُحَدِّثِين من المناهج العِلْمِيَّة الرَّصينة في الْتَّارِيْخ وأنَّه يمكن الاستفادة منه في هذا العصر أيضاً. ولقد قام هارلد ونابيا أبات وجون اسبوزيتو بالرَّد الموضوعي على شبهات المستشرقين أمثال غليوم ومارجليوث وجولدتسيهر (1850- 1921م) وتلميذه جوزيف شاخت (1902- 1969م) ممن يطعنون بمصداقية هذا العِلم (Malek, 1997. P. 90-103، Motzki, 1991، Burton, 1994, p. 181).

ولقد قمنا بدراسة طائفة كبيرة من دراسات المستشرقين فوجدنا أنَّ الذين يرون مصداقية هذا العِلْم عززوا أبحاثهم بجملة من الحُجج العِلمية المنطقية منها أنَّه لا يمكن لأمَّة مثل الأمَّة العربية أن تحفظ تراث الجاهليين مثل المعلقات السَّبع ثم تُفرِّط وتُقصِّر بكلام سيد البشر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يُعقل أن يَعْرِفَ العرب قصائد سوق عكاظ ويحفظون عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ شِعر امرؤ القيس بن حجر، والنَّابغة الذّبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد ثم يُهملون الأهم والأعظم. ولو فرضنا جدلاً مثل هذا الأمر فكيف كان النَّاس يمارسون شعائر دينهم من صلاة وصيام وزواج إذا كانت هذه الأحاديث قد كتبها المُحدِّثون بعد سنة (104 هـ = 722 م) أي بعد العصر النَّبوي كما يزعم بعض المستشرقين.

الدَّلائل كثيرة على أنَّ الْصَّحَابَة منذ العهد النَّبوي وخاصة في الفترة المدنيَّة أخذوا على عاتقهم مسئولية حفظ وتطبيق السُّنُّة وفي بعض الأحيان كان البعض منهم يكتب تلك الأحاديث في أجزاء صغيرة كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما دوَّن الصَّحيفة الصادقة وكما فعل التَّابعي هَمَّام بن مُنبِّه عندما كتب الصَّحيفة الصَّحيحة من فم أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. عندما ظهرت الموسوعات الكبيرة في الحديث فيما بعد بدأت تختفي هذه الصُّحف الصَّغيرة لأنها أصبحت مُدَوَّنة داخل تلك الموسوعات الحديثيَّة. وهكذا فإنَّ جلسات العِلْم ومدارس المسلمين نجحت -قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ- في حفظ الحديث النَّبوي ونَقله في صدور الحفَّاظ وسطور الكُتب حتى وصل إلينا وفق منهج عِلْمِي ناقد بذل المسلمون الغالي والْنَّفِيْس من أجل إرساء مَعالمه وحفظ مضامينه.

مُهِمَّة جمع وترتيب ونقل الحديث النَّبوي لم تقتصر على الْمَدَاَرِس فلقد كانت الأُسَر المُتعلِّمة تعتني بهذا الفن. ومن فروع عِلْم الحديث - كما ذكر ابن صلاح - معرفة رواية الآباء عن الأبناء مثل رواية العباس بن عبد المطلب، عن ابنه الفضل رَضِي اللهُ عَنهما ورواية وائل بن داود، عن ابنه بكر بن وائل ورواية أبي عمر حفص بن عمر الدوري المقري، عن ابنه أبي جعفر مُحَمَّد بن حفص. وهكذا فإنَّ هذا العِلْم وثَّق علاقات أفراد الأسرة بعضهم ببعض وجعل الأب يتعلَّم من ولده، والصَّحابي من التَّابعي والعكس صحيح مما أوجد روابط أعمق وأقوى من الدَّم ألا وهي الرَّوابط النَّاتجة من رَحم العِلْم. ومِن فروع عِلْم الحديث  معرفة رواية الأبناء عن الآباء مثل رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وشعيب هو ابن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.

لا تتحقق طاعة الله من غير اتباع للسُّنة وورد الأمر باتِّباع السُّنة في نصوص مُستفيضة منها "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132}" (سُوْرَةُ آل عِمران) ومِن هنا جاءت الإرشادات النَّبوية ببذل كافَّة الجهود لحفظ هذا الميراث العظيم. في صحيح الْبُخَارِيّ باب العِلْم نجد الحديث يقول "مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" لذلك كان منهج المُحدِّثين مُتشدِّداً في قبول الرِّوايات ومن أجل هذا الأمر أيضاً بدأت الرِّحْلات في طلب العِلْم للتَّأكد من صدق الرِّوايات، وكُتِبت الكُتُب الموسوعيَّة المعروفة بالتَّراجم عن تاريخ ميلاد ووفاة الْعُلَمَاء والعالمات وبلدانهم وأسماء شيوخهم ورأي النُّقاد بمؤهلاتهم. كل ذلك حصل كي يتم معرفة صدق الأسانيد واتصالها وهو الأمر الذي يُعين الباحث على معرفة الأحاديث الصَّحيحة. أما المُتون فلقد قام الْعُلَمَاء بترتيبها وتبويبها حسب اسم الرَّاوي أو الموضوع الذي يندرج تحته ثم قاموا بشرح الغامض من كلماتها بأسلوب مُنَسَّق مُتألِّق حتى ينهل منها الطَّالب والرَّاغب دون كبير عناء.

 

عِلْمُ المعاجِم اللّغوية

وفي نطاق معاجم اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فإنَّه لم ينشأ هذا التَّوجه العِلْمي الموسوعي إلا بعد أن فَسدت ملكة اللِّسان العربي فاضطرَّ العلماءُ إلى تدوين اللُّغَة الْعَرَبِيَّة كعلم مُستقل وهرعوا يجمون دواوين الشِّعر ونفائس الأدب خوفاً من ضياعها بعد أن قلَّ نشاط النَّاس في الاعتناء بها. قبل ذلك كانت اللُّغة العربيَّة مَلكة طبيعيَّة يكسبها الطِّفل من بيئته دون الحاجة للكتب والمعلمين فالطِّفل في البيئة عنده استقامة طبع وسلامة ذوق فيأخذ اللُّغة سليقة، فيحفظها صافية كما سمعها وهو الأمر الذي دفع العرب الأوائل ولمدة قرون إلى أن يُرسلوا أبناءهم للبادية كي يأخذوا اللُّغة الفصيحة فِطرة وطَبعاً وسَجيَّة لا صَنعة وتعلُّماً وتكلُّفاً. في أحضان البادية يأخذ الطِّفل الشِّعر من مَعينه، ويسمع حكايات السَّابقين، ويروي روائع الأمثال والحِكم فتنطبع وترسخ في نفسه ويستقيم لسانه. فسدت ملكة اللِّسان العربي بسبب دخول أمم أعجميَّة في الإسلام وبسبب مخالطة العرب لغيرهم في البلاد المفتوحة. وهكذا تنوَّعت اللُّغات في المجتمع العربي فما عاد الطِّفل يَسمع الكلام العربي الفصيح الصَّافي إلا وقد اختلط بغيره فاحتاج إلى تعلم اللَّغة ومعرفة أصولها كي يَعصم لسانه من اللَّحن.

الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ = 791 م) هو واضع معالم علم جديد هو علم المعاجم اللُّغوية أيام الخليفة المشهور هارون الرَّشيد وهو الذي اخترع علم العَرُوض وبدأ في التَّأليف في أبواب اللُّغة فخدم بصنيعه هذا اللُّغة العربيّة لغة القرآن الكريم. وفيذلك العصر أيضاً وضع الشَّافعي علم أصول الفقه مما يدل على أنَّ القرن الهجري الثَّاني الذي عاش فيه هارون الرَّشيد كان من أخصب عصور وضع أصول العلوم، وأسس المعرفة، وقواعد الثَّقافة عند المسلمين.

الخليل هو صاحب كتاب العين وسمَّاه بهذا الاسم لأنَّه بدأ كتابه بهذا الحرف وقدَّم هذا الحرف لأنَّه الأقصى فصوت العين يخرج من أقصى الحلق (ابن خلدون، ص 541)، وحروف الحلق ستَّة: الهمزة والهاء والعين والغين والحاء والخاء (الـمُبَرِّد، ص 49). العسكري في كتابه الأوائل لم يُبالغ في قوله "ولم يكن في العرب أذكى من الخليل، وهو مفتاح العلوم" (ص 214) وهو الأمر الذي أجمع عليه العلماء (ابن الجوزي في المُنتظم، ص 1678، السِّيوطي في المزهر، ص 567).

قال ابن مَنظور صاحب المعجم العربي الضَّخم النّادر الثَّمين لسان العرب "ع": هذا الحرف قدّمه جماعة من اللُّغويين في كتبهم واستفتحوا به في مصنفاتهم. "لما أَراد الخليل بن أَحمد الابتداء في كتاب العين أَعمل فكره فيه فلم يمكنه أَن يبتدئ من أَوّل أَ - ب لأَنَّ الأَلف حرف مُعتل، فلمَّا فاته أَوَّل الحروف كره أَن يجعل الثَّاني أَوَّلاً، وهو الباء، إِلا بحجة، وبعد استِقْصاء تَدَبَّر ونظَر إلى الحروف كلها وذاقَها فوجد مخرج الكلام كلّه من الحلق، فصيَّر أَوْلاها بالابتداء به أَدخلها في الحلق، وكان إِذا أَراد أَن يذوق الحرف فتح فاه بأَلف ثم أَظهر الحرف نحو أَبْ أَتْ أَحْ أَعْ، فوجد العين أَقصاها في الحلق وأَدخلها، فجعل أَوّل الكتاب العينَ، ثم ما قَرُب مَخرجه منها بعد العين".

من هذا العرض نعلم أنَّ إبداع المعاجم جاء بالملاحظة المباشرة والدَّقيقة لمخارج الحروف على الطَّبيعة كما نطقها العرب الأقحاح وهذه الطَّريقة هي ثمرة المنهج العلمي في التَّفكير كما نادى به الإسلام. لم يكترث الخليل بمدارس جُنْدَيْسَابور الفارِسِيَّة، ولا علوم اليونان أو الرُّومان في وضع قواعد اكتشافه فكان سبقه لهذا العلم نتيجة عبقرية عربية خالصة لم تُنقل من تيارات لغات وثقافات الشُّعوب المجاورة للعرب أو الحضارات القديمة. كان الخليل يخرج للبادية ويسأل الحكماء من الأعراب كُلَّما استغلقت عليه كلمة ويطلب منهم الشَّواهد شِعراً فيتتبَّعها وذلك أنَّ الرُّجوع إلى المصادر الأصيلة مباشرة أقوى طرق المعرفة والبحث الموضوعي.

كان الخليلُ بن أحمد مُربِّياً كبيراً مارس التَّدريس فأبدع فيه، وتصدَّر التَّعليم فتقدمت العلوم بفضل جهوده فنال المجد الذي يتسامى ويزداد حُسْناً على مدي السِّنين ويتألَّق على ممر الحقب، ويدلنا على هذا:

نبوغ معظم  طُلاَّبه،

قوة وعمق أقواله التَّربويَّة،

روعة مواقفه العمليَّة.

فيما يلي أمثلة سريعة تدعم بوضوح ما قلناه آنفاً وتبيِّن لنا بعض جوانب العَظمة اْلتَّرْبَوِيَّة في شخصيَّة وإرث الخليل بن أحمد مُؤسِّس علم المعاجم العربيَّة ذلك العلم العربي الأصيل.

نُبوغ طُلاَّبه: كثير ممن أخذ منه واشتغل عليه نبغ واشتهر وألَّف الكُتب المتميِّزة. سيبويه علامة اللُّغة العربية أخذ منه وكان يسأل شيخه الخليل بن أحمد عما أشكل عليه من المسائل، وكان الخليلُ بن أحمد إذا قَدِمَ عليه سيبويه يقول له: مرحبا بزائرٍ لا يمل. أكابر اللُّغة - مثل النَّضر بن شميل (ت 204 هـ = 819 م)- كانوا من طلاب الخليل بن أحمد وهذه الحقيقة تزداد نصاعة عندما نعلم أنَّ من طُلابه حُنين بن اسحاق وهو من أهل الذِّمة، من نصارى الحيرة، وصار من أكبر المترجمين لتراث اليونان وكان فصيحاً باللُّغة العربية والسِّريانيَّة واليونانيَّة مما يدل على سماحة الإسلام وكرم علمائنا في تعليم غير المسلمين دون مقابل مادي فلقد فتحوا بصنيعهم هذا آفاق الشُّهرة العلميَّة لغيرهم. كانت مجالس الخليل العلمية في البصرة تجمع أهل الفِكر من أعراق ومذاهب وأديان مُختلفة قد نضجت ثقافاتهم، وتفتَّحت آفاقهم. كي نتصور الرُّقي الثَّقافي في مدينة البصرة في أيام الخليل بن أحمد فيكفي أن نعلم أنَّ عدد العلماء فيها يُقَدَّر ببضعة آلاف وفي تقدير ياقوت الحموي في معجم الأدباء "نحو ثلاثة آلاف من المحدثين والفقهاء واللّغويين والنُّحاة والأدباء" (ص 1798) يجتمعون أحياناً في المجامع العلمية وفي وداع العلماء إذا عزموا الرَّحيل. مجلس الخليل – وبكلمات قليلة – كان محط رحال كبار الأدباء، ومُلتقى الحوار الثَّقافي لِنُخَبٍ فِكريَّة من مَشارِب مُتنوعِة.

قُوة أقواله التَّربويَّة: قال "الخليل بن أحمد: يكفي الفتى خُلُق وقُوت، ما أكثر القُوت لمن يموت" (العجلوني: حرف الهمزة: حرف الهمزة مع الرَّاء : في الحديث رقم: 319). وقال "إذا أردت أن تعلم لنفسك فاجمع من كلِّ شيءٍ شيئاً، وإذا أردت أن تكون رأساً في العلم فعليك بطريقٍ واحد" (الحموي في معجم الأدباء، ص 4).

وعن الرِّزق قال:

الرِّزقُ عن قَدرٍ لا الضَّعفُ ينقصُــه
والفقرُ في النَّفسِ لا في المالِ نعرفــه


 

ولا يزيدُكَ فيه حول محتــــالِ
ومثل ذاك الغنى في النَّفسِ لا المـالِ


وعن الالتحاق بالتَّخصص الذي يُناسب طَبع المتعلم وترك العلم الذي لا يتوافق مع استعداداته قال لتلميذ من تلامذته:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه


 

وجاوزه إلى ما تستطيع


ومن نصائحه لطالب العلم أيضاً: "أكثر من العلم لتفهم، واختر منه لتحفظ"، "اجعل ما في كتبك رأس مالك وما في صدرك للتَّفقه"، "إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره"، "ثلاثة أشياء أنا أحبَّها لنفسي ولمن أُحِب رشده: أحب أن أكون بيني وبين ربي من أفاضل عباده، وأكون بيني وبين الخليقة من أوسطهم، وأكون بيني وبين نفسي من شرِّهم" قال أحد العلماء إنَّ هذه الأشياء التي ذكرها الخليل في العبارة السَّابقة تَسْتَحِق أن تُكْتَب بماء الذَّهب (العَسكري، ص 214- 21).

روعة مواقفه: قال ابن كثير "كان الخليلُ رجلاً صالحاً عاقلاً وقوراً كاملاً وكان متقللاً من الدُّنيا جداً صَبوراً على خُشونة العَيش وضِيقه" (ج10، أحداث سنة 170 هـ). "كان الملوك يقصدونه ويبذلون له الأموال فلا يَقبل منها شيئاً وكان يَحج سنة ويَغزو سَنة" (الأبشيهي، ص 222). إذا مَرض تلميذ من تلاميذه قام بحق عيادة المريض وفي يوم من الأيام عاد "تلميذاً له فقال تلميذه إنْ زرتنا فبفضلك أو زرناك فلفضلك" (الحريري، ص 31)، أي في الحالتين الفضل للخليلِ لِتواضعه الذي لا يُظهره للملوك بالقدر الذي يُظهره لتلاميذه. كان إذا خرج من منزله يضع في ذهنه أنَّه سيلتقِي بأحد ثلاثة: إمَّا برجلٍ أعلم منه فيتعلم منه ويُسمي ذلك اليوم يوم الفائدة، أو مثله فهذا يوم المذاكرة، أو دونه عِلماً فذلك يوم الثَّواب لأنَّه سوف يقوم بتدريسه (العسكري، ص 215). وكان الخليلُ بن أحمد إذا استفاد من أحدٍ شيئاً أراه أنَّه استفاد منه، وإذا أفاد إنساناً شيئاً لم يُرِهِ أنَّه أفاده (المناوي: الجزء الثَّاني: في شرح الحديث رقم: 2138). قال أحدهم "دخلت على الخليل وهو قاعد على حصير صغير فأومأ لي بالقعود فقلت أُضيق عليك قال مَه إنَّ الدُّنيا بأسرها لا تتَّسع متباغضين وإنَّ شبراً في شبر يسع متحابَّين" (العجلوني: حرف الميم. في الحديث رقم: 2217). كانت مواقف الخليل التَّربوية سِجلاً أخلاقياً وافياً، ودليلاً تطبيقياً كافياً لكل طلابه كي يقتدوا بها وهذه الحقائق النَّاصعة، والأقوال الهادفة، والوقائع الثَّابتة من نفائس تراثنا التَّربوي.

بعد أن تحدَّثنا عن تاريخ ظهور علم المعاجم وقدَّمنا ترجمة عن واضعه فجدير بنا أن نتحدث عن ثمرة هذا العلم. معاجم اللّغة هي قواميس تُرتَّب فيه مادة كل كلمة ثم  تُرتَّب ترتيباً أبجدياً مثلاً فينظر القارئ إلى مرادفات ومعاني الكلمات الغامضة عليه فيوفَّر ذلك الجهد الجهيد، والوقت الطويل. المعاجم لها قيمة علمية وغايات تعليمية منها:

تقريب فهم ألفاظ القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة،

التَّعريف بمحاسن اللُّغة العربية وسعتها،

تَسهيل معرفة الإملاء الصَّحيح عند كتابة الكلمة التي نعرف لفظها ونجهل صورة كتابتها،

المعاجم مستودع لغة القدماء لأنها حفظت لنا عيون الشِّعر،

تُمدّ الكاتب بعبارات بليغة يستعملها في إنشاء الرَّسائل وتصنيف الكُتب،

تُساعد على تحقيق الغاية التَّطبيقيَّة لتعليم اللُّّغة ألا وهي تحاشي الوقوع في الأخطاء اللَّغوية.

المعاجم فيها تصوير دقيق لحياة العرب في كنف الطَّبيعة والصَّحراء وآدابهم وأيامهم ونباتات الصَّحراء والحيوانات التي تعيش فيها فالباحث الذي يريد أن يلتقط الدَّقائق عن عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم يظفر بمعلومات أمينة نظراً لِقِدَم هذه المعاجم فهي مراجع بحثية أصيلة تصوِّر بعض دقائق الماضي تصويراً فنِّياً وافياً شافياً.

تمثِّل المعاجم هوية الشُّعوب الثَّقافيَّة والاعتناء بها في مؤسساتنا التَّعليميَّة من أوجب الحقوق. المعاجم العربية هي بوابات التَّواصل بالأصالة لأنها تعمل على "المحافظة على اللُّغة وما فيها من ثمار العقل والقلب التي يبني عليها الشَّعب وحدته، ومجده وفخره فإذا حَرمت شعباً آدابه وعلومه الموروثة … حَرمته قوام خصائصه وقُدْتَه إلى العبودية العقليَّة وهي شرُّ من العبودية السِّياسيَّة" لأنَّ اللُّغة أساس سيادة الأمم واستقلالها وكما قال الرَّافعي "وما ذلت لغة شعب إلا ذل" (ج3، ص 373، وانظر أيضاً ملك وخليل، 1989 م، ص 26).

بعض المعاجم قد تقوم بالتَّعريف بالعلوم ونشأتها والإشارة إلى أعلامها والتَّعريف بأسباب ظهور بعض الألفاظ وتقديم نبذة مختصرة عن الخلفيات التَّاريخية للألفاظ وبيان الأخطاء الشَّائعة في استخدام الكلمة إذا ارتبطت بأمر هام أو مُتميز مع ضرب الأمثلة التَّوضيحيَّة. فنجد في المعاجم مثلاً مثال يضربه الخليل بن أحمد ليشرح كلمة "الأسباط" فيقول: "الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل" (الصَّابوني، سُوْرَة البقرة. الآية: 136).

لأنَّ اللُّغة العربيَّة لغة القرآن الكريم فإنها أفضل وأكرم اللُّغات ومن أهم سماتها ثبات أصولها ومُرونة فُروعها إذ أنها لغة واسعة اللَّهجات، وتسع مُصطلحات العلوم ولواحقها، ودقائق الأدب ونوادرها فهي لغة علم وفن ومعرفة وآداب. هذه السِّمات أعطت المعاجم منزلة مُتميِّزة عن سائر اللَّغات. المعاجم العربية تُنافس معاجم الشُّعوب الأخرى وتفوقها في بعض الجوانب "وقد كان هذا التَّفوق نتاج عوامل أربعة هي:

التَّفكير المُبَكِّر في عمل معجم حيث ظهر أول مُعجم كامل في مُنتصف القرن الثَّاني الهجري (الثَّامن الميلادي).

التَّفرد بهدف غاب في معاجم الشُّعوب الأخرى، وهو تسجيل المادة اللُّغوية بصورة شاملة، وشرحها بطريقة منظَّمة، في حين أنَّ معاجم الشُّعوب الأخرى مُجرد قوائم لشرح الكلمات النَّادرة أو الصَّعبة.

كثرة ما ظهر من معاجم عربيَّة على امتداد السَّنوات والقرون حتى إنَّ عدها يكاد يندّ عن الحصر.

تنويع أشكال المعاجم العربية بصورة كبيرة، وبشكل يستنفد كل الاحتمالات العقلية الممكنة للتَّرتيب، ومن المعاجم المشهورة، الغريب المصنف لأبى عبيد القاسم بن سلام (224 هـ = 838 م)، تهذيب اللُّغة للأزهري (ت 370 هـ = 980 م). ديوان الأدب للفارابي (350 هـ = 961 م). شمس العلوم لنشوان بن سعيد الحميري (ت 538 هـ = 1143م) أساس البلاغة للزَّمخشري (ت 538 هـ = 1143 م). المصباح المنير للفيومي (ت 770 هـ = 1368 م). لسان العرب لابن منظور (ت 711 هـ = 1311 م). القاموس المحيط للفيروز آبادي (ت 817 هـ = 1414 م). لقد احتلت المعاجم العربية مكاناً مرموقاً بين المعاجم عبَّر عنه خَبير المعاجم  Haywood بقوله: "الحقيقة أنَّ العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز سواء في الزَّمان أو المكان بالنِّسبة للعالم القديم والحديث وبالنِّسبة للشَّرق والغرب" (عمر، 2001م باختصار، وتصرف).

يتفاوت العلماء في معاجمهم اللّغوية في طرائق إعدادها من حيث حجم الكتاب فمنهم من سلك طريق الإيجاز مثل أبي بكر الرَّازي في كتابه مُختار الصِّحاح فجاء كتابه نافعاً لطلاب العلم فهو ليس بالكتاب الكبير الذي يصعب حمله، ومنهم مَن سلك طريق التَّفصيل فأسهب في إيراد الأدلة مثل ابن منظور في لسان العرب فجاء كتابه للمتخصِّصين المُتبحِّرين. هذا يدل على أنهم كانوا يُدركون وجود شرائح متنوعة من طبقة المثقفين ولكلٍ احتياجه فقاموا بتوفير مُبتغاهم وسدِّ الثُّغور الثَّقافيَّة.

لا ريب أنَّ إعداد المعاجم يتطلب علماً واسعاً وهمَّة عالية، وقدرة على التَّرتيب وتبسيط المسائل، ولزوم الإطلاع على المراجع الكافية للتَّوثيق كي يَخرج الكتاب وفيه الصَّواب على قدر الإمكان. هذه الرَّكائز وغيرها جعلت من عِلْمِ المعاجم عِلْماً له فرسانه وتراثه وخصائصه. كُتُب المعاجم لا يَستغني عنها الطالب والعالِم مهما كان تخصصه العِلْمي ولابد لأي مكتبة مهما صغر حجمها أن تحتوي على معجم يهتم باللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. المعاجمُ قد تُرتَّبُ حسب المباني أي الحروف الهجائية، أو حسب ترتيب المعاني أي الموضوعات. اليوم يقوم الباحثون بكتابة شرح الكلمات الغريبة الواردة في أبحاثهم كي يُقَرِّبوا معانيها للقارئ ولولا المعاجم لوجدوا صعوبة كبيرة في ذلك فمازلت المعاجم تلعب دوراً كبيراً في توفير جهودنا وأوقاتنا مع إثراء دائم لتنمية عقولنا.

 

عِلْمُ الْطَّبَقاَت

وتحت باب المعاجم الْتَّارِيْخيَّة برع المسلمون في وضع عِلْم الْطَّبَقاَت وهو عِلم يتتبَّع الشَّخصيات في قرن أو بلد مُعين فيُؤلِّف الكاتبُ كتابه عن جيل الصَّحابة أو الجيل الذي جاء بعدهم من التَّابعين وهكذا يُعتبَر كل جيل طبقة وكل شخصيَّة يُراد التَّعريف بها هي ترجمة وجمعها تراجم. يُؤكد روزنثال المُستشرق الألماني (Rosenthal, 1965) على أنَّ هذا الفن بهذه الصُّورة المُبْتكرة لم يُعرف من قَبل عند الحضارات الأخرى وأنَّ عُلَمَاء الحضارة الإسلاميَّة هم الذين شيَّدوا صرح هذا العِلْم. هذا الفن انطلق من وحي حديث نبوي كريم ألا وهو قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (الْبُخَارِيّ، كِتَاب الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ). فهذا الحديث النَّبوي الشَّريف على وجازته فتح آفاقاً عِلْمِيَّة جديدة في فن التَّوثيق الْتَّارِيْخي ونشأ منه عِلْم الْطَّبَقاَت وكانت فترة البعثة النَّبوية هي خير الحِقَبِ السَّابقة واللاحِقة فقام المؤرخون بجعلها الطَّبقة الأولى فبنوا علماً جديداً من وحي حديث واحد. وهنا نعثر على وجه من أوجه البلاغة النَّبوية القائمة على البُلوغ والقصد والاستيفاء إذ أنَّ الحديث النَّبوي الواحد بما فيه من حلاوة وطلاوة في البيان فإنَّه يرتقي بعقل الإنسان وبحركة الحياة.

عِلْم الْطَّبَقاَت هو عِلْم إسلامي أصيل في منهجه ووجوده ونموِّه لا مثيل له في ميراث الأمم الأخرى. هو عِلْم يَدرس الْتَّارِيْخ من خلال تتبُّع سيرة البارزين في كل جيل على حِدَّة. دراسة أبرز الْعُلَمَاء في قرن ما يعني دراسة الأعلام في حقل أو أكثر من حقول العِلْمِ وليس من شرط أو حدود مثل هذه الدِّراسات الالتزام ببلد إلا إذا اشترط المؤلِّف ذلك ولكن الالتزام عادة يكون بدراسة عُلَمَاء عصر ما كالقرن الأول الهجري أو الثَّاني وهكذا.

جمع ياقوت الحموي أسماء طبقة الأدباء فقام بتتبع أشهر العلماء في هذا الباب من النُّحاة، واللُّغويين ، والشُّعراء وهكذا بدأ العلماء بوضع موسوعات للعلماء في كل علم فشملت جهودهم الكثير من الطَّبقات منها طَبقة الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن، وطَبَقات الأطبَّاء، وطَبَقات الرُّواة للحديث النَّبَوي الشَّريف من رِجال ونِساء، وطَبَقات المفسرين، وطَبَقات الخطَّاطين، وطَبَقات الصُّوفيَّة، إلى غير ذلك. هذا وتُعتبر طبقات الفُقهاء من أشهر وأوسع الطَّبقات مثلها مثل طبقات المُحدثين والأدباء والصُّوفيين حيث وجدت عناية خاصة بها فكتب كثير من المؤرخين في هذا الباب منذ عهد مُبكِر فظهرت الكثير من الكتب عن طبقات الحنفية، والمالكية، والشَّافعية، والحنابلة. في تراثنا العربي حشد من كُتب الْطَّبَقاَت منها طبقات الشُّعراء لابن المعتز، وطبقات المفسرين للسِّيوطي، وطبقات الفقهاء للشِّيرازي، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، وطبقات الأطبَّاء لابن أبي أُصيبعة، مما يدل على انتشار فن الْطَّبَقاَت في ميادين عِلْمِيَّة مُتنوعة.

وأشهر رُواد عِلْم الْطَّبَقاَت هو ابن سعد - من عُلَمَاء القرن الثَّالث الهجري - في كتابه الْطَّبَقاَت الكبرى الذي خصَّصه لدراسة السِّيرة النَّبوية ثم ذكر سِير الكثير من الْصَّحَابَةِ وبعض التَّابعين من أهل الْعِلْمِ فذكر أسماءهم وأنسابهم وكُناهم وصفاتهم والمأثور من أقوالهم. لا يُهدف مُؤلف كِتاب الْطَّبَقاَت عادة أن يستوعب كل الأخبار في سيرة من يُترجم لهم بل يُعطي نُبذه عامَّه عن كُل شَخْصِيَّة على حسب المعلومات المُتاحة وأهمية الشَّخصيَّة. يهتمّ كُتَّاب هذا الفن بتدوين تاريخ الميلاد والوفاة إذا توفر ذلك مع ذكر أسماء الشُّيوخ الذين أخذ عنهم صاحب التَّرْجَمَة. وقد ترد أخبار مُتضاربة وتواريخ غير دقيقة فَيُرَجِّح المؤلِّف أصح الأقوال أو أشهرها ويُبيِّن سبب التَّرجيح وربما يكتفي بِعَزْو الخبر إلى مصدر من المصادر. جرت عادة كثير من المؤرخين على أنَّهم يذكرون اللَّقب والكُنية ثم اسم الشَّخصية التي يقومون بالتَّعريف بها واسم البلد الذي وُلد فيه والمذهب الفقهي الذي يَتَّبعه والصَّنعة التي يشتغل بها ثمَّ أهم أقواله وأفعاله ورأي النُّقاد قي جرحه وتعديله.

المأثورات من أقوال العلماء وسيرة المعلمين منهم وقصص الصَّالحين تجعل من كتب الطَّبقات زاداً لكل معلم يتذوق الحِكايات والنَّوادر التَّربوية ويوظفها بحِكمة في طرائق التَّعليم. علم حكايات الصَّالحين من أصناف العلوم عند المسلمين قديماً وهو علم ألَّف فيه طائفة كبيرة من العلماء ويندرج هذا العلم تحت باب الدِّراسات التَّاريخية ويستمد مادَّته من علم الطَّبقات والتَّراجم ولقد ذكر القنوجي في أبجد العلوم وحاجي خليفة في كشف الظنون أنَّ السَّابقين قد اعتنوا بجمع الحكايات وافردوها بالتَّدوين ككتاب صفوة الصَّفوة لابن الجوزي، وروض الرَّياحين في حكايات الصَّالحين لليافعي (ت 767 هـ = 1365 م). حكايات الصَّالحين تحتوى على عِبر نافعة لأولي الألباب وهي ثمرة من ثمار علم الطَّبقات وهذا العلم فيه بيان وتبيين لأفكار مُبتكرة بانية للأخلاق الفاضلة عبر قصص شائقة رائقة.  

إنَّ الإطلاع على فكرة إعداد كتب الْطَّبَقاَت يُرشدنا إلى تعظيم جهود القدماء والإشادة بقدراتهم العالية في الإبداع. كُتُب الْطَّبَقاَت تمتاز بسبقها في تقديم نماذج موسوعيَّة في التَّأليف قبل أن تظهر الموسوعات بِعدةِ قرون كما أنَّها وبكل فخر تُعَدُّ من أقدم المصادر العالميَّة التي تحدَّثت وثائقياً عن تراجم النِّساء إذ تضم هذه الْطَّبَقاَت تراجم لمئات من النِّساء المسلمات. في الكتاب الواحد قد يذكر المؤلف تَرْجَمَة موجزة لأكثر من ألف امرأة من أهل العِلم والفضل والشُّهرة كما فعل العسقلاني في كتابه الإصابة (ت 852 هـ = 1449م) والسَّخاوي (ت 902 هـ = 1487م) في الضُّوء اللاَّمع. الْتَّارِيْخ الإنساني قبل قرنين فقط بدأ يهتم بتدوين سيرة النِّساء بصورة واسعة ومُنظَّمة. ومن أسباب هذا التَّحيُّز عند تلك الشُّعوب أنَّ المرأة لم تكن لها مساهمات عِلْمِيَّة تنمويَّة تُذكر كي يقوم المؤرِّخون بتدوين سيرهنَّ إلاَّ نساء الْطَّبَقاَت المخمليَّة كما أنَّ النظرة الظَّالمة للمرأة كانت تقوم على أنَّها مخلوقة لا تستحق هذا التَّكريم. وكذا كان وضع الفقراء وكل من كان أسود البشرة. هذا الأمر وغيره من المؤشِّرات الْتَّطْبِيْقِيَّة القاطعة لأهمية القيم الإنسانية في مسيرة تأسيس العلوم في الحضارة المسلمة وغيابها في ممارسات الشُّعوب الأخرى عبر مر السِّنين.

اشترط العلماء جملة شروط لمن يتصدَّى لكتابة التَّاريخ عموماً والتَّراجم خصوصاً (الصَّفدي، الوافي بالوفيات، ص 32) فمن شروط المُؤرِّخ: الصَّدق فيعتمد في نقولاته اللَّفظ دون المعنى، وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة وكتبه بعد ذلك فالحيطة تتطلب تدوين النَّقل في الحال خوفاً من النِّسيان، وأن يقوم بكتابة وتحديد المصدر بوضوح وذلك بأن يُسمى اسم المنقول عنه. أما في حال كتابة التَّراجم فمن شروط القائم بكتابة نبذة عن شخصيَّة ما فعليه إضافة لما سبق ذِكره أن يلتزم بهذه الشُّروط: أن يكون عارفاً بحال صاحب التَّرجمة وأن يكون حَسَن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ، وأن يكون مُنْصِفاً مع من يُحب ومن لا يُحب.

ويبلغ هذا الفن ذروة الواقعيَّة في مَنهجه النَّقدي العلمي وذلك عندما يُناقش أصحاب هذا الفن النَّقد الغير علمي النَّاتج من الاحتكاك الشَّخصي بين عالمين لهما مرتبة علمية عالية ولكن بحكم الطَّبيعة البشريَّة لا يتوافقان وتجري بينهما معارك فكرية لا تخلو من التَّطرف والشَّطط. وضع العلماءُ قاعدة عامَّة لعلاج هذه المُعضلة تقوم على أنَّ تجريح العالِم لمن هو في منزلته لا وزن له، ولا يُلتفت إليه، ولا يُعتد به لأنَّه لا يخلو من الهوى أو حظ النَّفس أو الغيرة أو سوء الفهم ولأنَّ هذا الجرح لا يسلم منه أحد. هذا إذا كان النَّقْدُ ليس له ما يبُرِّرَه مِن الدَّلائل أما إن كان التَّجريح له مُسوغات علمية وليس بين الطَّرفين شبهة الخلافات الشَّخصية فالنَّظر في التَّجريح له وجاهة ولا يصرفه صارف. قال أحدُ العلماء "وكلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به وما علمتُ عَصراً سلِم من ذلك أهله سوى الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم" (انظر المنَّاوي، ج1، مقدِّمة المؤلف). وعزَّز العسقلاني هذه القاعدة لتكون ميزان الاعتدال في تقييم النِّساء والرِّجال فقال في لسان الميزان "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ولا سِيَّما إذا لاح لك أنّه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم اللهُ عزَّ وَجَلَّ وما علمت أنَّ عَصراً منَ الأعصار سلِمَ أهله من ذلك سوى النَّبِيين والصِّديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس اللَّهم فلا "تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {10}( سُوْرَةُ الحَشْرِ)." وكلام العسقلاني هنا قوي له وزنه وشهادته هي خلاصة نابعة من استقصاء طويل وبحث عميق.

هذا يدل على أنَّ العالِم غير معصوم من الخطأ وأنَّه لا يتخلَّص من جميع النَّقائص التي قد تصيب البَشر وهو الذي أكَّدنا عليه في فصل المُنطلقات وهذا يتَّفق مع المنهج العلمي للتَّفكير في الإسلام في ضبط الاجتهاد بجملة من القواعد والأصول.

تحتوي كتب الطبقات على كنوز تربويَّة هائلة تتمثَّل في توثيق دقيق لنظرات وكلمات وتطبيقات الشَّخصيات التي دُوِنت سِيرهم فهي تمثِّل رصيداً ثميناً لكل من أراد أن يُهذِّب نفسه، ويُصلح مجتمعه، ويعرف أصول صنعة التَّربيَّة الإسلاميَّة وروعة فكره التَّربوي من واقع حياة الصَّالحين. فلذلك نجد كُتب هذا الباب تحمل أسماءً تدلّ على أنَّ القصد التَّربوي هو أهم مقصد من مقاصد تأليف تلك الكتب فكتاب مثل كتاب حِلية الأولياء وطبقات الأصفياء للأصفهاني (340 هـ = 951 م) يحفل بتحديد صفات النُّبلاء والتَّرغيب في تصفية النُّفوس والحِرص على صُحبة الصَّالحين فيبدأ الكتاب وينتهي بعد رحلة طويلة مع مفهوم تعظيم شأن الأخلاق الحميدة وبيان سُبل مجاهدة النَّفس على أساس الإخلاص والعِلم والعمل وصولاً إلى الصِّراط المستقيم الذي هو غاية المُنى إلى جَنَّة المأوى.

كِتاب حِلية الأولياء الذي كُتب من قبل أكثر من ألف سَنه لا يقل في قيمته العِلميَّة عن أي موسوعة عصرية كماً وكيفاً تَحَدَّث فيه عن طَبقة الصَّحابة ثمَّ الذين من بعدهم وخص الصُّوفيين والعُبَّاد بشطر كبير من توثيق أخبارهم وأقوالهم. لما صنف الأصفهاني حلية الأولياء بيع في حياته بأربع مئة دينار، واشتهر بين العلماء وانتشر عند عامَّة النَّاس حتى قال أحد العلماء كل بيت فيه حلية الأولياء لا يدخله الشَّيطان، كما نقل المناوي في مقدمة كتابه فيض القدير.  هذا الكتاب شأنه شأن كثير من كتب الرَّقائق إذ تحتوي على نوادر ولفتات تعليميَّة كثيرة تُركِّز على تزكية النَّفس بالزُّهد في الدُّنيا، والتَّدبر في سيرة الأولياء، والحثِّ على العمل الصَّالح مع الحِرص على تصفية الباطن وتنقية الظَّاهر ولكن لكثرة وجود القصص الضَّعيفة  قام عددٌ من العلماء بتنقيح الحِلية ومنهم على سبيل المثال ابن الجوزي في كتابه صِفة الصَّفوة فقام بِتَهذِّيبه وتجريده وتلخيصه وتخليصه من كدر الأخبار الواهية ليكون صالحاً لتهذيب النُّفوس.

وهكذا ظهرت مُؤلفات كثيرة تدور حول إبراز الأخلاق الحميدة وبيان فضل العلم والعلماء من خلال كتب الطَّبقات بغرض الإقتداء بها. وبذلك لَعب عِلم الطَّبقات دوراً كبيراً في خدمة العلم والتَّاريخ وما زال هذا العلم له دوره في تأصيل مسيرة الحركة التَّربوية إذا أحسنا فن استخراج نجوم فضاء الحضارة الإسلاميَّة من مناجم كُتب الطَّبقات والتَّراجم و"علم حكايات الصَّالحين" واستلهمنا منها عوامل النَّجاح ومجالات الإبداع فإنَّ فيها للمربين ما هو أغلى من الذَّهب والفضة.

 

عِلْمُ التَّرْجَمَة

مِنْ العُلوم الْهَامَّة التي نَمت وازدهرت عند المسلمين عِلْمُ التَّرْجَمَة والتَّعريب وأول مُتَرْجِم اشتُهر في صدر الإسلام هو الْصَّحَابي الجليل زَيْد بْنَ ثَابِتٍ الذي أمره الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بتعلُّمِ اللَّغة السِّريانية فتعلَّمها في مدَّة وجيزة وبذلك نعلم أنَّ غرض تبليغ الدِّين والدَّعوة من أول أهداف التَّرجمة. كانت الكُتب الإسلاميَّة المُهِمَّة والمشهورة تنتشر بسرعة في الأقاليم بِعِدَّة لغات أهمها الفارسيَّة والتُّركيَّة مما يدل على رواج مجال التَّرجمة في العصور القديمة. حركة التَّرجمة في تاريخ المسلمين ساهمت في نمو فكرة عالميَّة العلم والثَّقافة، والسَّعي نحو كسر حاجز اختلاف اللُّغات، ولأجل هذا انشر مفهوم التَّسامح الدِّيني، والتَّعاون الثَّقافي بين المُترجمين وهذا بدوره لعب دوراً كبيراً في أنْ يُحَرِّرَ النَّاسَ من العقبات الجغرافيَّة التي تحول بينهم وبين الاحتكاك الفِكري مع الآخرين في الأقاليم النَّائية. هذه المقاصد السَّامية النَّبِيلة تتَّفق مع توجهات الإسلام الإنسانيَّة الأصيلة كما في قول اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}" (سُوْرَةُ الحُجرات). فجاءت حركة التَّرجمة للمعرفة النَّافعة  لتنفيذ مفهوم "لِتَعَارَفُوا" في دُنيا الإسلام وساحَة الحَضارة.

قال ابن تيميَّة "وَأَمَّا مُخَاطَبَةُ أَهْلِ اصْطِلاحٍ بِاصْطِلاحِهِمْ وَلُغَتِهِمْ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ - إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمَعَانِي صَحِيحَةً - كَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِ: مِنْ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ بِلُغَتِهِمْ وَعُرْفِهِمْ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لِلْحَاجَةِ. وَإِنَّمَا كَرِهَهُ الأَئِمَّةُ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ لأُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص - وَكَانَتْ صَغِيرَةً وُلِدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ لأَنَّ أَبَاهَا كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهَا - {يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا} وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحَسَنُ، لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ يُتَرْجَمُ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَفْهِيمِهِ إيَّاهُ بِالتَّرْجَمَةِ وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ الْمُسْلِمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الأُمَمِ وَكَلامِهِمْ بِلُغَتِهِمْ. وَيُتَرْجِمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ. كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ لِيَقْرَأَ لَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِ" (مجموع الفتاوى، ج3، ص 304).

كان خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَة (ت 90 هـ = 708 م) الذي يُسمى "حكيم آل مروان" فاضِلاً في نفسه، له همَّة ومحبة للعلوم، خطر بباله تَرْجَمَة الكتب، فأحضر جماعة من الفلاسفة فأمرهم بنقل الكتب في الصَّنعة من اللُّغة اليونانية إلى العربية، وهذا أول نقل مُنظَّمٍ واسع كان في تاريخ الإسلام (القنوجي). ثمَّ ازدهر هذا الفَن واسْتَوَى عَلَى سُوقِه في عصر العبَّاسيين ولا سِيَّما في خلافة المأمون.

كانت دَواعي حركة التَّرْجَمَة عديدة منها الدَّواعي المتَّصلة بالجوانب العِلْميَّة والدِّينيَّة والسِّياسيَّة. العِلميَّة تتمثَّل في تحصيل المعرفة وتوصيلها لِغَير النَّاطِقين باللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، والدِّينية تتمثَّل في نشر الدِّين وتبليغ الرِّسالة، والْسِّيَاسِيَّة تتمثَّل في مُراسلة الملوك ومعرفة أحوال الأمم المجاورة. عن أهم الأسباب الدِّينية للتَّرجمة قديماً وحديثاً قال ابن تيميَّة "مَعْلُومٌ أَنَّ الأُمَّةَ مَأْمُورَةٌ بِتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ كَمَا أُمِرَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ وَلا يَكُونُ تَبْلِيغُ رِسَالَةِ اللَّهِ إلا كَذَلِكَ وَأَنَّ تَبْلِيغَهُ إلَى الْعَجَمِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى تَرْجَمَةٍ لَهُمْ فَيُتَرْجِمُ لَهُمْ بِحَسَبِ الإِمْكَانِ" (مجموع الفتاوى، ج4، ص 114).

من أسباب نجاح عِلْم التَّرْجَمَة عند المسلمين أنَّ اللُّغَة الْعَرَبِيَّة فيها سعة وعندها قدرة استيعابيَّة تُمكِنها من مجاراة الجديد من المصطلحات العِلمِيَّة والثَّقافات الأجنبيَّة وذلك من خلال مرونتها في توليد المصطلحات المُناسبة كألفاظ للمعاني المُستحدثة. ومن أسباب النَّجاح أيضاً انفتاح الإسلام وقبوله لكل جديد نافع فإنَّ تحصيل الحكمة بجميع صورها غاية يسعى إليها المسلم ما بلغه جهده. إضافة إلى هذا فلقد وَضع الْعُلَمَاء الضَّوابط الواضحة لحماية هذا الْعِلْم من الانحراف في غاياته ووسائله. كانت حركة التَّرْجَمَة فرديَّة وجماعيَّة بدعم وتشجيع الخلفاء والأمراء الذي سهَّلوا عمليَّة الوصول والحصول على الكتب النَّفيسة كي يتم ترجمتها فنشط المُترجمون وبدأ التَّعريب بعد جلب الكتب الْهَامَّة من بلاد بعيدة.

وَضع الفُقهاء قواعد هامَّة تُوَجِّه عَمَلِيَّة التَّرْجَمَة في أهدافها وخططها المُستقبليَّة على المستوى الرَّسمي منذ عهد مُبكِّر. ذَكَرَ الإمام الشَّافِعِيّ رحمه الله تعالى في كتابه الأم حُكْم تَرْجَمَة كُتب الأعاجم إلى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فقال: "وما وُجِدَ من كتبهم فهو مَغنم كله وينبغي للإمام أن يدعو من يُترجمه فإن كان عِلْماً من طب أو غيره لا مكروه فيه باعه كما يبيع ما سواه من المغانم وإن كان كتاب شرك شقُّوا الكتاب وانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو". ومن الضَّوابط أيضاً أنَّه "لا تُقْبَلُ التَّرْجَمَةُ إلا مِنْ ثِقَةٍ" وأنَّ "التَّرْجَمَةُ قَدْ تَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثَالٍ لِتَصْوِيرِ الْمَعَانِي فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّرْجَمَةِ" (مجموع الفتاوى، ج 4، ص 114).

كانت التَّرْجَمَة على ثلاثة أنواع كما هو عليه الحال في يومنا هذا وكما يمكن أن نُصَنِّف معظم التَّرجمات على ضوئها. النَّوع الأول من أشكال التَّرْجَمَة هو التَّرْجَمَة الحرفية، والنَّوع الثَّاني هو تَرْجَمَة المعنى العام، والنَّوع الثَّالث هو تَرْجَمَة مع إيراد الأدلَّة وترجيح المسائل، ونقد الموضوعات. قال ابن تيميَّة عن أنواع التَّرْجَمَةِ: "التَّرْجَمَةُ وَالتَّفْسِيرُ "ثَلاثُ طَبَقَاتٍ": (أَحَدُهَا: تَرْجَمَةُ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِثْلُ نَقْلِ اللَّفْظِ بِلَفْظِ مُرَادِفٍ فَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي يَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلاءِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي يَعْنِي بِاللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلاءِ. فَهَذَا عِلْمٌ نَافِعٌ. إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُقَيِّدُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ فَلا يُجَرِّدُهُ عَنْ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا. (وَالثَّانِي: تَرْجَمَةُ الْمَعْنَى وَبَيَانُهُ بِأَنْ يُصَوِّرَ الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ فَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى لَهُ وَتَفْهِيمُهُ إيَّاهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَرْجَمَةِ اللَّفْظِ كَمَا يَشْرَحُ لِلْعَرَبِيِّ كِتَابًا عَرَبِيًّا قَدْ سَمِعَ أَلْفَاظَهُ الْعَرَبِيَّةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَعَانِيَهُ وَلا فَهِمَهَا وَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى يَكُونُ بِذِكْرِ عَيْنِهِ أَوْ نَظِيرِهِ إذْ هُوَ تَرْكِيبُ صِفَاتٍ مِنْ مُفْرَدَاتٍ يَفْهَمُهَا الْمُخَاطَبُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَكَّبُ صُوَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى: إمَّا تَحْدِيدًا وَإِمَّا تَقْرِيبًا. (الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : بَيَانُ صِحَّةِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ بِذِكْرِ الدَّلَّيْلِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إمَّا بِدَلِيلِ مُجَرَّدٍ وَإِمَّا بِدَلِيلِ يُبَيِّنُ عِلَّةَ وُجُودِهِ. وَهُنَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثِلَةٍ وَمَقَايِيسَ تُفِيدُهُ التَّصْدِيقَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا يَحْتَاجُ فِي "الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ" إلَى أَمْثِلَةٍ تُصَوِّرُ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى" (مجموع الفتاوى، ج 4، ص 114). وهكذا كانت التَّرْجَمَةِ اللَّفظيَّة النَّصِية بداية لعَمَلِية أكبر وأشمل وهي عَمَلِيَّة النَّقد والإضافة والمناقشة وتوسيع دائرة المعرفة.

"وتُعَدّ التَّرْجَمَةِ وذلك بنقل ثقافة وعلوم أمم اليونان والفرس والهند إلى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أحد المقوِّمات الأساسية للانفتاح الثَّقافي في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم المترجمون إسهاماً عظيماً في مجال التَّطور الفكري والتَّقدّم الْعِلْمي الذي تميّز به المسلمون. وقد كان هؤلاء النّقلة من جنسيات وأديان مختلفة، وقد تمتّع قسمٌ منهم بمكانة عِلْمية رفيعة فوق مكانتهم في التَّرْجَمَةِ. فمن يعقوب بن اسحاق الكندي الفيلسوف والرِّياضي والفلكي إلى ثابت بن قرة الرِّياضي والفلكي والفيلسوف، ثم عمر بن الفرخان الطَّبَرِي الفَلكي، وأبو بشر متى بن يونس المنطقي، وغيرهم جمع كبير.‏ وكان الواحد منهم يتَّقِن لغة أو لغتين عدا اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فمثلاً حنين بن اسحاق الطَّبِيْب والفيلسوف (194-260 هـ = 809-873 م) كان يتَّقِن أربع لغات ولقد عيَّنه الخليفة المأمون على "بيت الحِكمة". انصرف إلى التَّرْجَمَة، فنقل إلى السِّريانية والعربيَّة بعض كتب أفلاطون وأرسطو وجالينوس (جراد، 2001، التَّفاعل الثَّقافي والحضاري في العصر العبَّاسي، بتصرُّف). حنين بن إسحاق العبادي من مشاهير المُترجمين وكان طبيباً ماهراً وله إلمام بعِلْم التَّعبير[23]. كان يُترجم كتب الفلسفة والمنطق والطِّب.

ومن أعراف الْعُلَمَاء والحكماء قديماً العمل الجماعي ومحاولة توحيد المصطلحات ومن هنا اهتموا بمصطلح "المُواضعة". "يُقال تَواضع القوم على كذا: تواطؤوا عليه، واصطلحوا فالمواضعات بمعنى المُصطلحات المُتَّفق عليها بين فئة من النَّاس" (الجزائري، 1403 هـ، ص 5). المواضعة عند المُترجمين قديماً هي "أن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً يريدون أن يبينوا الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظاً إذا ذُكر عُرف به" (ابن سيده: ص 3، السِّيوطي في المزهر: ص 4، ابن جني: ص 21). ومن هذا المنهج تتولد الكلمات الجديدة المُترجمة مثل الآلات الصِّناعية وغيرها. مفهوم المواضعة كما حدَّده عُثْمَانُ بنُ جنِّيّ (ت 392 هـ = 1001 م) يُنادي به المُتخصِّصون بالتَّرْجَمَةِ حديثاً مثل د. مُحَمَّد قاسم (1995 م) لمواجهة أزمة ضبط وتوحيد المُصطلح.

"وتُعتبر مرحلة التَّرجمة إحدى مفاخر الحضارة الإسلامية لعدَّة أسباب:

أولاً: لأنَّ الشُّعوب الأخرى كانت لا تحترم الحضارات السَّابقة لها ولا تَستفيد منها.. بل كان الغالب يدمِّر حضارة المغلوب ويحرق الكتب ويقتل العلماء. من ذلك ما فعله التَّتار في بغداد وما فعله الأسبان المسيحيون في قرطبة وغرناطة مع المسلمين وهذا بعكس ما فعله المسلمون مع غيرهم.

ثانياً: لأنَّ معظم العلوم السَّابقة وخاصة علوم الإغريق كانت قد اندثرت وضاعت معالمها فكانت بعض كتب العلم الإغريقيَّة مدفونة مع العلماء في مقابرهم.. وذلك لأنَّ الدولة الرُّومانية لم يكن لديها اهتمام بالعلم. ومن هنا كان فضل المسلمين في إحياء تلك العلوم الميتة. وتذكر مراجع التَّاريخ الأجنبيَّة بكثير من الدَّهشة شغف قادة الفتوح الإسلاميَّة بالكتب.. إلى حد مبادلة أسرى الرُّومان بالكتب الإغريقيَّة.. أو رفع الجزية مقابل هدية من الكتب. وكان الرُّومان سعداء بهذه المبادلات ويعتبرون أنفسهم الرَّابحين لأنَّ تلك الكتب لم تكن في نظرهم ذات قيمة وكثيراً ما كانوا يحرقونها علناً بحجة أنها تدعو إِلى الهرطقة والكفر. وكثيراً ما كان الخليفة يضع بين بنود الصلح مع إمبراطور الرُّومان شرطاً بالسَّماح للمسلمين بالتَّنقيب عن الكتب الإغريقيَّة. وكانوا يطلبون من البيزنطيين البحث عن كتاب مُعين جاء ذِكره في المخطوطات ويسألونهم البحث عنه في مقبرة صاحبه.. ومع هذا الفيض من الكتب أنشأ المأمون داراً خاصة بالتَّرجمة.. وكان المترجمون يُؤجرون بسخاء.. وقد يُعطى المُترجم مثقال وزن الكتاب المُترجم ذهباً. ومن هنا كان الرُّومان يُطلقون على علماء المسلمين "المتوحشون" وذلك لأنَّ شغفهم بالعلم لم يكن أقل شدَّة من بأسهم في القتال" (الفنجري، 2001 م).   

من الكُتب الجميلة التي قام بترجمتها العرب إلى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كتاب كَليلَةَ ودِمْنَةَ وهو كتاب في التَّربية الْسِّيَاسِيَّة والاجتماعيَّة يعتني بإصلاح الأخلاق وتهذيب النُّفوس بأسلوب جذَّاب يفيض بالتَّوجيه التَّلميحي. وضعه الفيلسوف الهندي "بيدبا" للملِك وهو كتاب تنساب فيه الحِكم على ألسنة الحيوانات والطِّيور. كِسرى أنوشروان هو الذي أمر بترجمته للفارسيَّة "ثم ترجمه في الإسلام عبدُ اللّه بنُ المُقَفَّعِ الخطيب كاتب أبى جعفر المنصور من اللُّغَةِ الفارسيَّة إلى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّة" (حاجي خليفة، باب الكاف) . ومن اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تُرجم الكتاب إلى اللُّغَةِ التُّركيَّة وانتشر الكتاب في الأندلس وأماكن كثيرة فَرَاجَ أَمْرُ تَرْجَمَة الكِتَابِ رَوْاجاً عظيماً. 

من الحقائق المعلومة اليوم عند الْعُلَمَاء في أغلب العلوم أنَّ الجهود العظيمة التي بذلها المسلمون في تَرْجَمَة وحفظ تراث اليونان وغيرهم أنقذت التُّراث الإنساني من ضياع شطر هام من تُراث القدماء لأنَّ الكثير مما ترجمه المسلمون من ثقافات الآخرين ضاعت أصولها. لولا الأصول العربية لَحُرِمت الإنسانيَّة من تراث كبير في ميدان الطِّب والتَّربية والأدب والفلسفة وسائر الميادين. ورث المسلمون عن الأمم السَّابقة الكثير من العلوم وكانت التَّرْجَمَة من قنوات التَّمازج الثَّقافي وهكذا سار المسلمون على هدي الحكمة القائلة "الكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَها فَهُوَ أَحَقّ بِهَا" (رواه الترمذي)[24]. أي أنَّ الحكمة "ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلَّد المنَّة لمن ساقها إليه كائناً من كان" كما قال الغزالي في حديثه عن آداب العالم والمتعلم في الإحياء.

 

عِلْمُ الحسَاب

درس المسلمون الأوائل عِلْمَ الحساب وقاموا بحل المشكلات والمسائل باستخدام الأعداد مما جعلهم ينتقلون من أساسيات هذا العِلم إلى تفريعاته فكتبوا في كثير من الفنون المتفرِّعة عنه مثل عِلم الجبر والهندسة وحساب المثلَّثات. يقول  أحمد فؤاد باشا "وقد كان لعُلَمَاء الحضارة الإسلامية إسهامات بالغة الأهمية في تطور عِلم الحساب، ويزخر التُّرَاث الإسلامي بالعديد من كُتب الحساب التي كان معظمها مراجع رئيسية في مختلف جامعات العالم، من ذلك: كتاب "المقالات في عِلْم الحساب" لابن البناء المراكشي، وكتابا "مفتاح الحساب، لغياث الدين، وكتاب "الجامع في أصول الحساب" للحسن بن الهيثم ، وكتاب "طرائف الحساب" لأبى كامل شجاع بن أسلم ، وكتاب "خلاصة الحساب" لبهاء الدين العاملي وغيرها كثير جداً. وكانت لعُلَمَاء المسلمين طرق خاصة لإجراء العمليات الحسابية بما يصلح أن يتخذ وسيلة للتَّعليم في عصرنا، ولقد انتبه بعض رجال التَّربية في أوروبا إلى قيمة هذه الأساليب من منظور تربوي، فأوصوا باستعمالها عند تعليم المبتدئين. من ناحية أخرى هذَّب عُلَمَاؤنا النِّظام العددي العشري المأخوذ عن الهنود، ووضعوه في الصُّورة المستخدمة في عصرنا، وأخذ الأوروبيون عن العرب الصّفر والأعداد وسموها الأعداد العربية" (بتصرف). وما أخذه الأوربيون هو ما أخذه الأمريكيون من بعد ومنه توسعوا في العلوم وبنوا عليها منجزاتهم التِكْنُولُوجِيَّة التي نراها.

وعندما نتحدَّث عن فروع عِلم العدد فإنَّنا نصل إلى عِلم الجبر والمقابلة والمعادلات وهو العِلم الذي نبغ فيه مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارَزْمِيّ (ت 236 هـ = 850 م) في بدايات القرن الثَّالث الهجري وهو أول من ألَّف فيه كتاباً مشهوراً عنوانه "الجبر والمقابلة". يقول القنوجي في أبجد العلوم إِنَّ عِلْم الجبر "عِلْم يُعرف فيه كيفية استخراج مجهولات عددية، بمعادلتها لمعلومات مخصوصة على وجه مخصوص. والجبر هو زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى لتتعادلا أما المقابلة فهي إسقاط الزَّائد من إحدى الجملتين للتَّعادل". ومن أهم كُتُب هذا الفن الرِّسالة الكاملة، في عِلْم الجبر والمقابلة لنجم الدين اللبودي. ولقد تحدَّث المربُّون مثل ابن خلدون عن أهمية عِلم الجبر الذي يندرج ضمن العلوم العقلية وهو علم عرف المسلمون تفصيلاته وتطبيقاته، وأرسوا مسائله، وساد تدريسه في مدارسهم وجامعاتهم، وعلَّموها للأمم فأخذه الغرب وما زالوا يسمونه بنفس الاسم (Algebra).

وضع مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارَزْمِيّ "أصول عِلْم الجبر وقواعده، وخرج به من نِطاق الأَمْثِلَة المفردة إلى المعادلة العامَّة التي تُسهِّل حلّ المسائل الحسابيَّة المتشابهة طبقا لقاعدة معينة. وقد عرَّف الْخُوَارَزْمِيّ في كتابه جميع عناصر المعادلة الرِّياضيَّة الجبريَّة كما نفهمها اليوم، فشرح معنى الحد المعلوم والمجهول والمطلق والعدد الأصم وفكرة الأس واللوغاريتمات والكميات الساَّلبة والموجبة والتَّخيليَّة ومعادلات الدَّرجة الأولى والدَّرجة الثَّانية وطرق حلِّها، ثم انتقل بعد ذلك إلى الجانب العملي الخاص بتطبيقات الجبر في الحياة العَمَلِيَّة، وجعله كتاباً مُسْتَقِلاً يشتمل على الكثير منها والقياس عليها في مسائلهم المتعلِّقة بالمعاملات والوصايا والمواريث. وأضاف عُلَمَاء آخرون إلى عِلْم الجبر، وزادوا في أصوله ومسائله" (باشا، 2001م، باختصار). الذي بيَّنه الْخُوَارَزْمِيّ عَرَفه الأوربيون بعد 300 سنة من تدريسها في مدارس العالم الإسلامي (Sardar & Malik, 1997, p. 99) فأصبح كتاب الْخُوَارَزْمِيّ "الجبر والمقابلة" من أساسيات المنهج التَّعْلِيْمي الذي قدَّمهم إلى عالم الأرقام والمعادلات الرِّياضيَّة وكيفيَّة استخدام الصِّفر كرقم ساهم في تطوير هذا العِلم جذرياً. عِلْم الجبر والمقابلة يُسمى أيضاً بـ "حِسَاب الْمَجْهُول" كما ذكر ابن تيمية في نهاية كتابه الرَّد على المنطقيين، وفي فتاويه (ج 9، ص 207).

 

عِلْمُ المناظر

عِلْم المناظر من فروع عِلم الهندسة وهو عِلم يتبين به كيفية حدوث الإدراك البصري وأسباب الرُّؤية ولقد عَرَفه عُلَمَاء اليونان وكتبوا فيه واليوم يُسمى هذا العِلم بعِلم الفيزياء. "هو عِلم يُتعرَّف منه أحوال المبصرات في كميتها وكيفيتها، باعتبار قربها وبعدها عن النَّاظر، واختلاف أشكالها، وأوضاعها، وما يتوسط بين النَّاظر والمبصرات، وغلظته ورقَّته، وعلَّل تلك الأمور ومنفعته معرفة أحوال الأبصار وتفاوت المبصرات والوقوف على سبب الأغاليط الحسيَّة الواقعة فيها، ويستعان بهذا العِلْم على مساحة الأجرام البعيدة والمرايا المحرَّفة" (القنوجي، أنظر أيضاً التَّهانوي، ج1، ص 62).

يندرج عِلْم المرايا المحرَّفة تحت عِلْم المناظر ويُقصد به "التَّعرف على أحوال الخطوط الشّعاعية والمنعطفة والمنعكسة والمنكسرة، ومواقعها وزواياها ومراجعها، وكيفية عمل المرايا المحرَّفة بانعكاس أشعة الشَّمس عنها ونصبها ومحاذاتها ومنفعته بليغة في محاصرات المدن والقلاع" (التَّهانوي ج1، ص 62). هذا يدلّنا على وجود التَّخصصات العِلميَّة الفرعيَّة الدَّقيقة تحت كل عِلم وأنَّ المسلمين وضعوا تعريفات لها بغرض دراستها والتَّبحر في مسائلها.

الحسن بن الهيثم من الْعُلَمَاء الذين أسهموا بجهد كبير في اكتشاف وتطوير نظريات هَامَّة في القوانين التي تحكم الظَّواهر الطَّبيعية وأهمّها نظريّة الضُّوء والتَّفسير الصَّحيح لعَمَلِيَّة الرُّؤية، كما بينه في كتاب أسماه المناظر وهو بحث مهم. كما أنَّ العالم ابن يونس القاهري (399هـ = 1008م) هو مخترع الرّقاص (بندول السَّاعة) والذي ينسب خطأ للعالم الإيطالي جاليليو (1052 هـ = 1642م) الذي أسهم في تطوير عِلم الميكانيكا التَّقليدية. وإذا كان العالم الإنجليزي اسحق نيوتن (1642-1727م) قد صاغ قانون الجاذبيَّة،وقوانين الحركة الثَّلاث؛ فإنَّ مفهوم القانون الأول لنيوتن قد ظهر في أعمال العُلَمَاء المسلمين مثل ابن سينا (ت 428 هـ = 1037م) والرَّازي (ت 321 هـ = 924 م) وغيرهم. ومن الْعُلَمَاء المسلمين الذين لعبوا دوراً كبيراً في تقدُّم هذا العلم. "الخازن" من عُلَمَاء القرن السَّادس الهجري، (القرن الثَّاني عشر الميلادي) وضع كتاباً في الميكانيكا سماه "ميزان الحكمة" وقد سبق العالم تورشيللي (1608-1647م) في وزنه الهواء، وفي تفسيره بأنَّ حركة الأجسام في الهواء لها قوة رافعة كالسَّوائل، كما قام الخازن بقياس كثافة كثير من العناصر والمركبات بدرجة من الدِّقة لم يصل إليها عُلَمَاء القرن الثَّامن عشر كما أوضح أنَّ سقوط الأجسام إلى الأرض ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض، وهذا هو قانون الجاذبية الذي ينسب إلى نيوتن (1961م). ومن الْعُلَمَاء المسلمين الذين أسهموا في تطوير عِلْم الفيزيقا الحديثة العالم الباكستاني عبد السَّلام (1926-1994م) الذي قام بتوحيد القوى النَّووية الضعيفة والقوى الكهرو مغناطيسية لتصبح مجالا موحدا، وقد نال جائزة نوبل في الفيزيقا عام 1979م عن نظريته تلك. والعالم المصري أحمد زويل الذي نال جائزة نوبل عام 1999م بعد أن اكتشف وحدة قياس جديدة لقياس الزَّمن المتناهي في الصِّغر" (موسى، 2001م، بتصرُّف يسير).

 

عِلْمُ الهيئة

أسهم المسلمون أيضاً في تطوير عِلم الفلك وحرَّروا كاهله من الإيمان بالخرافة وانطلقوا به نحو آفاق جديدة فقام المسلمون ببناء المراصد الفلكية منذ بداية القرن الثاَّلث الهجري. الهَيْئَةُ، في اللُّغةِ: حالُ الشَّيءِ، وكَيْفِيَّتُه وعِلْم الهيئة هو عِلم الفلك في تعبيرهم قديماً وهو يهتم بتعيين أماكن الأفلاك وتتبع حركتها في السَّماء ووقت ميلادها وأفولها. المسلمون أطلقوا اسم المُؤًقِّت أو الميقاتي على العارف بعِلم الميقات والعالِم بجهة القبلة وله إلمام بفن الهيئة ويعرف استخدام الإسطرلاب. المساجد الكبيرة مثل الجامع الأموي كان فيه "رئيس المُوقِّتين" (ابن العماد، ج 10، ص 79).

ولقد تفرَّع من هذا الْعِلْم الجليل جملة من العلوم العِلمِيَّة والفلكيَّة الْهَامَّة منها عِلم كتابة التَّقاويم، وعِلم كيفيَّة الإرصاد، وعِلْم الآلات الرَّصدية، وعِلم مواقيت الصَّلاة، وعِلْم الآلات الظِّلية، وعِلم منازل القمر، وعِلم الجغرافيا، وعِلم مسالك البلدان والأمصار، وعِلم مسافات وخواص الأقاليم، وعِلم مواسم السَّنة، وعِلم وضع وعمل الإسطرلاب، وعِلم آلات صناعة السَّاعات. وكانوا يهتمون بالتَّقويم الشَّمسي والقمري -كما ذكر القنوجي- فالدور يطلقونه على النِّظام الشَّمسي، والكور على الحساب القمري ويسمونه عِلْم الأدوار والأكوار.

الإسطرلاب أداة فلكيَّة وكلمة "إسطرلاب" أصلها كلمة يونانية معناها ميزان الشَّمس، وأول من وضعه بَطْلَيْمُوس صَاحِب " الْمَجِسْطِي " (ابن العماد، ج6، ص 170). الإسطرلاب أداة فلكيَّة مليئة بالدَّوائر والخطوط الدَّالة على مواقع النُّجوم. كانت صناعة مثل هذه الآلات الفلكية صنعة رائجة في العالم الإسلامي فمن يتَّقنها يحصل على مال جزيل، والثَّناء الجميل، وينال الجاه العريض لشدَّة تهافت النَّاس على شرائها وتقديرهم للمتفوق في هذه الصَّنعة وربما وُضعت بعض هذه الآلات في خزائن الكتب التَّابعة للمدارس والخوانق.

إننَّا كلّما تتبَّعنا عِلْماً أو مجالاً نجح المسلمون فيه وجدنا توجيهاً قرآنيّاً أو نبويّاً كريماً يحض على الخوض فيه ولم نجد عِلْماً أو مَجالاً يضرّ النَّاس إلا ووجدنا الإسلام يُحَرِّض على إجهاضه. لأنَّ الدِّين الإسلامي حث على التَّأمل في الكون وطالب بمعرفة أوقات الصَّلوات، واتجاه القبلة، وفرض الحج، وصوم شهر رمضان بناءاً على رؤية الهلال، وأمر بتقسيم المواريث فإنَّ المسلمين، سلفاً وخلفاً، عامَّتهم وخاصتهم، بذلوا جهدهم في تشييد صرح العلوم لتخدم المسلم في أمور دينه ودنياه. منذ صدر الإسلام نهض عُلَمَاء الحضارة الإسلامية فاجتهدوا في تحقيق هذه المقاصد النَّبيلة عِلْمياً وعملياً، فدرسوا العلوم، وخاضوا غمارها وأحكموا فهم أغوارها، فأجروا التَّجارب وبنوا المراصد، ورسموا الخرائط، واستخلصوا النَّتائج بموضوعيَّة واعتنوا عناية بالغة بالحساب والفلك. قال جلّ ثناؤه منوهاً على عظمة خَلْقِهِ: "وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {15} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ {16}" (سُوْرَةُ النَّحل). وفي سُوْرَةُ الأنعام "إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {95} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {96} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {97}". من يَتَدَبَّر القرآن يُدْرِك أنَّه حض على التَّفكر كما أنَّ السُّنََة النَّبوية حثَّت كذلك على فهم الظَّواهر الكونيَّة بعيداً عن تأثير الخرافات كما في الحديث "إِنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ. وَإِنّهُمَا لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ" (رواه مسلم، باب صلاة الكسوف: الحديث رقم: 1 - 901).

قال ابن تيمية واصفاً انحراف الفلاسفة في فهم عِلم الفلك "وَأَمَّا قُدَمَاءُ الْيُونَانِ فَكَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ شِرْكًا وَسِحْرًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالأَصْنَامَ وَلِهَذَا عَظُمَتْ عِنَايَتُهُمْ بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْكَوَاكِبِ لأَجْلِ عِبَادَتِهَا. وَكَانُوا يَبْنُونَ لَهَا الْهَيَاكِلَ ... وَلَمَّا دَخَلَتْ الرُّومُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَجَاءَ دِينُ الْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ أَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ. وَلِهَذَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ فَوَضَعَ دِينًا مُرَكَّبًا مِنْ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَسْجُدُونَ فَجَاءَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ النَّصَارَى وَمَنْ اتَّبَعَهُ فَابْتَدَعُوا الصَّلاةَ إلَى الْمَشْرِقِ ... وَكَانَ أُولَئِكَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ الْمُجَسَّدَةَ الَّتِي لَهَا ظِلٌّ فَجَاءتْ النَّصَارَى وَصَوَّرَتْ تَمَاثِيلَ الْقَدَادِيسَ فِي الْكَنَائِسِ وَجَعَلُوا الصُّوَرَ الْمَرْقُومَةَ فِي الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ بَدَلَ الصُّوَرِ الْمُجَسَّدَةِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا الَّتِي لَهَا ظِلٌّ" (مجموع الفتاوى، ج 17، ص 327).

تحكي كتب التُّراث أنَّ "يحيى بن أبى منصور وضع زيجاً (جدولاً) فلكياً مع "سند بن علي". وفي عهد الخليفة المأمون ألَّف "موسى بن شاكر" و "أحمد بن عبدالله بن حبش" أزياجاً وقد قام عُلَمَاء الفلك في تلك الفترة بتقدير محيط الأرض، وقد وضع الصُّوفي (توفي عام 376هـ = 986م) جداول دقيقة لبعض النُّجوم الثَّوابت" (موسى، 2001م باختصار). الأزياج كلمة فارسية تعني جداول لرصد وحساب حركات النُّجوم. ازدهر هذا الفن عند الفلكيين منذ عهد المأمون. هذا العِلم يُسمى "عِلْم الزِّيجات والتَّقاويم" ويندرج تحته معرفة كسوف الشَّمس وخسوف القمر (التَّهانوي، 1998، ج، 1، ص 66). 

ذكر موريس شربل في موسوعته التَّربوية (1991 م) أنَّ بيت الحكمة أول معهد عِلمي رفيع المستوى للتَّعليم والتَّرْجَمَة في الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها أسَّسه المأمون  –وقيل هارون الرَّشيد- في بغداد في الثُّلث الأول من القرن التَّاسع ميلادي حوالي العام ( 215 هـ =830 م) اشتمل منهاج التَّعْلِيْم فيه الهندسة والفلك ومؤلفات بطليموس في المجسطي وأقليدس في الرِّياضيات والمنطق. كما ضمَّ مكتبة كبرى ومرصداً فلكياً هذا عدا الأزياج التي وُضعت من قبل الْخُوَارَزْمِيّ وغيره، يستحق بيت الحكمة هذا أن نُسميه أول معهد عال في القرون الوسطى والحديثة. فقد حمل مشعل الحضارة والبحث والتَّرْجَمَة لنفائس الكتب زمناً طويلاً قبل أن تنتشر هذه النشاطات في عواصم أوربا كافَّة (ص 286، باختصار، انظر خضر، 1996 م، ص 140).

يقول المؤرخ الغربي سيدو عن بيت الحكمة "إنَّ الذي يميِّز مدرسة بغداد هو الرُّوح العِلْمِيَّة التي تُهيمن على أعماله، فالسَّير من المعلوم إلى المجهول، وإدراك الظَّواهر إدراكاً دقيقاً من أجل الصُّعود بعد ذلك من النَّتائج إلى الأسباب، ورفض كل ما لم تبرهن عليه التَّجربة[25]، تلكم هي المبادئ التي عَلَّمنا إيَّاها الأساتيذ العرب. لقد كان عرب القرن التَّاسع يملكون تلك الطَّريقة الخصيب التي ستغدو فيما بعد في يد المُحْدَثين أداة لاكتشافاتهم الكبرى" (عبدالدائم، 1997، ص 219).

كل الدَّلائل تشير إلى قوة النَّزعة التَّجريبية عند عُلَمَاء الإسلام فلقد بنوا مراصد كبيرة لها مواقعها الثَّابتة والمتميزة، وكانت هناك مرتبة خاصة لعِلم الفلك في العالم الإسلامي،  فاتَّسعت البرامج البحثية، وعكف الْعُلَمَاء على إقامة جداول فلكية، وكان هناك اهتمام بالرَّصد المباشر، وبدقَّة  قياس المساحات، وبالنَّظريات الرِّياضيَّة، وبزيادة حجم الآلات، وبالإصرار على ممارسة الفلكيين أعمالهم في مجموعات، وبالميل إلى التَّخصص في مجالات ضيقة "ومن أهم المراصد الفلكية مرصد مراغة في القرن السَّابع الهجري، ويُعدُّ هذا المرصد واحدًا من أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع المراغة  بالقرب من مدينة  تبريز.  بُني المرصد خارج المدينة، ولا تزال بقاياه موجودة إلى اليوم. ويعدُّ مرصد المراغة أول  مرصد  استفاد  من أموال  الوقف؛  إذ وقفت  عليه  عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به؛ ولذا ظل العمل جاريًا في المرصد إلى عام 712 هـ = 1316م وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته. لهذا المرصد العَديد من الأنشطة الثَّقافية ومنها النَّشاط التَّعليمي الهام الذي تم فيه، فقد تم تعليم العديد من الطَّلبة في المرصد عِلم الفلك والعمل على الآلات الفلكية. كما كان بالمرصد مكتبة ضخمة ضمت آلاف المخطوطات في شتى مجالات المعرفة (عزب، 2001 م، باختصار وتصرُّف).

 

عِلْمُ الحِيَلِ

وَمِن العلوم التي اشتهر بها المسلمون الأوائل عِلم الحيل وهو عِلم تطبيقي يعتني بتطوير واختراع الآلات الْنَّافِعَة التي تُسَهِّل للنَّاس معيشتهم وتُضاعف إنتاجهم وقد أسماه اليونان بعِلم الميكانيكا. يعتبر ابن شاكر (مُحَمَّد بن موسى) وبنوه من أشهر من تخصص وأبدع في عِلم الحِيل الذي يندرج اليوم تحت باب عِلم الهندسة وكتابهم حيل بني موسى من أدقِّ الدِّراسات التِكْنُولُوجِيَّة في القرن الثَّالث الهجري على مستوى العالم. "كانوا ذوي أموال ولهم هممٌ عالية في تحصيل هذا الفن، والكتب القديمة، وتطلّبوها، واحضروا من عرّبها. ولهم كتاب "الحيل" وفيه عجائب وغرائب. وكذلك صنَّفوا في الموسيقى. وكان المأمون يعتمد عليهم في الرَّصد ومساحة الدُّنيا" (الذَّهبي، ج12، ص 339). توفي مُحَمَّد بن موسى بن شاكر في سنة 259 هـ = 872 م. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ بني موسى عملوا على معاينة مساحة الأرض فِعلاً ولقد طلب المأمون منهم تقدير مساحتها على أرض الواقع فقاموا بقياس كرة الأرض من خلال الحبال وتقسيم الجهات الجغرافية إلى مراحل مُتساوية (انظر ابن العماد، ج4، ص 194). وذكر القلقشندي في صبح الأعشى علم الآلات الحربية وقال "فيه كتاب لبني موسى بن شاكر" (القلقشندي، ص 327).

يقول أحمد فؤاد باشا عن كتاب الحِيل الذي قامت عليه شُهرة أبناء موسى "ويحتوى هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحيَّه لطرائق التَّركيب والتَّشغيل، وهو ما يدخل اليوم في نطاق عِلم "الهندسة الميكانيكيَّة" المعتمدة على حركة الهواء، أو حركة السَّوائل والتزامها. وقد استعملوا نظام الصَّمامات الآلية ذات التَّشغيل المتباطئ وعرفوا طريقة التَّحكم الآلي والتَّشغيل عن بعد. كذلك تضمنت ابتكارات المسلمين الأوائل في عِلمِ الحيلِ الْنَّافِعَةِ تصميمات متنوعة لساعات وروافع آلية يتم فيها نقل الحركة الخطية إلى حركة دائريَّة بواسطة نظام يعتمد على التّروس المسنَّنة وهو الأساس الذي تقوم عليه جميع المحركات العصرية. ومن المؤلفات التُّرَاثية الرَّائدة في هذا المجال كتاب "الجامع بين العِلم والعمل الناَّفع في صناعة الحيل"، لبديع الزَّمان الرّزاز الجزري الذي عاش في القرنين السّادس والسّابع الهجريين (الثّاني عشر والثّالث عشر الميلاديين). وقد وصفه "جورج سارتون "بأنَّه أكثر الكتب من نوعه وضوحاً ويمكن اعتباره الذّروة في هذا النّوع من إنجازات المسلمين" (باختصار).

أكد د. دُونالد هِل (Hill, 1994) في بحثه على أنَّ عِلم هندسة الميكانيكا في الغرب تأثَّر بجهود العرب واعتبر دراسات بني شاكر في القرن الثَّالث الهجري وأعمال الجزري في القرن السَّابع من أهم أعمال العرب (ص 27). وفي نهاية بحثه أكَّد على أنَّ الأعمال الخاصة بصناعة السَّاعة يمكن تتبع أصولها في التُّرَاث الإسلامي. مُكتشفات العرب دخلت ثقافة الغرب عبر مدن الأندلس وإبّان الحروب الصَّليبية. "د. دونالد هل" ألَّف أكثر من ستّة كتب ومجموعة مقالات عن تاريخ التّكنولوجيا الإسلامية ويرى أنَّ جهود بعض عُلَمَاء ألمانيا في هذا المضمار في القرون الماضية تشبه أطروحات حيل بني موسى في الكثير من الأوجه الفنيَّة.

ذكر الْخُوَارَزْمِيّ في كتابه مفاتيح العلوم عِلْمَ الحيل (ص 124) وقسَّمه إلى قسمين. القسم الأول يرتبط بجرِّ الأثقال بالقوَّة اليسيرة وآلاته المرتبطة بهذا العمل، والقسم الثَّاني هو حيل حركة الماء وصناعة الأواني العجيبة وما يتّصل بها من صناعة الآلات المتحرِّكة بذاتها. ولقد تعرَّض الخوارزمي في كتابه هذا إلى التَّعريف الموجز بالألفاظ الخاصة بها الفن الذي يستخدمه أهل الحيل وهو عمل  تصنيفي يشبه الدَّليل التَّاريخي أو المعجم المصغَّر لمصطلحات علم الحيل.

ومن المصطلحات المرتبطة بهذا الفن "علم أنباط[26] المياه" وهو علم يُعرف منه كيفيَّة استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها وقد قال أحد العلماء لو علم عباد الله تعالى رضاء الله تعالى في إحياء أرضه لم يبق في وجه الأرض موضع خراب. وكذلك "علم جر الأثقال" وهو علم يبحث عن كيفية اتخاذ الآلات التي تجر الأشياء الثَّقيلة بالقوة اليسيرة ومنفعته ظاهرة. وأيضاً ومن المصطلحات المرتبطة بهذا الفن "علم الآلات الرّوحانية" أو "الحيل الرّوحيَّة" ولها صلة بالآلات الخاصة بنقل المياه وسمي بهذا لارتياح النَّفس بغرايب هذه الآلات. ومن أصناف العلوم التَّابعة لهذا الباب علم البنكامات الخاص بإيجاد آلات مقدرة للزَّمان ومنفعته أوقات العبادات وكان العلماء يستعملون بالنَّهار الإسطرلابات وباللَّيل البنكامات (القنوجي، ابن الكندي ص 9، التَّهانوي ج1 ص 62، القلقشندي، ص 327، الجاحظ ص 317 باختصار وتصرف).

ولقد حرص المؤرخون على ذكر طرف من روائع إبداعات هذه الطَّبقة من المهندسين والفنَّانين. أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي (ت 621 هـ = 1224 م) "كان فرداً في علم الهندسة وصناعة الموازين يخترع أشياء عجيبة من ذلك أنَّه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل في كل ثقب شعرة وكان له حظوة عند الدولة". وتجد النُّعيمي في كتابه الدَّارس يعتني بذكر اسم من قام بصناعة ساعات الجامع الأموي في دمشق ويبين سعة اطلاع ذلك المهندس وتعدّد العلوم التي كان يتقنها وتاريخ قيامه بصناعات السَّاعات المشهورة عند النَّاس ثم أشار إلى أنَّ تكريم السُّلطان له (ص 670).

وكان لتقدم هذا العلم عند المسلمين أثره العملي الواضح في بناء المرافق العامَّة والمدارس ولقد ذكر لنا أهل التَّاريخ أوصافاً مُتنوعة مُتفرِّقة عن كثرة وجود السَّاعات وأشكالها في السَّاحات العامَّة ولعل أجمل وأشهر السَّاعات ساعة باب الجامع القبلي في جامع دمشق المعروف بجامع بني أميَّة فهي من أعجب الرَّوائع الهندسيَّة كما تدل المعلومات التَّاريخية المتناثرة في شأنها[27]. باب السَّاعات في ذلك الجامع كان عبارة عن غرفة لها عدَّة أبواب على عدد ساعات النَّهار. الأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصًّفرة فإذا ذهبت ساعة من النَّهار انقلب الباطن الأخضر ظاهراً والظَّاهر الأصفر باطناً. تعمل على حساب كل ساعة تمضي من النَّهار وعليها عصافير من نُحاس، وحيَّة من نحاس، وغراب من نحاس، فإذا تمت السَّاعة خرجت الحيَّة فصفَّرت العصافير وصاح الغراب وسقطت حصاة في الطَّست فيعلم النّاس أنَّه قد ذهب من النَّهار كذا كذا من الوقت.

وإلى جانب السَّاعات في دمشق كانت نافورة تدفع المياه للأعلى يسمونها الفوارة مُحكمة العمل مصنوعة من نحاس ورصاص ورخام وسطح الفوارة فسيفساء فيه صور غزلان وغيرها من الحيوان، تندفع منه المياه الجارية فترتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان وتوقد عليها المصابيح بالليل فيموه الماء ذهب شعاعها، وتُطرب أنابيبها الأسماع بلذَّة إيقاعها ثم تنزل المياه في حوض رخام بديع وكأن الشَّاعر يصف الفوارة في قوله:

تراها إذ صعدت في السَّماء


 

تعود علينا بأخبارها[28]


 

عِلْمُ الطِّب

لقد جاء الإسلام لِيحُث النَّاس على كل عِلْمِ نافع وفي سنن ابن ماجة أنَّ بعض الصَّحَابَة "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ أَنْ لاَ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: تَدَاوَوْا، عِبَادَ اللهِ! فَإِنَّ اللهَ، سُبْحَانَهُ، لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً. إِلاَّ الْهَرَمَ" (كتاب الطِّب). في ميدان الطِّب نجد أنَّ المسلمين كما بنوا البيمارستانات للعلاج والتَّعْلِيْمِ فإنهم وضعوا قواعد عَمَلِيَّة أخلاقية لمهنة الطِّب (Medical Ethics) ضبطت أصولها وهي قواعد مبنية على تحمُّل المسئولية القانونية وتمنع مهنة الطِّب قدر الإمكان من تجارب وتجارة الجهلة ممن لم يطلبوا الْعِلْم في هذا الميدان. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ» رواه النَّسائي. قال شُرَّاح الحديث عن قوله: «تَطَبّبَ» أي تكلَّف في الطِّب وهو لا يَعْلَمه فهو ضامن لما أتلفه بِطِبِّه. هذا الحديث وأمثاله من التَّوجيهات الإسلاميَّة التي أرست دعائم العِلْمِ في ميدان الطِّبِ كمهنة لها أعرافها العِلْمِيَّة والأخلاقيَّة ولا تخلو من المساءلة القانونيَّة وتحمل مسئوليَّة الأخطاء التي قد يرتكبها  الطَّبيب أثناء ممارس المهنة نتيجة سوء تصرف أو عدم دراية أو تقصير (Malpractice) فهو"ضامن" أي مسؤول عن اقدامه على عمل محذور ومثل هذا المفهوم مازال من أهم موضوعات عالَم الطِّب على مستوى العالم الحديث بل إنَّ موضوع تحمُّل المسئوليَّة أهم موضوع يشغل عقول الأطباء وشركات التَّأمين المُرتبطة بالإدارة الطِّبية. حِفظ حقوق النَّاس وتنظيم التَّعاملات، وتحديد المسئوليات كان أهمَّ موضوعات التَّوجيهات الإسلامية في كلمة "ضامن".

ولأنَّ العلوم مهما اختلفت ميادينها لا تستقل عن منظومة القيم والأخلاق فإنَّ توجيهات الإسلام اهتمت بالتَّأكيد عليها كما أنَّ ممارسات نوابغ الفِكر الإسلامي في حقل الطِّب كانت ترجمة عملية لعمق العلاقة بين الأخلاق وعلم الطِّب، ويكفي أن نعلم أنَّ الطَّبِيْب المسلم كابن سينا كان يربط النُّبوغ الطِّبي بالإيمان وطهارة القلب ففي مدَّة اشتغاله بطلب العِلْمِ "لم ينم ليلة واحدة بكاملها ولا اشتغل في النَّهار بسوى المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع، وصلّى ودعا الله عَزَّ وَجَلَّ أنْ يُسهِّلها عليه ويفتح مُغلقها له" (ابن العماد، ج 5، ص 133).

"ومِن القواعد الطِّبية التي أصَّلُوها قول ابن سينا (980 هـ = 1037م) عن عدم جواز العلاج بالأدوية المركَّبة حيثما يمكن العلاج بالأدوية البسيطة، وهو أمر مُتَّفق عليه بين أطباء ذلك الزَّمان. وقالوا أيضاً: (وكلّ داءٍ قُدِرَ على دفعه بالأغذية والحِمية لم يحاول دفعه بالأدوية). ويقول الطَّبِيْب أبو الطَّيب الطَّبَرِي (ت 450 هـ = 1058م) ولا ينبغي لأحدٍ أن يُعَجِّل بالعلاج. ولا يقوم عليه إلاّ بعد التَّجربة ومعرفة الأدوية، لأنَّ الدَّواء يصير في يد الجاهل كالسُّم الزُّعاف.. وربما كان السُّم بحكمة الحكيم وحسن تقديره مثل ماء الحياة…). وقد اهتم الطَّبِيْب ابن رضوان (376 - 460 هـ = 986 - 1067م) كثيراً بالنَّاحية الأخلاقية وهو ما يُعرف اليوم باسم (آداب المهنة)- فخّصها بدراسات ومؤلفات عديدة نجد فيها مرجعيَّة استوعبت الموروث الإغريقي (أبقراط) وأضافت إليها إسهامات هَامَّة" (مطلق، 2001 م باختصار). ومن الأقوال الطِّبيَّة الهامَّة قولهم "ولا ينبغي للطَّبيب أن يولع بسقي الأدوية فإنَّ الدَّواء إذا لم يجد في البدَن داءً يحلّله… تشبَّثَ بالصّحة وعبث بها" والعلم الحديث دائم التَّأكيد على أنَّ الدَّواء له أعراض جانبيَّة (Side eficts) حتى تناول مُسَكِّن الألم والأسلم عدم استخدامه إذا أمكن الاستغناء عنه لأنَّ الطِّبَّ هو "حِفْظُ الصِّحَّةِ" كما ذكر الثَّعالبي (ت 429 هـ = 1037 م).

كانت الأدوية إما مُفْرَدَة مثل الحبة السَّوداء وهو الشَّائع استعماله في العصر النَّبوي أو أدْوية مُرَكَّبَة مثل المراهم والزِّيوت والضَّمادات. ولقد ألَّف الأطبَّاء في هذا الباب الكثير من الكتب مثل كتاب إبدال الأدوية المفردة والمركَّبة لشابرو بن سهل الحكيم المتوفى سنة 255 هـ = 868 م ودستور الأدوية المركبة للرَّئيس داود بن أبي البيان والبغية في الأدوية المركبة لأحمد بن إبراهيم بن الجزار الإفريقي الطَّبِيْب المتوفى سنة أربعمائة. جوارش مثال للدَّواء المُصَنَّع فهو "نَوْعٌ من الأدْوية المُرَكَّبَة يُقَوّي المَعِدة ويَهْضِم الطّعام" (ابن الأثير، النّهاية، التَّهانوي، 1998، ج1، ص 312). وورد في كشف الظنون لحاجي خليفة (أنَّ كتاب تذكرة السويدي لأبي إسحاق إبراهيم بن مُحَمَّد المعروف بابن طرحان المتطبِّب (ت 620 هـ = 1223 م) يتكوَّن من "ثلاث مجلدات كبار وهو كتاب مفيد جليل القدر جمع فيه الأدوية المفردة على ترتيب الأعضاء والأمراض والعِلل وضمَّ إليه فوائد من مجرياته ومجريات غيره بعزو الأقوال إلى قائلها فصار جامعاً لأقوال الحكماء محتوياً على فوائد المُحْدِّثين والقدماء لا يستغني طالب عِلم الطِّب عن مطالعته وسماه بالتَّذكرة الهادية ولما التزم عند ذكر كل فائدة التَّصريح بمن قالها طال الكتاب ولذلك لخَّصه الشَّيخ بدر الدِّين مُحَمَّد بن القوصوني بحذف أسماء الأطبَّاء".

كانت الدولة الإسلاميَّة وخاصة في المدن الكبرى تُعطي أهمية قصوى لمرافق الخدمات العامَّة وعلى رأسها المساجد، ودواوين الحكومة، واستراحات المسافرين والحجاج، والمستشفيات التي تتميز بالاتِّساع والفخامة والجمال مع حسن اختيار للموقع الجغرافي والذي يتأمَّل أحد هذه المستشفيات التي بقيت آثارها حتى عصرنا هذا مثل مستشفى ابن طولون في القاهرة، أو المستشفى السلجوقي في تركيا سوف يلاحظ فخامة المبنى وضخامته فهو أقرب إلى القصر الفاخر بغرَفه وساحاته وحمَّاماته وحدائقه (الفنجري، 2001 م).

الحسبة على الأطباء والكحالين والجرائحيين والمجبرين من المسائل التَّعليميَّة الْسِّيَاسِيَّة الإدارية التي نالت عناية عُلَمَاء وأمراء المسلمين فالمُحتسب في المرافق العامَّة في البلد عليه أن يتأكد من توافر الصِّفات المطلوبة لكل من يمارس مهنة عامَّة حِمايةً للنَّاس من الغش والخداع الذي يُمارسه الدَّجالون في كل زمان ومكان.‏ قال ابن الأخوة في كتاب ‏معالم القربة في طلب الحسبة "وَالطَّبِيبُ هُوَ الْعَارِفُ بِتَرْكِيبِ الْبَدَنِ وَمِزَاجِ الأعْضَاءِ وَالأمْرَاضِ الْحَادِثَةِ فِيهَا وَأَسْبَابِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَعَلامَتِهَا وَالأدْوِيَةِ النَّافِعَةِ فِيهَا وَالاعْتِيَاضِ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا وَالْوَجْهِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَطَرِيقِ مُدَاوَاتِهَا بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الأمْرَاضِ وَالأدْوِيَةِ فِي كَمْيَّاتِهَا وَيُخَالِفُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَيْفِيَّاتِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلا يُجْعَلُ لَهُ مُدَاوَاةُ الْمَرْضَى، وَلا يَجُوزُ لَهُ الإقْدَامُ عَلَى عِلاجٍ يُخَاطِرُ فِيهِ، وَلا يَتَعَرَّضُ لِمَا لا عِلْمَ لَهُ فِيهِ..‏وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُقَدَّمٌ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِمْ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مُلُوكَ الْيُونَانِ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ حَكِيمًا مَشْهُورًا بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ أَطِبَّاءِ الْبَلَدِ فَيَمْتَحِنُهُمْ فَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا فِي عِلْمِهِ أَمَرَهُ بالاشتغال وَقِرَاءةِ الْعِلْمِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُدَاوَاةِ.‏

وَيَنْبَغِي إذَا دَخَلَ الطَّبِيبُ عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَرَضِهِ، وَعَنْ مَا يَجِدُ مِنْ الألَمِ ثُمَّ يُرَتِّبُ لَهُ قَانُونًا مِنْ الأشْرِبَةِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعَقَاقِيرِ ثُمَّ يَكْتُبُ نُسْخَةً لأوْلِيَاءِ الْمَرِيضِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَضَرَ وَنَظَرَ إلَى دَائِهِ وَنَظَرَ إلَى قَارُورَتِهِ وَسَأَلَ الْمَرِيضَ هَلْ تَنَاقَصَ بِهِ الْمَرَضُ أَمْ لا؟‏ ثُمَّ يُرَتِّبُ لَهُ مَا يَنْبَغِي عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَيَكْتُبُ لَهُ نُسْخَةً وَيُسَلِّمُهَا لأَهْلِهِ،‏ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَفِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ كَذَلِكَ وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَبْرَأَ الْمَرِيضُ أَوْ يَمُوتَ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَخَذَ الطَّبِيبُ أَجَرْتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عِنْدَ الْحَكِيمِ الْمَشْهُورِ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ النُّسَخَ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ الطَّبِيبُ، فَإِنْ رَآهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَصِنَاعَةِ الطِّبِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلا تَقْصِيرٍ مِنْ الطَّبِيبِ قَالَ:‏ هَذَا قُضِيَ بِفُرُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ رَأَى الأمْرَ بِخِلافِ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ:‏ خُذُوا دِيَةَ صَاحِبِكُمْ مِنْ الطَّبِيبِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِسُوءِ صِنَاعَتِهِ وَتَفْرِيطِهِ فَكَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الشَّرِيفَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ حَتَّى لا يَتَعَاطَى الطِّبَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلا يَتَهَاوَنُ الطَّبِيبُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمْ عَهْدَ أَبُقْرَاطَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى سَائِرِ الأطِبَّاءِ وَيُحَلِّفَهُمْ أَنْ لا يُعْطُوا أَحَدًا دَوَاءً مُضِرًّا، وَلا يُرَكِّبُوا لَهُ سُمًّا، وَلا يَصِفُوا سِمَامًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَامَّةِ، وَلا يَكْذِبُوا النِّسَاءَ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْقِطُ الأجِنَّةَ، وَلا لِلرِّجَالِ الَّذِي يَقْطَعُ النَّسْلَ وَلْيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى الْمَرْضَى وَلا يُفْشُوا الأسْرَارَ، وَلا يَهْتِكُوا الأسْتَارَ، وَلا يَتَعَرَّضُوا لِمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ فِيهِ" (باختصار).‏ 

كان رئيس الجرايحية أي الجراحين ورئيس الأطبَّاء ورئيس الكحالين ورئيس المجبرين المختص بتجبير الكسور يقومون بمنح الإجازة للطَّالب الذي أنهى تعلُّمه وتدرّبه. وفي الدَّولة العثمانية كانوا يُسمُّون الإجازة "إجازَ تْنامه" وإذا حاز الطَّالب على إجازة من أكثر من عالِم وغدا في عِداد الْعُلَمَاء يُدوَّن اسمه في الرّزنامة السُّلطانية في عصر المماليك (حلاق وصباغ، 1999 م، ص 15، 99، ، 100، 103).

ساهمت كثرة الأقاليم الإسلاميَّة وسهولة التَّنقُّل في ازدهار صنعة العقاقير الطِبِّيَّة المستمدَّة من النَّباتات والأشجار التي تَنمو أو تُزرع في الأراضي الإسلاميَّة وبذلك راجت محلات دكاكين العطَّارين. ضياء الدين عبدالله بن أحمد، الطَّبِيْب المسلم المشهور بابن البيطار (ت 646 هـ = 1248 م) انتهت إليه معرفة النَّبات وصفاته ومنافعه وأماكنه، وعُرِف بالعشَّاب وألَّفَ كتاباً أسماه المفردات في الأدوية وكان رئيساً في الدِّيار المصريَّة  عَرَفَ الأمراء عُلوَّ عُلومه فعظَّموا مكانته وأكرموه (ابن العماد، ج7، ص 405).

يجد الطَّبِيْب الغربي اليوم في عيادته الشاش الطِّبي (gauze) وهذه الكلمة أصلها عربي ولقد كانت مدينة غزَّة الفلسطينيَّة من المدن التي عَمِلت في توفير هذا النَّسيج وكذا شأن بعض أسماء الأدوية والأعشاب التي تُستخدم بشكل واسع في ميادين الطِّب لها أصولها العربية استعارها الغرب من لغة العرب لأنهم لما تعلَّموها منهم أخذوها كما هي وعادة تَتحرَّف الألفاظ في النُّطق لاختلاف اللَّهجات.

في المتحف الوطني الطِّبي الأمريكي (U.S. National Library of Medicine, 2001) مكتبة خاصة لعِلْم الطِّب عند المسلمين وأثره الهام على أوربا كما جاء في مقدِّمة موقعهم الإلكتروني الذي يضمّ الكثير من الصّور النَّادرة لمخطوطات إسلامية طِبِّيَّة التي يمتلكونها. المتحف ذكر الكثير من الأدلَّة القاطعة بعظمة عِلم الطِّب كما طوره المسلمون في حضارتهم التي اعتنت عناية بالغة بتقدير العِْلم، واحترام العقل، وخدمة الإنسانية.

من المخطوطات الأصلية القديمة النَّادرة اليوم في المتحف الوطني الطِّبي في الولايات المتُّحدة مخطوطة كتبها علاء الدين علي بن أبي الحزم المشهور بـ "ابن النَّفيس" (ت 687 هـ = 1288م) العالم المسلم الجهبذ صاحب كتاب موجز القانون الذي لمدة قرون وكبار الأطباء يدرسونه ويكتبون الحواشي لشرح فوائده. المخطوطة المذكورة عبارة عن إجازة كتبها الطَّبِيْب المصري ابن الْنَّفِيس وهو المُجيز لتلميذه النَّصراني "شمس الدولة أبو الفضل بن حسن المسيحي" وهو المُجاز لأنَّه قرأ وتمكَّن من كتاب ابن الْنَّفِيْس والذي شرح فيه مسائل أبقراط الطِّبية. هذه الشّهادة "الإجازة" كما كانوا يسمونها كُتبت بخط يد ابن الْنَّفِيْس نفسه بتاريخ 29 جمادى الأولى من عام 668هـ = 1270م. قال المؤرخون عن ابن الْنَّفِيْس بأنَّه شَيخ الطِّب، وصاحب كتاب الشَّامل، وهو كتاب ضخم، وكانت كتبه يمليها من حِفظه ولا يحتاج إلى مراجعة لتبحُّره في الطِّب وأنَّه لم يكن على وجه الأرض مثله وأنَّه أوقف أملاكه وكُتبه على المارستان المَنصوري (ابن العماد، ج 7، ص 703، شحاده، 2001 م). كان ابن الْنَّفِيْس مُشرفاً على المارستان المَنصوري آنذاك فكان يُسمى "رئيس أطباء مصر". يُعد كتابه الشَّامل في الصِّناعة الطِّبية أكبر موسوعة عِلْمِيَّة في الْتَّارِيْخ الإنساني يكتبها شخص واحد كما يقول المحلِّلون "فالكتابة  العِلْمِيَّة اتجهت منذ بداياتها الأولى إلى شكل الرَّسائل القصار والفوائد الموجزة، ظهر هذا في كتابات الفراعنة العِلْمِيَّة وفى كتابات الفرس والهند والصِّين واليونان العِلْمِيَّة كذلك  ومع بزوغ نجم الحضارة العربية تعرَّفت الإنسانية على أول كتابات عِلْمِيَّة موسَّعة  وأول موسوعات عِلْمِيَّة في الْتَّارِيْخ الإنساني" (عتيبة، 2001، باختصار، وتصرف).

ومن طرائف الحكايات في تأليف الكتب أنَّه "بينما كان طبيب القلب ومكتشف الدورة الدموية ابن النَّفيس مسترخياً في الحمام.. يستمتع ببخار الماء الحار إذ مدَّ يده يتحسَّس نبضه وكان قد قاسه قبل دخول الحمَّام. فلاحظ أنَّ النَّبض في هذا الجو الحالم المريح للأعصاب تقل سرعته عن الجو المتوتِّر المليء بالانفعال. تواردت الأفكار على خاطره - بسرعة البرق وفي الحال انطلق ابن النَّفيس من مكانه وأخذ يكتب ويكتب السَّاعات الطَّوال وأخيراً انتهى من تأليف بحثه الهام:- "رسالة في النَّبض" وعند ذلك عاد إلى الحمام وكمل تغسيله" (الفنجري، 2001 م باختصار، شحاده، 2001 م). كان ابن النفيس واثقاً من آرائه، متمكناً من أقواله، ويضع أهدافه وخططه لمستقبل طويل المدى لا تًقارنخططه بالخطط القصيرة الغير طموحة والتي قد ننادي بها ولا نُطبِّقها اليوم فلقد كان ابن النَّفيس يرسم خططه العلميَّة لتُحقق أهدافها على مستوى عالمي طويل الأمد ولقد نُقل عنه أنَّه قال: "لو لم أعلم أنََّ تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها" (شحاده، 2001 م).

وكأنَّ لسان حالِهِ يهتف بروائع المُتنبي في قوله:

وإذا كانت النُّفوس كبارا


 

تعبت في مرادها الأجسام


أو حينما قال:

إذا ما كنت في شرف مروم


 

فلا تقنع بما دون النُّجوم 


تجديد الرَّازي لطرق دراسة وتدريس العلوم الطِّبيَّة 

أبو بكر مُحَمَّد بن زكريا الرَّازي (ت 321 هـ = 924 م) من أشهر عُلَمَاء الطِّب في الإسلام وكما ورد في نهاية كتابه الحاوي[29] بأنَّه الفيلسوف المحقّق والنّحرير المدقِّق، بقراط زمانه وجالينوس أوانه" ( ص 3747). ذكر المؤرخون بأنَّه صاحب إيثار ورأفة بالمرضى وأشهر كتبه في الطِّب هو كتاب الحاوي وهو كتاب ضخم (الذَّهبي، ج14، ص 355) والكثير من الآراء الطِّبية فيه ما زالت صالحة إلى اليوم (Sardar and Malik, 1997, p. 108). لا شك في أنَّ اسم أبي بكر الرَّازي من أبرز أعلام الإسلام الذين أغنوا التُّراث الإسلامي الطِّبي بأعمالهم، والتُّراث التَّربوي بتطبيقاتهم وفعَّاليَّاته التَّهذيبيَّة، وخلَّفوا أثراً عميقاً امتد حتى قرون عديدة بعد بداية النَّهضة الأوربية.

قرأ الرَّازي كُتُبَ الطِّب قراءة باحث "مُتعقِّب على مؤلفيها، فبلغ من معرفة غوائرها الغاية، واعتقد الصَّحيح منها، وعلَّل السَّقيم؛ وكان إمام وقته في عِلْم الطِّب، والمشار إليه في ذلك العصر؛ وكان مُتَّقِناً لهذه الصِّناعة، حاذقاً بها، عرَّافاً بأوضاعها وقوانينها، تشدُّ إليه الرِّحال لأخذها؛ وألَّف كتباً أكثرها في الطِّبِ، وأشرف على مستشفي الرَّي[30]، ثم مارستان بغداد في أيام المكتفي، ثم عمي في آخر عمره. وأحسن صناعة الكيمياء، وذكر أنها أقرب إلى الممكن منها إلى الممتنع، وألَّف فيها اثني عشر كتاباً؛ وكان كريماً، متفضلاً، بارَّا بالنَّاس، حسن الرَّأفة بالفقراء، ولم يكن يفارق النَّسخ أي الكتابة، إما يُسوَّد أو يُبيِّض. وتصانيفه: تبلغ مائة وستة عشر من الكتب والرَّسائل، في الطِّب، والفلسفة. ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية، فلا تعالج بالأدوية؛ ومهما قدرت أن تُعالج بدواء مفرد، فلا تعالج بدواء مركب. قال: وإذا كان الطَّبِيْب عالماً، والمريض مطيعاً، فما أقل لبث العلّة. وقال: عالج في أول العلَّة، بما لا تسقط به القوة. ولم يزل رئيس هذا الشَّأن، وكان اشتغاله به على كبر، يقال: إنه لما شرع فيه، كان قد جاوز أربعين سنة من العمر، وطال عمره[31]" (القنوجي، باختصار وتصرُّف، اليافعي، ص 494، الصَّفدي، ص 593).

يتميز الرَّازي بمنهج تعليمي مُستقل في تدريس طلاَّب الدِّراسات العليا ولقد كان "لديه تدرُّج في تعليم طلابه الطِّب النَّظري، وفنون المعالجة العمليَّة، بشكل يشبه التَّدرُّج الحالي في التَّدريب الطِّبي" (صقال، 2001 م). كان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذ، ودونهم تلاميذهم، ودونهم تلاميذ أخر وكان يجيء الرَّجل فيصف ما يجد لأول من تلقاه فإنْ كان عندهم علم وإلا تعدَّاهم إلى غيرهم فإن أصابوا وإلا تكلَّم في ذلك. ثمَّ إذا كان أمر السَّائل يستلزم أكثر من ذلك فإنَّه يمرِّضه بنفسه ويجري له المال الذي يحتاجه (ابن النَّديم، ص 413).

يُعلِّق محمد عماد الدِّين فضلي (2001 م) على الموقف السَّابق فيقول: "إنِّي أتمثل مجلس العلم هذا فتعتريني هزة إكبار- الرَّازي الأستاذ يعلم طلبته عن طريق الخبرة المباشرة ويجابههم بالموقف المُشكل لِيُعْمِلُوا فيه فكرهم ويجتهدوا فيه قدر جهودهم فيُشاركوا إيجابياً في عملية التَّعليم ويبقى له دور الموجِّه والشَّارح لما غمض والدَّال على الخطأ والصَّواب- وذلك قمَّة في الفكر التَّربوي".

يعلم المتخصِّصون في التَّربية ومناهجها ووسائلها وفلسفتها أنَّ المنهج العملي الذي رسمه الرَّازي وسار عليه طلاَّبه في تدريبهم الطّلاب يُعتبر قطعاً من أرقى طُرق التَّعليم تأثيراً. ومن أوجه قوة ورقي منهج الرَّازي في التَّدريس أنَّ أسلوبه يُعطي الفرصة للطَّالب أن يتعلَّم من علم وتجربة الطَّالب الآخر. ينادي التَّربويون حديثاً بتعليم الطّلاب مهارة الاستفادة من زملائهم في المدرسة وأقربائهم في البيت وكلَّما مارس الطَّالب هذه المهارة بنطاق أوسع كلَّما زادت خبرته.

ولابد أنَّ عدداً كبيراً من الأطبَّاء درسوا وفق الطَّريقة المتقدِّمة تعليمياً كما رسمها وسار عليها الرَّازي.

كما كان الرَّازي في تعليمه يهتم بتدريس تاريخ الطِّب وأعمال من مارس العلاج من الأطباء القدماء فجعل لهذا الأمر حصة في منهاج تدريسه وأدخله في قائمة أسئلة الامتحان لطلاَّبه. وفي هذه القائمة وضع الرَّازي كثيراً مما له علاقة بالطِّب النَّظري والعملي وما هو في صلب هذه الصَّنعة أو في شكلياتها. وكان من رأي الرَّازي في طبيعة الأسئلة التي يمكن توجيهها للطَّالب في مثل تلك الامتحانات أن لا يكون الممتحن مُتزمتاً في المواضيع النَّظرية التي ليس لها مكان واسع ومهم في التَّطبيق. وينتقد من يسأل في مسائل لا تقع إلاَّ نادراً أو غير المألوفة. ويرى أهم من كل ذلك بكثير أن يسأله الممتحن في الفرق بين الأدواء التي تتشابه أعراضها وعلاماتها وتشخيص كل واحدة منها (صابر، 2001 م). "وقد وضع الرَّازي قاعدة هامة للتَّدريس تقول (يمتحن الطَّالب في التَّشريح أولاً فإذا لم يكن له به علم فلا حاجة بك أن تمتحنه على المرضى)" (الفنجري، 2001 م). ولقد كان المعلِّمُ قديماً إذا فرغ من درسه بدأ "بطرح مسائل تتعلق به على الطَّلبة، يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطَّف في إعادته له" (المنصور بالله ص 17).

نالت فلسفة الاختبارات وجدواها عناية كبيرة عند علماء التَّربية الإسلامية ومنهم الحسين بن المنصور بالله في رسالته آداب العلماء والمتعلمين وفيها يُلخِّص لنا أهداف الاختبارات وعلى ضوئها يُرشد المعلم فيوصيه بأن "يُطالب الطَّلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات، ويمتحن ضبطهم بما قدَّم لهم من القواعد المهمة، والمسائل الغريبة، ويختبرهم بمسائل تُبنى على أصل قرَّره، أو دليل ذكره، فمن رآه مصيباً في الجواب ولم يخف عليه شدَّة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليحثَّه وإيَّاهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مُقصِّراً ولم يخف نفوره عنَّفه على قصوره، وحرَّضه على علو الهمَّة ونيل المنزلة في طلب العلم" (ص 18). وهكذا فإنَّ مصلحة الطَّالب وتحقيق الهدف من الاختبار أهم من كميَّة المحفوظ، واستثمار نتيجة التَّقويم في تنمية مهارات المتعلِّم في جو يَسُوده الوّد ويشيع فيه التَّرغيب وهو الأمر الذي كان يُطالب به الرَّازي في مِنهاجه التَّربوي وهو من دعائم التَّربية الحديثة وإلا أصبحت صفحات الاختبارات وساعاتها ودرجاتها كأرقام غاية في حدِّ ذاتها وكابوساً يحجب الطَّالب من حُبِّ العلم والتَّدرج في مسالِكِهِ.  

لقد جمع تلاميذ الرَّازي كتابه الحاوي من مسودات مُتفرِّقة وذلك بعد وفاته ثمَّ رتَّبوا الكتاب (صقال، 2001 م)  مما يدل على تأثرهم الإيجابي بأستاذهم الذي كان طبيباً أريباً[32] ومُعلِّماً ماهراً في آن واحد. ومن هنا فإنَّ شهرة الرَّازي العلميَّة والتَّدريسيَّة في مجال الطِّب أكسبته شهرة وحِنْكة تعليميَّة فأصبح بعض طلاب الطَّب يقصدونه من البلاد البعيدة حتى أنَّ أحدهم شَدَّ إليه الرِّحال من الصِّين طلباً لعلم الراَّزي (ابن النَّديم، ص 15) وطمعاً في سماع شرحه وتعليقاته في حلقاته فجلس عنده نحو سنَّة. ومن الآراء التَّربويَّة المتعلقة بصنعة التَّعليم التي نادى بها الرَّازي أنَّه كان يوجِّه الطُّلاب نحو صناعة الطِّب في المدن الكبيرة المزدحمة بالسُّكان كما كان هو بنفسه يُدرِّس في بغداد وسبب قوله هذه النَّصيحة أنَّه في المدن الكبيرة يكثر عدد المرضى ممن يجدون المشافي فيزاول المهرة من الأطباء مهنتهم بصورة كافية (اسكندر، 2001 م).

وعن منهجه في توصيل المعلومات فلقد كان "الرَّازي يُقدِّم مادته التَّعليمية في شكل موقف إكلينيكي يطلب تحليلاً وفهماً ثم يرجعه إلى الأصول التَّشْرِيحيَّة والفسيولوجيَّة فيتكامل تعلم التَّشريح مع تعلم الطِّب الإكلينيكي. والأمثلة كثيرة وكلها تدل على حِس تعليمي مرهف وقدرة فائقة على التَّشخيص المقارن إلى جانب المدخل التَّطبيقي بحل المواقف... وأمثلة هذا كثيرة إذ يروي قصة تصويرية قائلاً: سقط رجل عن دابة فصك صلبه فلما كان اليوم الثاَّلث ضعف صوته وفي اليوم الرَّابع…".[33] فكأنَّ الرَّازي يحتال على الأفكار الصَّعبة فيُبَسِّطها من خلال مبدأ "هَبْ أنَّ كذا وكذا حصل" …"ولو حدث كذا ماذا تفعل". وهكذا يقوم الأستاذ بسرد بعض الفرضيات، وتوضيح الأمثلة، وذِكر الدَّلائل لِيُقرِّب ويُبَسِّط المسائل الصَّعبة للمتعلِّم بدلاً من استخدام دائم لأسلوب واحد في توصيل المعرفة وعادة هو أسلوب الوصف المنطقي الممل أو القراءة على الأستاذ من دون مناقشة أو خروج عن النُّصوص الجامدة في شرح الأمراض وأعراضها. من المعلوم أنَّ أساليب التَّعليم ورقيها من أهم أسباب تقدم العلوم جميعها.

ولكي نُجلِّي منهج التَّدريس عند الراَّزي الطَّبيب الأستاذ بشكل أوسع فإنَّنا سنذكر بعض نصائحه التَّي تعكس عقيدته التَّربويَّة. كان يحض أصحابه على العلم ويُرغِّبهم بالتَّفوق كي يصبح الواحد منهم أفضل من أساطين الأطبَّاء اليونانيين. "وينصحهم بكثرة الاطِّلاع مُشجِّعاً على التَّعليم الذَّاتي فيقول "الاستكثار من قراءة كتب الحكماء والإشراف على أسرارهم نافع لكل حُكم عظيم الخطر". ويحثهم على التَّخيُّر بدلاً من حشو الدِّماغ بالغث من المعلومات فيقول "العمر يقصر عن الوقوف على فعل[34] كل نبات في الأرض فعليك بالأشهر مما أجمع عليه ودع الشَّاذ واقتصر على ما جربت" وكان يعلم طلبته منهجاً محدداً لتدوين مشاهداتهم ويبسط لهم أسماء الأدوية فبدلاً من استخدام أربعة أسماء أو خمسة لكل دواء يختار اسماً واحداً مشهوراً ويمدَّهم بأقوال السَّابقين ثم ينصحهم باتِّباع أخلاقيات مهنيِّة رفيعة فيقول "واعلم يا بني أنَّه ينبغي للطَّبيب أن يكون رفيقاً بالنَّاس، حافظاً لغيبهم، كتوماً لأسرارهم" (فضلي، 2001 م، باختصار). وكان يوصي طالب علم الطِّب أولاً بصيانة النَّفس عن الاشتغال باللَّهو والطَّرب ثمَّ يجب عليه المواظبة على تَصَفُّح الكتب إذ أنَّه إذا سُئِل عن شئ بغتة فتعسر قي الإجابة فإنَّّ ذلك قد يضرّه ذلك عند النَّاس. "وينهى شيخ الأطباء تلاميذه عن الكبرياء فيقول: واعلم يا بني أنَّ من المتطببين من يتكبَّر على النَّاس.. لا سيَّما إذا اختصه ملك أو رئيس بصحبته.. فيتكبر على العامَّة: ويحرمهم العلاج ويغلظ لهم القول.. فذاك المحروم المنقوص .. واعلم أنَّ التَّواضع في هذه الصِّناعة زينة وجمال. ولكن دون ضعة النَّفس وقلَّتها.. ولكن تواضع بحسن اللَّفظ وجيد الكلام واترك الفظاظة والغلظة على النَّاس". وينصح تلاميذه بإشاعة جو الأمل والطمأنينة لدى مرضاهم فيقول: على الطَّبيب أن يوهم مريضه بالصَّحة ويرجيه إياها وإن لم يثق بذلك لأنَّ مزاج الجسم تابع لأحوال النَّفس" ثم يأمرهم بالرِّفق بالفقراء وعلاجهم فيقول: "وينبغي أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء" (الفنجري، 2001 م). وله الكثير من النَّصائح في توجيه الطَّبيب وكيفية التعامل مع المرضى والسَّلاطين كما أنه لم يبخل على المرضى بنصائحه الغاليَّة وكلها تدور هو محور الأمل والإيمان وحسن التَّصرف والالتزام بالأخلاق. مجمل هذه النصائح هي التي كانت تحكم منهج تدريس الرَّازي وتضبط مادته العلميَّة ولا يستغني عنها الطَّبيب ولا المعلِّم.

أكَّدت مُنظَّمة الصِّحة العالمية (World Health Organization WHO") في نشرة من نشراتها على أهميَّة الدِّراسات التي قام بها الرَّازي وممَّا جاء في حيثيات نشرتها أنَّ منهجه في البحث يتسم بالدِّقة العلميَّة، والأصالة، والسَّبق[35]. استدعى الخليفة في بغداد أبا بكر الرَّازي وطلب منه أن يختار مكاناً لبناء مستشفى في ضواحي بغداد يكون أكبر وأحدث ما أنشئ في زمانه.. فاشترى الرَّازي قطعة لحم كبيرة وقطَّعها إلى قِطع صغيرة.. ووضعها في أماكن مختلفة من ضواحي بغداد.. وأخذ كل يوم يمر على اللَّحم ليرى تأثير الجو والزَّمن عليها.. فإذا تلفت القطعة بسرعة اعتبر أنَّ الهواء في هذه المنطقة فاسداً وبذلك لا يصلح لإقامة المستشفى فيه.. أما القطعة التي ظلت صالحة اعتبر الهواء في هذه المنطقة صحياً أكثر من غيره. وبهذه الحيلة وضع الرَّازي أول قاعدة لاختبار البيئة الصَّالحة للاستشفاء والعلاج (الفنجري، 2001 م، ابن أبي أصيبعة، ص 415).

وإذا أردنا أن نوجز معالم منهج الرَّازي العلمي في البحث والتَّصنيف فإنَّنا استناداً لكتابه المشهور الحاوي[36] يمكن أن نذكر بعض جوانب ذلك المنهج فيما يلي:

الكتابة الموسوعيَّة التَّخصُّصيَّة الضَّخمة المبنية على تتبع التَّفاصيل والتَّوسع في شرح المسائل الطَّبية والجراحية مع الاستشهاد بالدَّلائل.

الاستفادة من جهد العلماء من قبله وفي زمانه من المسلمين وغيرهم مع الإشارة الدَّقيقة لأسمائهم كلَّما اقتبس منهم وإذا اتَّفق الأطباء على مسألة يذكرها في مثل قوله "أصحابُنا في المارستان قد أطبقوا على... ص 1114).

الاهتمام بسرد التَّجارب العملية وتدعيم أفكاره بالأمثلة الواقعية فكثيراً ما نجده يُكرَّر كلمة هذا الدَّواء مُجرَّب وقوله وقد جُرِّب هذا الدَّواء في خلق عظيم فوُجد عظيم النَّفع" (ص 379). "وقد جرِّب ذلك كثيراً فأبرأ" (ص 3079)، جاءنا رجل إلى المارستان فقال ..ص 1513)."يقول الرَّازي في كتاب "المرشد والفصول[37]": "ليس يكفي في إحكام صناعة الطب قراءة كتبها. بل يحتاج مع ذلك إلى مزاولة المرضى. إلا أنَّ من قرأ الكتب ثم زاول المرضى يستفيد من قبل التَّجربة كثيراً. ومن زاول المرضى من غير أن يقرأ الكُتب، يفوته ويذهب عنه دلائل كثيرة، ولا يشعر بها البتَّة. ولا يمكن أن يلحق بها في مقدار عمره، ولو كان أكثر النَّاس مزاولة للمرضى ما يلحقه قارئ الكتب مع أدنى مزاولة، فيكون كما قال الله عز وجل: "وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {105}" (سورة يوسف).

النَّقد المبني على الأدلَّة المُقنعة فيشير إلى مزاعم بعض الأطبَّاء ثم يذكر بطلانها لأنَّ التَّجربة لا تدل على النَّتائج التي توصلوا إليها (ص 3140). هذا النَّقد المنهجي دليل على أصالة أفكاره الحرَّة وإِنَّ "نقد الرَّازي لكتب جالينوس لدليل قوي على اتجاه جديد محمود بين أطباء العالم العربي، فكم من أجيال توارثت النَّظريات والآراء العلمية الخاطئة دون أن يجرؤ أحد على نقدها أو تعديلها، خشية الخروج على العرف السَّائد. يقول الرَّازي في مُقَدِّمة كتاب "الشّكوك على جالينوس": "إنِّي لأعلم أنَّ كثيراً من النَّاس- يستجهلونني في تأليف هذا الكتاب، وكثيراً منهم يَلومونني ويعنِّفونني … إلى مناقضة رجل مثل جالينوس، في جلالته ومعرفته وتقدّمه في جميع أجزاء الفلسفة، ومكانه منها؟ وأجد أنا لذلك- يعلم الله مضضاً في نفسي. إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق علي منَّة، وأكثرهم لي منفعة، وبه اهتديت، وأثره اقتفيت، ومن بحره استقيت".. "لكن صناعة الطِّب كالفلسفة لا تحتمل التَّسليم للرُّؤساء والقبول منهم، ولا مساهمتهم وترك الاستقصاء عليهم. ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه.. وأما من لامني وجهلني في استخراج هذه الشُّكوك والكلام فيها، فإنِّي لا أرتفع به، ولا أعده فيلسوفاً. . إذ كان قد نبذ سنَّة الفلاسفة وراء ظهره وتمسك بسُّنة الرّعاع من تقليد الرُّؤساء وترك الاعتراض عليهم". (اسكندر، 2001 م، باختصار).

الواقعيَّة فلا يتوسع في ذكر فضل الأدوية الغير مُتوفرة عنَّد النَّاس والتي قلَّما يستطيعون الحصول عليها أو ليست عندهم الاستطاعة لنقلها للبلدان (ص 3140) ولقد قام بتأليف كتابٍ باسم طبّ الفقراء[38] يصف لهم الأدوية الرَّخيصة، ويعينهم على اكتشاف ومداواة الأمراض الخفيفة بالعلاج المنزلي (الفنجري، 2001 م). وهذا الكتاب يُعرف أيضا بكتاب إلى من لا يحضره طبيب "وغرضه إيضاح الأمراض وتوسع في القول ويذكر علَّة علَّة وأنَّه يمكن أن يُعالج بالأدوية الموجودة" (ابن أبي أصيبعة، ص 423). كما أنَّه في الحاوي قد يشرح طرق تحضير المراهم والأدوية دون الاكتفاء بذكر فوائدها وطرق استعمالها ولا شك أنَّ هذا الإيضاح كله فيه خير كبير يعين عامَّة النَّاس على تكوين ثقافة صِحيَّة. واقعيَّة الرَّازي في تلمس احتياجات النّاس دفعته إلى بذل جهوده في التَّعليم والتَّأليف بغرض توعية العامَّة وتسهيل سبل العلاج لهم. يحكي لنا الرَّازي أسباب تأليفه كتاب من لا يحضره طبيب فيقول "[لمَّا] رأيت الفضلاء أطنبوا في تصانيفهم وذكروا من الأدوية والأغذية لا تكاد توجد إلا في خزائن الملوك أحببت أن أجعل مقالة وجيزة في علاج الأمراض بالأغذية والأدوية المشهورة الموجودة عند العام والخاص ليكون أحرى أن ينفع بها أكثر النَّاس في حِلِّهم ومُرتحلهم وقد تتبعت سُنَّة مشايخنا شكر الله سعيهم في النُّزول من أعلى البدن إلى أسفله ذاكراً علة علَّة، وعلاجاً علاجاً وسمَّيتها "بمن لا يحضره طبيب" راجياً من الله حسن الثواب إنَّه كريم ومآب وأسأله التَّوفيق لصواب القول والفعل بمنِّه وجوده" (ص 11).

الحث الدَّائم على التَّعلُّم والاستزادة من التَّحصيل. قال الرَّازي: إنَّني بمجرد أن أرى كتاباً لم أقرأه أو رجلاً لم ألقه، "لم ألتفت إلى شغل البتَّة- ولو كان في ذلك علي عظيم ضرر- دون أن آتي على الكتاب، وأعرف ما عند الرَّجل. وإنَّه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التَّعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة" (صقال، 2001 م).

التَّميز الإيماني فيقوم من حين لآخر بالتَّذكير بأنَّ هذا العلاج وتلك الطَّريقة "نافعة" وجيِّدة المفعول "إن شاء الله تعالى" وكثيراً ما يكرر هذه الكلمات المباركة. ومن أقواله "ويتَّكل الطَّبيب على اللهِ عزَّ وَجَلَّ في  علاجه ويتوقع البرء منه. ولا يحسب قوَّته وعمله، ويعتمد في كل أموره على الله. فإذا فعل بضد ذلك ونظر إلى نفسه وقوته في الصِّناعة وحذقه حرمه الله البرء" (الفنجري، 2001 م) وهكذا فإنَّ العالِم المُسلم مهما كان تخصصه وطبيعة بحثه لا يغفل عن ربطه بالإيمان بالله عزَّ وَجَلَّ وربط الأسباب بخالقها وخالق كل شيء جلَّ ثناؤه فلا استجابة أو قدرة لأي شئ من دون إذنه سبحانه. 

فيما يلي طائفة من أقوال الرَّازي ذكر مُعظمها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطبَّاء:

الحقيقة في الطِّب غاية لا تدرك والعلاج بما تنصه الكتب دون إعمال الماهر الحكيم برأيه خطر.

الاستكثار من قراءة كتب الحكماء والإشراف على أسرارهم نافع لكل حكيم عظيم الخطر.

من لم يعن بالأمور الطَّبيعية والعلوم الفلسفية والقوانين المنطقيَّة وعدل إلى اللَّذات الدَّنيئة فاتهمه في علمه لا سيما في صناعة الطِّب.

متى اجتمع جالينوس وأرسطوطاليس على معنى فذلك هو الصَّواب ومتى اختلفا صعب على العقول إدراك صوابه جداً.

الأمراض الحارَّة أقتل من الباردة لسرعة حركة النَّار.

النَّاقهون من المرض إذا اشتهوا من الطَّعام ما يضرهم فيجب للطَّبيب أن يحتال في تدبير ذلك الطَّعام وصرفه إلى كيفيَّة موافقة ولا يمنعهم ما يشتهون بتَّة.

ينبغي للطَّبيب أن يوهم المريض أبداً الصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك.

الأطباء الأمِّيون والمقلدون والأحداث الذين لا تجربة لهم ومن قلَّت عنايته وكثرت شهواته قتَّالون.

ينبغي للطَّبيب أن لا يدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن تتولَّد عنه علته من داخل ومن خارج ثمَّ يقضي بالأقوى.

ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء فخطؤه في جنب صوابه يسير جداً.

من تطبَّب عند كثيرين من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم.

متى كان اقتصار الطَّبيب على التَّجارب دون القياس وقراءة الكتب خذل.

لا ينبغي أن يوثق بالحسن العناية في الطِّب حتى يبلغ الأشد ويجرب.

ينبغي أن تكون حالة الطَّبيب معتدلة لا مُقبلاً على الدُّنيا كليَّة ولا معرضاً عن الآخرة كلِّية فيكون بين الرَّغبة والرَّهبة.

ما اجتمع الأطباء عليه وشهد عليه القياس وعضدته التَّجربة فليكن أمامك وبالضِّد (ص 420-421).

ما يُستطاع معالجته بالغذاء لا يعالج بالدَّواء، وما يمكن علاجه بالدَّواء لا يعالج بالجراحة".

إنَّما أدرك من هذه الصِّناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السِّنين وألوف من الرِّجال، فإذا اقتدى المقتدى أثرهم صار كمن أدركهم كلهم في زمان قصير، وصار كمن عمَّر تلك السِّنين.

اطلب من كل مرض هذه الرُّؤوس: التَّعريف، ثمَّ اطلب العلَّة والسَّبب، ثمَّ اطلب هل ينقسم بسببه أو نوعه، ثمَّ اطلب تفصيل كل قسم من الآخر، ثمَّ العلاج، ثمَّ الإستعداد (الرِّشيدي، 1998، ص 6-7).

 

كل الأنشطة المتشعبة لفكر الرَّازي تهدف إلى فلسفة تربوية واضحة آمن بها وعاش لها وتتلخص في كتابه رسائل فلسفية. إنَّه يرى أنَّ التَّربية السَّعيدة هي التَّربية التي تُنمي الرُّوح والبدن وكان يطلق عليهما "الطِّب الرُّوحاني" وقرينه "الطِّب الجسماني". غاية الطِّب الرُّوحاني إصلاح أخلاق النَّفس وذكر أصولاً لذلك أهمها قمع ومخالفة الهوى في أكثر الأحوال وتمرين النَّفس على تهذيب الطِّباع وتدريجها إليه وكما قال "فإنَّ أول فضل النَّاس على البهائم هو هذا أعني ملكة الإرادة وإطلاق الفعل بعد الرَّوية (ص 10). إنَّ استقامة سيرة الفرد سبب سعادة الإنسان في نظر الرَّازي فإنَّ الإنسان إذا لزم العدل، وتجمَّل بالعفَّة وأعتدل في مخالطة النَّاس "[و]سلم منهم على الأمر الأكثر، وإذا ضمَّ إلى ذلك الإفضال عليهم والنُّصح والرَّحمة أوتي منهم المحبَّة. وهاتان الخلَّتان هما ثمرتا السِّيرة الفاضلة" (ص 49). وفي نفس الكتاب يُؤكِّد الَّرَّازي على أنَّ المسلم يجب أن لا يخاف من الموت فالإنسان "الخيِّر الفاضل المكمِّل لأداء ما فرضت عليه الشَّريعة المحقة، لأنها قد وعدته الفوز والرَّاحة والوصول إلى النَّعيم الدَّائم. فإنَّ شكَّ شاكٌّ في هذه الشَّريعة ولم يعرفها ولم يتيقَّن صحتها فليس له إلا البحث والنَّظر جهده وطاقته. فإن أفرغ وسعه وجهده غير مقصر فإنَّه لا يكاد يعدم الصَّواب. فإن عدمه - ولا يكاد يكون ذلك - فالله تعالى أولى بالصَّفح عنه والغفران له إذ كان غير مطالب بما ليس في الوسع بل تكليفه وتحميله عزَّ وجلَّ لعباده دون ذلك كثيراً" (ص 51).

هذا وتُعتبر أبحاث الرَّازي في ميدان الطِّب الرُّوحاني من أهم بدايات نضج تخصص جديد وهو علم النَّفس وما يتفرَّع منه من فروع مثل الصحة النَّفسية، وعلم النَّفس التَّربوي وكان سبق الرَّازي يتمثَّل في أنَّه كتب عن علم النَّفس كموضوع مستقل يحتاج للبحث والتَّخصص كما أنَّه أبرز أهميَّة هذا العلم وعلاقته بالصَّحة البدنيَّة. إنَّ تراث الرَّازي - بشقيه الطِّبي والتَّربوي – يهدف أولاً إلى تكوين عقلية باحثة تعشق الاستقصاء الجاد في ميادين مُتنوعة، ويهدف ثانياً إلى تحقيق التَّميز في شخصيَّة الفرد عبر تشجيعه على الاستقلال بالرَّأي من بعد بذل الجهد المطلوب لأخذ المشورة من الآخرين والتَّروي في اتخاذ القرارات. التَّربية العقلية - في أوسع معانيها - هي دعوة قوية إسلاميَّة صادقة إلى تجديد الفكر الحر المستنير كي يرفض الخرافات لأنَّ التَّحصُّن بالإيمان الصَّادق والتَّسلح بمنطق العقل عماد التَّربية الرَّاشدة التي بها تستقيم سيرة الإنسان ومسيرة المجتمع وتتقدَّم العلوم والمعارف، فيحقِّق الإنسان رسالته في تعمير الحياة وهو ما حاول الرَّازي أن يتركه في تراثه الزَّاخر بالمآثر.

استناداً لما سبق عرضه يمكننا القول أنَّ الرَّازي وغيره من أطبَّاء المسلمين سعوا في تجديد منهج دراسة علم الطبِّ وذلك بدفعه نحو التَّفكير النَّقدي الموضوعي الذي يطمئن إلى عمل التَّجارب واعتماد منهج الملاحظة دون إهمال الدَّلائل النَّقليَّة. وفي سلك التَّدريس أعطى الطَّالب فرصة المشاركة والاستفادة من زملائه وممارسة العمل الطَّبي تحت إشراف المعلمين. وبذلك قلَّص الرَّازي من دور الإلقاء الجاف في حلقات العلم، وقلَّل من شأن حفظ المعلومات من غير ضرورة، وأهمل شأن النِّقاش والبحث في مسائل فلسفية تجريدية لا نفع لها وهذا كله دفع بالتَّعليم والبحث العلمي إلى الإمام.

 

البيمارستانات وأنشطتها التَّعليمية

البيمارستان أو المارستان ويسمونه أيضاً بيت المرضى وهو سكن لعلاج المرضى يبنيه أحد الخلفاء أو المحسنين ويُرتَّب فيه الأشربة والأطباء والكحالين[39]، والجراحين، والطبائعيين[40]، والأدوية ويوقف عليه كفايته بهدف علاج المرضى ورعايتهم وربما تكون مُلحقة بمدرسة كما كان وضع المدرسة النُّورية بدمشق وعادة تتوفر بها مكتبة وصالة للتَّعليم إلى جانب المسجد الذي يلازم عمائر المسلمين أينما كانوا. بيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني دار المرضى. الْتَّارِيْخ يقرن بين اسم أبقراط العالم اليوناني وبين فكرة سكن لعلاج المرضى وقيل أن مناقيوش أحد ملوك القبط الأُوَل في مصر هو أوَّل من سبق في  الدَّعوة إلى هذه الفكرة (المقريزي، ص 1804).

كان المسلمون في ذلك الوقت يُدركون أنَّ المستشفيات التي في الأقاليم الإسلامية في زمنهم لا مثيل لها في العالم كله لأنها مُلحقة بها المساجد، والْمَدَاَرِس والمكتبات العامرة والمرافق الْهَامَّة العامَّة (ابن العماد، ج7، ص 361). ولعل أول ظهور مُنَظَّم للبيمارستانات في تاريخ المسلمين يمكن إرجاعه إلى عهد الوليد بن عبدالملك الأموي بدمشق عام (88 هـ = 706 م).

كانت  البيمارستان تتكون من قاعات للمحاضرات وصيدلية يسمونها "الشَّراب خانه" وخِزانة كتب. ينال المريض رعاية فائقة إلى درجة أنَّه قد يأخذ بعض المال ليستعين به على قضاء حوائجه كنوع من المعونة نظراً لانقطاعه عن العمل الذي هو مصدر رزقه ورزق أسرته. قد يحضر القَصَّاص في بعض الأمسيات لرواية القصص ترفيهاً لنفوس المرضى. بعض السَّلاطين نجد أنهم كانوا يبنون الخَوَانِق للزَّمنى والعميان ويقوم السُّلطان بتفقد أحوالهم كل يوم أثنين وخميس (الذَّهبي، ج22، ص 335). الوليد بن عبد الملك أجرى على العميان والمجذومين والمجانين الأرزاق. الْتَّارِيْخ يخبرنا أيضاً أنَّ بعض الجوامع الكبيرة  في مصر مثل جامع ابن طولون كان فيها خزانة للأدوية وخادم وطبيب جالس يوم الجمعة تحسباً لأي حادث قد يحدث للحاضرين وكأن الجامع فيه مستشفي صغير مُتنقِّل في حالة تأهب للَّطوارئ.

في رحاب هذه البيمارستانات مارس المسلمون ما يُسمى (بالفحص السَّريري) لتشخيص حالات المرضى. علي بن رضوان رئيس الأطباء في القيروان يصف لنا طريقة هذا الفحص وخلاصته أنَّ الطبيب يؤمر المريض بالاستلقاء على ظهره ثمَّ يتعرَّف حال مزاج قلبه بالنَّبض، كما يمتحن عقله بأن يسأله عن أشياء... يعلِّق د. أحمد شوقي الفنجري على هذا الوصف قائلاً "فهذا الأسلوب العلمي الدَّقيق في الكشف على المرضى قد أحدث ثورة في مجال تشخيص المرض ومعرفته قبل بداية العلاج.. وقد نقله الغرب عن المسلمين بعد ستة قرون كاملة".

ومن المنجزات الدَّالة على مهارة الإدارة النَّاجحة في توفير الخدمات العامَّة بصورة مُنظَّمة أنَّه إذا جاء المريض إلى المارستان تُنزع ثيابه وتُحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثياباً خاصة بالمرضى ويُفرش له ويُغذَّى الطَّعام المُناسب لكل حالة مرضيَّة ثمَّ يعوده الأطباء ويُعطى الأدوية حتى يبرأ وأخيراً يستعيد ثيابه وممتلكاته التي سلَّمها لأمين المارستان في أول يومٍ من دخوله المارستان وقد يصل الأمر إلى أنَّه قد يحصل المريض على معونة ماليَّة لتصريف شئون حياته الضَّروريَّة. يخبرنا ابن جبير أنَّ بعض السَّلاطين قد يتوسعون في إكرام الغرباء ممن يفدون من الأقطار النَّائية ومن الغرباء الطارئين فيبنون لهم المدارس ويجرون لهم الرَّواتب كما يبنون لهم المارستانات لعلاج مَن مرض منهم فيتفقَّد الأطباء "أحوالهم وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنَّظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء". يحق لابن الجُبير أن يكرر كلمة "مفاخر" "ومناقب" كلَّما تكلم عن هذه الرَّوائع في البلاد التي زارها إذ أنَّه يقول مثلاً "ومن مناقب هذا البلد ومفاخره.." (ص 7) ومن مفاخر هذه البلاد.." (ص 180) وهذه المفاخر الإنسانيَّة هي التي نسميها في هذا الفصل من كتابنا بـ "منجزات" لأنها مفاخر ينبغي الإعتزاز بها وتعزيز ذلك يكون بالإقتداء بها والعمل على نموها.

ذكر الزَّبيدي في كتابه تاج العروس تعريفاً لوظيفة علميَّة وإداريَّة هامَّة في البيمارستانات ألا وهي وظيفة "السَّاعور" وهو "مُقدَّمُ النَّصارى في معرفة علم الطِّب وأدواته وأصله بالسِّريانيَّة ساعوراً، ومعناه متفقد المرضى" (ص 4261). ارتبط اسم السَّاعور في تراثنا الإسلامي بمن يستلم رئاسة الأطبَّاء ويقوم بالإشراف على سير شئون البيمارستان. يتم اختياره من بين الأطبَّاء المشهورين في زمنه (الصفدي، ص 4079) وعادة يكون من أصحاب السُّمعة والوجاهة (القفطي، ص 243)، وقد يكون أوحد زمانه في صناعة الطِّب وفي مباشرة أعمالها، ومشهوراً بتصانيفه وحواشيه على الكتب الطِّبِية (ابن أبي أصيبعة، ص 352)، وقد يكون خبيراً باللِّسان السِّرياني والفارسي مُتبحراً في اللُّغة العربيَّة (ابن سينا، القانون في الطِّب، ص 2334). من النَّاحية التَّربوية يُشَبِّهُ بعض الباحثين في الحقل الطِّبي وظيفة السَّاعور في البيمارستانات الإسلاميَّة بعمل مدير أو عميد كلية الطِّب (الفنجري، 2001 م). معظم هذه المؤهلات العاليَّة التي جمعناها من كتب التَّراجم وغيرها كانت فعلاً مُؤهلات توفرت في عدد من الأطباء المسلمين ممن عملوا في هذه المهنة التي تمثِّل قمَّة الهيكل الإداري داخل البيمارستان. هذه المكانة القيادية الرَّفيعة تعكس ثِقل هذه المهنة وعظيم رسالتها في تحقيق هدف البيمارستان علميّاً وعمليّاً.

كانت البيمارستانات التي فيها حلقات لتدريس الطِّب كثيرة في الأقاليم الإسلامية ويُقال أنَّ المقتدر بالله العباسي هو أول من طالب بالامتحانات لنيل إجازة التطبب حتى لا يمارس المهنة من ليس من أهلها وكان الطَّبِيْب المشهور سنان بن ثابت بن قرة (ت 331 هـ = 942 م) ممن يمتحن الأطباء. كانت الامتحانات على شكل تقديم "أطروحة" عن موضوع طبي يقوم الطَّبِيْب بكتابتها ثم يُمتحن بها أو أنَّه يُسأل عن بعض ما كتبه عُلَمَاء الطِّب (عبدالدائم، 1997، ص 164، الفنجري، ص 2001 م). مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد (ت 776 هـ = 1474 م) من الْعُلَمَاء الذين دَرَّسُوا في المارستان المنصوري وكان عالماً بالعلوم العقلية والنَّقلية وانتفع النَّاس به وأخذ معلوماً (راتباً) على عمله في التَّدريس في المارستان (ابن العماد، ج 8، 428).

كان من دأب بعض الأطباء التَّدريس في البيمارستانات كما تدل المعلومات المتناثرة في الكتب المعنية بتاريخ الطِّب، وأخبار الحكماء وعلوم الأوائل في الإسلام (ابن أبي أصيبعة، ص 415). لا ريب أنَّ عمليّة التَّدريس في البيمارستانات كممارسة حضاريَّة تُعدُّ فكرة وخطوة عمليَّة قام بها المسلمون لتحرير نطاق الطِّب من الجدل الفلسفي العقيم ونقله من مرحلة التأمُّل الفكري العميق إلى مرحلة العمل الواقعي الدَّقيق. هذه الخطوة ساهمت في تقريب مهنة الطبَّ من واقع الحياة لأنها بدأت ترتبط بالتَّجربة والممارسة العمليَّة في المؤسسات التَّخصصيَّة ذات الإدارة الدَّقيقة، والسِّياسات الواضحة، والمسئوليات الهامة. هذا كله بطبيعة الحال ساهم في رفع مستوى علم الطِّب عموماً ودفع به عالمياً نحو آفاق جديدة في مسيرة تقدم العلوم.

ذكر السَّامرائي (2001 م) في بحثه عن  تعليم الطِّب في العصور الإسلامية أنَّ مهنة الطِّب عند العرب قبل الإسلام كانت "بسيطة إلى أن ظهرت الحاجة إلى هذه المهنة في المدن. وتطوَّر الفِكر العربي بعد اتصال المسلمين بعلوم الحضارات المجاورة للبلاد الإسلامية الذين كانوا يومئذ يتمتَّعون بمعلومات وفيرة في العلوم الطَّبيعية، وممارسة واسعة في الطِّب العلمي. ولما كثر طلاب المدارس البيتية اضطر المعلمون أن يقيموا دروسهم في أماكن أوسع، فانتقلوا إِلى أحد أركان المساجد حيث تُقام بنفس  الوقت دروس علوم الدِّين في أركان أخري منها. دور العبادة كانت منذ أقدم الأزمان مدارساً للتَّعليم، وصارت في العصور الإسلامية أشبه بالجامعات، فيها حركة دائبة لتعليم أعلى صنوف العلوم الأدبيَّة والعقائدية. وعلى أساس أنَّ الطِّب علم تطبيقي لا يسهل إدراكه إلا بمشاهدة المرضى ودراسة شكاواهم وتجربة الأدوية عليهم، لذلك لا يعترف البعض  بوجود مدرسة طبية بالشَّكل العلمي والعملي في الأقطار الإسلامية قبل استحداث المستشفيات فيها. ولما كثر الأطباء من ذوي المستويات العالية، وأصحاب الكفاءات والتَّجربة في تعليم الطِّب، كثرت أيضا مراكز التَّعليم في البيمارستانات التي كان أوسعها وأشهرها البيمارستان العضدي في بغداد، الذي عمل فيه ما يزيد على عشرين طبيباً أكثرهم من ذوات الخبرة في التَّطبيب والتَّعليم. لم تكن دروس الطِّب مقتصرة على التَّلاميذ وحدهم، بل يدخلها أيضاً الأطبَّاء الممارسون ليستزيدوا من خبرة الشَّيخ الذي يدير الحلقة،، يشارك كل واحد منهم في المناقشات والتَّساؤل على قدر معلوماته" (باختصار).

 

تأسيسُ الْمَدَاَرِس ووظائفها

كانت دار الْصَّحَابِي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم في مكة المكرمة من المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِية الْهَامَّة والأولى في الْتَّارِيْخ الإسلامي وكان نبيّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مُؤَسِّسها ومُعَلّمها. تعلَّم الْصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن في مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم أركان العقيدة، وتلاوة القرآن، ومعنى الرِّسالة الإسلاميِّة الخالدة وكان المنهج الدِّراسي يتكوّن من آيات من الذِّكر الحكيم فكانت تلك الآيات الكريمات البحر الزَّاخر الذي لا ينزف ولا تُكَدِّره الدِّلاء.

أَوّل مَسْجِدٍ أُسِّس على التَّقوى في الإسلام بالمدينة المنوَّرة هو مسجد قُبَاء وذلك في السَّنة الأولى من الهجرة (622 م) ثمَّ أُسِّس المسجد النَّبوي الشَّريف الذي تُشدُّ إليه الرِّحال. في هذا المسجد تلَقَّى الْصَّحَابَة بصورة علنية الدُّروس الأولى التي غيَّرت مجرى الْتَّارِيْخ فكان المسجد أول وأهم صروح التَّربية الفردية والمجتمعية. كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنها عَلّمت الإنسان من هو الخالق الرَّازق وكيف يُعبد..وعلّمته ما لم يعلم من أمر الغيب، وعلمته فضل الْعِلْم والقَلَم..

كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنَّها علّمت الإنسان أنَّ النَّاس كلهم سواسية..

كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنَّها علَّمت الإنسان العدل والميزان والإحسان..

كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنَّها علّمت الإنسان أنَّ الهداية لا تكون بغير القرآن...

كانت هذه المدرسة أكرم مدرسة عرفتها البشرية لأنَّها علَّمت الإنسان أنَّ الإسلام رحمة للعالمين..

مَهَّد المسجد النَّبوي الشَّريف الطَّريق لانطلاقة ثقافيَّة إنسانيَّة راقيَّة، وقيم روحيَّة واعية، ساهمت في تقدُّم العلوم وقيادة الأمم وتصحيح مسار التَّاريخ لمدَّة عدَّة قرون. في البداية توالت حلقات الْعِلْمِ في البيوت ثمَّ نشأت الْمَدَاَرِس وتعلَّم النَّاسُ معنى أخذ الْعِلْمِ من أهل الاختصاص امتثالاً لقوله سُبْحَانَهُ "فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" {43} (سُوْرَةُ النَّحل). بعد فتوح الأمصار زادت الرِّحلة العلميَّة إلى المدينة المنوَّرة فأقبل الطُّلاب من مصر والشَّام والعراق وتصدَّى الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن للمهمَّة الكبرى فقاموا بالتَّدريس والفتوى والتحدِّيث حتى نشروا الميراث النَّبوي وزرعوا حبَّ العلم في قلوب النَّاس. كانت حلقات أم المؤمنين عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن ذات نفع عظيم إلى يومنا هذا فما زلنا نقطف ثمارها، ونرتع في ظلالها كلَّما قرأنا حديثاً نبوياً.

عَرف الجيل الفريد، جيل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن، أهمية الأمانة في نقل العِلْمِ، وضرورة العَمَل بالعِلْمِ، وأهميَّة الإخلاص، وفضل التَّعليم، والمسئوليَّة الاجتماعية في نقله مع مراعاة الفروق الفردية، والتَّحرر من الهوى والتَّقليد الأعمى، والعمل على توفير التَّشجيع الدَّائم والمناخ الْعِلْمي للمتعلِّمين والمعلِّمين، وإنصاف الرَّأي المخالف، وقيمة الأخلاق في مسيرة التَّربية والتَّعليم. هذه المفاهيم قادت إلى انقلاب شامل في شبه الجزيرة العربيَّة وفي أقل من مائة سنة اكتسحت هذه المبادئ الأقاليم النَّائية فانتشر الإسلام بشكل كبير، في زمن قصير، حيّر وما زال يُحيِّر المؤرِّخين. من المدينة المنوَّرة جاءت البُشرى، وانطلقت التَّربية الانطلاقة الكبرى، لتنير المُدن الأخرى، وعلى رأسها أمَّ القرى.

عندما نستعرض حياة عُظَمَاء الْعُلَمَاء قديماً نُدرك أنَّ كِبار الْعُلَمَاء في الْمَدَاَرِس الإسلامية الكبرى يقومون عادة بجملة وظائف أهمها التَّدريس، والتَّصنيف، والفتوى، والتَّذكير والوعظ لعامَّة النَّاس، ومتابعة الطُّلاب النُّجباء والمريدين الصُّلحاء. كان المعلم يُشرف على عملية تسميع وترتيل القرآن الكريم لمن أراد أن يتثبَّت من حفظه، ويقوم بقضاء مصالح النَّاس قدر المستطاع، ويحرص على التَّواجد في مناسبات التَّهاني والتَّعازي. ومن أخلاقهم النَّبيلة أنَّ الواحد منهم كان لا يستصغر أحداً، ويُكثر الذِّكر ويُقِلّ اللَّغو، ولا يَستنكِف أن يعزو الفائدة إلى قائلها مهما صغر سن القائل، فيقول العالِم بكل تواضع: هذه فائدة تعلَّمتها من مقولة فلان الفلاني، وإذا لم يرض العالم عن كلامه لعلَّة فيه فإنَّه ينتقده برفق ويردّه ويبين زيفه وسبب ضعفه، ولو كان القول قول أبيه فالعالِم عليه أن لا يجامل أحداً. وكان المعلم يجاهد نفسه كي تتخلَّق بهذه الصِّفات الصَّالحة ومن خلال وسائل التَّربية الحميدة يعمل على إعداد الأصفياء من العلماء لقيادة المجتمعات المسلمة في المُستقبل. لم تكن مجالس العلم تخلو من بعض ألوان المرح والتَّرويح وربما أطلق الأستاذ على تلميذه لقباً من باب المزاح ثمَّ يُعرف الطَّالب بعدها بذلك كما حدث لمُحَمَدُ بِنُ المُسْتَنِير (ت 206 هـ = 821 م)  الُملقِّبَ بِـ "بقُطْرُب" وهو الاسم الذي يتكرر في كتب النَّحو واللُّغة والعربية بكثرة، ولُقِّبَ بِذَلِكَ لأنَّهُ كَانَ يُبكِّرُ إِلَى سِيبَويْهِ طَلَباً لِلْعِلْمِ، فكُلَّما فَتَحَ بابَهُ وَجَدَه، فَقَالَ: "مَا أنْتَ إلاَّ قُطْرُبُ لَيْلٍ". وَالْقُطْرُبُ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ لا تَسْتَريحُ نَهارهَا سَعْياً [41] ثُمَّ تَنَامُ طُوْلَ لَيْلِهاَ.

اهتم مؤرخو الإسلام بتدوين حياة الْعُلَمَاء ومراحل تطوُّر أو تغُّير مُؤَسَّسَات التَّعْلِيْم ووسائله. يبيِّن لنا المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار المراد بكلمة مدارس من حيث اللُّغة ثم يسرد بداية ظهور المدارس في تاريخنا. "لغةً دَرَسَ الكتابَ يدرسه درساً ودراسة ودارسه من ذلك كأنَّه عاوده حتى انقاد لحفظه. درَستُ ودرسَت أي هذه أخبار قد عفت وانمحت. والمدارس الموضع الذي يُدرس فيها. ولما أراد الخليفة المعتضد بالله بناء قصره في  ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسُئل عن ذلك فذكر أنَّه يريده ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتِّب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم الْنَّظَرِية والعَمَلِية ويجري عليهم الأرزاق السَّنية ليقصد كل من اختار عِلْماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. والْمَدَاَرِس مما حدث في الإسلام ولم تكن تُعرف في زمن الْصَّحَابَة ولا التَّابِعين وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة وأوّل من حُفظ عنه أنَّه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبُنيت بها المدرسة البيهقيَّة وبنى بها أيضاً الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أخوه السُّلطان محمود بن سبكتكين مدرسة وبنى بها أيضاً المدرسة السَّعيدية وبنى بها أيضاً مدرسة رابعة وأشهر ما بُني في القديم المدرسة النِّظَامِية ببغداد لأنَّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم[42] وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك وزير ملك شاه بن ألب أرسلان في مدينة بغداد وشرع في بنائها (457 هـ = 1064 م) وفرغت في (459 هـ = 1066 م) ودرَّس فيها الشَّيخ أبو إسحاق الشِّيرازيّ الفيروز أبادي صاحب كتاب التَّنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فاقتدى النَّاس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النَّهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر" (ص 1719باختصار وتصرّف).

اشترى الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير داراً بالكرخ سنة 383 هـ = 993 م "وجدَّد عمارتها ونقل إليها كتباً كثيرة ووقفها على الفقهاء وسماها دار الْعِلْم ولعل هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء وكانت قبل النِّظامية بمدة طويلة" (ابن كثير في البداية، بتصرُّف).

ذكر جورج مقدسي في دراسة مُوسعة عن نشوء مؤسسات التَّعْلِيْم في الْتَّارِيْخِ الإسلامي وفي بلاد الغرب أنَّ أم المقتدر، السَّيدة (ت 329 هـ = 933 م)، وبدر بن حسنويه (ت 405 هـ = 1014م) ونظام الملك (ت 485 هـ = 1092م) باني الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة من أشهر المتبرعين لبناء الْمَدَاَرِس الوقفيَّة مع توفير سكن وطعام وملبس للطُّلاب وأنَّ إسهاماتهم كبيرة في دعم المسيرة التَّعْلِيْمِيَّة المُؤَسَّسِيَّة من خلال تسخير نفوذهم السِّياسي وثروتهم الماليَّة لتلك الأهداف السَّامية.

بدر بن حسنويه ونظام الملك من أهم الشَّخصيات الْسِّيَاسِيَّة الإداريّة القيادية التي ساهمت بعمق في توسيع نطاق بناء الْمَدَاَرِس في تاريخ الإسلام. كانت جهودهما المنظمة الواسعة المتميزة لأكثر من 30 سنة في بناء الْمَدَاَرِس وراء ظهور الكلِّيات التَّعْلِيْمِية التَخَصُّصِية العليا ووراء انتشار التَّعْلِيْم ورخاء حياة الطُّلاَب والمُعَلِّمين في المشرق الإسلامي (Maqdisi, 1981, p. 22, 24, 29, 30, 32, 38, 40, 147, 282, 311, 317).

كان بدر بن حسنويه بن الحسين أبو النجم الكردي من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كُني بأبي النَّجم، ولَقَبه ناصر الدولة، وقِيل مجد الدولة، كان يصرف كل يوم جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وعمَّر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، هذا كله خارجاً عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنَّفقات والصَّدقات، والبر والصِّلات، على أصناف النَّاس من الفقهاء والقضاة والمؤذنين والأشراف، والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل (انظر ابن كثير وابن العماد في أحداث سنة 405 هـ والمنتظم لابن الجوزي ص 3384). كان بدر بن حسنويه من مفاتيح الحكمة، ومصابيح الرحمة سخَّر عقله وماله وخِبرته لتمويل بناء الْمَدَاَرِس وإدارتها وتطويرها، وسيرته في دعم مسيرة التَّعليم جديرة بالذِّكر والفخر وتستوجب الإقتداء بها.

يُحدثنا ابن العماد في شَذراته أنَّ المؤرخين يصفون نظام الملك، الوزير الحكيم، بأنَّه كعبة المجد، ومنبع الجود، فهو الذي بنى الكثير من المساجد والرّبط، ورغَّب في الْعِلْمِ، وأكرم الْعُلَمَاء، وكان هو نفسه عالماً، وهو أول من أنشأ الْمَدَاَرِس في الأمصار بهذه السّعة، فاقتدى النَّاس به ولا عجب بعد هذا بأن يُوصف نظام الملك بأنَّه من حسنات الدَّهر وأنَّه اللُّؤلؤة النَّفِيْسَة التي صاغها الله سُبْحَانَهُ من شرف (ج5، ص 362، 363، 364). يُؤكد المؤرخون على أنَّ الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة من أرقى وأشهر الْمَدَاَرِس لأنَّ نظام الملك أمدَّها بما تحتاج من كتب وعيّن لها المدرسين والطُّلاَب والخدم ولم يخل بلد من شيء منها حتى جزيرة ابن عمرو التي هي زاوية من الأرض لا يُؤتى لها بنى فيها مدرسة كبيرة حسنة ومَن وُجد في بلدة تميز وتبحر في الْعِلْمِ شجَّعهُ وبنى له مدرسةً ووقف عليها وقفاً وجعل فيها دار كُتبٍ (عبدالدائم، 1997، ص 156).

استناداً إلى النُّصوص التَّارِيخِيَّة السَّابقة وغيرها المتصلة بشأن مسيرة التَّعْلِيْم في الأقطار الإسلامية وتتبُّع نشوء المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة يمكننا استخلاص نتيجة عامة وهي أنَّ الوزير نظام الملك هو أول من عمّم وطبَّق فكرة مُؤسَّسَات التَّعْلِيْم في أرجاء العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري بشكل مُنظم وواسع ورسمي ومتطور من خلال جهود مُؤَسَّسِيَّة استمرت لمدة تُقارب الثّلاثين سنة وأشرف بنفسه على ذلك كله ونالت استحسان النَّاس، ودعم الأمراء، ومساندة المحسنين، وإقبال طُلاب الْعِلْمِ والمُعَلِّمِين.

ظهرت الْمَدَاَرِس لعدة أسباب منها أنَّ طبيعة الحياة المدنيَّة المختلفة عن حياة البداوة البسيطة جعلت الحاجة ماسَّة إلى تجهيز الْمَدَاَرِس وصرف الرَّواتب للمعلمين لتنظيم الحياة ومواجهة تغيراتها ومتطلباتها لمساندة الأسرة، والمسجد، والجامع في عَمَلِيَّة التَّطبيع الاجتماعي. لَقد أجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ على أَنَّ العمل الجماعي المنظم في التَّعاون على البر والتَّقوى من سمات هذا الدِّين وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ والنَّقل الْصَحيْح. قال الله عزَّ وَجَلَّ "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}"(سُوْرَةُ المائدة). ويدخل تحت معاني هذه الآية الكريمة الجامعة وجوب التَّعاون من أجل تعليم النَّاسِ الْعِلْمَ وإرشادهم، وكل وسيلة تساهم في تحقيق هذا المقصد هي وسيلة مرغوبة محمودة.

ضعفت اللُّغَة الْعَرَبِيَّةِ بعد عصر التَّابعين ومع دخول العجم في الإسلام ، وظهرت الانحرافات، وقلّ تعلُّق النَّاس بالصَّحيح من أحكام الدِّين فزادت الحاجة إلى معاهد فيها طائفة من أولِي المعارف والنُّهَى كي يقودوا المجتمع.

تأييد أحد المذاهب الفقهيَّة الأربعة المشهورة أو غيرها من أسباب بناء المدارس بل من أهمها. كانت المدارس الفقهيَّة تتسابق في نشر وخدمة أفكارها وتراثها بين العلماء والعوام. كان أتباع كل مذهب يبنون المدارس الكافية لنشر فكرهم والدِّفاع عن أصول منهجهم في الاجتهاد، وشرح قوانينهم الكُليَّة وفوائدهم الجزئيَّة في قضايا الفقه والعقيدة.

ولعل أهم أسباب ظهور المدارس وعناية الحكام والولاة بها أنها كانت ومازالت تلعب دوراً واضحاً في تثبيت أركان النِّظام السِّياسي الحاكم وضمان السَّيطرة الواعية على تنشئة طبقة الصَّفوة المتعلِّمة في المجتمع.

كانت مُهمة المدارس والمعاهد الإسلامية المتنوعة واضحة وهَامَّة وهذه المهام مُرتبطة بعدَّة أهداف ساهمت في ظهور وانتشار الْمَدَاَرِس الإسلامية في أقاليمها الكثيرة. وهكذا ظهرت الْمَدَاَرِس ودُور العلم والمعاهد لتُلبي احتياجات النَّهضة الحضاريَّة، ولتحقق أهداف الفرد ومطالب المجتمع، ولتواجه التَّحديات المعيشيَّة. لذلك قامت المَدارس لأداء طائفة من الوظائف ومن أهمها:

تدريس العلوم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة. غرس العقيدة الإسلاميَّة كان بدون أدنى شك من أسنى مقاصد بناء الْمَدَاَرِس في ديار الإسلام كما أنَّ تعليم المهارات والصَّنائع اللازمة لتغطية حاجة المجتمع من الوظائف الدِّينية والإداريَّة والمهنيَّة كانت من أسمى وظائف الْمَدَاَرِس.

خدمة المجتمع من خلال الإجابة عن أسئلة النَّاس، ومشاركتهم حياتهم اليوميَّة، وتوفير المكتبات العامَّة العامرة التي تيسِّر الإفادة المجانيَّة منها للمتعلِّمين والمُعلِّمين، وحثّ العامَّة والخاصة على العمل بفضائل الأعمال. المدرسة ومساجدها وصالاتها الملحقة بها هي في حقيقتها منتدى اجتماعي وصالون ثقافي يجمع بين الْعُلَمَاء والأمراء وبين عامَّة النَّاس خاصة في المناسبات العامَّة. الإيوان في الْمَدَاَرِس أشبه ما يكون بقاعة المحاضرات في تعبيرنا العصري وكان الإيوان[43] مكاناً فسيحاً يجمع النَّاس في المناسبات الدِّينيَّة والاجْتِمَاعِية.

كانت المدارس أيضاً سبباً في تشجيع عمليَّة البحث والتَّأليف والنَّشر، وإن كان بعض المعلمين من كثرة التَّعْلِيْم لا يتفرغ للتصدي للتَّأليف نظراً لكثرة مهامه التَّعليميَّة إذ أنَّ الواحد من المُعَلِّمين الكبار قد يُدَرِّس في أكثر من مدرسة (ابن العماد، ج7، 106).

رعاية الطلاب والْعُلَمَاء من مختلف الأصقاع والأقطار، ماديّاً وعِلْميّاً. ومن أوجه الرِّعاية الفكريّة أن تقوم المدرسة بغرس المنهج السَّليم في التَّفكير فيتعلم الطَّالب البحث عن الدَّليل فَيُرحِّب بالمعرفة الموثَّقة ويرفض الفكر الغيبي الخرافي الذي يتجاوز حدود الدِّين.

تشجيع المشاركة في تَرْجَمَة الكتب من شتى العلوم ثم مناقشتها والإفادة منها عملياً.

التَّنوير الحضاري. الْمَدَاَرِس كانت علامات للاستنارة العِلْمِية والعقدية لأنها كانت تُعطي دول العالَم في تلك الفترة الوجه الحضاري للإسلام الذي يدعو ويعمل لتأصيل القيم الإنسانيَّة السَّامية نظرياً وعملياً. حلقات النِّقاش والوعظ والمناظرة كانت سلسلة من الجهود المُكثَّفة نحو هذا الهدف الشَّامل.

تلبية حاجة الأجيال القادمة والاهتمام بتعليم الأطفال وترغيبهم بالْعِلْمِ والحث على العمل، ولقد قام الْعُلَمَاء بتقديم صورة قيادية صالحة يتأسى بها الصَّغير كأنموذج واقعي فِي هِدَايَتِهِم وَدِرَايَتِهِم. هذه الصُّورة التي حرصوا على تقديمها للنَّاشئة هي ترجمة لتطبيق مفهوم "اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ". كانت المدارس لا تسأم من سماع خاتمة كثير من الحلقات الدِّراسية التي قد تنتهي بكلمات ودعوات تُعمِّق مفهوم "اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ" في نفوس المتعلِّمين مثل قول العلماء "نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".

التَّحذير من التَّيارات العقديَّة المنحرفة والرَّد على الأفكار المناوئة، والمذاهب الهدَّامة مثل الحركات الباطنيَّة، وشبهات الفلاسفة اليونان في شأن الدِّين والبعث والنُّشور، وكذلك كان يهدف التَّعْلِيْم إلى تفنيد شبهات الملحدين وتحصين أبناء المسلمين من كل أمر منحرف عن الصِّراط المستقيم وهذا المقصد من أكبر الأهداف والدَّوافع الإصلاحية للتَّربية الإسلاميَّة ومؤسساتها المتنوعة قديماً وحديثاً.

المحافظة على نفائس التُّراث ونقلها للأجيال القادمة.

وهكذا كانت الْمَدَاَرِس الإسلامية وجميع المرافق التَّابعة لها تؤدي وظائف حيويَّة ما زالت المُؤَسَّسَات المعاصرة تجاهد من أجل القيام بها والوفاء بحقوقها وواجباتها.

إذا أردنا تلخيص وظائف وأهداف المَدارس التي ذكرناها سابقاً نجدها تدور حول ثلاث غايات كُلِّيَّة عُليا وهي:

ضمان توفير التَّعليم الوقائي بغرض تبصير النَّاس وتقديم الأسوة السُّلوكية،

والتَّعليم العلاجي بغرض تصويب الأخطاء ومواجهة الظَّواهر الَّسَّلبية،

والتَّعليم التَّنموي بغرض تشجيع الفكر الابتكاري ومضاعفة الفرص الإنتاجية.

 

الحياة المدرسيَّة وبعض المُصطلحات الإداريّة

انتشرت المدارس في العواصم الإسلامية بشكل كبير ومتفاوت وكانت بغداد ودمشق والقاهرة تتميَّز  بكثرة المدارس الكَبيرة. ذكر النُّعيمي (ت 927 هـ = 1520 م) في القرن العاشر الهجري أسماء ومواقع وتاريخ مئات المدارس التَخَصُّصِيَّة في بلاد الشَّام وحدها. معظم تلك المدارس كانت مُتَخَصِّصة في تدريس العلوم الشَّرعية والقانونيَّة وبعضها في الطِّب. كيف كانت تعمل هذه المدارس كمؤسَّسة؟

مجموعة من المصطلحات الإدارية التي كانت دارجة في العصور السَّابقة من شأنها أن تُسلِّط الضَّوء على قسمات التَّعليم في المدارس قديماً. فيما يلي جولة سريعة مع بعض ملامح المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة الإسلاميَّة القديمة التي ساهمت في عَمَلِيَّة تخريج الْعُلَمَاء والأدباء والنُّبلاء.

كان الرَّاتب الذي يُعطى للأستاذ من قِبل الدَّولة أو صاحب الوقف لشهر أو أكثر أو أقل يُسمى جامكيَّة (الذَّهبي، ج 18، ص 161- الحجي، 1983م، ص 388). والجامكيَّة جمعها جوامك وهي كلمة فارسيَّة. بعض القضاة والعاملين في وظائف الدولة كانوا يرفضون أخذ الجامكيَّة مثل قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي، وقاضي القضاة شرف الدين أبو حفص، ومؤيد الدين أبو المعالي الصَّدر الرَّئيس، وابن رَزِين (ت 680= 1281 م). كانوا يتطوعون للتَّدريس يريدون به وجه الله عزَّ وَجَلَّ ولا يأخذون الرَّواتب المالية. قديماً كان المبلغ المالي أو العطاء العيني الذي يستلمه المُعَلِّم أو التِّلميذ من الدَّولة أو النَّاس له عدة تسميات منها العلوفة، والجُعل، والجعالة، والجراية، والبُلغة، والمعيشة، والمعلوم (جمعها المعاليم)، والصِّلة، والرِّزق، والمرتَّب. الرَّاتب قد يستلمه المعلم يومياً أو كل أسبوع أو كل شهر أو كل ثلاثة أشهر على حسب النِّظام الإداري في المدرسة.

هذا ولقد كانت الجوائز المالية، والمكافآت التَّشجيعية، وربما الرَّواتب في بعض الأحيان تزيد كلما زاد اشتغال الطَّالب أو العالم بفنِّه وإتقانه له. ينص بعض المحسنين في كتب وقف مدارسهم على مبالغ مالية مُحَدَّدَة للمجتهدين المثابرين كمبدأ من مبادئ الثَّواب. الجوائز المالية التي كانت تُرصد لحفظ كتاب معين قد تصل إلى مائة دينار ومعها خِلْعَة وهي ملابس يلبسها الفائز تكريماً له (ابن العماد، ج7، 202). كان المعلم في الدَّولة العثمانيَّة يأخذ راتباً تقاعدياً. وإلى القرن الماضي - على الأقل في الكويت والسُّودان -كانوا يسمون راتب المُعَلِّم في الكُتَّاب "الخميسيَّة" لأنها تُسلَّم للمعلِّم أو نائبه في يوم الخميس. في بادية المغرب العربي وكثير من القرى كان المعلِّم يحصل على كميَّة من الزّبد من الأهالي ويسمون ذلك بخميس الطَّالب (أبو مصطفى، 1997، ص 114).

وكانوا يسمون التَّعلُّم والتَّعْلِيْم: الاشتغال والاشغال. فيشغل بمعنى يُدرِّس ويشتغل أي يَدرس (ابن العماد، ج7، ص 106). وقولهم "حرَّضه على الاشتغال" (ابن العماد، ج 7، ص 444) أي حثَّه على طلب العِلْمِ. وكذلك قولهم عن النَّووي (ت 676 هـ = 1277 م) "لزم الاشتغال ليلاً ونهاراً نحو عشرين سنة، حتى فاق الأقران، وتقدَّم على جميع الطَّلبة" (ابن العماد، ج7، 619). قال ابن خلِّكان: وصلْتُ إلى حلب، لأجل الاشتغال بالعِلْمِ الشَّريف وكان دخولي إليها سنة 628 هـ = 1230 م، وهي إذ ذاك أم البلاد، مشحونة بالْعُلَمَاء والمشتغلين (أي الطّلاب).

كان طالب العِْم يسمى أحياناً بـ "شاكردي" و "شاجرد" في زمنِ الْصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ (زاير، 1997، ص 28) ثم لاحقاً في الْمَدَاَرِس الملحقة بالقصور (حلاق وصباغ، 1999، ص 26). كانوا يقولون: كان عكرمة أفضل شاكردي ورث عِلْم ابن عباس في التَّفسير أي أفضل تلميذ (الذَّهبي، ج5، ص 14، العسقلاني في تهذيب التَّهذيب، ص 1889). في الدَّولة العُثمانية كانوا يطلقون على التِّلميذ في المكتب "المَكْتُبْلي" وفي السّودان الحُوار والمعلم قد يُسمى"المنلا" والمُعلِّم يُسمى في كثير من الأقاليم الإسلامية "المُلا". المُكتِب اسم للمعلم في الكُتّاب. التِّلميذ في العصر المملوكي إذا أُخذ ليتعلم صنعة عند صانع حاذق يقال له "إشراق" و "جاجرت" (دهمان، 1990، ص 14، 50).

كان التِّلميذ النَّابه يُصبح معيداً لأستاذه إذ يقوم بشرح ما أوجزه المُعَلِّم للتَّلاميذ فمثلاً الإمام الشِّيرازي كان معيداً لأبي الطَّيب الطَّبَرِي (الذهبي ج18 . ص453).  المُعيد يرتقي ليُصبح مُفيداً تُمَّ مُعلِّماً ثمَّ يتدرج حتى يُصبح معلِّماً في المدارس الكبرى. في كتابه "مُعِيد النِّعَم ومُبِيد النِقَم" يصف السُّبكي (ت 771 هـ = 1369 م) وظيفة المعيد في المُؤَسَّسَات التَّعْلِيْمِيَّة الإسلامية قديماً مثل النِّظَامِيَّة فيقول "المعيد عليه قدر زائد على سماع الدَّرس: من تفهيم بعض الطَّلبة ونفعهم، وعمل ما يقتضيه لفظ الإعادة" (ص58). يذكر الحسين بن المنصور بالله في آداب العلماء والمتعلمين أنَّ الغرض من إعادة شرح الدَّرس بين الطُّلاب بعد فراغ المعلم وهو "ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم" (ص 17) فالمعيد بذلك يفتح المجال للمراجعة ويرفع كلفة وعناء الإعادة عن كاهل المعلم. أما المفيد فعليه إثراء الدَّرس من خلال عمل بحث زائد على بحث الآخرين ونحو ذلك. يشترك كل من المعيد والمفيد في أنهما من الطَّلبة النَّابغين وأنَّه يحق لهما أخذ العِوض المادِّي مقابل جهدهما في التَّعْلِيْمِ. وهو الأمر الذي يدل على أنَّ التَّعْلِيْمَ كان مُنضبطاً ومتقدِّماً كأي مؤسسة عِلْمِيَّة عصرية فيها التَّخصص والدِّقَّة والتَّنظيم والتَّمويل. بعض المدارس فيها وظيفة المفيد وظيفة مُستقلَّة يتصدى لها أحد المُتخصِّصين من غير الطُّلاب. كان كمال الدِّين سلار الاربلي مُفيداً في مدرسة من مدارس الفقه في دمشق والتي تخصصت في تدريس المذهب الشَّافعي ودَرَسَ عنده "اشتغل عليه" النَّووي ولم يطلب زيادة على عمله كمفيد إلى أن توفي في سنة سبعين وستمائة من الهجرة كما ذكر ذلك ابن كثير.

كانت مجالسُ الْعِلْمِ تشهد حضوراً كبيراً مما يستدعي وجود المُستملي الذي يقف في مكان مرتفع ويُردِّد ما قاله الأستاذ بصوتٍ عالٍ كي يسمع النَّاس. أشار ابن كثير (774 هـ = 1372 م) في كتابه الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث إلى أنَّ المجالس التي تعقد ببغداد وبغيرها من البلاد، يجتمع فيها "الفِئَامُ[44] من النَّاس، بل الألوف المؤلفة، ويصعد المُستملون على الأماكن المرتفعة، ويبلِّغون عن المشايخ ما يُملون، فيُحدِّث النّاس عنهم بذلك، مع ما يقع في مثل هذه المجامع من اللّغط والكلام. وحكى الأعمش: أنهم كانوا في حلقة إبراهيم إذا لم يسمع أحدهم الكلمة جيداً استفهما من جاره" (ص 31). كان يحضر مجلس ابن الجوزي مائة ألف مستمع يستمعون مواعظه وهو الذي ألَّف أكثر من 360 كتاباً (ابن العماد، ج6، ص 538).

ومن المصطلحات الإداريَّة الدَّارِجة في مدارس تلك الفترة "كاتب الغيبة" وهو الذي يتكفَّل بأمر تدوين أسماء الحاضرين والغائبين بشكل مُنتظم. هذه العَمَلِيَّة تُسمى أيضاً بـ "غيبة القارئين" (دهمان، 1990 م، ص 116). وبما أنَّ الغياب يُفَوِّت على الطَّالب فرصة سماع الْعِلْمِ فإنَّ بعض مجالسِ الْعِلْمِ تُدَوِّنُ كلمة "فَوت" عند اسم الطَّالب الغائب. هذا يعني أنَّ طالب الْعِلْمِ الغائب فاته سماع قسم من الكتاب، وأنَّه "فاتَه" من باب كذا إلى باب كذا. وقد يُجيز الشَّيخ من فاته شيء من السَّماع، وحينئذ يكتب عند اسم  الطَّالب "أنَّه رواه بفوت" (دهمان، 1990م، ص 119). وهكذا فإنِّ الفوت هو الجزء الذي لم يسمعه الطَّالب من أستاذه وقد يطلب من أستاذه أن يُعيد له الدَّرس "الفوت" وللمعلم خيار الاستجابة أو الامتناع (الذَّهبي، ج 16، ص 125). ويكتب المؤرخون في تَرْجَمَة أهل الْعِلْم فلان "روى (الموطأ) عن مالك سِوى فوت من الاعتكاف" (ابن العماد، ج 3، ص 160) أي أنَّه أخذ الكتاب كلَّه باستثناء سماع فصل واحد وهو الموضوع الفلاني.

من طرائق التَّعليم في ذلك العصر دمج تعليم المسائل العقليَّة بالمواعظ الدِّينيَّة فكان بعض المدرسين كما يقول ابن العماد يمزج الدُّروس بالوعظ وبحكايات الصَّالحين وبذلك بارك الله بطلاَّبهم، وحصل لهم نفع كبير وكان بعض المدرسين الماهرين لهم إقبال خاص على الطَّلبة الأذكياء (العماد، ج8، ص 220، 253).

تأسيس الْمَدَاَرِس من غير حُسن استغلال لها لا يجدي ولذلك تفنَّن المعلمون في الْمَدَاَرِس الإسلاميَّة في طرق التَّدريس لتحقيق الفوائد العظيمة. تُكثر كُتب الْتَّارِيْخ من وصف المُعَلِّم الجيد الغواص على المعاني فيقول المُؤرِّخون عن المعلم المتميز بأنَّه كان "حلاَّلاً للمُشكلات والمسائل، قوي المُناظرة، له قدرة على المناظرة وحلِّ المعضلات" وهو الوصف الذي يُطلقونه على الطّالب النَّبيه أيضاً. لا يمكن وصف الْعُلَمَاء والمتعلمين بمثل تلك الصِّفات إلا لكثرة وجود المسائل والمناظرات في دروسهم اليوميَّة يُوردونها على سبيل الاختبار والتَّمرين. من المؤكد اليوم في عالم التَّربية أنَّ المناظرة والحوار وحل المشكلات من أرقى طرائق التَّعْلِيْم ولا جدال في أنَّ المُعَلِّم الحاذق هو القادر على إدارة مثل هذه الأنشطة في الفصل وخارجه لأنها التُربة الخِصْبَة للتَّربية العقليَّة الصَّالحة. في ميدان المناظرة والمحاورة يُثبت الطَّالب أو العالم أنَّه فعلاً حفظ أو تمكّن من فهم هذه أو تلك المسألة وعلى ضوئها يشهد المؤرخون أنَّ فلاناً كان حُجَّة في حِفظه وفهمه وقدرته على استحضار الأدلَّة بعد استظهارها. وهكذا فإنَّ المحاورات والمناظرات تُبين لنا أنَّ إدعاء الْعِلْم والتَّصدُّر للتَّدريس لا يتم إلا بعد الفحص والتَّمحيص. كانت مُصنفات الشَّخص أيضاً تُخبر عن عمق فكر الشَّخص وسعة عِلْمِهِ.

لذلك كان المُدرسون عادة في تلك الْمَدَاَرِس القديمة هم من أهل الكفاءة والدِّراية والسَّمت الحسن والْعِلْمِ الوافر والشُّهرة. لم يكن يُسمح لأي شخص بأن يتصدَّر مجالس الْعِلْمِ والفتوى والقيام بممارسة التَّدريس سواء في علوم الأديان أو علوم الأبدان من غير أن يُوثِّقه الْعُلَمَاء أو النَّقيب بناء على مؤهلاته العِلْمِيَّة. النَّقيبُ هو ممثِّل المُعَلِّمين الذي يُطالب بحقوقهم عند الأمير وهو المتخصِّص في حلِّ خلافاتهم بمعنى أنَّه يلعب دور نقابة المُعَلِّمين في زماننا هذا. "النُّصوص التي بين يدينا تدل على أنَّ المسلمين في العصور الوسطى عرفوا النّقابات، وأنَّ النّقابات وجدت وانتشرت لترعى شئونهم وتدافع عن حقوقهم. جماعة المدرسين هم الذين يختارون النَّقيب والسُّلطان لا يتدخل إلا إذا وقع خلاف بين الأعضاء (عبدالدائم، 1997 م، ص 176، بتصرّف).

 

الكتاتيب

الكُتّاب أو الكتاتيب هي أماكن يدرس فيها الأطفال أساسيات القراءة والكتابة وبعض مبادئ الحساب إلى جانب قدر من علوم الدِّين والأدب العربي وهي تُعادل تقريباً المرحلة الابتدائية اليوم. عرف العرب في الجاهلية هذا النِّظام ولكنَّه لم يكن مُنتشراً وكان في غاية البساطة ومن ثَمّ فإنّ عدد القادرين على الكتابة والقراءة كان قليلاً جداً قبل ظهور نور الإسلام.

من خلال مراجعة كُتب اللَّغة نجد طائفة من الألفاظ التَّربويَّة المرتبطة بالكتاتيب. الـمَكْتَبُ يعني: موضع الكُتَّابِ. والـمَكْتَبُ والكُتَّابُ: موضع تَعْلِـيم الكُتَّابِ، والجمع الكَتَاتِـيبُ والـمَكاتِبُ. قال الـمُبَرِّدُ: الـمَكْتَبُ موضع التَّعليم، والـمُكْتِبُ الـمُعَلِّمُ.وهو الـمُكَتِّبُ الذي يُعَلِّم الكتابَة. كان الحجاج مُكْتِـباً بالطائف، يعني مُعَلِّماً؛ ومنه قيل: عُبَيْدٌ الـمُكْتِبُ، لأَنَّه كان مُعَلِّماً. والكُتَّابُ الصِّبيان. يُقال لِصِبيان الـمَكْتَبِ الفُرْقانُ أَيضاً. والفِرْقُ: طائفة من النَّاس، وقال أَعرابي لصبيان رآهم: هؤُلاء فِرْقُ سوء. والفَرِيقُ الطَّائفة من النَّاس وهم أَكثر من الفِرْقِ.

كان العرب يُطلِقون لقب "الكامل" على من يَكتب ويُحسِن السِّباحة ويقول الشِّعر كما ذكر ذلك ابن قتيبة (276 هـ = 889 م) في عيون الأخبار (ص 541). ولشدَّة ندرة المُقتدرين على القراءة ظهر مُصطلح "القُرَّاء" في العصور الإسلامية الأولى. "القراء" لقب أُطلق على الذين يعرفون مهارة القراءة في صدر الإسلام. قال ابن خلدون كان العرب أُمة أميّة فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. "وبقي الأمر كذلك صدر المِلة ثمَّ عظُمت أمصار الإسلام وذهبت الأمِّية من العرب بممارسة الكُتَّاب وتمكَّن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعة وعِلْماً فبدلوا باسم الفقهاء والْعُلَمَاء من القراء" (ص 394). وفي لسان العرب أنَّ الكاتِبُ عِنْدَ العرب قبل الإسلام كان يُطلق عليه "العالم". قال اللّه تعالى: "أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {47}" (سورة القلم) "لأَنَّ الغالبَ على من كان يَعْرِفُ الكتابةَ، أَن عنده العلم والمعرفة، وكان الكاتِبُ عندهم عزيزاً، وفيهم قليلاً".

وعليه فإنَّ الكتاتيب رغم وجودها قبل الإسلام فإنَّها لم تكن لشريحة كبيرة من النَّاس حتى جاء الإسلام وبث فيها الحياة لتكون الشّّريان الهام في نقل الْعِلْمِ في جسد الأجيال تلو الأجيال.

إنَّ دور الكتاتيب في تنمية الفكر وتهذيب الآداب أمر لا جدال فيه إذ لعبت مئات الألوف من الكتاتيب إلى عهد قريب دوراً مُباركاً في تنوير المجتمعات المسلمة. كثيرة هي الكلمات التي ارتبطت بمسيرة الكتاتيب ومن الكلمات اليوميَّة في حياة السَّلف قولهم اختلف الصَّبي إلى المكتب أي ذهب إلى المدرسة وهي جملة كثيرة الاستخدام في حياة الأوائل الذين عاشوا مع التَّعْلِيْمِ عيشة زاهية ويقولون قَلَبَ المعلم الصِّبيان أي صرفهم وأطلقهم إلى بيوتهم (الزَّبيدي: تاج العروس: ص ،1210، الزمخشري: تاج البلاغة: ص 1161، ابن سيده: المخصص: ص 1497).

من الألفاظ الدَّارجة في أدبيات الكتاتيب كلمة الحذاقة ويراد بها التَّمكن والفطنة في تعلم مهارة من المهارات وقولهم حذق الصَّبي القرآن أي تعلَّمه وعرفه ويوم الحذاقة هو اليوم الذي يختم الصَّبي فيه القرآن الكريم. ووليمة الحِذاقة هي الإطعام عند ختم القرآن وتُسمى أيضاً التَّحلية فيقول الأولاد في الكتَّاب "حلانا فلان بن فلان" وكذا إذا تعلَّم الصَّبي الآداب وإذا نبتت أسنان الصَّغير (ابن طولون، ص 23).

ومن نسمات الماضي وقسماته التَّعليميَّة أنَّ الصَّبي في المكتب يستخدم الإجانة. الإجانة وعاء يستخدمه الصِّبيان في المكتب لتنظيف ألواحهم. كان المعلم يحرص على أن يأمر طلاَّبه بصبِّ ماء الإجانة بالمواضع البعيدة عن مواضع الناس بعد فراغهم من التَّنظيف. وداخل الفصل يقوم الطِّفل بمسح لوحته بخرقة تُسمَّى "الطَّلاسة" وأقلام الصِّبيان كانت من الطّباشير والجص (زيَّات، 1992 م، ص 53). الأقلام في الكتاتيب قد تكون مصنوعة أيضاً من "البوص" وهو قصب نبات مجوف يُقطع بزاوية مائلة ليكون رأس القلم ويُستعمل المداد الأسود الذي قد يصنعه الصَّبي بنفسه ليكتب به على لوح الخشب الأصفر.

لم يكن الصَّبي يستطيع أن يتحمَّل أعمال الحياة ومتطلباتها لولا تلقِّيه للعلمِ في الكتاتيب التي كانت إلى جانب دورها في حفظ الصَّبي في مكان آمن وتُعِدُّه للنُّهوض بإمكاناته الفِكْرِيَّة والخُلقيَّة والرُّوحيَّة. كتاتيب الصِّبيان كانت أكثر انتشاراً ولم يكن يُسمح بالاختلاط بين الجنسين غالباً فالقابسي كان يؤكد دائماً على ضرورة عزل الذُّكور عن الإناث وأن ذلك من آداب التَّعْلِيْم في الإسلام.

من أهم قسمات التَّعْلِيْم في الكتاتيب أنَّ التَّعْلِيْمَ فيها يقوم على التَّلقين والتَّقليد والتَّدريب فالصَّبي من خلال لوحته الخشبيَّة المصبوغة بالسَّواد (زيَّات، 1992 م، ص 52) يُحاول أن يُنمِّي مهارته في الكتابة بتقليد ما يكتبه المُعَلِّم لينال من العلوم حظاً، كتابةً وحفظاً. الطَّالِبُ الذي يُنهي تحصيله من الكتاتيب يتأهَّل لمرحلة جديدة فإمَّا أن ينصرف إلى العمل وإمَّا أن يلتحق بحلقات الْعِلْمِ وهي مرحلة متوسطة يمكنه بعدها أن يتخصَّص كعالم في عِلْمٍ معين. الطَّالب النَّجيب قد يحصل على إجازة في التَّدريس أو الفتوى في سنِّ العشرين. كثير من الصِّبيان يُعِدُّ نفسه كي يعمل في الوراقة أو نسخ الكتب[45]، أو التِّجارة، أو التَّعليم أو إتِّقان الصِّناعات اليدويَّة ومعظم هذه الوظائف لا يمكن ممارستها من غير معرفة القراءة والكتابة.

الدِّين أهم عنصر في منهج الكتاتيب لأنَّ المسلم المُكلَّف يجب أن يعرف أموره دينه فيُعَدُّ منذ صباه لهذه المهمَّة. يقول الماوردي (ت 450هـ = 1058 م) في كتابه أدب الدُّنيا والدِّين "‏وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهْتِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلاهَا، وَأَفْضَلِهَا.‏ وَأَوْلَى الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ، لأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ يَرْشُدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ.‏ إذْ لا يَصِحُّ أدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏{‏فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ}‏. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لأنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِهَا قَدْ لا تَكُونُ عِبَادَةً، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ". على النَّاشئة في الكتاتيب أن يتعلَّموا شيئاً من القرآن الكريم ويحفظوا شطراً منه على الأقل وهذه مرحلة اجبارية أمَّا المرحلة الإختيارية فهي مرحلة تعلُّم الفقه والأدب العربي والتَّاريخ... (بدر، 2000 م، ص 123).

قد يظن البعض أنَّ فكرة إلزاميَّة التَّعْلِيْم للأطفال من القوانين العصريَّة التي وُلدت في العصور المدنيَّة الحديثة ولكن يمكن رصد ظهور بدايات هذه الفكرة الْهَامَّة من عصرٍ مُبكِّر في تاريخنا الإسلامي. يُعَدُّ الإمام القابسي (ت 403 هـ = 1012م)، أول من نادى بإلزام التَّعْلِيْم بمعنى إرغام الصِّبيان على الذِّهاب إلى الكتاتيب. وهو اجتهاد خالف فيه القابسي من سبقه من الفقهاء (الأهواني، 1983، ص 102، الصَّالح، ص 304) الذين كانوا يحثون على إرسال الأبناء للكتاتيب ولكنهم لم يقولوا بأنَّ حكم ذلك الوجوب. القابسي أعلن أنَّ تعليم الولد في المكتب من الواجبات الشَّرعية وأنَّه يتحتَّم على الأب أن يرسل ولده للمكتب وأن يدفع أُجرة المُعَلِّم فإن لم يستطع هو أو أهله فعلى المحسنين مساعدته إن أرادوا ذلك وإلا فإنَّ بيت المال يستطيع أن يتكفل بتغطية نفقات تعليم الصَّبي الفقير. الغرض من إلزامية التَّعْلِيْم عند القابسي هو تعليم الصَّبي الأمور المهمة المتعلِّقة بالدِّين. الفارابي (259 – 339 هـ = 872 – 959 م) "يرى أنَّ من واجب الدَّولة أن تخصص للتَّعليم ميزانية مالية لتربية الصِّبيان وذلك بأن تأخذ جزءاً من الزكوات والخراج، وغيرهما من موارد الدَّولة " (الطَّالبي، 1994، ج1، ص 203). يرى طه حسين (ت 1393 هـ = 1973 م) أنَّ التَّعليم الأولي والإلزامي ركن أساسي من أركان الحياة الاجتماعيَّة مهما يكن نظام الحكم الذي تخضع إليه الدَّولة (جلال، 1994، ج1، ص 316).

ذكر ابن ‏الحاج‏ ‏(ت 737 هـ = 1336 م) جملة من الآداب التي يجب أن يتحلَّى بها المُعَلِّم في الْكُتَّابِ وفيما يلي مختصراً لبعض النُّصوص التي أوردها: "يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ يَأْتِي إلَى الْكُتَّابِ بِغِذَائِهِ وَلا بِفِضَّةٍ مَعَهُ وَلا فُلُوسٍ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي الْمَكْتَبِ، لأنَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ تَتْلَفُ أَحْوَالُهُمْ وَيَنْكَسِرُ خَاطِرُ الصَّغِيرِ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ وَالضَّعِيفِ لِمَا يَرَى مِنْ جِدَةِ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَدَعَ أَحَدًا مِنْ الْبَيَّاعِينَ يَقِفُ عَلَى الْمَكْتَبِ لِيَبِيعَ لِلصِّبْيَانِ إذْ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ. ‏‏وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى غِذَائِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِغِذَائِهِ ثُمَّ يَعُودُ، لأنَّهُ سِتْرٌ عَلَى الْفَقِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا تَعْلِيمُ الأدَبِ لِلصِّبْيَانِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ، لأنَّ الأكْلَ يَنْبَغِي أَنْ لا يَكُونَ إلا بَيْنَ الإخْوَانِ وَالْمَعَارِفِ دُونَ الأجَانِبِ فَإِذَا نَشَأَ الصَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُتَأَدِّبًا بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ فَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ عَامَّةِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الأكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي الأسْوَاقِ وَبِحَضْرَةِ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لا يَعْرِفُهُ.

وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ لا يُكْثِرَ الْكَلامَ مَعَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ إخْوَانِهِ إذْ مَا هُوَ فِيهِ آكِدٌ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَعَهُ، لأنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُمَّ إلا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أَوْ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ فِي الْوَقْتِ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَنَعَمْ.‏ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ تَجِدُهُمْ بِضِدِّ هَذَا الْحَالِ يَتَحَدَّثُونَ كَثِيرًا مَعَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالصِّبْيَانُ يُبْطِلُونَ مَا هُمْ فِيهِ وَيَلْهُونَ عَنْهُ وَيَلْعَبُونَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ ‏. ‏

‏وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُمْ آدَابَ الدِّينِ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الأذَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قِرَاءةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا إذْ ذَاكَ فَيُعَلِّمُهُمْ السُّنَّةَ فِي حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ الأذَانِ لأنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لأنَّ دُعَاءهُمْ مَرْجُوُّ الإجَابَةِ سيَّما فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ ثُمَّ يُعَلِّمُهُمْ الْوُضُوء وَالصَّلاة وَتَوَابِعُهَا وَيَأْخُذُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَلِيلاً وَلَوْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَشْتَغِلُونَ بَعْدَ الأذَانِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الصَّلاةِ بَلْ يَتْرُكُونَ كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ وَيَشْتَغِلُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ يَمْضُونَ إلَى مَوْضِعِ وَقْفٍ أَوْ مَوْضِعِ مِلْكٍ أُبِيحَ لَهُمْ أَوْ إلَى بُيُوتِهِمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّبُهُمْ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ أَوْ الْعَبَثِ فَيُصَلُّونَ فِي الْمَكْتَبِ جَمِيعًا وَيُقَدِّمُونَ أَكْبَرَهُمْ فِيهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً.

‏وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ كَتْبِهِمْ الألْوَاحَ مَعْلُومًا وَوَقْتُ تَصْوِيبِهَا مَعْلُومًا وَوَقْتُ عَرْضِهَا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ قِرَاءةُ الأحْزَابِ حَتَّى يَنْضَبِطَ الْحَالُ وَلا يَخْتَلَّ النِّظَامُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَابَلَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ يَكْفِيه عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَآخَرَ لا يَرْتَدِعُ إلاَّ بِالْكَلامِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَآخَرَ لا يَنْزَجِرُ إلا بِالضَّرْبِ وَالإِهَانَةِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ.‏ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بِالرِّفْقِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إذْ إنَّهُ لا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ فِي هَذَا السِّنِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي سِنِّ مَنْ يُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ وَاضْطُرَّ إلَى ضَرْبِهِ ضَرَبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثَةِ أَسْوَاطٍ شَيْئًا بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ سَعَةٌ.‏. وَلا يَكُونُ الأدَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ.‏ وَلْيَحْذَرْ الْحَذَرَ الْكُلِّيَّ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَ آلَةً اتَّخَذُوهَا لِضَرْبِ الصِّبْيَانِ مِثْلَ عَصَا اللَّوْزِ الْيَابِسِ وَالْجَرِيدِ الْمُشَرَّحِ وَالأَسْوَاطِ النُّوبِيَّةِ وَالْفَلَقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ وَلا يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى حَمْلِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ".

والكتاتيب أنواع وأشهرها كُتّاب السَّبيل التي يكون التَّعْلِيْم والإقراء فيها بالمجان لأبناء المحتاجين والفقراء. ومكتب السَّبيل يحتضن الأيتام وعلاوة على تعليم الخط وتحصيل مسائل الدِّين فإنَّ الطَّالب اليتيم يُصرف له الخبز في كل يوم. ويكون كُتّاب السَّبيل أحياناً بجانب عمائر مكتب السَّبيل وهو حوض عذب لشرب النَّاس (المقريزي، المواعظ والاعتبار، ص 183).

ذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر تفاوت مراتب الطُّلاب في المكتب كما هو حال الطُّلاب في كل زمان فمنهم من يتعلَّم الخط فيبلغ الرُّتب الرَّفيعة، ومنهم مَنْ هو كثير المشاكل إذ يسرق من زملائه حاجاتهم ويؤذي الصِّبيان، ومنهم من يطول مُكثه في المكتب فلا يتعلَّم شيئاً، ومن الصِّبيان من لا يُتَّقن الكتابة إلا الشَّيء اليسير، ومنهم مَن خطّه جيد ولكنَّه لم يتعلَّم الحساب، ومنهم مَن حفظ الآداب ولكنه لا يطبِّقها، ومنهم صاحب الهِمَّة العالية في المكتب فيختاره المُعَلِّم ليكون نائبه (ص 249).

في اليوم الأول يحاول المُعَلِّم وأولياء أمر الصَّبي تحبيب وترغيب شأن المكتب للوافد الجديد فيذهب الصَّبي إليه يوم الخميس نظراً لقصر الدوام المدرسي، وتدريجياً يُرغَّب الصَّبي في المكتب باللَّعب بالكرة والصُّولجان[46] وما أشبهه ثم يُنقل برفق من اللَّعب إلى الاشتغال بالأمور المهمَّة. بعض الطُّلاب يلتزم حضور المكتب إلى أن يُقارب الواحد منهم سن البلوغ أو يحفظ القرآن الكريم كلَّه. يقول العرب لمن قارب البلوغ حَزْوَرٍ وحَزَوَّر وفي حال الجمع يقولون كُنَّا غِلماناً حَزَاوِرة. 

يُسمح لغير المسلمين بإرسال صبيانهم للكتاتيب ولكن في الكثير من الأزمات الْسِّيَاسِيَّة عندما تسوء العلاقة بين المسلمين وغيرهم فإنَّ الخليفة يُعلن عن منعهم عقاباً لهم. ولقد وَجدَت الكتاتيب حفاوة الأمراء والخلفاء حتى أنَّ بعضهم إذا مَرَّ بقربهم يدخل ويُسلِّم عليهم ويدعو لهم قائلاً "اللَّهم بارك في ذراري أهل الإسلام" ثم يمضى لشأنه.

يحتوي تاريخنا الزاهي على كمٍ هائل من الحكايات والقصص التي جرت في الكتاتيب فمنها قصص عن فراسة المُعَلِّم، وطرق التَّعْلِيْم، وهي مُذكرات ثمينة في بابها تُميِّز تراثنا التَّربوي الخصيب. ابن سينا درس في المكتب وحفظ بعض الكُتب المُنتقاة على يد معلِّم الأدب مثل كِتاب ديوان ابن الرُّومي وشِعر الحماسة ونحو سيبويه وذلك قبل أن يبلغ سن العاشرة. هذا يدل على قوة مناهج الكتاتيب وعلو همَّة الطُّلاب.

يعتبر الضَّحاك بن مزاحم الهلالي (ت 102هـ = 719 م) من أبرز الشَّخصيات التي دعمت حركة الكتاتيب في تاريخ الحضارة الإسلاميَّة. كان الضَّحاك بن مزاحم  في مدينة خرسان صاحب عِلْمٍ ويروي القصص وله مكتب عظيم يشرف بنفسه عليه فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حماراً يدور عليهم إذا تعب من المشي وكان رحمه الله لا يأخذ أجراً مالياً مُقابل هذا الجهد الكبير.

من عادة المُعَلِّمين في الكتاتيب أن يُلقوا شيئاً من المشكلات ليجيب عليها الطُّلاب بثاقب أذهانهم. في حصص تعليم الحروف الأبجدية قد يدرس الطَّالب " أَبْجَد هوز حُطِّي كلمن..[47]" ويمد المُعَلِّم خَطَّاً ثم يُرتِّب عليه الأحرف ويطلب من الصِّبيان أن يفعلوا مثله أو قريباً من خطِّه ثم ربما يُداعب المُعَلِّم طلابه كي يُديروا الميم بشكلٍ حَسن فيقول اكتبوا الميم كتابة واضحة واجعلوها مثل عين البقرة (ابن عساكر: مختصر تاريخ دمشق، ص  2726، ياقوت الحموي: معجم البلدان، ص 896). في الجوامع الكبيرة مثل الجامع الأموي في دمشق مثلاً يقوم جماعة من المعلمين بتعليم كتاب الله للصِّبيان يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقِّن الصِّبيان ويقرئهم ومعلم الخط قد يكون غير معلم القرآن يعلمهم بكتب الأشعار وسواها فينصرف الصَّبي من التَّعليم إلى التَّكتيب فيجود خطه لأنَّ المعلم للخط لا يعلم غيره من العلوم إنما يتخصص بهذا الفن فقط كما أفاد ابن بطوطة (ص 63).

كتب التَّنوخي في كتابه نشوار المحاضرة مذكِّراته الأدبية أيام تحصيل الْعِلْم فقال "طريقة أبي البيان المؤدب في التَّدريس: ورأيته يوماً عند معلمي، في مكتبي، وقد حضر وقتاً كان فيه المُعَلِّم يأخذ علينا الشِّعر، وكانت عادته أن يقيم الصِّبيان صفاً، فيطالبهم بإنشاد القصيدة. فأقامهم في تلك العشية، وقد حضر أبو البيان، فقال له: يا أبا جعفر، ما هذا التَّفريط؟ قال: وكيف؟ قال: إنَّ لي عادة في سياسة الصِّبيان، لا أرخص لهم فيها، إن سألتني علمتك إياها. فقال: افعل. قال: تَقَدَّم إلى صبيانك، وأمرهم بأن يمتثلوا أمري، لأريك ذلك. فقال لهم أبو جعفر: انظروا ما يأمركم به أبو البيان، فافعلوه. فأقبل عليهم يخاطبهم في كلامه، فقال: لكم أقول أيها الصِّبيان، ولمن يجاوركم من الغلمان، إلى حدود الأحداث والفتيان، اسمعوا وعوا، فمن خالف بعد البرهان، أنزلت به غليظ الامتحان، تراصُّوا في صفوفكم، والزقوا أقدامكم، وأقيموا ألواحكم، واقبلوا علي بألحاظِكم، واحضروا فيما تنشدون قلوبكم، وارفعوا أصواتكم، وقولوا قول صبي واحد: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومَنزل" وصاح بالشِّعر مُطرباً. فما مَلَكَ الصِّبيان إلا الضَّحك، وضحك مُعلمي معهم. فقال: يا أبا جعفر، التراب والجندل بفيك وعلى رأسك، والويل والويح محيطان بك، أتطمع أن تعلمهم بهذه الهيبة؟ حفت بك اللّعنة والخيبة، أسبابك أفسدت، أمن قدري بضحكك وضعت؟ أم سترك عند هؤلاء الأنكاد هتكت؟ أشهد الله، لا أكلمك، أو تعتذر. وأخذ أبو جعفر [مُعلمي]، يُداريه، ويعتذر إليه، حتى رضي لوقته. وكان يقول الشِّعر، وينشده أبا جعفر دائماً، وما حَفظتُ منه شيئاً. ولولا أنَّ هذه الألفاظ، تعاودناها في المكتب ونحن صبيان، لم تَعلق بحفظي، فلما ترعرعت، كتبتها في موضع، وأنسيتها، ثم نقلتها منه، إلى هذا الموضع، وبقيت عندي إلى الآن (ص 441 بتصرُّف يسير).

وفي مقابل هذا الموقف الطَّريف فإن مصنَّفات الأوائل نقلت لنا وقائع أليمة وقعت في الكُتَّاب من أشدِّها ما وقع في سنة 552 هـ = 1157 م فلقد حُكِي أنَّ مُعلِّماً كان في مدينة حماة يُدرِّس الصِّبيان في كُتّاب فقام من المكتب ليقضي حاجته ثم عاد وقد وقع المكتب على الصَّبيان بسبب زلزال عظيم فماتوا كلهم والعجب أنَّه لم يأت أحدٌ يسأل عن صبي منهم والسَّبب أنَّ جميع آبائهم وأمهاتهم ماتوا أيضاً تحت الهدمِ في دورهِم وأسواقِهم.

 

الأزْهَر الشَّريف

الأزهر الشَّريف من أَجَلِّ مؤسسات التَّعْلِيْم في العالم الإسلامي وأكثرها هيبة في النُّفوس. يُسجِّل الْتَّارِيْخ أنَّ جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين اللّه المغربي الذي أغار على القطر المصري بعد موت كافور الأخشيدي هو الذي أمر ببناء الأزهر سنة 359 هـ = 970 م. يُعتبر الأزهر من أقدم منارات الْعِلْمِ ومؤسسات التَّعْلِيْمِ عالمياً ومن أبرز المراكز الفِكْرِيَّة في العالم الإسلامي يقصده الدَّاني والقاصي طَلباً لِلعِلْمِ. كانَ الأزهرُ ولم يَزل يُقَدِّم للعالم الإسلامي أعلاماً في الفكر الدِّيني ينشرون الرِّسالة الإسلاميَّة في جميع القارات ويُساهمون في عَمَلِيَّة الإصلاح الاجتماعي بأسلوب مُتواصل.

بدأ الأزهر كمنبر لنشر المذهب الشِّيعي للعبيديين (الفاطميين) الذين سيطروا على مصر سنة 358 هـ = 969 م إلى سنة 567 هـ = 1171م وفي زمن صلاح الدِّين الأيوبي ( 532-589 هـ = 1138-1193م)  تحوَّل الأزهر لِيُدَرِّس المذهب السُنِّي ومع مرور الأيام توسعت الدِّراسة فيه وذلك بتدريس العلوم العصريَّة إضافة إلى العلوم الدينيَّة. 

امتازت مناهج الأزهر بالرَّحابة والمتانة فإلى جانب العلوم الشَّرعية كان عِلْم الطِّب والفلك من العلوم التي تُدرس في حلقاتها. يتميز رجال الأزهر باليقظة والبسالة فلقد لعبوا دوراً مُشَرِّفاً في مواجهة الاحتلال الفرنسي والإنجليزي ومازال عُلَمَاء الأزهر في العصر الحديث يسيرون على الدَّرب رغم كثرة التَّحديات الكبيرة فهم في طليعة من يَردونَّ على هجوم المستشرقين ويُفنَّدون شبهاتهم، ويَفضحون مكائد اليساريين ويَنتقدون سياساتهم.

تأسس الأزهر "في أول عهد الدَّولة الفاطمية بمصر جامعاً باسم (جامع القاهرة، الذي سُمِّى الأزهر فيما بعد) حيث أُرسى حجر أساسه في الرَّابع والعشرين من جمادى الأولى 359 هـ =970م ، وصلى فيه الخليفة المعز لدين الله الفاطمى ثاني خلفاء الدَّولة الفاطميَّة صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 361 هـ = 972م، إيذاناً باعتماده الجامع الرَّسمي للدَّولة الجديدة، ومقرا لنشر المذهب الشِّيعي في حلقات الدُّروس التي انتظمت فيه، وبدأها القاضي أبو حنيفة بن مُحَمَّد القيرواني قاضى الخليفة المعز لدين الله، وتولى التَّدريس أبناء هذا القاضي من بعده، وغيرهم من عُلَمَاء المذهب الشِّيعي" (فرهود، 2001 م).

يقول د. مجاهد توفيق الجندي (1988م) أنَّ طرق الدِّراسة القديمة في الجامع الأزهر تتمثل في "شكل حلقات عِلْمِيَّة، فكانت الدُّروس تُعقد به، حيث يتصدَّر الأستاذ ويجلس على كرسي من الخشب أو الجريد ليتمكن من رؤية طلبته وإسماعهم إذا كثروا أمامه، والطَّلبة متحلِّقون حوله على شكل دائرة غير كاملة، وقد يُكلِّف الشَّيخ أحد طلاَّبه الممتازين بالقراءة والشَّيخ يشرح وبعد نهاية الدَّرس يقوم أحد الطُّلاب بإعادة الدَّرس بصورة أخرى. لكل شيخ طريقته ولا سلطان لأحدٍ أن يفرض عليه طريقة معينه، بل الشَّيخ بالاتفاق مع طلاَّبه يختارون الطَّريقة التي يريدونها. الطَّالب حُرٌّ أيضاً في أن يجلس إلى الحلقة التي يرغبها..والتي تتناسب مع عقليَّته وسنِّه وتحصيله. الدِّراسة تعتمد على التَّحليل والمناقشة والحوار. عندما يستكمل الطَّالب تحصيله يُعطى "إجازة عامَّة" فيُصبح الطَّالب أهلاً للتَّدريس أو الإفتاء أو القضاء. وقد تُمنح في مادة واحدة نظريَّة أو عَمَلِيَّة كالطِّب مثلاً فتُسمى "إجازة خاصة" في الطِّب وممارسة العلاج وقد تُمنح الإجازة في كتاب خاص متى أتمَّ الطَّالب دراسته، أو حِفظه بحيث يمكِّنه تدريسه، وهذه الطَّريقة سار عليها الأزهر قديماً في عصوره الزَّاهرة (ص 583-585 باختصار وتصرّف).

يتَّضِح من النَّص السَّابق مدى الحرِّية الأكاديميَّة المتوفِّرة في الأزهر فلقد كانت الحرِّيات حقاً مُزدوجاً يتمتع به كلٌ من المُعَلِّم والمتعلَّم وكلاهما مُتَمِّم للآخر. كما أنَّه من الإنصاف الْتَّارِيْخي تسجيل سبق المناهج الأزهرية في إصدار الشَّهادات بعد تخرج الطَّالب الذي ينال أفضل أنواع التَّعْلِيْم المجاني وبصرف النَّظر عن جنسيته. ومن جلال أمر الجامع الأزهر أنَّ الْعُلَمَاء يُدَرِّسون فيه العلوم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة فكان ذلك فَتحاً تعليمياً تفتخر به الأمة المُسلمة وهي منجزات حضاريَّة تستدعي منا المزيد من العطاء لإتمام جهود السَّابقين، وتأسيس حضارة حاضرة ناضرة.

اهتم السَّلاطين بالجامع الأزهر اهتماما كبيرا. كان السُّلطان الغورى (ت 922 هـ = 1516 م) "يصرف لمطبخ الجامع الأزهر في رمضان ستمائة وسبعين ديناراً، ومائة قنطار عسل، وخمسمائة إردب قمح للخبز المفرق فيه" (ابن العماد، ج10، ص 160).

بعد ألف سنة من العطاء، مازالت جامعة الأزهر قِبلة أنظار الأساتذة والطُّلاب كما كانت قديماً، وتتبوأ مكانة كبيرة في قلوب المسلمين لأنَّها خرَّجت جهابذة الْعُلَمَاء، وألمع الدُّعاة والقضاة وكانت ولم تزل حتى اليوم منارة من منارات الفكر في العالم الإسلامي تحفظ على الأمة هويتها، ولها خدمات جليلة في نشر الدِّين عالمياً بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

المدرسة النِّظَامِيَّة

كانت المدرسة النِّظَامِيَّة ببغداد على شاطئ دجلة وهي من أشهر مدارس الإسلام وتُسمى أيضاً بالمدرسة الكبرى والمدرسة الشَّافِعِيّةِ. قام نظام الملك - الوزير السلجوقي - ببناء المدرسة النِّظَامِيَّة كما قام بالتَّدريس فيها أيضاً. بدأ العمل في بنائها سنة 457 هـ = 1064 م وكان الانتهاء سنة 459 هـ = 1066 م. أولُّ من درَّس فيها هو أبو نصر بن الصَّباغ ثم جاء بعده بفترة يسيرة أبو إسحاق الشِّيرازي وكان نظام الملك هو بنفسه يختار أفضل الْعُلَمَاء لقيادة هذه المؤسَّسة فيُصدر "منشوراً" بهذا الشَّأن.

كانت الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة صرحاً عِلْمياً مُتخصِّصاً بالتَّعْلِيْم العالي إِلى درجة أنَّ الْعُلَمَاء يُدَرِّسون فيها إِلى جانب المعيدين وفيها سكن داخلي للطُّلاب مع موارد مالية كبيرة لتغطية احتياجات المدرسة التي أشبه ما تكون بنظام الجامعات الحالية من حيث حُسن التَّنظيم. كانت الدولة المسلمة في ذلك العصر تُساند المدرسة مالياً وتجتهد في أن تختار عالمِاً جهبذاً من أبرز الْعُلَمَاء على مستوى العالم الإسلامي يقوم بقيادة ذلك الصّرح الْعِلْمِي . 

ولم تكن المدرسة النِّظَامِيَّة البغدادية يتيمة دهرها ووحيدة عصرها إذ نشط نظام الملك في بناء أخوات لها في مدن أخرى مثل أصبهان والبصرة ونيسابور وهراة وبلخ …. فيقال نظامية نيسابور ونظامية البصرة…  ولم يكن الوزير نظام الملك (409 – 485 هـ = 1018 – 1092م) مجرد محبٍّ للعِلْم بل كان عالماً فقيهاً ولقد ظلَّ وزيراً لفترة ثلاثين سنة لكل من ألب أرسلان وملك شاه وعُرِف بحبِّه للعِلْم وسخاوته. كانت الْمَدَاَرِس النِّظَامِيَّة تقوم بتدريس علوم أهل السُّنة ومواجهة الفرق الباطنيَّة وغيرها ومنها يتخرَّج القضاة والوعاظ والْعُلَمَاء. وكان بعض الأساتذة يتناوبون في التَّدريس إذ يأخذ أحدهم في التَّدريس يوماً ويترك غيره من الأساتذة ليقوم بالتَّدريس في اليوم الآخر …(انظر الذَّهبي . ج 19، ص 249).

لعبت المدرسة النِّظَامِيَّة دوراً كبيراً في تثقيف طلاب الْعِلْم وإصلاح النَّاس من خلال نوابغ الْعُلَمَاء الذين عملوا فيها ولعل الصُّورة التَّالِية التي ينقلها لنا ابن كثير تُصوِّر لنا جانباً من جوانب الحيوية فيها إذ يقول أنَّه في سنة 468 هـ = 1075 م قَدِم إلى بغداد رجل يقال له أردشير بن منصور "فنزل النِّظَامِيَّة فوعظ النَّاس وحضر مجلسه الغزالي مُدرِّس المكان فازدحم النَّاسُ في مجلسه وكان يحضر مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفا من الرِّجال والنِّساء وتاب كثير من النَّاس ولزموا المساجد وأريقت الخمور وكسرت الملاهي وكان الرَّجل في نفسه صالحاً له عبادات وفيه زُهد وافر وله أحوال صالحة" (باختصار).

وممن درّس في المدرسة النِّظَامِيَّة ببغداد الحسين بن مُحَمَّد الطَّبَرِي وأبو مُحَمَّد عبدالوهاب الفامي الشِّيرازي والعلامة أبو إسحاق الشِّيرازي صاحب كتاب المهذب وابن الصَّباغ (عبد السيد) والإمام الغزالي وأبو سعد المتولي، والاستراباذي (ت 616هـ = 1219 م)، وابن نُعَيم (ت 639 هـ = 1241 م) …ومعظم هؤلاء من أعيان الشَّافِعِيّة ولا عجب فإنَّ خِدمة المذهب الشَّافِعِيّ أو الحنفي في ذلك العصر ..كان يتطلَّب بناء مدارس خاصة تعتني بتراث كل مذهب.

وفي تلك الأزمنة كانت الكتب مُنتشرة وكان طالب الْعِلْم يزور المكتبة فينظر في ثَبت الكُتب الموقوفة في المدرسة النِّظَامِيَّة، فإذا به يحتوي على آلاف المجلدات فينتقي ما يشاء وله أن يستعير الكتاب أحياناً بِرَهن وأحياناً بغير رهن فيأخذ الكتاب إلى منزله أو يطالعه في المكتبة أو يأخذه إلى بعض الغرف المُلحقة بالمكتبة فينسخ منها ما شاء. وعليه فإنَّ الفقير لم يكن يحتاج إلى بذل المال في شراء الكتب بل يستعير من كتب الأوقاف ويُطالعها دون مُقابِل (العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المئة الثَّامنة، ص 1140).

استفاد ابن الجوزي من المكتبة النِّظَامِيَّة وفي كتابه صيد الخاطر يعطينا صورة للطَّالب المسلم المتميز الذي ينبغي له أن يلم بعلمٍ ثم ينظر إلى باقي العلوم فيطالع منها طرفاً إذ لكل عِلْم تعلُّق بغيره ثم يصف همَّة العالم فيقول "كانت همم القدماء من الْعُلَمَاء عَلِيِّة تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم". ويحكي لنا عن نفسه فيقول "وإني أُخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز. ولقد نظرت في ثبت الكتب[48] الموقوفة في المدرسة النِّظَامِيَّة فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد" (ص 362). وحمل ابن الجوزي أحمالاً من الكتب من أماكن مُتفرِّقة حتى يطَّلع عليها. ثم يُضيف قائلاً "ولو قلت إنِّي طالعت عشرين ألَّف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطَّلب[49]. فاستفدت بالنَّظر فيها من ملاحظة سِيَر القوم وقدر هممهم .. وغرائب علومهم ما لا يعرفه مَن لم يطالع". ولو أردنا عقد مقارنة سريعة بين حال الطَّالب المُتميز في الحضارة الإسلامية وبين الوضع الثَّقافي في أوربا لوجدنا البَوْن الشَّاسع بين الحالين فأوربا النَّصرانية كلها إلى عام 1450م كانت لا تملك أكثر من 30 ألف كتاب ومعظم الكتب هي نسخ مُكرَّرة من الإنجيل في حين أنَّ الطَّالب النَّجيب مثل ابن الجوزي في بغداد يقرأ 20 ألف كتاب في علوم متنوعة. وفي ذلك إشارة إلى الدَّور العظيم للمدارس في عَمَلِيَّة انتشار الكتب، وبث العلوم.

 

المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة

مِن روائع الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها أنَّها كانت تعجّ بآلاف من طُلاب العِلم في مدرسة واحدة وتموج بالْعُلَمَاءِ. كان تجهيز المكتبات الأنيقة المُدهشة إلى جانب المطابخ والمستشفيات والشَّوارع الواسعة المضاءة والحمامات العامَّة من أهم سمات الْمَدَاَرِس الكبرى التي شيَّدها المسلمون كما أنَّ المورد المالي النَّاتج من ريع الأوقاف الإسلاميَّة المُخصَّص لها من أرض زراعية وعقارية وأسواق هو الذي كان يدعم احتياجات المدرسة بالإضافة إلى أموال التَّبرعات والهِبات والهدايا والوصايا. كانت الأوقاف الرُّكن الرَّكين في توفير التَّعْلِيْم المجاني. كان الهدف من بناء هذه الْمَدَاَرِس  –كما قلنا- نشر الْعِلْم الشَّرعي، ومحاربة البدع، والتَّقرب إلى الله سُبْحَانَهُ، وتعلُّم العلوم الدُّنيويَّة، وحثِّ النَّاس على فضائل الأعمال. ولأنَّ العلوم الشَّرعيَّة فيها الخير كلّه ومن شأنها إصلاح أمر المعاش والمعاد فإنَّ الهدف الرَّئيس كان تعليم العلوم التي تدل عليه وفي الحديث النَّبوي الشَّريف نجد: "مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة ببغداد مدرسة عامة لعبت دوراً كبيراً في تحقيق الأهداف التَّربوية المرجوة من تشييد مؤسسات التَّعْلِيْم في الحضارة الإسلامية ووصِفت بأنَّها من الْمَدَاَرِس الكِباَر (ابن العماد، ج 9، 26). افتتح الخليفة العباسي أبو جعفر المستنصر بالله المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة بعد أن اكتمل البِناء في عام 631 هـ = 1234م. من أهداف بِناء تلك المدرسة أن تكون نموذجاً طيِّباً للمذاهب الفقهية الأربعة كي يدرسوا معاً في صرح عِلْمي واحد وكانت تحتوي على إيوان ومساكن وقاعات طعام وسكن داخلي مَجاني (خضر، 1996، ص 139). لم تكن مدارس الأمس كالمُسْتَنْصِرِيَّة مثل بعض مدارس اليوم خاملة فلم تكن الحركة تتوقف فيها إلا لِساعات محدودة إذ يغدو النَّاس إليها بُكْرَةً وَأَصِيلاً لسَماع  أو لقراءة الكُتب أو على الأقل للصَّلاة في المسجد التَّابع للمدرسة فَيُصَلُّون الفجر والعِشاء وسائر الصَّلوات فيها.

يقول العلامَّة ابن كثير عن المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة "ولم يُبْن مدرسة قبلها مثلها ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها وأربعة مُعيدين ومُدرِّس لكل مذهب وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين وشيخ طب وعشرة من المسلمين يشتغلون بعِلْمِ الطِّب ومكتب للأيتام وقدر للجميع من الخبز واللَّحم والحلوى والنَّفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدُّروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصُّوفية والشُّعراء ولم يتخلَّف أحد من هؤلاء وعمل سماط[50] عظيم بها أكَل منه الحاضرون وحُمِل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها وعلى الفقهاء والمعيدين وكان يوماً مشهوداً وأنشدت الشُّعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة ...ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب مُحَمَّد بن العلقمي"(باختصار). وممن عمل كخازن في المُسْتَنْصِرِيَّة ابن الساعي (ت 674 هـ = 1275 م) وكان عالماً ألَّف الكثير من الكتب (ابن العماد، ج 7، ص 600). مما يدل على أنَّ وظيفة أمين المكتبة لا يشغلها إلا من لهم الحظ الأوفر من الْعِلْمِ والفَهمِ.

لقد كانت العِناية بالْمَدَاَرِس مَدخلاً لخدمة الدِّين، ومساعدة المسلمين، وكسب حب الْعُلَمَاء وتأمَّل ما دَوَّنه ابن كثير في ترجمته للمستنصر الذي أسَّس المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة التي ظلت لعشرات السِّنين مظلة آمنة للعُلَمَاء والمتعلِّمين "ثمَّ دَخَلَتْ سنةُ أربعين وستمائة. فيها تُوفي الخليفة المستنصر بالله .. وكان جميل الصُّورة حسن السَّريرة جيد السِّيرة كثير الصَّدقات والبِّر والصِّلات مُحسناً إلى الرَّعية بكل ما يقدر وكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء لا سيَّما في شهر رمضان ..تقبل الله تعالى منه وجزاه خيراً وقد وضع ببغداد المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة للمذاهب الأربعة وجعل فيها دار حديث وحماماً ودار طب وجعل لمستحقيها من الجوامك[51] والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته ووقف عليها أوقافاً عظيمة حتى قيل إنَّ ثمن التِّبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها ووقف فيها كتباً نَفِيسة ليس في الدُّنيا لها نظير فكانت هذه المدرسة جمالاً لبغداد وسائر البلاد" (باختصار).

كيف كانت طَرائق التَّدريس في المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة وعند الأوائل؟ كان الأستاذ يحضر إلى حلقته مُرتدياً زيَّاً خاصاً بالْعُلَمَاءِ ثم يجلس فَيُمْلِي محاضرته على الطُّلاب ويتمهل كي يستطيعوا الكتابة وهي طريقة مشهورة تُعرف بالإملاء ومنها كلمة الأمالي أي مجموعة محاضرات أملاها الأستاذ. "ولما أصبحت مهنة الإملاء صعبة بالنسبة للأستاذ خاصة المسنين من المعلمين، وضع له معيد أو أكثر يعاونه في ذلك، فقد وصف ابن بطوطة في سنة 728 هـ = 1327م محاضرة شهدها بنفسه في زيارته المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة في بغداد فقال: "جلس الأستاذ مرتدياً ملابسه السُّود، وجلس عن يمينه معيد وآخر عن يساره، يُملي محاضرته على تلاميذه ويُعيد من بعده المُعيد مرة هذا ومرة ذاك" (انظر شربل، 1991 م، ص 291).

يَقوم المُعَلِّمُ في الدَّرس الواحد بشرح ورقتين فيها مسائل عِلْمِيَّة وربما يكون المُعَلِّم قد حفظ تلك الأوراق فيورد الدَّرس في غاية الجَزَالة ثم يُفْتَح باب النِّقاش والأسئلة. وكان العالمُ يُلقي في اليوم عِدَّة دُروس (ابن العماد، ج7، ص 689). ولكل طالب "تعليقة" يُدوِّن فيها ما ذكره الأستاذ بالمعنى أو النَّص. ومن هذا نعلم أنَّ الأوائل كانوا يدخلون قاعة الفصل ومعهم أوراقهم والتي نُسميها في مدارسنا "دفتر تحضير الدُّروس" ولم يكن بعض المُعَلِّمين يكتفون بإعداد دروسهم مُسبقاً بل إِنَّ الواحد منهم قد يحفظ أساسيات موضوع الدَّرس ويحرص على حسن الإلقاء المُنظَّم رغم كونه عالماً بارعاً في تخصُّصِهِ.

من أشهر من درَّس في المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة الْعَالِمُ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ شِهَابُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مُحَمَّد بْنُ عَسْكَرَ المالِكِيُّ الْبَغْدَادِيُّ (ت 732 هـ = 1331 م)، الذي عُرِف بسعة فقهه وجزالة رأيه، وحَصافة فِكره كما كان سالكاً طريق الزُّهد والصَّلاح والعِبادة. تخرَّج على يديه عدد من القضاة وانتفع منه جمع كبير من الْعُلَمَاء وطُلاب الْعِلْم خاصة ممن درسوا كتابه الفقهي القيم إرْشَادُ السَّالِك.

في مقدمة كتابه يبين المؤلف عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مُحَمَّد سبب تأليفه لذلك الكِتاب ونطاق البحث فيه. سبب تأليف الكتاب تربوي بحت إذ أراد به تبصير ولده الذي كان أحد طلاّبه بما يحتاج إليه من فِقه ديني بعد أن بلغ سن الرُّشد ونطاق البحث هو الفقه المالكي. يقول عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مُحَمَّد في مقدمته "فَإِنَّ الْوَلَدَ السَّعِيدَ وَفَّقَهُ اللّهُ تَعَالى لَمَّا رَاهَقَ سِنَّ الرَّشَادِ، وَنَاهَزَ أَنْ يَنْتَظِمَ فِي سِلْكِ أَهْلِ السَّدَادِ، سَأَلَنِي أَنْ أَضَعَ لَهُ كِتَاباً يَكُونُ مَعَ كَثْرَةِ مَعَانِيهِ، وَجِيزَ اللَّفْظِ، سَهْلَ التَّنَاوُلِ وَالْحِفْظِ، فَاسْتَخَرْتُ اللّهَ تَعَالى، وَجَمَعْتُ لَهُ هذَا الْمُخْتَصَرَ، وَأَوْدَعْتُهُ جَزِيلاً مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالدُّرَرِ". هكذا توالت بركة المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة بفضل نتاج الْعُلَمَاء ومازالت كتبهم التي درَّسوها في المُسْتَنْصِرِيَّة تملأ طباق الدُّنيا وتَفيض عِلْماً. وتَأمَّل في عنوان الكتاب لتعرف مدى الفِقه التَّربوي الذي يدلّ على وعي خلاّق بمهمة المُعَلِّم في الإرشاد.

درّس ابن العاقُولي (ت 728 هـ = 1327 م) في المدرسة المُستنصرية لفترة طويلة، نحو أربعين سنة، وعيِّن في القضاء وتولى نظر الأوقاف وأفتى لمدَّة 71 سنة وسعى في التَّفريج عن كرب النَّاس وكانت له وجاهة في الدَّولة، ولم تكن حياته فقط موضع الإعجاب بل حتى في حال وفاته فلقد كان يحمل هَمَّ التَّدريس والتَّعليم فتُوفي ببغداد ووقف داره "على شيخ وعشرة صِبيان يقرؤون القرآن، ووقف عليها أملاكه كلّها" وقال عنه المؤرِّخون "لم يكن يومئذ من يماثله ولا يضاهيه في علومه وعلو مرتبته" (ابن العماد، ج 8، 152). فأكرم وأَنْعِم بمدرسة مثل هذا الرَّجل يُعلّم فيها 40 سنة. في أمثال هذا المُعَلِّمِ قال أمير الشُّعراء:

قمْ للمعلـــــمِ وفِّهِ التبجيلا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الـذي


 

كاد المعلمُ أن يكونَ رسولا
يبني وينشئ أنفساً وعقولا


وكان في مكتبة المُسْتَنْصِرِيَّة آلاف الكتب في شتى العلوم "رتِّبت بحيث يَسهل على كل الطُّلاب الإطِّلاع على ما يريدون، وزُوِّدت بالحبر والورق لمنفعة القراء والنَّاسخين، وبداخل المدرسة حمَّام ومستشفي جعل له طبيب خاص يعود المرضى من الطلاب كل يوم" (عبدالدائم، 1997 م، ص 154). وفي خاتمة الحديث عن المدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة، نستطيع أن  نُدرك الحفاوة البالغة بالْعِلْمِ لدى المسلمين فلقد قام عِزُّهم على أركان الْعِلْمِ النَّافع وعلى تكريم العالِم والمتعلِّم وتشجيع نشاط مُؤسسات التَّعْلِيْم وهذا هو أساس مجد الشُّعوب.

الخَوَانِق والزَّوايا والربط

وسائط التَّربية كثيرة وأهمّها الأسرة المعقل الحصين الأمين ثمَّ تأتي المدرسة والمسجد والجامع والأصدقاء ومن ضمن وسائط التَّربية السَّائدة في العصور القديمة مؤسَّسات دينيَّة تُسمَّى الخَوَانِق وأحياناً تُلفظ الْخَوَانِك وَمُفردُها خانقاه أو خانكاه. الخَانِقَاه جهة من الجهات الدِّينية الوقفيَّة العامَّة، وهي مكان للعبادة وأحياناً لرعاية المُحتاجين تُبنى بدون منابر، وفيها خزائن للكتب، ويسكن طلابُ الْعِلْم في غرفها الملاصقة لها وقد تُلحق بها مخازن كي يضعوا فيها حاجياتهم وشيخ الخَانِقَاه هو المُعَلِّم المُرشد.

سكن كثير من الْعُلَمَاء الكبار هذه الخوانق وتسلَّموا منصب الإشراف عليها. الذين يعيشون في الخوانق من الفقراء قد يسمونهم "صُوفِيَّةُ الأرْزَاقِ" والسَّبب كما يقول ابن تيمية أنَّه "وُقِفَتْ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفُ" (مجموع الفتاوى، ج 11، ص 6) أي تُصرف عليهم أموال الوقف لأنهم من المستحقين لها.

شهدت المدن الإسلامية نشاطاً ملحوظاً لطلاب الْعِلْم حيث انتشرت الرحلات العلمية بقصد مقابلة الْعُلَمَاء والأخذ المباشر عنهم مما استلزم استحداث مراكز تعليمية عُرفت بأسماء مُختلفة مثل الزَّوايا والرِّبَط والأَروِقة والخَوَانِق والتَّكَايَا، والخَلاوي ويقولون لِلسَّكّنِ الصَّغير دُوَيْرَة وهي كلها إلى حدٍ كبير تشترك وتتشابه في وظائفها الدِّينيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والثَّقَافيَّة رغم وجود الفوارق بينها. القاسم المشترك بينهم أنها جهات دينيَّة تهتم بشعيرة الإرشاد والتَّوجيه والوعظ والحث على أداء الصَّلوات المفروضة في جماعة والاعتناء بالذِّكر ولزوم الرِّفقة الآمنة. هذه البيوت تُعرَّف أيضاً بأنها بيوت الصّوفية لأنَّها تاريخياً ارتبطت بالصُّوفيين وفِكْرِهِم في تهذيب النَّفس.

الخَوَانِق كما قلنا مفردها خانقاه ويقال لها خانكاه وهي كلمة فارسيَّة الأصل ومعناها البيت والمكان وهي نفس الزَّوايا إلا أن الزَّوايا عادة أصغر وتكون في كثير من الأحيان داخل المساجد أو الجوامع. يذهب السُّبكي في كتابه مُعيد النِّعَم ومُبِيد النِّقَم إلى أنَّ غالب الزَّوايا في البراري فتكون كمحطة استراحة للمسافرين.

كُتَّاب الْتَّارِيْخ وسِير الأعلام قد يشيرون في تراجمهم إلى أنَّ العالِم الفلاني نزل خانقاه سعيد السُّعداء في القاهرة مثلاً وأنَّه انتهى من تأليف كتابه كذا بتاريخ كذا في خانقاه كذا، وكَتَبَ الْعِلْمَ مقيماً بالخَانِقَاه الفلانيَّة كما نجد الذَّهبي في كتابه سير أعلام النُّبلاء وهو يتحدَّث عن السِّلَفِي أو الشّهاب الطّوسي (ج5 ص 16، 387). ومن هنا نعلم أنَّ الخَوَانِق احتضنت الْعُلَمَاء والمتعبِّدين لفترات قصيرة أو طويلة من حياتهم ففيها يجد العالم مَقرَّاً يطلب فيه الْعِلْمَ أو يَكتب أبحاثه ويَلتقي ببعض الْعُلَمَاء أو العُبَّاد.

كتب عبد الله جمال الدِّين عن الزَّاوية - وهي تشبه الخانقاه - وبَيَّن أنَّه "يُقصد بها المسجد غير الجامع وجمعها زوايا أما في الاصطلاح فإنها محل تثقيف العقول دينياً وأدبياً، وتكون مُسمَّاة باسم أحد المرابطين على اصطلاح المغاربة. وهى عبارة عن فناء واسع تحيط به مرافق، وهى مسكن الشيخ ومسجد ومكان للضيافة وحجرات لسكن الطلاب ومحل لإيواء اللاجئين إلى الزَّاوية... وتدور هذه المرافق حول الفناء الذي كان محط رحال القوافل، وبه بئر للسُّقيا ومخزن للمتاع...ولكل زاوية شيخ يقيم الصَّلاة، ويعلِّم الأولاد ،ويباشر عقود النِّكاح، والصَّلاة على الجنائز. وانتشرت الزَّوايا في برقة وطرابلس وظهر أثرها واضحاً حيث زحف الإسلام بواسطة هذه الزَّوايا نحو الجنوب حتى بحيرة تشاد ووسط إفريقيا. وفي الجزائر يدفع التِّلميذ شيئاً من المال لإتمام الدِّراسة وإذا كان أهله أُولى ثروة فيقدِّمون هدايا كثيرة مساعدة للزَّاوية، وكثيرا ما يبذل الزُّوَّار الأغنياء الأموال الجزيلة، وبذلك قد صار لها ريع كثير من الأوقاف. البعض يُسميها خلوة وكان ينشئها البعض من أهل اليسار في السُّودان، ويؤجر فقيها يُقرِّر له راتبا معينا ويطلب منه هذه المهمة الجليلة، وفي بعض الأحايين كان ينشئها البعض من حفظة القرآن الكريم أو يشترك في إنشائها أهل البلدة جميعاً" (بِتَصرّف).

الربط جمع رِباط وهو مكان يتواجد فيه المسلم ليدافع عن المسلمين وراية الإسلام في الثُّغور ثمّ تطور هذا المفهوم ليشمل مؤسَّسات التَّعليم. قال سُبْحَانَهُ في نهاية سورة آل عمران "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)". وفي سورة الأنفال "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ..(60)". فالمُرابط عموماً هو المجاهد كما أن كلمة المرابط قد تُستخدم وتطلق على الذي لا يُفارق المساجد وهكذا ارتبطت الكلمة بمن يُلازم المسجد للتعبد ولطلب الْعِلْم وفي الحديث عَنْ أَبِـي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجَاتِ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصّلاَةِ بَعْدَ الصّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» (الترمذي باب الطهارة).

المُرابط في تراثنا التّربوي هو المعلم الذي يستقرّ في مكان مخصوص ويتوارد الطُّلاب عليه بصفة دائمة بغرض الدِّراسة والمناقشة لفن من الفنون أو لعدّة فنون حسب تخصُّص المعلم. لا يأخُذُ المرابط من طلابه شيئاً من المال في الغالب، "وإن كان ذا يسار ساعد المحتاجين من طلابه، وقد يساعد أهلُ ذاك المكان الغرباءَ من الطُّلاب. قد يكون المرابط مختصّاً بفنٍ واحد، وقد يدرَّس عدّة فنون فيقسِّم الطُّلاب إلى عدَّة مجموعات" (الزَّهراني، 1997 م، ص 121 بتصرُّف).    

إنَّ التَّجديد والإبداع الحَسن الذي ينفع النَّاس محمود إن أريد بذلك وجه الله سُبْحَانَهُ وإن لم يُعهد عينه في العهد النَّبوي كبناء الْمَدَاَرِس والربط والزَّوايا والتكايا والخلاوي وعقد مجالس المناظرة. لقد كان العصر النّبوي لا يعرف مثل هذه المُؤَسَّسَات لبساطة وحداثة الحياة المدنيّة آنذاك. وبناء الخوانق كمؤسسات تعليم أمر محمود وقد يكون واجباً إذا اقتضى الأمر. استخدام الخوانق كأماكن للعبادة لوجود أضرحة الصَّالحين فيها من السَّلبيات التي حذّر عُلَمَاء الشَّريعة منها وسنتعرض لِنقد الخوانق في فصل "المُشُكِلات" وهو الفصل الرَّابِع.

كان النُّبلاء والأمراء من المُحْسِنين يتسابقون في بناء الخَوَانِق وأهل التَّاريخ يحرصون على توثيق هذا الأمر لأنَّه من المناقب الْهَامَّة فيذكرون تاريخ بناء الخوانق المشهورة وأسماء المُؤسسين. يقول ابن كثير في كتابه البداية والنِّهاية عن نجم الدِّين أيوب وقد كان "كثير الصَّلاة والصَّدقة والصَّيام كريم النَّفس جواداً ممدَّحاً وله خانقاه بالدِّيار المصريَّة ومسجد وله بدمشق خانقاه أيضا تعرف بالنَّجميَّة" (باختصار). وهذا النَّص يدل على أنَّ الخَوَانِق المشهورة كانت مُزدهرة في كل من الدِّيار المصرية وبلاد الشَّام.

كانت هناك عناية فائقة بدور الْعِلْم في بلاد الشَّام وذلك من خلال إنشاء الْمَدَاَرِس والزَّوايا والأروقة والأربطة على أهل الْعِلْم الذين كانوا يؤمون المسجد الأقصى للعبادة والتَّبرك والزِّيارة أو للتَّأليف والتَّدريس (العويسي، 1997 م، ص22). الغزالي مثلاً زار بيت المقدس واستقر هناك لفترة من الزَّمن ودخل الخَانِقَاه السميساطيَّة، وألَّف أشهر كتبه: إحياء علوم الدِّين، وكان في وقته في بيت المقدس مئات من العلماء لهم شغف بتعمير وإدارة دُور الْعِلْم.

يُحدِّثُنا ابن كثير عن ابن الخباز فيقول أنَّه سمع الحديث وكان يَعظ النَّاس على طريق التَّصوف وقد ابتنى رباطاً وكان عنده فيه جماعة من المتعبِّدين والزُّهاد ولما احتضر أوصاهم بتقوى الله عز وجل والإخلاص لله جلَّ وعلا. وهذا يدل على أنَّ بناء الربط والزَّوايا كان من عادة بعض الْعُلَمَاء كابن الخباز والغزالي والأبناسي (ت 801 هـ = 1398 م) وأنَّ تشييد الأربطة لم يقتصر على فئة المحسنين والمحسنات. ومن عادة بعضهم في ذلك الزمان أن يَكتب الواقف لوحة من الآجر تتضمَّن اسم الواقف الذي تبرَّع بالوقف والْتَّارِيْخ وغرض الوقف كأن يشترط الواقف أن يكون الرّباط قاصراً على النِّساء فقط. ومن الصِّيغ المباشرة الصَّريحة في إنشاء الوقف أن يقول الواقف "سبَّلتُ"، "وقفتُ"، "حَبَسْتُ" كذا فيُحدِّد المقدار ثم الجهة المُنتفعة من الوقف الخيري. قال تعالى "إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {271}" (سُوْرَةُ البقرة).

وَجَدَ بعض العُبَّاد والزُّهاد في هذه الخَوَانِق ضالتهم فلاذوا بها واعتنوا بها ولحق بهم من سَلك سبيل التَّوبة وأراد الصُّحبة الصَّالحة. لقد أصبحت كلمة الخَوَانِق والرِبط والتَّكَايَا جزءاً من الثَّقَافَة الشَّعبِيَّة لأفراد المجتمع المسلم قديماً حتى أنَّ النَّابلسي يُفسِّر رُؤية الخَوَانِق في المنام فيقول في كتابه تعطير الأنام في تفسير الأحلام: "(خانقاه) رؤيتها في المنام دليل على الأسفار والزُّهد والورع وتلاوة القرآن وإبطال الكسب والخروج عن الأزواج والأولاد وتدل الخَانِقَاه على توبة العاصي واهتداء الكافر وعلى تفريج الهموم والأنكاد وربما دلَّت على مرض الخناق".

يذهب المقريزي إلى أنَّ الخَوَانِق ظهرت في بلاد المسلمين في حدود الأربعمائة من الهجرة. يؤمن بعض الباحثين أنَّ الخَوَانِق قد تكون ظهرت على يد الصوفيين في إيران -قبل تلك الفترة- لتدعم دور المُؤَسَّسَات الدِّينية مثل الْمَدَاَرِس والمساجد. ويرى البعض أنَّ الخَوَانِق كانت معروفة في بعض الحضارات قبل الحضارة الإسلاميَّة خاصة عند البوذيين والمانويين في بلاد فارس.

أشار شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في الفتاوى بإيجاز إِلى أنَّه في زمن نظام الملك تمَّ التَّوسع في بعض الْمَدَاَرِس وتمَّ تشييد الرِّبط والخَوَانِق التي كانت لأهل التَّعبد والمساكين (ج 35 , ص41). قال ابن تيمية في فتاويه "وَأُحْدِثَتْ " الْمَدَارِسُ " لأهْلِ الْعِلْمِ. وَأُحْدِثَتْ "الرّبُطُ وَالْخَوَانِقُ" لأهْلِ التَّعَبُّدِ. وَأَظُنُّ مَبْدَأَ انْتِشَارِ ذَلِكَ فِي "دَوْلَةِ السَّلاجِقَةِ". فَأَوَّلُ مَا بُنِيَتْ الْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ لِلْمَسَاكِينِ وَوُقِفَتْ عَلَيْهَا وُقُوفٌ تَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا فِي وِزَارَةِ " نِظَامِ الْمَلِكِ ". وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الْمَدَارِسِ وَذِكْرُ الرُّبُطِ، لَكِنْ مَا أَظُنُّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لأهْلِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسَاكِنَ مُخْتَصَّةً وَقَدْ ذَكَرَ الإمَامُ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَاحِدِيِّ فِي "أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ" أَنَّ أَوَّلَ دويرة بُنِيَتْ لَهُمْ فِي الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا "الْمَدَارِسُ" فَقَدْ رَأَيْت لَهَا ذِكْرًا قَبْلَ دَوْلَةِ السَّلاجِقَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَدَوْلَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ" (مجموع الفتاوى، ج 35، ص 41).

تحدَّث السَّهروردي في كتابه عوارف المعارف عن فضيلة سكان الرِّباط، وخصائص أهل الرّبط وأخلاقهم. والمتتبِّع لنُظم وأماكن التَّعْلِيْم في الْتَّارِيْخ الإسلامي يجد أنَّ الزَّوايا العِلْمِيَّة في المساجد والرّباطات والخَوَانِق لعبت دوراً واضحاً في حياة المسلمين الأخلاقية والعَمَلِيَّة إذ أنَّ المجاور وهو الطَّالب يحصل على احتياجاته الحياتية والرُّوحيّة والتَخَصُّصِيَّة الْعِلْميَّة في تلك الْمَدَاَرِس المتنوعة. يرى ابن خلدون أنَّ الزَّوايا والرِّبط من أهم أسباب ازدهار التَّعْلِيْم إذ يقول عن الأتراك "فاستكثروا من بناء الْمَدَاَرِس والزَّوايا والرِّبط ووقفوا عليها الأوقاف المغلَّة يجعلون فيها شرْكاً لولدهم ينَظَّر عليها أو يصيب منها، مع ما فيهم غالباً إِلى الجنوح إِلى الخير والتماس الأُجور في المقاصد والأفعال فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلات والفوائد وكثر طالب الْعِلْم ومعلمه بكثرة جرايتهم[52] منها. وارتحل إليها النّاسُ في طلب الْعِلْمِ من العراق إِلى المغرب، ونفقت[53] بها أسواق العلوم وزخرت بحارها والله يخلق ما يشاء (مقدمة ابن خلدون، ص 400). وهنا نجد بوضوح أنَّ ابن خلدون يربط النَّاحية الاقتصاديَّة والعمرانيَّة بالنَّاحية التَّعْلِيْمِيَّة. 

 

وظَائِف الخَوَانِق

تتركَّز وظائف الخَوَانِق والرِّبط والزَّوايا والتَّكَايَا في تنشيط عَمَلِيَّة التربية والتَّعْلِيْم والدَّعم الإيماني والتَّكافل الاجتماعي. كانت الخَوَانِق مكاناً لتهذيب الفرد حيث يلجأ الصُّوفي عادة إليها كي يُرقي نفسه ويكسر رعونتها. يقول السُّبكي:"حقٌّ على شيخ الخَانِقَاه تربية المريد، وحمل الأذى والضِّيم على نفسه، واعتبار قلوب جماعته قوالبهم، والكلام مع كل منهم بحسب ما يقبله عقله، وتحمله قواه، ويصل إليه ذهنه، والكف عن ذكر ألفاظ ليس سامعها من أهلها..بل يأخذ المريد بالصَّلاة والتِّلاوة والذِّكر، ويُربيه على التَّدريج" (مُعيد النِّعم ومُبيد النِّقم، ص  96-97). وهكذا يُلازم المُريد شيخه ليزكِّي نفسه ويهذِّب خُلقه.

يُسجِّل الْتَّارِيْخ أنَّ في مثل تلك المُؤَسَّسَات وغيرها يتحلَّق النَّاس من الطَّلبة، والأئمَّة، وأولاد الصُّدور، حول الشُّيوخ وخاصة الشَّيخ المعروف بِحُسْنِ أدائه، البليغ في وعظه، المليح في استعاراته، والدَّقيق في إشارته، والرَّقيق في ألفاظه، وصاحب الطَّريقة الحسنة في تربية المريدين فتكون جلسة الوعظ "روضة ذات أزهار" (ابن العماد، ج5، ص 333). ومن الجدير بالذِّكر أنَّ الشَّيخ قد يكون أُمِّياً أحياناً (ابن العماد، ج 5، ص 404) فلا يعرف الكتابة ولكنه يملك حِفظاً قوياً وروايات صحيحة فيُسمح له بعقد المجالس وتدريس الطُّلاب في مجال تفوُّقه.

إضافة إلى ذلك كانت الخَوَانِق معاهد دينية لنشر الْعِلْم إذ يَدرس المريد أحكام الفقه في مذهب من المذاهب بشكل مُنتظِم. ساهمت الخَوَانِق في نشر المعرفة الدِّينيَّة بشكل مَنهجي حيث يتفرَّغ البعض للدِّراسة الجادة وفق كتاب معين وشيخ معروف ومكان محَدَّدَ ومدَّة معلومة. ومما ساهم في ارتياد هذه الأماكن أنَّ طلاب الْعِلْم يقصدونها لقراءة الكتب المتوفرة في مكتباتها المُلحقة بها وغالبها أوقاف يوقفها الْعُلَمَاء. كان من هَدْي كثير منهم أن يوصوا بتسليم مكتباتهم الخاصة لرِباط معين كي يستفيد منها النَّاس كما كانت الكتب تباع بأسعار ثمينة ومن أسباب ذلك إقبال النَّاس على القراءة وحرص البعض على شراء ونسخ بعض الكتب وتسليمها لمكتبة الخَوَانِق كعمل خيري ثقافي ينالون أجره إن شاء الله عزَّ وَجَلَّ كصدقة جارية. لذلك كانت مكتبات الخوانق عامرة بالكتب النَّفيسة وأمين المكتبة الذي يسمونه "الخازن" قد يكون من كبار الْعُلَمَاء فخانقاه السميساطيَّة بدمشق كان خازنها على بن مُحَمَّد (ت 741 هـ = 1340 م) العالم الصُّوفي الصَّالح الذي ألَّف العديد من الكتب الْنَّافِعَة وأشهرها "تفسير القرآن العظيم" الذي نُشر تحت اسم "تفسير الخازن" (ابن العماد، ج 8، ص 229).

لم تكن جميع الدُّروس تَخَصُّصِيَّة بل كانت بعضها تصلح لعامة النَّاس وخاصة دروس "قارئ الكرسي" الذي يجلس على كرسي معين ويلتف النَّاس في الخَانِقَاه من حوله فيقرأ من كتابٍ بعض الموضوعات في الزُّهد والرَّقائق أو شيء من التَّفسير والحديث وربما يتكلم من حِفظه. ومن الكُتب التي كان النَّاس يحرصون على سماعها لمدة قرون كتاب رياض الصَّالحين وكتاب الأذكار للإمام النَّووي وكتاب سيرة ابن هشام وكُتب ابن الجوزي والغزالي.

الخَوَانِق مكان ينقطع فيه عادة أهل التَّصوف للعبادة والتَّربية وتُقام فيه الصَّلوات جماعة عدا صلاة الجمعة. ومن النَّاحية الدِّينية فإنِّ الإسلام لا يشجع المغالاة في العزلة والخلوة فلا رهبانية في الإسلام وصاحب الحِرفة أفضل من صاحب العِبادة إذا كانت نافلة لأنَّ الأول نفعه قاصر على نفسه والثَّاني نفعه متعدٍّ إلى غيره وخير النَّهج نهج مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.

كانت الخَوَانِق تمثِّل مركزاً للتَّكافل الاجتماعي حيث الأرامل والمُسِنَّات وغيرهن يجدنَّ فيها ملاذا لهنَّ عندما لا يجدنَّ العائل مع نوائب الدَّهر وهي مكان للاجتماع بالنَّاس والتَّحدث مع الآخرين والتَّرويح عن النَّفس. ويذكر ابن الجوزي أنَّ الرِّبط كانت أيضاً محلاً للعزاء في حال وفاة أحد الْعُلَمَاء وهو الأمر الذي كان يراه من سلبيات الرِّبط.

في مذكرات السَّلطان عبدالحميد نجد أنَّه حسب الأعراف الْسِّيَاسِيَّة في الخلافة العثمانية فإنَّ السُّلطان يتعرَّف على أحوال وشكاوي الرَّعيَّة من عدِّة طرق من أهمها المُؤَسَّسَات الدِّينيَّة "التَّكَايَا" التي كانت منتشرة في ربوع الخلافة. من خلال الشَّيوخ والدَّراويش -كما يَقولُ- يجمع المعلومات اللاَّزمة "ويُدير بناء الدَّولة عليها" (عبدالمجيد، 1978 م، ص 74).

على أنَّ أعظم دور تاريخي للخوانق النَّشطة أنها كانت عريناً للمجاهدين أثناء الاحتلال الغربي النَّصراني إذ كانت كثير من الرّبط والتَّكَايَا والخَوَانِق تبثّ معاني الجهاد وتشحذ الهمم في المسلمين.

من الملاحظات التي يمكن تتبعها تاريخيّاً أنَّ صفوة من الْعُلَمَاء أتيحت لهم فرصة استلام مشيخة الرّبط والزَّوايا والخوانق مثل أحمد البكري (ت 718 هـ = 1318م) والزَّركشي (ت 794 هـ = 1391 م). "شيخ الشّيوخ" مصطلح يطلق على رئيس خوانق الصُّوفية جميعاً. كثير من المُعَلِّمين في الْمَدَاَرِس كانوا يُشرفون على هذه الأربطة والخوانق فأبو المعالي عماد الدِّين عبدالرحمن بن مُقْبل القاضي (ت 639 هـ = 1241 م) كان يُدَرِّس بالمدرسة المُسْتَنْصِرِيَّة ثم استقر في رِباطٍ وتولّى الإشراف عليه (ابن العماد، ج7، ص 353).كانت هذه الوظيفة الإدارية لها قيمة سياسية رفيعة تفوق في أهميتها قيمة قاضي القضاة في العهد المملوكي. ومن الوظائف الإدارية الوثيقة الصِّلة بالنِّظام التَّعليمي واقتصاديَّاته وظيفة "ناظر الأحباس" وهي تُطلق على مَن يدير "ديوان أوقاف الجوامع والمساجد والزَّوايا والتَّكايا والْمَدَاَرِس من الأراضي المفردة لها وما هو من ذلك القبيل على سبيل البر والصَّدقة" (حلاق وصباغ، 1999، ص 133، 218).

ينظر الشَّيخ في الخَانِقَاه إلى حاجة كل مريد فيرشده تدريجياً إلى تهذيب نفسه حسب عمره وحاجته وقدرته وفي ذلك يقول الغزالي في الإحياء "فكذلك الشَّيخ المتبوع الذي يطبِّب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرِّياضة والتَّكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أنَّ الطَّبِيْب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشَّيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرِّياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنِّه ومزاجه وما تحتمله بُنيته من الرِّياضة ويبني على ذلك رياضته. فإنَّ كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشَّرع فيعلِّمه أولاً الطَّهارة والصَّلاة وظواهر العبادات وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظَّاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه... ومن لطائف الرِّياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرّعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه... "(ص 1020 باختصار).

كان المسلمون كثيراً ما يلحقون بالخَوَانِق والرِبَطِ والزوايا والتَّكَايَا، كتاتيب لتعليم الصِّبيان القرآن الكريم، والقراءة والكتابة وتجويد الخط وكل أمرٍ مهم من أمور الدِّين إلى جانب أنَّهم كانوا يلحقون بهذه الخَوَانِق خزائن الكتب (خضر، 1996، ص 143).

وفي بعض الخَوَانِق الكبيرة المتميِّزة خدمات كماليِّة فيتم توفير حاجات الطُّلاَب الْهَامَّة داخل الخَانِقَاه من المأكل والملبس والأشربة والأدوية إلى جانب الحاجات التَّحسينيَّة فلقد "كان يوجد فيها من يقوم بحلق رؤوس الطُّلاَب وتدليك أجسامهم حتى يمكنهم التَّفرغ للدَّرس والعبادة داخل الخَانِقَاه حتى لا يكونوا في حاجة للاتِّصال بالعالم الخارجي" (عبدالدائم، 1997 م، ص 161). ولقد كانت بعض الأربطة لها أنشطة عِلْمِيَّة تفوق الأنشطة الموجودة في الْمَدَاَرِس (ابن العماد، ج7، ص 72).

من النَّاحية الإدارية فإنَّ شيخ الخَانِقَاه هو الذي يحلّ المشاكل حال وقوعها داخل الخَانِقَاه ويبعث نقيباً لإحضار الاحتياجات الغذائية وغيرها من السُّوق أو من المُحسنين. انطلاقاً من قاعدة: "سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ"[54] فإنَّ الشَّيخ من شأنه أن يخدم عميان الزَّاوية من أيتام وعجائز وعميان ويقودهم إلى مواضع حاجاتهم وبعض الشُّيوخ كان أحدهم يقوم حتى بغسل ثياب الضُّعفاء رجاء الأجر وكما نقل الشَّعراني (ت 973 هـ = 1465 م) عن شيخه "من أراد أن تنزل الرَّحمة عليه فليخدم العميان والأيتام" (1988، ج 2، ص 149). وهكذا كانت الخوانق مكاناً لمن لا عائل لهم، يجدون فيه الرِّعاية والرَّحمة والمحبة والعِلْم. 

 

بعض الضَوابِط الشَّرْعِيَّة للخَوَانِق

لقد حَدَّدَ الْعُلَمَاء جملة من الضَّوابط الشَّرعية لحماية الخَوَانِق من الخلل الأخلاقي منها أنَّ النَّازل فيها عليه أن يلتزم بآداب الشَّريعة وأن يتم إبعاد المفسدين من هذه المرافق الْعِلْميَّة. قال ابن تيميَّة في فتاويه "فَإِنَّ الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةَ مِثْلَ الخوانك وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا لا يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا فَاسِقٌ سَوَاءٌ كَانَ فِسْقُهُ بِظُلْمِهِ لِلْخَلْقِ وَتَعَدِّيه عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. أَوْ فِسْقِهِ بِتَعَدِّيهِ حُقُوقَ اللَّهِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. فَإِنَّ كُلاً مِنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَيْهِ وَعُقُوبَتُهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَرِّرَ فِي الْجِهَاتِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَكَيْفَ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وُجُوبُهُ مُؤَكَّدًا. وَمَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِ الاسْتِحْقَاقِ تَنْزِيلاً شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ لأَجْلِ هَذَا الظُّلْمِ وَلا لِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الظَّالِمَ بِالْعَادِلِ وَالْفَاجِرَ بِالْبَرِّ. وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ سَوَاءٌ عَلِمَ شَرْطَ الْوَاقِفِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ" (ج 35، ص 20). وذَكر ابن تيميَّة آداب النَّازلين في الخَوَانِق وأنه يجب أن تتوفر فيهم ثلاثة شروط وهي:

1- العدالة الشَّرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم.

2- التأدب بآداب أهل الطريق وهى الآداب الشرعية في غالب الأوقات.

3- أن لا يكون أحدهم مُتَمَسِّكاً بفضول الدُّنيا فأما من كان جَمَّاعاً للمال أو كان غير مُتخلق بالأخلاق المحمودة ولا يتأدب بالآداب الشَّرعية أو كان فاسقاً فانه لا يستحق سكن تلك الْمَدَاَرِس والخَوَانِق وأخذ المعونة.

يرى الغزالي في كتابه منهاج العابدين أنَّ الأربطة هي الطَّريقة المثلى لعامة أهل الْعِلْم والاجتهاد لتربية أنفسهم وذلك أنَّها جمعت بين المعنيين والفائدتين اللَّتين إحداهما العزلة عن النَّاس والثَّانية المشاركة معهم في جُمَعهم وجَماعاتهم وتكثير شعائر الإسلام فتحصل السَّلامة التي هي للمنفردين والخير الكثير الذي هو لعامة المسلمين مع ما للنَّاس فيهم من القدوة والبركة والنَّصيحة فصار السَّكن فيها أعدل طريق وأحسن حال وأسلم سبيل ولهذا الشَّأن أقام أكثر العارفين من الْعُلَمَاء وطلاب الْعِلْم بين النَّاس لنفعهم لعباد الله تعالى في باب الدِّين وقلَّة أذاهم ومشاهدة الخلق لآدابهم وحسن رسومهم ليقتدوا بهم فإنَّ لسان الحال أفصح من لسان المقال فصار ذلك أحسن تدبير في أمر الدِّين للعِلْمِ والعبادة وأحكم رأي (ص 42).

وهكذا حَدَّدَ الْعُلَمَاء المقاصد الدِّينيَّة والنَّفْسِيَّة والاجْتِمَاعِيَّة والْعِلْميَّة للأربِطة وهذه الأهداف الواضحة تُحَدِّد وتكشف أي انحراف أو تغيير لمقاصدها ومسيرتها عند التَّقويم.

 

الكُتب والمكتبات العامّة

الكِتَابُ سمير وأنيس المسلم في حِلِّهِ وتِرْحَالِهِ. هكذا كان الكتاب يلعب دوراً عظيماً في حضارتنا ولقد كانت عادة عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ = 868 م) أن ينام في المكتبات التجارية في مقابل دفع بعض المال فيقرأ الكتب ويحفظ مسائلها. يقول الجاحظ في كتابه الحيوان واصفاً أهمّية الكتاب "ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً ولا أعجَل مكافأة ولا أحضَرَ مَعُونةً ولا أخفَّ مؤونة ولا شجرةً أطولَ عمراً ولا أجمعَ أمراً ولا أطيَبَ ثمرةً ولا أقرَبَ مُجتَنى ..من كتاب ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه ورُخْص ثمنه وإمكانِ وُجوده يجمَعُ من التَّدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة ومن آثارِ العقولِ الصَّحيحة ومحمودِ الأذهانِ اللَّطيفة ومِنَ الحِكَم الرَّفيعة والمذاهب القَوِيمة والتَّجارِبِ الحَكيمة ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية…

قال اللَّه عَزّ وَجَلّ لنبيّه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فَوَصَفَ نَفْسَهُ تبارك وتعالى بأنّه علَّمَ بالقَلم كما وصف نفسَه بالكرَم واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام وفي أيادِيه الجِسام وقد قالوا: القَلَمُ أحدُ اللّسانَين وقالوا: كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللّسانِ كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب" (ص 20).

إنَّ حُبَّ القراءة عاطفة إنسانيّة سامية جاءت التّربية الإسلاميّة لتوظيفها لترقية النَّفس كي تَصِل إلى دَوْحَةِ الصِّدْقِ، ووَاحَةِ الجَمَالِ. وتراثنا زاخر في ذكر فضل الكتاب وفيه عبارات جديرة بأن تتصدَّر جدران المكتبات العامَّة لتحث النَّاس على تعظيم مكانة الكتاب وفضل الكتابة في حياتهم اليوميَّة. قال المنَّاوي[55] "فالكتاب نعم المستودع، ومن ألطاف الله لعباده الكتابة حيث شرع لهم ما يعينهم على ما ائتمنوا عليه وأرشدهم إلى ما يزيل الرِّيب ومنافع الكتابة لا يحيط بها إلا الله تعالى فما دُونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين والآخرين ومقالاتهم إلا بها ولولاها ما استقام أمر الدِّين".

ورد في الحديث "قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكتَابَةِ"[56]. وعلّل الْعُلَمَاء ذلك بقولهم أنّ الْعِلْمَ يكثر على السَّمع فتعجز القلوب عن حفظه والحفظ قرين العقل والقلب مستودعهما والنِّسيان كامن في طبع الإنسان وخوفاً من ذهاب الْعِلْمِ بسبب النِّسيان قُيِّد بالكتابة لئلا يفوت. قال الماوردي: ربما اعتمد الطّالب على حفظه فتصوَّره وأغفل تقييد الْعِلْم في كتبه ثقة بما استقرّ في نفسه وهذا خطأ منه لأنَّ النِّسيان وارد ومِن ثَمّ قال الخليلُ: اجعل ما في الكتب رأس المال وما في قلبك النَّفقة وقال مهند: لولا ما عقدته الكتب من تجارب الأولين لانحلت مع النِّسيان عقود الآخرين (المناوي).

إذا أردنا أَنْ نتتبع قصة الكتابة والتَّأليف في تاريخنا الإسلامي فإنَّنا نجدها بدأت مع الْصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْن إذْ "كَانُوا يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَقَالَ: {مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ} ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، حَيْثُ {أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ : اُكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ} وَكَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا .. وَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلا خَوْفًا مِنْ اشْتِبَاهِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَمَّا أُمِنَ ذَلِكَ فَكَانَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَكْتُبُونَ وَكَتَبُوا أَيْضًا غَيْرَهُ. وَلَمْ يَكُونُوا يُصَنِّفُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ مُصَنَّفَةٍ إلَى زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ فَصُنِّفَ الْعِلْمُ فَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ ابْنُ جريج شَيْئًا فِي التَّفْسِيرِ وَشَيْئًا فِي الأَمْوَاتِ. وَصَنَّفَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَمَعْمَرٌ وَأَمْثَالُ هَؤُلاءِ يُصَنِّفُونَ مَا فِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَهَذِهِ هِيَ كَانَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَصَنَّفَ مَالِكٌ الْمُوَطَّأَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَصَنَّفَ بَعْدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُ هَؤُلاءِ فَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي كَانُوا يَعُدُّونَهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ" (مجموع الفتاوى، ج 20، ص 312).

مظاهر العناية بنشر العلم والثَّقافة في الدِّيار الإسلاميَّة كثيرة. مِن أشهر المكتبات الخاصَّة مكتبة الصَّاحب بن عباد (995 م)، ذلك الرَّجل الّذي عُرِف بالأدب ولقد بلغت مكتبته حِمل أربعمائة جمل أو يزيد وكان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حِمْلَ ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلمّا وصل إليه كتاب الأغاني، لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه، استغناء به عنها. علي بن الحسين بن مُحَمَّد، الأصبهاني (356 هـ = 966 م) جمع كتابه الأغاني في خمسين سنة (الصفدي، الوافي بالوفيات، ص 35) وأجمع الْعُلَمَاء على أنه لم يُعمل في الأدب والشِّعر مثله (القنوجي). ولقد اشتهر هذا الكتاب الذي يضم عيون الشِّعر العربي ونثره مع قصص الخلفاء في قصورهم ولقد كان يحتوي على 5000 ورقة منسوخة باليد (Sardar and Malik, 1997, p. 83) واليوم طُبع الكتاب في الشَّبكة الدّولية (الإنترنت) في 5058 صفحة كما هو في موقع الوَرّاق.

اشتهر تفسير ابن جرير في بغداد وتزاحم على تحصيله الْعُلَمَاءُ، وسارت به الرّكبان (الذَّهبي، 1994، ج13، ص 522) حتى قيل لو رَحل رجل إلى الصِّين حتَّى يَحْصُلَ على تفسير مُحَمَّد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً (الذَّهبي، ج14، ص 272، ابن العماد، ج 4، ص 53). المكتبة الكبيرة قديماً قد تحتوي على نصف مليون كتاب في فنون الْعِلْم المتنوعة والبديعة.

مكتبة بيت الحكمة من أشهر مكتبات الدولة الإسلاميّة في بغداد وكان بها عدَّة أقسام للكتب وللتّرجمة وللبحث وللتّأليف وللمرصد الفلكي وللنّسخ وللتَّجليد ويُقال: إنَّ مجموعاتها قد بلغت أكثر من مليوني مجلد. كما أنَّ مكتبة دار الْعِلْم بالقاهرة قد خطط لها الحاكم بأمر الله وافتتحت سنة (395 هـ = 1005م) وقال عنها بابا روما سلفستر الثَّاني: "إنَّه لمن المعلوم تماماً أنَّه لا يوجد أحدٌ في روما له من الْعِلْمِ ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة". وقد بلغت مجلداتها هي الأخرى نحو مليوني مجلد" (انظر خليفة، 2001م).

ساعدت الأجواء الثَّقافيَّة الجيدة في بلورة موضوعات الكتب الإسلاميَّة التي كانت في غاية التنوع ولقد بلغ التَّفنُن في تَصنيف الكُتب أن يجمع أحد الْعُلَمَاء كِتاباً في نوادر الحكايات والمواقف الهزلية مثل كتاب المستطرف، من كل فن مستظرف لمُحَمَّد بن أحمد الخطيب الأبشيهي، وألَّف ابن طيفور كتاباً في نوادر النِّساء وطرف كلامهنّ، وأخبار ذوات الرَّأي منهنّ وأسماه بلاغات النِّساء، وفي الحُبِّ والغرام ألَّف الفقيه ابن القيِّم مُجلَّداً أسماه نزهة المشتاقين وروضة المحبين جمع فيه الكثير من الكلام العذب الفصيح. وكَتبوا عن عِلْم الأطعمة وفن الطّبخ واعتبروه من فروع عِلم الطِّب لأنَّه عِلْمٌ باحث عن كيفية تَركيب الأطعمة اللَّذيذة، والْنَّافِعَة، بحسب الأمزجة وبعض المستشرقين يذكرون أنَّ مُحَمَّد بن الحسن الكاتب البغدادي كَتب عن المأكولات المشهورة في بغداد في عام 624 هـ = 1226م  (Bloom & Blair, 2000, p. 108, 109) ويُحَدِّثنا المقريزي في المواعظ والاعتبار عن أطعمة في الدِّيار المصريَّة التي كانت في فنونها عجيبة ومتقدّمة كما يقول ثمَّ يَذكر أنَّ الطَّباخات الماهرات من الجواري أصل تعليمهنَّ هذه الصَّنعة أنَّهن تعلَّمنَّ في قصور الخُلفاء الفاطميين (ص 730). وهكذا فإنَّ الكُتب شملت مساحات ومجالات واسعة تُغطِّي مُعظم العلوم والفُنون والآداب المعروفة في عصورهم.

من هنا انطلق قطار الاهتمام بالمكتبات الخاصة في البيوت، والمكتبات التّجارية في الأسواق، والعامَّة في طول وعرض جميع البلدان الإسلامية وعلى رأسها مصر والأندلس والشَّام والعراق مما يدل على عظمة عناية المسلمين بالمكتبات العامَّة في عصورهم الزَّاهرة. المكتبات العامَّة هي مكتبات سبيل بمعنى أنَّها مفتوحة لعامَّة النَّاس وتدعمها الأوقاف الإسلاميَّة ولا ريب أنَّها كانت من منجزاتنا الحضاريَّة الرَّائعة ومن أهم ما ينبغي أن نفعله اليوم إذ أنَّ توفير المعلومات للجميع من أسباب قوة الأمم وتقدُّمها قَديماً وحديثاً.

الكثير من المكتبات العامَّة كانت مُلحقة بالمساجد الجامعة والبيمارستانات والْمَدَاَرِس والخَوَانِق والرّبط. حُبّ النَّاس للخير ولترك عِلْمٍ نافع كصدقة جارية بعد وفاتهم دفعهم إلى التَّسابق في شراء الكتب وإيداعها في المكتبات. وهذا خُلق عظيم ينبغي أن يدفع المسلمين إلى خدمة هذا الدِّين خاصة في دعم المكتبات في الدُّول الغير إسلاميّة. إنَّ المؤلِفين والأمراء ساهموا في تنمية ممتلكات تلك المكتبات ورعايتها. كانت عادة الصَّالحين قبل موتهم أن يَتركوا وَصية شاملة وفيها أحياناً الوصية بتسليم كُتبهم للمكتبات المُلحقة بالخَوَانِق.

وَصف المقريزي مكتبة من المكتبات في مصر وهي دار الحكمة بالقاهرة حيث "جلس فيها الفقهاء وحُملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل النَّاسُ إليها ونسخ كل من التمس نسخ شيءٍ مما فيها مما التمسه وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها وجلس فيها القُرَّاء وأصحاب النَّحو واللّغة والأطباء بعد أن فُرشت هذه الدَّار وزُخرفت وعُلِّقت على جميع أبوابها وممراتها السّتور وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم وسموا بخدمتها وحصل في هذه الدّار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعاً لأحد قط من قبل وأباح ذلك كله لسائر النّاس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنَّظر فيها فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضاً التي لم يُسمع بمثلها من إجراء الرِّزق السَّني لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة لها من فقيه وغيره وحضرها النَّاس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنَّسخ ومنهم من يحضر للتَّعلَّم وجعل فيها ما يحتاج النَّاس إليه من الحِبر والأقلام والورق والمحابر" (المواعظ والاعتبار، باختصار يسير ص 909، 910). كانت المكتبات مُجهَّزة جهازاً متكاملاً فهي مفروشة بالحصر الفاخرة، وفيها ورق للنَّسخ والحبر والأقلام مع توفُّر الماء وكانت الأجرة التي تُصرف للفقيه والخادم والخازن في كل مكتبة من ضمن التَّكاليف المالية التي تُدوَّن بدقّة في وثيقة الوقف قبل بناء المكتبة. يُكتب في نص الوقفية أيضاً أنَّ الواقف وقف وحبس وسبَّل كتبه لمكتبة كذا في مدرسة كذا ويشهد على الوقف شاهدان ويُكتب تاريخ الوقفيَّة.

كانت خَزائن الكُتب الضَّخمة النَّادرة من أعظم مآثر الحضارة الإسلامية التي مدَّت الباحثين بالمراجع للتَّبحر في العلوم المتنوعة. وفي المكتبات كمنتديات ثقافية يتناظر الْعُلَمَاء، ويتحاور الأقران، ويتشاور الطّلاب وعلى هذه الدَّعائم تقوم الأُمم. قال المقريزي "ذكر عند العزيز بالله كتاب العين للخليل بن أحمد فأمر خزان دفاتره فأخرجوا من خزانته نيفاً وثلاثين نسخة من كتاب العين منها نسخة بخط الخليل بن أحمد وحمل إليه رجل نسخة من كتاب تاريخ الطَّبَرِي: اشتراها بمائة دينار فأمر العزيز الخزان فأخرجوا من الخزانة ما ينيف عن عشرين نُسخة من تاريخ الطَّبَرِي منها نسخة بخطه. وقيل فأخرج من الخزانة مائة نسخة منها. إنَّ عدّة الخزائن التي برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر: أربعون خزانة من جملتها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة وإنَّ الموجود فيها من جملة الكتب المخرجة في شدَّة المستنصر ألفان وأربعمائة ختمة قرآن في ربعات بخطوط منسوبة زائدة الحسن مُحلاة بذهب وفضة وغيرهما وكانت عنده صناديق مملوءة أقلاماً مبرية. هذه الكُتب ربما تُساوي أكثر من مائة ألف دينار" (المواعظ والاعتبار ص، 810 باختصار وتصرف). حَمْل مكتبة ضخمة من مكان إلى مكان آخر لا يَتمُّ من غير تأجير جمال كثيرة لأداء المهمَّة في العصور الإسلامية السَّابقة وكثيراً ما كانت ممتلكات الطَّالب الواحد من الكتب تُقدَّر بِحِمْلِ بَعِير.

وَإذا أَردنا أن نتحدَّث عن صناعة إخراج وتصميم الكِتاب قديماً فسنجد أنَّ غلاف بعض الكتب قد يكون مُزخرفاً وهو ما يُسمونه "كِتَابٌ مُنَمْنَمٌ" أي مُنقَّش. قال ابن منظور في لسان العرب: "ونَمْنَمَ الشَّيءَ نَمْنَمة أي رَقَّشه وزَخْرفه. وثوبٌ مُنَمْنَمٌ: مرقوم مُوَشّىً". ولقد كان الخلفاء يصطفون الحاذقين في صنعة تجليد الكتب لتجليد خزانة كتبهم (ابن العماد، ج6، ص 272).

كانت الكتب القديمة تُرَقَّم بنظام التَّعقيبة لضمان تسلسل الصَّفحات ففي هامش كل صفحة يكتبون أول كلمة ستأتي في الصَّفحة القادمة فيعرف القارئ أنَّ هذه الصَّفحة ترتيبها قبل تلك. "عادة النُّساخ القدماء المحترفين أن يضعوا في الهامش الأسفل من آخر الورقة الكلمة الأولى من الورقة التَّالية وتُسمى هذه الكلمة التَّعقيبة. وقد كان النُّساخ يفعلون ذلك خشية اضطراب أوراق المخطوطة: فإذا اضطرب ترتيب الصَّفحات كان من الممكن إعادة ترتيبها لملاحظة هذه التَّعقيبة" (زيدان، 2001م، تعريفات أساسية). إلى عهد قريب كانت بعض المصاحف تَعتمد على هذا النَّمط إضافة إلى التَّرقيم العددي. من أمثلة التَّعقيبة أن نجد السَّطر الأخير من الصَّفحة ينتهي بـ "ونشأ في كنف" فيُكتب في هامش هذه الصَّفحة "أبيه" أي أنَّ الصَّفحة التي تليها يجب أن تبدأ مع كلمه "أبيه" وإلا فإنَّ القارئ يكون قد فَقَدَ الصَّفحة المُفترض أن تكون بعد تلك الصَّفحة.

ذكر ياقوت الحموي (ت 626 هـ = 1228 م) في كتابه مُعجم الأدباء (ص 560-561) أنَّ ابن حمدان (ت 323 هـ = 934 م) كانت له دار عِلْم قد جعل فيها خِزانة كتب من جميع العلوم وَقفاً على كل طالب للعلم لا يُمنع أحد من دخولها وتفتح في كل يوم. إذا جاءها غريب يَطلب علوم الأدب أعطاه وَرَقاً وورقاً إن كان مُحتاجاً. بمعنى أنَّ ابن حمدان يُعطي طالب الْعِلْم ورقاً للكتابة ومبلغاً من المال تشجيعاً له. ويجلس فيها فيجتمع إليه النَّاس فيُملي عليهم من شِعره وشِعر غيره ومن مُصنَّفاته مثل الباهر وغيره من مُصنفاته الجيدة ثم يُملي من حِفظه من الحِكايات المُستطابة وشيئاً من النَّوادر، وطرفاً من الفقه وما يتعلق به.

وبلغت العناية بالكُتب حَدّاً حضاريّاً مُتَمَيِّزاً في تاريخنا فقبل ألف سنة امتلأت مِصر بمختصر المُزني وهو كتاب في فقه العبادات والمعاملات ويقع في أكثر من 550 صفحة من الحجم الكبير "وشرحه عددٌ من الْعُلَمَاء وكانت البِكر في جهازها نُسخة منه" (الذَّهبي، ج12، ص 493). وهكذا كانت الأسرة المسلمة تَبني البيوت بالْعِلْمِ النَّافع ولو تأملنا الباب الأوَّل في مختصر المزني نجده "باب الطَّهارة" وكأن باب البيت وبناء الأسرة المسلمة يجب أن يبدأ من معرفة الطَّهارة الحِسِّية والمعنويَّة. ومن هذا الاستهلال والاستدلال نعرف كيف كانت المعرفة الْنَّافِعَة هي اللَّبنة الأولى في الزَّواج السَّعيد فعاشوا حياة كريمة حتى أنَّ أحدهم شرح كتاب شيخه عندما أراد أن يتزوج من ابنته فكان أن أعطاها الطَّالب مهرها ومعه الشَّرح كي يُفْرِحَ والدها.

وبلغ الإفراط في حُبِّ الكتب إلى درجة أنَّ الرّجل الخَيِّر لأهله تَغار عليه زوجته أحياناً فتقول له "والله هذه الكُتب أشدّ علي من ثلاث ضرائر" (الذَّهبي، 1994 م، ج12، ص ، 313، ابن العماد، ج2، ص 100). كان الإمام السِّيوطي (ت 911 هـ = 1505م) من أعيان القرن العاشر الهجري يُلقَّب بابن الكُتب "لأنَّ أباه كان من أهل الْعِلْم واحتاج إلى مطالعة كتاب فأمر أُمَّه أن تأتيه بالكتاب من بين كتبه فذهبت لتأتي به فجاءها المخاض وهي بين الكُتب فوضعته. وسماه والده بعد الأسبوع عبد الرحمن ولقَّبه جلال الدِّين" (العيدروس، 2001 م، ص 41). لُقِّب الشَّاهروردي (ت 875 هـ = 1470 م) بـ"مُصنَّفك" لكثرة اشتغاله بالتَّصنيف منذ حداثة سنِّه، والكافيجي (ت 879 هـ = 1474 م) لُقِّب بذلك لكثر اشتغاله بكتاب "الكافية" في النَّحو، وخديجة بنت مُحَمَّد الحلبي (ت 930 هـ = 1523 م) اختلفت مع أبيها وأخواتها في مسألة فقهية في باب الطَّهارة فحفظت كتاباً للرَّد عليهم بالأدلَّة (ابن العماد، ج 9، ص 476، 488، ج10، ص 239).

ولقد طلب الشَّافِعِيّ من مُحَمَّد بن الحسن الحنفي بعض الكتب ليطَّلِع عليها فأعطاه حِمْل بعير كتباً (ابن العماد، ج2، ص 410). علي بن يوسف القِفْطي (ت 646 هـ = 1248 م)، القاضي الأكرم، رغم كَونه وزيراً في مدينة حَلب إلا أنَّ المشاغل لم تُبعده عن عالَم الكُتُبِ فكان يجمع كُتب الدِّين والحِكمة والمنطق والهندسة حتى قال المُؤرخون أنَّه "جمع من الكُتُب ما لم يجمعه أحدٌ، وكان لا يُحِب من الدُّنيا سوى الكتب" (ابن العماد، ج 7، ص 408). في سنة 709 هـ = 1303 م بعث ابن تيمية رسالة إلى أهله يذكر فيها ما هو فيه من نِعَم الله وخيره الكثير في غربته تم طلب منهم جملة من كُتُب الْعِلْمِ التي له ولأنَّ كُتبه كثيرة فإنَّه طلب من أهله أن يستعينوا على ذلك بالعالِم جمال الدِّين المزّي فإنَّه يدري كيف يَستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار إليها. كان ابن قيم الجوزيَّة (ت 751 هـ = 1350 م) مُغرماً بجمع الكتب والإدمان على مطالعتها، فحصَّل منها ما لا ينحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم منها.

كان الحَكم بن عبدالرحمن النَّاصر (ت 366 هـ = 976 م)، أمير المؤمنين بالأندلس يُقرِّب إليه الْعُلَمَاء، وكان جيد السِّيرة ذا عزم بالمطالعة وتحصيل الكتب النَّفيسة الكثيرة بحيث أنها قاربت نحواً من 400,000 سِفر. قال الذَّهبي عنه في سيره لقد "جمع من الكتب ما لم يجمعه أحدٌ من الملوك، لا قبله ولا بعده" (ج8، ص 269). كان باذلاً للذَّهب في استجلاب الكتب من البلاد القريبة والبعيدة وكانت لذتَّه في شرائها وما كان يملكه هذا الخليفة العالِم من الكتب يفوق بكثير ما كانت تملكه عدة مدن في أوربا في تلك الفترة التي يسمونها عصور الظلام وهو تعبير صحيح لوصف حالهم لا حال غيرهم. يقول بِل جيتس أنَّه إلى عام 1450م = 854 هـ كان مجموع الكتب في أوربا النَّصرانية يُقارب 30 ألف كتاب ومعظم هذه الكتب هي مجرد نُسَخ مُكَرَّرة من الإنجيل أو شروح له (Gates, 1996, p. 8).

كَتب أبو الوفا على بن العقيل (ت 513 هـ = 1119 م) كتاباً اسمه الفنون وهو كتاب يزيد عن أربعمائة مجلد وعندما عِلْم بعض الْعُلَمَاء أنَّ الكِتاب قيِّم، ونفعه كبير، ولكن يصعب الحصول عليه باع شيئاً من أملاكه واشترى الكتاب وجعله وقفاً على المسلمين. وبلغ الهوس المفرط في تحصيل الكتب – كما يقول ابن العماد – أنَّ أحدهم كان عنده مائتا ألف كتاب، ومن كل كتاب نُسخ كثيرة وله أخ قاض مكتبته تَفوق تلك المكتبة ويقتني من كل فنّ "ويجتلبها من كل جهةٍ، وله نُسَّاخ لا يفترون ومجلِّدون لا يسأمون" (ج6، ص 532، 141، 58).

لقد وجد الباحثون اليوم مجموعة حيل ذكية استخدمها المسلمون القدماء في حفظ المخطوطات النَّادرة ففي بعض المخطوطات القديمة على سبيل المثال تُصادفنا على غلافها عبارة : "يا كبيكج احفظ الورق". "(كبيكج) اسم نبات يشبه (الكرفس البرى) يُسمى أيضاً: كف السّبع، شجر الضَّفادع، عين الصفا .. وهو من السّموم القتّالة، كان أطبّاؤنا القدامى يعالجون به الأمراض الجلدية. وقد استخدم الورَّاقون، قديماً، نبات (كبيكج) لحفظ المخطوطات من الحشرات، كالأرضة والسَّمكة الفضيَّة وغيرها ... ولتمييز المخطوطة التي تم تبخيرها، كان يُكتب على غلافها عبارة: يا كبيكج احفظ الورق لتكون علامة للمشترى، أو مُقتنى المخطوطة، على أنها مُعالجة بهذا النَّوع من النَّبات" (زيدان،  2001 م، تعريفات أساسية، باختصار). 

وعندما نَستعرض موضوع الكِتاب وآدَاب الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ فإنَّنا نجد أنَّ انتشار ظاهرة مُطالعة الكتب ارتبط بأخلاقيات كثيرة حدَّدها الْعُلَمَاء في أطروحاتهم. كان العالِم عادة في العصور الذَّهبية للإسلام يُعرف بأنَّه كان "سهلاً في إعارة الأجزاء" (ابن العماد، ج6، 192). تكلَّم النَّووي‏ ‏(676هـ - 1277م) في المجموع شرح المهذب عن "آدَابٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ يَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لا يُخِلَّ بِوَظِيفَتِهِ لِعُرُوضِ مَرَضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الاشتغال، وَيَسْتَشْفِي بِالْعِلْمِ، ..وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ الْكُتُبِ شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً، وَلا يَشْتَغِلُ بِنَسْخِهَا إنْ حَصَلَتْ بِالشِّرَاءِ، لأنَّ الاشتغال أَهَمُّ إلا أَنْ يَتَعَذَّرَ الشِّرَاءُ، لِعَدَمِ الثَّمَنِ، أَوْ لِعَدَمِ الْكِتَابِ مَعَ نَفَاسَتِهِ فَيَسْتَنْسِخَهُ وَإِلا فَلْيَنْسَخْهُ وَلا يَهْتَمُ بِتَحْسِينِ الْخَطِّ بَلْ بِتَصْحِيحِهِ، وَلا يَرْتَضِي الاستعارة، مَعَ إمْكَانِ تَحْصِيلِهِ مِلْكًا فَإِنْ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ، لِئَلا يُفَوِّتَ الانتفاع بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِئَلا يَكْسَلَ عَنْ تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلِئَلا يَمْتَنِعَ عَنْ إعَارَتِهِ غَيْرَهُ.‏ وَقَدْ جَاءَ فِي ذَمِّ الإبْطَاءِ بِرَدِّ الْكُتُبِ الْمُسْتَعَارَةِ عَنْ السَّلَفِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ نَثْرًا وَنَظْمًا، مِنْهَا عَنْ الزُّهْرِيِّ:‏ إيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ وَهُوَ حَبْسُهَا عَنْ أَصْحَابِهَا، وَعَنْ الْفُضَيْلِ:‏ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْوَرَعِ وَلا مِنْ أَفْعَالِ الْحُكَمَاءِ أَنْ يَأْخُذَ سَمَاعَ رَجُلٍ وَكِتَابَهُ، فَيَحْبِسَهُ عَنْهُ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.‏ وَقَالَ الْخَطِيبُ:‏ وَبِسَبَبِ حَبْسِهَا امْتَنَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ إعَارَتِهَا.‏ وَالْمُخْتَارُ[57] اسْتِحْبَابُ الإعَارَةِ لِمَنْ لا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لأنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مَعَ مَا فِي مُطْلَقِ الْعَارِيَةِ مِنْ الْفَضْلِ، وَرَوَيْنَا عَنْ وَكِيعٍ:‏ أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إعَارَةُ الْكُتُبِ.‏ وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ:‏ مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ اُبْتُلِيَ بِإِحْدَى ثَلاثٍ:‏ أَنْ يَنْسَاهُ، أَوْ يَمُوتَ وَلا يَنْتَفِعَ بِهِ، أَوْ تَذْهَبَ كُتُبُهُ.‏ وَقَالَ رَجُلٌ لأبِي الْعَتَاهِيَةِ:‏ أَعِرْنِي كِتَابَكَ، قَالَ:‏ إنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:‏ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمَكَارِمَ مَوْصُولَةٌ بِالْمَكَارِهِ، فَأَعَارَهُ.‏ وَيُسْتَحَبُّ شُكْرُ الْمُعِيرِ لإحْسَانِهِ".

يشمل تراثنا التربوي الفقهي على مسائل حافلة تطرَّق إليها الفقهاء وهي تبرهن على نفاسة منزلة الكتب في حياة المسلمين وعلى سبقهم في تقنين القوانين الإدارية والمالية اللاَّزمة لضمان حركة تداول الكتب النَّافعة بسهولة ويسر وأمان بما يثري ثقافة جميع طبقات المجتمع. في الموسوعة الفقهية الكويتية وغيرها نقرأ عن مناقشة الموضوعات التّالية: حكم من استعار كتاباً موقوفاً أو من شخص فوجد به خطأً ثمَّ أصلحه، وحُكم إعارة الكتب واستعارتها[58]، وحكم رهن الكُتب الموقوفة وصلاحيات خازن الكُتب، وحكم من سرق الكتب أو فرَّط فيها فتلفت.

وعن كيفية وضع الكتب بصورة منظَّمة على أدراج المكتبة نجد مثلاً أنَّ فقهاء الأحناف ذكروا طريقة  لترتيب الكتب من حيث الأولوية عند وضع بعضها فوق بعض. توضع كُتب النَّحو واللُّغة أولاً، ثمَّ كتب تَعبير الرُّؤيا ككتب ابن سيرين وابن شاهين لأفضليته ثمَّ كتب علم الكلام، ثمَّ كتب الفقه لأنَّ معظم أدلته من الكِتاب والسُّنة، ثمَّ كتب الأَخبار والمواعظ، ثمّ التَّفسير، ثمَّ المصحف فوق الجميع.

اليوم وبعد مئات من السِّنين من كتابة الكثير من الكتب الإسلاميَّة نجد المطابع تقدِّم لنا كُتباً تُطبع لأول مرة ويعود الفضل في حفظ وبقاء هذه الكتب إلى المنهج الوقفي الفقهي المتين الذي كان يفرض الضَّمانات البشريَّة الممكنة ويقوم بتحديد المسئوليات اللازمة لحفظ وصيانة الكُتب في أيدي النَّاس وفي الأسواق في خزائن الكتب الوقفيَّة التّابعة للمؤسسات الدِّينيَّة والتَّعليميَّة التي كانت تملأ البلاد الإسلاميَّة طولاً وعرضاً.

استناداً إلى هذه الجولة في شغف المسلمين الحضاري بالكُتب والمكتبات يمكننا القول أنَّ مكتبتنا التُّرَاثية المطبوعة اليوم تمثل جزءاً ضئيلاً من الكتب التي كتبها وترجمها وجلبها المسلمون واستمتعوا بمطالعتها عبر القرون الماضية في شتى العلوم والآداب والفنون. كُتُب التُّراث المطبوعة، والمفقودة، والمخطوطة لعبت دوراً بارزاً في تشكيل المجتمع المُسلِم المُثقف.

على ضوء النَّتائج الإحصائية لدراسة واسعة شملت 45 دولة أكد الباحثون على أنَّ هناك علاقة واضحة بين عدد الكُتب المتوفرة في منزل الطَّالب وبين التَّفوق الدِّراسي في معظم دول العالم:

(Beaton. A. E, Mullis, I. V. S, Gonzales, E. J, Kelly. D. l, & Smith. T. A, 2001). الْتَّارِيْخُ الإسلامي يُخبرنا أيضاً أنَّ هناك علاقة قوية بين انتشار الكتب في البيوت والمجتمعات وبين الإنجاز الْعِلْمي ومن مظاهر الصَّحوة الفكريَّة انتشار الكتب الجيِّدة وتكريم الكُتَّاب ولا مناص من تعمير المكتبات الرّاقية فإنَّها من دعائم قوة الأمم والْتَّارِيْخ شاهد عدلٍ وقَديماً قالوا "وعنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ اليقِينُ". 

 

الإسهامات الحضاريَّة للمرأة المسلمة

إنَّ الرِّجال والنِّساء لهم إسهاماتهم النفيسة في صنع حضارتنا وهذا العطاء المُشترك من مفاخر تاريخنا الإسلامي ولا رَيب أنَّ المرأة شاركت الرَّجل في صُنع الحياة منذ مطلع فجر الْتَّارِيْخ الإسلامي. القرآن الكريم من قبل مئات السِّنين قَدَّم لنا وثيقة تاريخيَّة صادقة نادرة تدلُّ على حفاوة الإسلام بمكانة المرأة وأهليتها وذلك في قوله سُبْحَانَهُ "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {35}" (سُوْرَةُ الأحزاب).  

نزلت هذه الآيات والعالم كلّه يحتقر المرأة ويعاملها كمخلوقة من الدَّرجة الثَّانية بل يَشك البعض في حقِّها في الحياة بعد وفاة زوجها أو يَشك في أنَّ لها رُوحاً مثلها مثل الرَّجل سَوَاءً بِسَوَاءٍ. تكرار الإشارة للمرأة في الآية السَّابقة وغيرها من الآيات في زمن تخلو فيه الكُتب من تعظيم منزلة المرأة من الأدلَّة المعجزة للقرآن الذي نزل لتحرير المرأة – في كل عصر ومصر- من فكَّي الإفراط والتَّفريط. إنَّ تحرير المرأة فعلاً كان ويكون مع مثل قوله تعالى "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض" (سُوْرَةُ آل عمران 195). قالَ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِه" (رواه التِّرمذي[59]). من هنا كان معيار الأسرة المسلمة للتَّربية السَّليمة هو مدى الإحسان إلى المرأة وفي ذلك يقول ابن مِسكويه "وليس بعدلٍ مَنْ لم يُكرِم زوجته وأهلها المُتَّصلين بها" (ص 20) وكما يقول الشَّيخ الرَّئيس ابن سينا "على أنَّ المرأة كلَّما كانت أعظم شأناً، وأفخم أمراً كان ذلك أدلّ على نبل زوجها، وشرفه، وعلى جلالته".

قال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم "إِنّ النِّسَاءَ شقَائِقُ الرّجَال" (رواه الترمذي). يقول د. حسن الترابي (2001 م) في كتابه المرأة في تعاليم الإسلام "المرأة في الدِّين كائن إنساني قائم بذاته فهي موضع للتَّكليف مُوجَّه إليها الخطاب بالدِّين مباشرة لا يتوسط إليها بولي من الرِّجال وتحق عليها المسئولية متى استوت عندها أهلية الرُّشد وبلغتها كلمة التَّذكير".

لا شك أنَّ الإسلام جاء لحفظ حق البشر كي يعيشوا حياة حرَّة كريمة. من صور تشجيع النَّبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم برعاية البنات ما نجده في الحديث أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءتنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ ابْتُلِيَ[60] مِنْ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ" (صحيح مسلم: كتاب البر والصِّلة والآداب). وفي سنن أبي داود: كتاب الأدب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ عَالَ ثَلاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ".

ولَعَلَّ من الحقائق الثَّابتة تاريخياً ومنطقياً أنَّ أهم وظيفة كرَّم الله عزّ وجلّ المرأة بها هي أن تقوم بدورها الاجتماعي الفِطري نحو أسرتها فهي تُشارك الزَّوج في تحمُّل المسئولية لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح الْبُخَارِيّ "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا" (كتاب الجمعة). ويمتدُّ دور المرأة ليشمل المجتمع الخارجي ولتؤدِّي دورها الرِّيادي في نشر الخير والنَّهي عن الشَّر فقال سُبْحَانَهُ "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} (سُوْرَةُ التوبة).

هذه الإرشادات الكريمة التي ذكرناها آنفاً من مَعين القرآن والسُّنَّة، منها تكوَّنت نهضة اجتماعية يسودها التَّكافل فأصبحت المرأة أمينة يثق بها الرِّجال فيضعون نُسخ القرآن الكريم عندها، ومن فَمها يأخذون ما ورد من سَلسبيل الوحي على لسان وقلب النَّبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت حَفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا ساهمت في حفظ المصحف الكريم في دارها فإنَّ كريمة بنت أحمد المروزية (ت 462 هـ = 1069 م) ساهمت في نَقل نسخة صحيح الْبُخَارِيّ وأمّ الخير أَمَةُ الخالق (ت 902 هـ = 1496 م) كانت تَروي صحيح البخاري وبوفاتها نزل أهل الأرض درجة في "رواية البخاري" كما يقول ابن العماد (ج 10، ص 21).

فيما يلي نستعرض بعض صور العظمة التي يمكن القول بثقة أنَّها من مفاخر ومنجزات الحضارة الإسلاميَّة ولا نظير لها في تاريخ الشُّعوب والدَّافع لإيراد هذه الصّور أن يعرف المسلم تاريخه ليعيد أمجاد الخير. إنَّ هذه النماذج النِّسائية هي ثمرة لعناية الإسلام الفائقة بتعليم المرأة وتحريرها لا لأنَّها سَتطالب مُستقبلاً بحقوقها، ولا لأنَّها أصبحت قوة اقتصادية يُخشى منها بل لأنَّ الله كَرَّمها وأمر بتكريمها كأم وأخت وزوجة وبنت. المرأة المسلمة هي حفيدة سارة في ثَباتها، ومريم في عِفَّتها، وخديجة في عطائِها، ووريثة عائشة في عِلْمها وثباتها وعِفَّتها وعطائها.

"إِنّ النسَاءَ شقَائِقُ الرّجَال" مَقولة نبوية صادقة فتحت للمرأة ميدان الحرِّية والعطاء والحياة الكريمة. كثير من كتب الإغريق والرُّومان والهند والصِّين القديمة التي بين أيدينا في كثير من المواطن تدعو صراحة إلى تهميش المرأة واحتقار حقوقها المالية والزَّوجية والدِّينية والإنسانية في حين أنَّ الإسلام أعطاها الثَّقة الكاملة حتى أصبحنا نأخذ شطراً عظيماً من ديننا مما تناقلته شفاه أمهات المؤمنين في بيت النُّبوة ومما تناقلته شفاه المُحَدِّثات من بعدهن.

روى الْبُخَارِيّ في كتابه الأدب المُفرد أنَّ عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة وأنا في حِجرها وكان النَّاس يأتونها من كل مصر فكان الشُّيوخ ينتابوني لمكاني منها وكان الشَّباب يتآخوني فيهدون إِليَّ ويكتبون إليَّ من الأمصار فأقول لعائشة يا خالة هذا كتاب فلان وهديته فتقول لي عائشة أي بنية فأجيبيه وأثيبيه فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، فقالت: تعطيني. ورد هذا الحديث تحت عنوان "باب الكتابة إلى النِّساء وجوابهن" وهو ظاهر الدّلالة على حرص الْصَّحَابيات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِيْن على تشجيع الكتابة وتربية النَّاشئة على تكوين العلاقات الْنَّافِعَة.

ذكر ابن الجوزي (ت 597 هـ   =1201 م) في كتابه أحكام المرأة تَرْجَمَة لـ 66 امرأة وهو كما يقول عن كتابه "ولم أر من سبقني إلى تصنيف مثله" ثم في كتابه صفة الصَّفوة كتب تَرْجَمَة لـ 10033 شَخْصِيَّة  منهم 240 من النِّساء وهو ما معدله 23% من مُجمل الكِتاب مما يدل كما تقول الباحثة روث رودد (Ruded, 1994) على أنَّ المرأة المسلمة – لها إرث ثقافي إلى الآن لم يُدرس من كثرته كما ينبغي على عكس المرأة الغربية التي لم تظهر على ساحة الثَّقَافَة إلا حديثاً ولا يمكن معرفة تاريخها لأنهَّا كانت مُهَمَّشَة. ذكرت رودد أنَّ المرأة المسلمة ساهمت بسخاء في تأسيس المشاريع الوقفيَّة الخيريَّة حيث أثبتت بعض دراساتها أنَّ 30 إلى 50 %  من الأوقاف تأسَّست من تَبرع نساء خيِّرات (ص 136). خدمة النَّاس من أعظم القرب إلى اللّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لذلك كانت المرأة المسلمة منذ صدر الإسلام تَهب من مالها وممتلكاتها كي تنال الثَّواب ولقد رُوي عن حَفصة رَضِي اللهُ عَنها أنّها سَبَلَتْ[61] مُصحفاً لها (السَّرخسي).

ووجدت روث أيضاً أنَّ بعض المراجع الْتَّارِيْخيَّة الإسلاميَّة لم تَذكر تَراجم نسائيَّة كثيرة لكن في نفس اللَّحظة يمكن مُلاحظة مَراجع أخرى اعتنت بهذا الموضوع وهو نادر في أدبيات الأمم الأخرى. ذكر ابن سعد (ت230 هـ = 845 م) في كِتابه الْطَّبَقاَت الكبرى تَرْجَمَة لـ 4250 شَخْصِيَّة منها 629 شَخْصِيَّة نِسائية أي 15%  من مُجمل الشَّخْصِيَّات. ذكر السَّخاوي (ت 902 هـ = 1497م) في كتابه الضُّوء اللاَّمع لأهل القرن التّاسع 691, 11 شَخْصِيَّة  منها 1075 شَخْصِيَّة نسائيَّة أي أنَّ 9 % من المجموع العام نِساء. ذكر الذَّهبي (748 هـ = 1347م) في سير أعلام النُّبلاء 5924 شَخْصِيَّة  منها 93 شَخْصِيَّة  نسائية أي 2% من المجموع العام (ص 3، 143، 144).

ذكر الحافظ الشَّهير صاحب كتاب فتح الباري ابن حَجر العَسْقَلاني (ت 852 هـ = 1449م) في كتابه الإصابة في تمييز الْصَّحَابَة 304, 12 شَخْصِيَّة  منها 1551 شَخْصِيَّة نسائيّة أي 13% من المجموع العام. القسم الأخير من كتاب الإصابة خصَّصه العسقلاني كاملاً للتَّعريف بالشَّخصيّات النِّسائيّة ومعظمها تَراجم الْصَّحَابيّات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِيْن التي بدأت مع رقم 10753 وهي شَخْصِيَّة  "آسية بنت الحارث السّعدية أخت النّبي صلى الله عليه وسلم من الرَّضاعة ذكرها أبو سعد النِّيسابوري في شرف المصطفى" وانتهى الكتاب برقم 12304 مع تتبع اسم أم يحيى وهل هي صحابيَّة أم لا والْعِلْم الذي تركته في ميدان رواية الحديث. درس العسقلاني بنفسه على يد فاطمة بنت المنُجَّى ويقال لها شيخة ابن حجر العسقلاني التي أخذ عنها الْعِلْمَ بكثرة كما أنَّ زينب بنت عبدالله (ت 799 هـ = 1396 م) أجازت له وكذلك فعلت زينب بنت مُحَمَّد (ت 799 هـ = 1396 م) أما فاطمة بنت مُحَمَّد (ت 803 هـ = 1400م) فيقول ابن حَجر "قرأت عليها الكثير من الكتب والأجزاء نِعْمَ الشّيخة كانت" (ابن العماد، ج 8، 444 ، 610، ج 9، ص 55، بتصرف). درس ابن عساكر (ت 571 هـ = 1175 م) عند أكثر من ثمانين امرأة والمؤرِّخون يذكرون هذا على سبيل الفخر والمدح (الحموي، ص 1009).

لم يجد الْعُلَمَاء المسلمون أي غضاضة في سرد جهود المرأة العِلْمِيَّة في مصنّفاتهم. في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء قال ابن أبي أصيبعة أنَّ زينب طبيبة بني أود كانت عارفة بالأعمال الطِّبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك، يقول أحد العرب أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان قد أصابني فكحلتني، ثم قالت اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر:

أمخترمي ريب المنون ولم أزر طبيب


 

بني أود علـى النَّأي زينبا


فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشِّعر؟ قلت: لا. قالت: فيَّ واللَّه قيل، وأنا زينب التي عَناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشَّاعر؟ قلت: لا. قالت: أبو سمَّاك الأسدي (ص160، باختصار).

وعن التِّفاصيل التَّعليميَّة لحياة لمرأة المسلمة نجد مثلاً الذّهبي في كتابه تاريخ الإسلام قدَّم نبذة سريعة عن أم الفتح والمنهج الدِّراسي الذي تعلمت منه فذَكر فاطمة القرطبيَّة وعدَّدَ أسماء الكتب التي حفظتها أو درستها ومنها كتاب الكامل في اللُّغة والأدب للمبرِّد، وصحيح مسلم، والسِّيرة لابن اسحاق ثمَّ ذكر أسماء مَنْ تعلَّم منها وماذا أخذ عنها (ص 10382).      

رابعة العدوية من ألمع الشَّخصيات التي نادت بالتَّربية الزُّهديَّة، والاعتناء بتنقية القلب وكان الْعُلَمَاء يزورونها في دارها فيتعلَّمون من كلماتها الشَّيء الكثير. عاشت رابعة في القرن الثَّاني الهجري (ت 185 هـ = 801 م) في مدينة البصرة. تتبَّع الْعُلَمَاء حِكَمَها التي أَثْرت التُّراث العربي ونسج النَّاس حولها الأساطير ونسب الصُّوفيون إليها بعض الأقوال منها الصَّحيحة ومنها غير ذلك. قال ابن كثير "هي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة" ذكرها كثير من العلماء وأثنى عليها أكثر النَّاس. جاءَ في الأذْكَار النَّوَويَّة عن رابعة العدوية: "استغفارُنا يحتاجُ إلى استغفار كثير". أي أنَّنا إذا استغفرنا ثم أصررنا على فعل المعاصي ولم نُقْلِع عن الذُّنوب فإنَّ توبتنا في هذه الحالة تحتاج إلى توبة أخرى صادقة. ميراث رابعة وسيرتها جزء مُتمِّيز في ثنايا الثَّقافة الشَّعبية والدِّينية في تاريخنا الإسلامي منذ أكثر من 1200 سَنة. يرى بعض المستشرقين أنَّ شَخْصِيَّة وأفكار رابعة العدوية – بصورة أو بأخرى – ظهرت في تُراث الغرب قبل عدّة قرون خاصة في فرنسا (Knsyh, 2000, p. 32).

شَخْصِيَّة  أخرى عُرفت بالزُّهد والقنوت هي شَخْصِيَّة  فاطمة بنت عبَّاس (ت 714 هـ = 1314 م) الموسومة بالخير والفضل. كانت عالمة فقيهة فصيحة لها خاطر وقّاد. حضر النَّاس مجالسها وانتفعوا من سمتها وتاب خَلق على يديها في دمشق ومصر وزارها الْعُلَمَاء، وكانت من مفاتيح الإصلاح في عصرها. كانت فاطمة المعروفة بأمّ زينب لها هيبة في النُّفوس ووجاهة في المكانة عند الخاصة من الْعُلَمَاء والعامَّة من النَّاس وكانت ذات مَواعظ مؤثِّرة في الجميع.  وسمّاها ابن كثير الشَّيخة الصَّالحة العابدة النَّاسكة وذكر أنَّها كانت من العالمات الفاضلات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ما لا تقدر عليه الرِّجال وقد كانت تحضر مجلس الشَّيخ تقي الدِّين بن تيميَّة فاستفادت منه ذلك وغيره وقد سَمِعْتُ الشَّيخ تقي الدين يُثنى عليها ويصفها بالفضيلة والْعِلْم ويذكر عنها أنَّها كانت تستحضر كثيراً من كتاب المُغْني أو أكثره وأنَّه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحُسن سؤالاتها وسُرعة فهمها.

وممن أخذ القرآن عن فاطمة بنت عباس تلميذها عائشة بنت إبراهيم بن صديق (ت 741 = 1340 م) زوجة الحافظ جمال الدين الِمزِّي وكانت عديمة النَّظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح يعجز كثير من الرِّجال عن تجويده. قرأ الكثير من النِّساء عليها وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدّنيا وتقلّلها منها مع طول العمر. عاشت عائشة بنت إبراهيم 80 سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة وكان زوجها العالِم مُحسناً إليها مطيعاً لا يكاد يخالفها لِحبّه لها طبعاً وشرعاً فرحمها الله وقدَّس روحها ونوَّر مضجعها بالرَّحمة آمين (ابن كثير، باختصار وتصرُّف).

المرأة المُسلمة يكون لها الفضل دائماً في دعم أمَّتها ففاطمة الفهرية هي بانية جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية وذلك في مُنتصف القرن الثَّالث الهجري (انظر الميلاد، 2001 م، ص 133) وهي من أقدم جامعات العالم. كثير من قاعات جامعة الأزهر ومرافقها بَنَتها امرأة اسمها الخازندارة على نفقتها وكانت امرأة صالحة مُحِبَّة للخير والأيتام. الكثير من عُلَمَاء الأزهر مدينون أدبياً ومادياً للخازندارة صاحبة العطاء المُتدفِّق وجملة من أكابر عُلَمَاء الأزهر، وقادة الفكر الإسلامي - في القرن الماضي واليوم - أتيحت لهم فرصة التَّعليم في قاعات المبنى الذي أنشأته "الخازندارة" ملحقاً بمسجدها الجامع الفخم (مُحَمَّد الغزالي، 1990 م، ص 85).

ورد في كتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي أنَّ المدرسة الحجازيَّة في القاهرة كانت مَدرسة مُحترمة إلى الغاية بل كانت من أبهج مدارس القاهرة "أنشأتها السِّت الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازيَّة ابنة السُّلطان الملك النَّاصر مُحَمَّد بن قلاون زوجة الأمير بكتمر الحِجازيّ وبه عرفت. وجعلت بهذه المدرسة درساً للفقهاء الشَّافِعِيّة ودرساً للفقهاء المالكيَّة وجعلت بها منبراً يخطب عليه يوم الجمعة ورتبت لها إماماً راتباً يقيم بالنَّاس الصَّلوات الخمس وجعلت بها خزانة كتب وأنشأت ورتبت بشباك القبَّة وعندها عدَّة قرَّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلاً ونهاراً وأنشأت بها مَنَاراً عالِياً من حجارة ليؤذن عليه وجعلت بجوار المدرسة مَكتباً للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين ولهم مُؤَدِّب يعلِّمهم القرآن الكريم ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخُبز النَّقي خمسة أرغفة ومبلغ من الفلوس وكل منهم له كِسوتي الشِّتاء والصَّيف وجعلت على هذه الجهات عدَّة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم[62] السَّنية وكان يُفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والحلوى وفي عيد الأضحى اللَّحم وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطَّعام" (ص 1759 باختصار وتصرُّف). وكانت المرأة ربَّما حضرت حفل افتتاح مدرستها ويدوِّن المؤرِّخون هذه الأيام المشهودة كما حدث في القرن السَّابع الهجري في افتتاح مدرسة الصَّاحبية، التي بنتها الصَّاحبة ربيعة خاتون[63] (ابن العماد، ج 7، 289 بتصرُّف).

في أول يوم من المحرم سنة 306 هـ = 918 م فُتِح المارستان الذي بنته السَّيدة أم المقتدر (ت 329 هـ = 933 م)، وجلس فيه العالم الكبير سنان بن ثابت ورتَّبت فيه الأطبَّاء والخدم وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان فقبل منه وبناه وسماه المقتدري كما ذكر ابن كثير. ومن المعروف أنَّ المارستانات في الحضارة الإسلامية كانت إلى جانب خدماتها الطِّبية تقوم بوظيفة التَّعليم.

كانت عائشة بنت يوسف الباعُوني (ت 922 هـ = 1516 م) من مشاهير دمشق، دوَّن المؤرّخون طَرَفاً من شِعرها ونثرها (ابن العماد، ج 10، ص 158-159). أخذت عائشة الباعُوني إجازة في الإفتاء والتَّدريس كما ألَّفت العديد من الكُتب في عِلْمِ الرَّقائق وتهذيب النَّفس. عناوين كتبها، والكلام المأثور عنها، وقصائدها في حب الوطن والطَّبِيْعَة تدل على سعة اطِّلاعها وقدرتها على الغوص على المعاني. مَنَّ الله عليها بحفظ القرآن كاملاً وهي في سن الثَّامنة وقبل أن تصل سن البلوغ كانت تُحب العبادة والطَّاعة فعاشت كما تقول "في كنف ملاطفات اللَّطيف".  

وفيما يلي المزيد من الأَمْثِلَة التي كما قلنا لا مثيل لها عند الأمم السَّابقة. لأنَّ الإسهامات الْعِلْميَّة للمرأة المسلمة كثيرة ويستحيل حصرها، ولأنَّ ميادين الْعِلْم كثيرة فإنَّنا سَنَتَعرض في عجالة لجانب من الجوانب المضيئة لإسهامات النِّساء المسلمات في عِلْم الحديث النَّبوي الشَّريف.

المرأة المسلمة من أهم مصادر نقل العلم  فهم ونقل ونشر العلم المؤدي للنَّفع في البلاد  المتَّسعة المترامية الأطراف على ممر الأيام. ذكرت الباحثة الفقيهة كوكب عبيد (2001 م) في كتابها فقه العِبادات على المذهب المالكي أنَّ فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس كانت من تلاميذ والدها، "وكانت مُحدِّثة وحافظة". تقول كوكب وهي تتحدث عن القرن الهجري الثَّاني تصف حادثة وقعت في المدينة المنورة: وقد هاجت بوفاة مالك بن أنس "الأحزان لدى الأدباء والعلماء، وقد رثته إحدى تلميذاته[64] المعجبات به والوفيات لعهده قائلةً:

بكيت بدمع واكفٍ فقْدَ مالـكٍ
ومالي لا أبكي عليه وقد بكـت


 

ففي فقْده ضاقت علينا المسالكُ
عليه الثُّريا والنُّجومُ الشَّوابِـك


عاشت شُهْدَة بنت أبي النَّصر أحمد بن الفرج (توفيت 574 هـ = 1178 م) في بغداد ونَهل من علمها جمٌّ كبير من الْعُلَمَاء، وبَعُدَ صيتها وعرفها النَّاس لاسيَّما أنها عُرِفت بالكاتبة لجودة خطِّها في زمن يتذوق ويُقدِّر أهله جمال الخط ومهارات الإبداع. سمع منها إسماعيل بن علي بن الحسين وسلمان بن رجب ونهاية بنت صدقة بنت علي الواعظة العالمة وقاضي القضاة يوسف بن رافع وعبداللطيف بن الأديب، وقمر بن هلال، والإمام على بن هبة الله، وزوجها مُحَمَّد بن روحان كما ذكر الذَّهبي في تَرْجَمَة كل منهم في كتابه تاريخ الإسلام.

ومن الأمور التي لا نَجدها في تاريخ الشُّعوب الأخرى قديماً أنَّ الرِّجال يرحلون من بلد إلى آخر ليتعلَّموا من النِّساء فالجَزَري (ت 610 هـ = 1213 م) رحل إلى بغداد، وسمع الحديث النَّبوي الشَّرَيف من شُهْدَة (ابن العماد، ج7، ص 82). قال ابن العماد (ت 1089هـ = 1679م) عن شُهْدَة "كانت ديِّنة عابدة صالحة سمَّعها أبوها الكثير وصارت مُسنِدة العراق". الصَّفدي (ت 764 هـ = 1362م) عرض تَرْجَمَة والدها بعنوان والد شُهْدَة الكاتبة (ص 1838) من شِدَّة شهرتها. لا يمكن للمرأة أن تروي الأحاديث وتتصدَّر مجالس الْعِلْم، وتتصدَّى لأسئلة الطُّلاب من دون إذن من عالِم أو عالِمة. لِكي تروي المرأة الأحاديث النَّبويَّة ولِكي تقوم بالتَّدريس يجب أن تحصل على "إجازة عِلْمِيَّة" تُين أنَّها تأهَّلت لمثل هذه المُهمَّة وبعض العالمات مثل فاطمة بنت سليمان (ت 708 = 1308 م) حصلت على إجازات من جماعة من الْعُلَمَاء (ابن العماد، ج8، ص 32). والإجازة في حقيقتها إذن يسمح لها بالتَّدريس أو الفتوى أو رواية الحديث.

قال ابن خَلِّكان عن شُهْدَة: وسمع عليها خلق كثير، وكان لها السَّماع العالي؛ ثم سرد أسماء شيوخها .. وبعدها قال "واشتهر ذِكرها وبعُد صِيتها" (وفيات الأعيان، ص: 581). فتأمَّل حفاوة المؤرِّخين بتدوين وتأريخ حياة العالمات ممن تقاطر النَّاس عليهن وانظر إلى سعة عِلْم شُهْدَة ومدى حرص الرِّجال على التَّعلُّم منها.

ومن هنا أيضاً نعلم حفاوة المسلمين بتجويد الخطوط وتشجيع المُتَّقنين مثل شُهْدَة وفاطمة بنت الحسن، أم الفضل (ت 481هـ = 1088 م) التي تُعَدُّ من أشهر كاتبات بغداد ولها طريقة أصيلة في الخط وكتبت في يوم من الأيام ورقة جميلة الخط لأحد الوزراء، فأعطاها ألف دينار كما أنها كانت صاحبت عِلْم وفهم (ابن العماد، ج5، ص 348).

فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية توفيت 524 هـ = 1129 م وهي الشَّيخة المُعَمِّرة المُسْنِدَة[65] أم إبراهيم، ‏كانت عالمة بالحديث، توفيت عن 99 عاما كما ذكر اليافعي (ص 828) وقال إنَّ أم هانئ عفيفة بنت أحمد بنت عبدالله سمعت من فاطمة المعجمين الصَّغير والكبير للطَّبراني وتَزَاحَم عليها الطَّلبة وقرءوا عليها كتب الحديث. في تَرْجَمَة مُحَمَّد بن الصَّيدلاني قال الذَّهبي في سير أعلام النُّبلاء "وسمع من فاطمة بنت عبدالله "المعجم الكبير للطَّبراني بكاملة، وهو ابن إحدى عشرة سنة" (ج 21، ص 430).

ومن تلميذاتها النَّجيبات فاطمة بنت التَّاجر العالم سعد الخير وبلقيس بنت سليمان بن أحمد وكتب عنها الحسن بن مسعود وسمع أسعد بن أبي طاهر من فاطمة كتاب "الفتن" لنعيم بن حماد وحدَّث عنها في بغداد مُحَمَّد بن أبي الفخر وأجازت زاهر بن أبي طاهر وسمع منها خلق كبير من الْعُلَمَاء كما ذكر الذَّهبي في تراجمهم في كتابه تاريخ الإسلام.‏ وبلغت شهرة وقوة عِلْم فاطمة أنَّ العالم يفتخر أنَّه أدرك أصحاب فاطمة فأجازوا له كما نجد في تَرْجَمَة العباس بن أبي الخير الحنبلي (585 - 687 هـ = 1193- 1279م) الذي أُجيز من فاطمة بنت الخير وهي راوية وتلميذة فاطمة الجوزدانية (انظر ابن تغر بردي في المنهل الصَّافي، ص 112).

فاطمة بنت سعد الخير (ت 600 هـ = 1203 م)‏ الشَّيخة المُسْنِدَة الصّالحة أم عبدالكريم. من أهل أصبهان، سمعت الحديث على والدها وشيوخ عصرها، وكانت عابدة خيِّرة ذات همّة صبورة. سمعت الحديث من الشّيخة فاطمة الجوزدانية، ومن شيوخ أصبهان.‏ وفي شَذَرَاتِ الذَّهَبِ فِي أَخْبَارِ مَنْ ذَهَبَ لابْنِ الْعِمَادِ أنها "سمعت من هبة اللّه بن الطير وخلق وتزوج بها أبو الحسن بن نجا الواعظ وروت الكثير بمصر".

عائشة بنت مُحَمَّد بن عبد الهادي (ت 861 هـ = 1456 م) مُحَدِّثة دمشق. سمعت عائشة صحيح الْبُخَارِيّ وروت عن خَلق وروى عنها ابن حَجر العَسقلاني وقرأ عليها كُتُباً عديدة وكانت في آخر عمرها أسند أهل زمانها مُكثرة سماعاً وشيوخاً وسمع منها الرَّحَّالَة فأكثروا وكانت سهلة في الإسماع سهلة الجانب (ابن العماد، ج 9، ص 178، باختصار).

كَتب أكثر من عالِم أنَّه "لم يُنقَل عن أحدٍ من الْعُلَمَاء أنّه ردَّ خبر المرأة لكونها امرأة فكم من سُنَّة قد تلقَّتها الأمَّة بالقبول عن امرأة واحدة من الْصَّحَابَة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من عِلْم السُّنَّة" (الآبادي، الشَّوكاني).

يُحدِّثُنا الْتَّارِيْخ أنَّ المرأة المسلمة ساهمت في العَمَلِيَّة الحضارية لبناء الْمَدَاَرِس والخَوَانِق والرّبط فعلى سبيل المثال نجد في بلاد الشَّام أنَّ خاتون بنت أنر (ت 581 هـ = 1185 م) زوجة الملك نور الدِّين لها مدرسة بدمشق وبَنَتْ خانقاه معروفة على نهر بانياس (النُّعيمي ج1 ص 385، ابن العماد، ج6، ص 446) وهذا يُعتبر من مفاخر الحضارة الإسلامية حيث سمح الإسلام للمرأة بالتَّملك والتَّصرف في المال والعقار فساهمت بالنَّهضة العِلْمِيَّة لأمَّتها من خلال بناء الْمَدَاَرِس والخَوَانِق والرّبط وتوفير الْعُلَمَاء في تلك الْمَدَاَرِس إضافة إلى توفير الخدمات المعيشيَّة من سكن وطعام وكِساء.

لقد "وُجِدت أربطة خاصة بالنِّساء كانت ملاذًا ومقاماً للسَّيدات ممن لا عائل لهنَّ، يوفر لهنَّ حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهنّ من الانحراف، مع مواظبتهنَّ على العبادات وتوفير الرِّعاية والإشراف الدَّائم. تقيم إحداهنَّ بالرباط إلى أن تتزوج أو يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. انتشرت الأربطة في كثير من المدن الإسلامية. فقد أوقف الخليفة العبَّاسي المستعصم بالله دار الشَّط المجاورة لدار الملك ببغداد سنة 652 هـ = 1254م رباطًا للنِّساء المحتاجات وجعل مشيخته للشَّريفة أنَّة المهتدي بالله وهي التي كانت تتولى تعليمهنَّ وإرشادهنَّ. وفي دمشق أنشأت السَّيدة فاطمة الأيوبيَّة سنة 650 هـ = 1252 م رباطاً للنِّساء الفقيرات. رباط الأشراف: أنشأه أبو بكر مُحَمَّد بن علي المارداني وأوقفه على نساء الأشراف المنكوبات من اللَّواتي أعوزهنَّ النَّصير وقعد بهنَّ الحظ وشرط أن تكون في الرباط شيخة عالمة تقيَّة جليلة تشرف على من فيه وتتولى أمورهنَّ؛ فتخفِّف من بؤسهنَّ وترشدهنَّ وتعلمهنَّ وتفقهنَّ في الدِّين. رباط الأندلس أنشأته السَّيدة علم الآمريَّة عام 526 هـ = 1122م. لإيواء العجائز والأرامل والمنقطعات، وخصصت لهنَّ ما يكفيهنَّ وجدَّدت لهنَّ بجانبه مسجد الفتح، وكان الرباط يقع غربي هذا المسجد. الذي كان يعرف بمسجد الأندلس. وفي عام 754 هـ = 1353م بنى الحاجب لؤلؤ العادلي برحبة الأندلس والرباط بستانًا وأحواضًا ومقعدًا وجمع بين مُصلَّى الأندلس والرباط بحائط بينهما" (انظر عزب، باختصار). يمكن تلخيص مقال الباحث د. خالد عزب (2001) عن دور الأربِطة في رعاية المرأة تاريخياً في نقطتين. الأولى تتمثل في أنَّ المقال شرح هدف بناء الأربطة للمرأة المسلمة وتطبيقاتها الحضاريَّة. والثَّانية تتمثَّل في سرد نماذج تاريخيَّة للأربطة التي كانت مُنتشرة في المدن الإسلامية.

ذكر المقريزي في المواعظ والاعتبار مَعلومات تربويّة عن رباط البغداديَّة وبين كيف أنَّ الخَيِّرَات من النِّساء الملازمات للرباط ممن لهن قدم في التَّصوف وتربية النَّفس كنَّ يعظنّ ويعلمنَّ ويفقهنَّ النِّساء فقال واصفاً أحد الأربطة "هذا الرباط بداخل الدَّرب الأصفر تجاه خانقاه بيبرس ومن النَّاس من يقول رواق البغداديَّة وهذا الرباط بنته السِّت الجليلة تذكارياي خاتون ابنة الملك الظَّاهر بيبرس في سنة 648 هـ = 1285 م للشَّيخة الصَّالحة زينت ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغداديّة فأنزلتها به ومعها النِّساء الخيِّرات وما برح إلى وقتنا هذا يُعرف سكَّانه مِنَ النِّساء بالخير وله دائماً شيخه تعظ النِّساء وتذكرهنَّ وتفقههنَّ وآخر من أدركنا فيه الشَّيخة الصَّالحة سيدة نساء زمانها أمّ زينب فاطمة بنت عبَّاس البغداديَّة توفيت في ذي الحجة سنة 714 هـ = 1314 م وقد أنافت على الثَّمانين وكانت فقيهة وافرة الْعِلْم زاهدة قانعة باليسير عابدة واعظة حريصة على النَّفع والتَّذكير ذات إخلاص وخشية وأمر بالمعروف انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر وكان لها قبول زائد ووقع في النُّفوس وصار بعدها كل من قام بمشيخة هذا الرباط من النِّساء يقال لها البغداديَّة وأدركنا الشَّيخة الصَّالحة البغداديَّة أقامت به عدَّة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت 796 هـ = 1393م وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النِّساء اللاتي طُلِّقن أو هُجرن حتى يتزوَّجن أو يرجعن إلى أزواجهنَّ صيانة لهنَّ لما كان فيه من شدَّة الضَّبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات حتى أنَّ خادمة الفقيرات به كانت تؤدِّب من خرج عن الطَّريق بما تراه .." (ص 1850، بتصرف).

مما سبق نستخلص أن أهم إسهامات المرأة المسلمة لحقل التَّعليم تتمثل في أنها تشرَّفت بالمشاركة في نقل القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة كما أنّها عملت في مهنة التَّدريس وإصدار الشَّهادات "الإجازة" التي تشبه شهادة الدَّرجة الْعِلْميَّة اليوم وهي رخصة لممارسة العمل في التَّعليم أو الإفتاء أو رواية الحديث. وقامت أيضاً ببناء الْمَدَاَرِس من مالها الخاص قبل أن تُمارس نساء العالم هذا الحق بقرون طويلة وذلك أنَّها من قبل ألف سنة إلى الآن لا سلطان لأحد على مالها. وفي ميدان تضميد جراح المجتمع فإنَّ المرأة المُسلمة هرعت لمساندة الأرامل والمطلقات وقدَّمت لهنَّ الزَّاد الإيماني والتَّعليمي كي يتغلبنَّ على مصاعب الحياة فكانت الخوانق والرِبط واحات أمل وعِلْم وحب وخير وإرشاد.

ولا شك أنَّ دور المرأة في تربية أطفالها كانت الوظيفة الكبرى والأمانة العظمى للمرأة المسلمة فالشَّافعيّ وابن حنبل والْبُخَارِيّ وغيرهم من الأيتام وجدوا في أمهاتهِم الدَّعم الحقيقي الذي نتج عنه النَّجاح. أمهاتهم كُنَّ أهم عنصر من عناصر تربيتهم وتوجيهم ومن ثَمَّ نجاحهم، وسطوع نجمهم في فضاء الحضارة الإسلاميَّة وهو خير من يمكن أن تُقَدِّمه امرأة لأٌمَّتِها لا سِيَّما في زمن شحَّ فيه العطاء، واشتدَّ فيه البلاء.

 

الرِّحْلَة العِلْمِيَّة في دُنْيَا الإسلام

الأسفار بما فيها من عجائب وعقبات مدرسة واسعة لا حدود لها لتنمية تجارِب النَّاس وذلك عندما يقومون باستنباط سُنن الله وآياته في المخلوقات التي يشاهدونها ويتدبرون في أحوالها كي تكون لهم عوناً في توسيع مداركهم، وتهذيب أخلاقهم، واسعاد نفوسهم، وقضاء مصالحهم، وشكر خالقهم.

المنهج الْعِلْمِي في التّفكير دفع المسلمين إلى بذل كافَّة الجهود الممكنة لتحصيل الْعِلْم في مَظَانِّه. إيمان الْعُلَمَاء بموضوعية التَّحصيل الْعِلْمي حثَّهم على رفض المعلومات التي لا سند لها مما حدا بهم إلى السَّعي الحثيث في البحث عن المعرفة من مصادرها وطلب أسانيدها الأصليَّة، وصولاً للصَّواب لأن الْعِلْمَ بلا سَنَد يُوَثِّقه كالبيت بلا عمد يُثَبِّته. يقول ابن تيمية "إنَّ الْعِلْمَ لا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَقْلٍ مُصَدَّقٍ وَنَظَرٍ مُحَقَّقٍ. وَأَمَّا النُّقُولُ الضَّعِيفَةُ لا سِيَّمَا الْمَكْذُوبَةُ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ النَّظَرِيَّاتُ الْفَاسِدَةُ .. لا يُحْتَجُّ بِهَا" (مجموع فتاوي ابن تيميَّة، ج 12 ص 57).

علماؤُنا تركوا تُراثاً ضَخماً لعبت الرِّحْلَة العِلْمِيَّة دوراً عظيماً في نمائِهِ ونقدِهِ. كانت الأسفار العِلْمِيَّة، القصيرة والطَّويلة، البرِّية والبحرية على مدار السَّنة، في طول وعرض الأقاليم الإسلاميَّة، تلعب دوراُ كبيراً في تشكيل الحضارة الإسلاميَّة، وتقدُّم مَسيرة العلوم، وتنشيط عملية كسب المعارف، وتقوية العلاقات الاجتماعية، وتحسين معايش الدُّنيا وتحقيق مقاصد الدِّين.

حَثَّ الإسلامُ المنتسبين إليه على صدقِ التَّعلمِ والتَّعليمِ، والرِّحْلَة من وسائل التَّعلّمِ قديماً وحديثاً. قال تعالى: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {122} (سُوْرَةُ التَّوبة). في سُوْرَةِ الكهف ذكر الله سبحانه كيف رحل موسى بن عمران عليه السلام في طلب العلم كي يتعلم من الخَضِر عليهما السَّلام فقال سُبحانه "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ[66] لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً {60}". قال القرطبي في تفسيره "في هذا مِنَ الفِقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصَّاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السَّلف الصَّالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الرَّاجح، وحصلوا على السَّعي النَّاجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصحَّ لهم من الذِّكر والأجر والفضل أفضل الأقسام". وهنا نرى بجلاء أنَّ الرِّحلة العلمية في الأقطار الإسلاميَّة عبر القرون كانت من عادة العلماء فضلاً عن الطلاب.

وفي سنن التِّرمذي نقرأ " "قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أَبي الدّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ فقالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنيِ أَنَكَ تُحَدِثُهُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قالَ: لاَ. قالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قالَ: لاَ. قالَ: مَا جِئتُ إِلاّ في طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ. قالَ: فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ، وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنَّ الأنبياء لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ".

في صحيح الإمام الْبُخَارِيّ كتاب الْعِلْم نجد "بَاب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ". وفي سنن الدارمي نقرأ "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلا مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَمُدُّ لِنَاقَةٍ لَهُ فَقَالَ مَرْحَبًا قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا وَلَكِنْ سَمِعْتُ أَنَا وَأَنْتَ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ قَالَ مَا هُوَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا".

كان الزَّاهد الكبير بِشْر الحافي (ت 227 هـ = 841 م) يحثُّ أهل الْعِلْم على الرِّحلة فيقول لهم "سيحوا تطيبوا فإنَّ الماء إذا كثر مقامه في موضع تغيَّر". وذكر أبو طالب المكِّي (ت 386 هـ = 996 م) أنَّ البعض قال: إنَّما سُمِّي سفراً لأنَّه يُسفر عن أخلاق النَّفس، وأيضاً يُسفر عن آيات اللّه سُبْحَانَهُ وقدره وحكمه في أرضِه" (ج 29، ص 345). لقد كان طُلاب الْعِلْم يرحلون من مدينة لأخرى لِيُشَافِهُوا الْعُلَمَاء، ويناقشوا الفقهاء بدلاً من الاعتماد التَّام على الكُتب أو السَّماع غير المباشر الذي يكون فيه نَقل المعرفة عبر وسائط غير أصلية.

في تاريخ الإسلام لعبت الرِّحْلَة دوراً كبيراً ومتميزاً في تكوين الحضارة الإسلامية المُرشدة. كانت الرِّحْلَة لعدة أغراض أهمها:

أداء فريضة الحج.

الرِّحلة لزيارة البقاع المُقدَّسة. عَنْ أَبِـي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تُشَدّ الرّحَالُ إلاّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ الأَقْصَى" (رواه النسائي).

التّجارة وكسب الرِّزق.

المرابطة في الثُّغور.

الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

العِبرة ومشاهدة عجائب الدُّنيا.

طَلب الْعِلْم النّافع وتعليمه للآخرين ويلحق به منفعة نسخ وشراء الكتب.

البحث عن بيئات عِلْمِيَّة فيها الحرِّية والعدالة والفرار من أرض الاضطهاد والقهر.

صلة الأرحام.

السِّياحة وترويح النَّفس وتفريج الكروب.

اكتشاف ثقافات الشُّعوب الأخرى والتَّعرف عليها.

الدَّعوة إلى دين الله سُبْحَانَهُ بالحكمة والقدوة الحسنة وهي من أجلِّ الأعمال وأفضل العبادات. الآيات والأحاديث الحاثَّة على تحقيق هذه المقاصد كثيرة وصريحة.

كسب صداقات جديدة وبناء علاقات اجتماعية واسعة.

الحياة لبعض الوقت مع أهل البادية كما فعل الشَّافِعِيّ والأصمعي والمُتنبي لتقوية اللِّسان والنَّفس.

الرِّحْلَة بغرض العلاج وفي تراجم بعض الْعُلَمَاء أنَّ بعضهم يتوجه إلى مصر بغرض العلاج مما يدل على وفرة الْعُلَمَاء النَّابهين. المسافر يذهب طلباً للعلاج وقد يُسافر هرباً من مدينة فيها الوباء إلى مدينة خالية من الوباء.

المهمَّات الرَّسميَّة الْسِّيَاسِيَّة.

إغاثة المحتاجين والفقراء. 

وفي تراثنا كُتب معروفة بـ "سَفَر نامة" وهي كُتب الرِّحلات العِلْمِيَّة والمشاهدات (حلاق وصباغ، 1999، ص 116). السُّيوطي جمع في كتاب من كتبه الفوائد التي وجدها في رحلته الدِّمياطية وأسماه "قطف الزَّهر في الرِّحلة الجامعة بين البر والبحر والنَّهر". من شدّة تأثير الرِّحْلَة في حياة الْعُلَمَاء فشت صيغ كثيرة ثرية تصف الرَّحَّالَة ومَن لم يَرحل قد يَكتب أهل الْتَّارِيْخ في سيرته "لم يرحل" في شبابه أو شيخوخته وذلك للتَّنبيه على مصادر علومهم. وبما أنَّ الرِّحْلَة وحدها لا تكفي لقبول الْعِلْم فإنَّهم اشترطوا حُسن الحِفظ والفهم والأمانة في التَّدوين كي ينال الرَّحال الأهليَّة للرِّواية.

من خلال قراءاتنا في الكتب التُّرَاثية لاحظنا تَفنُّن المؤرِّخين في وَصف العالِم أو المتعلِّم صاحب الحياة الحافِلة بـالرِّحْلات العِلْمِيَّة وظفرنا ببعض عباراتهم الوصفية التّصويرية للدَّلالة على ذلك كقولهم عن العالِم أو المتعلِّم وما يتصل بشئون الرِّحْلَة: كان من الرَّحَّالَة، أحد الرَّحَّالِين، العالِم ابن مُفْلِح (ت 884 هـ = 1479 م) القدوة الرِّحْلَة، رِحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ، قصده الرَّحَّالُونَ، انتهت إليه رئاسة الرِّحلة، وقصده الطُّلاب من نواحي الأرض ... وألَّف كُتُباً تُشَدُّ إليها الرِّحال، كتابٌ تحطّ الرِّحال عنده، أَلقى عصى التِّرحال، فذكر رحلته في طلب الحديث ودورانه في الأقاليم، راحَلَهُ: عاوَنَهُ على رِحْلَتِهِ، واسْتَرْحَلَهُ: سَألَهُ أن يَرْحَلَ له، وقصدوه من البلاد وتنافسوا في الأخذ عنه.

وهكذا ظفرنا بأكثر من 50 عبارة[67] أو كلمة منثورة في بطون كُتُبِنَا التُّراثيَّة واستخدمها الأوائل لوصفِ عَمَلِيَّة الرِّحْلَة العِلْمِيَّة للرَّجل والمرأة مما يدل على أنَّ الرِّحْلَة العِلْمِيَّة كانت من مُكوِّنات حياتهم اليوميِّة، ويتفنَّنون في التَّعبير عنها مع مراعاة الدِّقة في الوصف، فكل وصف قد يحمل في طيَّاته درجة ومكانة الموصوف. ولهذا فإنّ هذه الكلمات تُوحي ببعض خصائص ومقاصد الرِّحْلَة العِلْمِيَّة.

الدمياطي (ت سنة 705 هـ = 1305 م) كان حامل لواء عِلم الحديث وعِلْم اللّغة في زمانه. كان يكتب التَّآليف الممتعة التي انتشرت بين النَّاس. تردَّد الطَّلبة إليه من سائر الآفاق وتنقَّلوا من المدائن لسماع عِلْمه. تَعلم الدمياطي من الْعُلَمَاء، ورحل وطاف ثم عندما استكمل تعليمه قام بتعليم النَّاس، فبذل جهده في نشر الْعِلْم في مصر وجمع معجماً لمشايخه الذين لقيهم في رحلاته العِلْمِيَّة بالشَّام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر وعددهم يزيد على ألف وثلاثمائة شيخ وهو مجلدان، وجمع ما لم يُسبق إليه ولم يزل يُعلِّم النَّاس إلى أن أدركته وفاته وهو صائم (انظر ابن كثير، البداية والنَّهاية).

ابن النَّجار البغدادي (ت 643 هـ = 1245 م) صاحب كتاب ذيل تاريخ بغداد رحل رحلة عظيمة إلى الشَّام، ومصر، وهَراة، ونيسابور، والحجاز، وأصبهان واستمر في رحلته العِلْمِيَّة سبعاً وعشرين سنة وخلالها جمع وكتب وحصَّل الكثير من الْعِلْم وعُني بهذا الشَّأن عناية بالغة. كان كما وصفه المؤرخون من محاسن الدُّنيا وشيخ وقته. قبل موته أوقف[68] كتبه في مكتبة المدرسة النِّظَامِيَّة كي ينتفع بها النَّاس (ابن العماد، ج 7، ص 392، ابن قاضي شهبة، ص 155).

الخيال يجعلنا نتصور الرحَّال المسلم قديماً كسندبادٍ بري وبحري يحمل الخرائط بيد وفي اليد الأخرى بعض متاعه وبصُحبته بعض الكتب، ودابته تحمل طعامه ورَكْوَةٍ من الجلد فيها الماء، وشغفه بالمعرفة يدفعه إلى أن يسير في الفَلَوات مع الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ إلى مدن بعيدة وجزائر نائية يريد أن يدوِّن كما دوَّن ابن بطُّوطة (ت 771هـ = 1369م) عجائب الأخبار والآثار ثم يعود لموطنه بعد أن رأى الأمصار. كان الوصف باللَّفظ وسيلتهم "الفوتوغرافية" المُتحرِّكة النَّابضة لتصفُّح العباد والبلاد والذِّكريات. وتأمَّل الكلمات التي وُصِف بها ابن بطوطة: "جوال الأرض ومخترق الأقاليم بالطُّول والعرض أبو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطّوطة .. الذي طاف الأرض مُعتبراً وطوى الأمصار مختبراً وباحث فرق الأمم وسبر سير العرب والعجم ثم ألقى عصا التِّسيار .. بعد طول اختبار البلاد والخَلق" (مقدمة كتاب رحلة ابن بطوطة، باختصار).

الذي يُحسِن إلى الرَّحَّالَة ويُكرمهم يقولون عنه"كان عَجباً في الإحسان إلى الرَّحَّالَة وإفادتهم" (ابن العماد، ج6، ص 91). قال الجوزقي (ت388 هـ = 998 م) "أنفقت في طلب الحديث مئة ألف درهم، ما كسبت به درهماً" (الذَّهبي، ج 16، ص 494). الطَّبراني (ت 360 هـ = 970 م) ارتحل به أبوه وحرص على تعليمه فبقي في الارتحال ستة عشر عاماً" (الذّهبي، ج 16، ص 119). وقال مُحَمَّد بن سلام البيكندي الحافظ (ت 225 هـ = 839 م) "أنفقت في طلب الْعِلْم أربعين ألفاً، وفي نشره مثلها" (ابن العماد، ج 3، ص 117).

العالم كثيراً ما يُوصف بأنَّه يُواصل الطَّاعة ليله بنهاره، خشن العيش، زاهد النَّفس. سعد الخير والد العالمة فاطمة تفقَّه على يد أبي حامد الغزالي وغيره ببغداد وكانت عنده الكتب الكثيرة الجيدة كما ذكر ذلك الذَّهبي في تاريخ الإسلام. لقي الشَّدائد ورأى العجائب في طلب الْعِلْمِ وسافر وركب البحار وكان صاحب ثروة ومال طائل وكان ثقة صدوقاً كما ذكر المؤرخون من أمثال الصَّفدي (ص 4044). تُوفي سعد عام 541 هـ = 1146 م وسُمِّي بالصِّيني الأندلسي لكثرة أسفاره لهذه البلاد.

كانت الحجاز والعراق والشَّام ومصر واليمن والمغرب والأندلس وغيرها من البلاد الإسلاميَّة تشهد أفواجاً مِن الطُُّلاب الصِّغار والكبار يدخلون وينزلون ويخرجون منها وهم يحملون الكُتب بعد نسخها أو شرائها وكان عِزَّهم في الوقوف عند باب الْعُلَمَاء لا الأمراء. الفقر والغنى، الشِّتاء والصَّيف، الرِّياح والأمطار، الحياء والخجل، والخوف من الفشل من الموانع والحواجز التي صادفتهم ولكن لم تُحبِّط هِممهم العالية ولم تستطع الشَّدائد أن تُثنيهم وهكذا المرء "إِن كانَ للمرءِ عزمٌ في إِرادتِه" كما يقول الزَّهاوي في شعره.

النِّية الحسنة أهم وصية للعُلَمَاء في توديع طُلابهم وهم في طريقهم لطلب الْعِلْمِ. النِّيات الحسنة أول ما يجب أن يتحلَّى بها المُتنقِّل طلباً للعلم ولا مناص ولا خلاص إلا بالإخلاص في جميع الأقوال والأفعال. عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أنَّه قال: من طلب الحديث لغير الله مُكر به. ومن كلام سفيان: ما من عمل أفضل من طلب الحديث، إذا صحت النِّية فيه. عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنَّه قال: إنَّ الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمَّة برحلة أصحاب الحديث. ولأنَّ طلب الْعِلْم جهاد، والجهاد لا يكون من غير صبر فإنَّ الإخلاص والصَّبر خير زاد للسَّائرين.

في كتابه إسلامنا يقول سيد السابق "إنَّ الإنسان إذا خاف من الله عزَّ وَجَلَّ كف لسانه عن الهجر، والكذب، والغيبة، والنَّميمة، والسُّخرية، والهمز، واللَّمز .. وامتنعت العين عن النَّظرة الخائنة، وطهر القلب من الغل والحسد، والفسق والكبر والرِّياء، والنِّفاق، وسائر الصَّفات الذَّميمة، التي يبغضها الله ويمقتها الإسلام. وقد يُقال: إنَّ القوانين يمكن أن تحل محل الخوف من الله. والحقَّ .. أنَّ القوانين مهما كانت صارمة فإنَّها لا تنفع كما ينفع الخوف والخشية من الله عزَّ وَجَلَّ" (ص 89).

كانت من عاداتهم الطَّيبة أن يودِّع الطَّالب أساتذته ويستشيرهم في رحلاته والبلدان التي ينبغي أن يزورها والْعُلَمَاء النُّبلاء في كل مدينة. عادة لا يبخل العالِم بالنُّصح ويوجه الطُّلاَب إلى أهمية التَّحلي بالأخلاق الكريمة، والصَّبر، وأكل الحلال، والتَّوكل، وضرورة تدوين الْعِلْم وحفظ المتون. عزم أحد الطُّلاَب على الرِّحْلَة فأوصاه يوسف بن أيوب بأن لا يدخل على السَّلاطين، وأن يأكل الحلال (الذهبي، ج18، ص 68).

قَبل السَّفر يتزود الرَّحَّالَة بضرورات يحتاجون لها في سفرهم والكتب كانت من مُستلزمات السَّفر فالكتاب خير جليس وأنيس في الحضر والسَّفر. البحث عن المُصنفات المُستملحة والإطلاع على الكتب الأصيلة مهما تنقل الإنسان المسلم جعل الأثرياء والفقراء يحملون معهم كتبهم في تنقلاتهم.

قال السِّلمي استأذنت أمي في الحج سنة 366 هـ = 976 م فقالت لي:"توجهت إلى بيت الله، فلا يكتبن عليك حافظاك[69] شيئاً تَستحي منه" (الذَّهبي، ج17، ص 249). وحدث أن تأخر أو ترك بعض الطُّلاَب الرِّحْلَة لأنَّ أمهاتهم لم يأذنَّ لهم بالرِّحْلَة ومن أرسخ صفات طالب الْعِلْم توقير الوالدين. وكم من عالم استأذن والدته أو والده في الرِّحْلَة فلم يُؤذن له فترك الرِّحْلَة توقيراً لمقامهما مما يدل على خُلُق رفيع.

ومن نتاج تلك  الرِّحْلات أن سبق المفكرون المسلمون إلى تأسيس عِدَّة علوم مثل عِلْم الاجتماع، والجغرافيا البشرية، وعِلْم الإنسان الإسلامي (الأنثروبولوجيا). إنَّ رحلات وكتابات ابن بطّوطة، وابن فضلان، وناصر خسرو واليعقوبي والْخُوَارَزْمِيّ وابن خلدون والمقريزي وابن جُبير رسمت معالم علومٍ جديدة وسبقوا غيرهم في إعداد عِلْمِ الخرائط التَّفصيلية للبلدان بعد معاينة وتطبيق. كُتبهم تتسم بدراسة واعية دقيقة أمينة في عَمَلِية فهم الثَّقافات والشُّعوب والبيئة المادية. أحسن التَّقاسيم، في معرفة الأقاليم كتبه مُحَمَّد بن أحمد المقدسي، وهو كتاب يتتبع به أوصاف الأقاليم. ذكر فيه كما يقول حاجي خليفة "أحوال الرُّبع المعمور، وبلاده، وبرِّه، وبحره، وجبله، ونهره، وطرقه، ومسالكه، ومعادنه، وخواصه. وقال: إنَّه لا بد منه للمسافرين، ولا غنى عنه للعُلَمَاءِ، والرُّؤساء. وذكر: أنَّه جمعه بعدما جال، ودخل الأقاليم، وتفطَّن مساحتها بالفراسخ، واستعان على ما لم يشاهده بالفحص عنه من النَّاس، فما وقع اتفاقهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذه".

يقول د. مُحَمَّد رياض "وقد ترتب على الرِّحْلَة الإسلامية نمو أسس معرفية لعلوم عديدة أخصها الجغرافيا والأنثروبولوجيا والاجتماع والسِّياسة، وبدايات عِلْم الخرائط التَّفصيلية للأقاليم بدلاً من الاعتماد على خريطة العالم التي رسمها بطليموس الجغرافي السَّكندري في القرن الثَّاني الميلادي، والشِّيء نفسه تكرّر في العصر الحديث الذي بنى فيه الأوربيون علومهم على معارف المسلمين. وأول الجغرافيين العرب كان الْخُوَارَزْمِيّ (ت 236 هـ = 850 م) الذي كان متأثراً بجغرافية بطليموس. اليَعقوبي (ت 284هـ = 897 م) اهتم بما نسميه الآن الجغرافيا البشرية. وابن خرداذبة (ت 300 هـ = 912 م) اهتم بالطُّرق والمسافات في كتابه " المسالك". وابن فضلان (بدأ رحلته إلى نهر الفولجا عام 309 هـ = 921 م). والمسعودي (ت 346 هـ = 957 م) صاحب "مروج الذَّهب" الذي تضمن وصفاً لاستدارة الأرض ومظاهرها الطَّبيعية وحضارات الماضي وشعوبه وبلاد الإسلام. برز من بين الرَّحالَة الشَّريف الإدريسي (ت 562 هـ = 1166م) صاحب خريطة العالم. ياقوت الحموي (ت 626 هـ = 1228م) صاحب "معجم البلدان"، سار في اتجاه بحثي هام وغير مسبوق، حفظ لنا الكثير من أسماء وأبحاث الجغرافيين السَّابقين الذين فقدت أعمالهم" (باختصار وتصرف).

المقريزي في كتابه المواعظ يذكر مدى ارتباط النَّاس بالرِّحْلَة فيخبرنا عن سوق المرحلين في مصر ففي القرن الثَّامن الهجري كان السُّوق عامراً بالحوانيت المملوءة برحالات الجمال وأقتابها وسائر ما يحتاج إليه المسافر في رحلته وخاصة في مواسم الحج "فلو أراد الإنسان تجهيز مائة جمل وأكثر في يوم لما شق عليه وجود ما يطلبه من ذلك لكثرة ذلك عند التّجار في الحوانيت بهذا السُّوق وفي المخازن" (ص 1191). ووصف المقريزي التُّجار هناك بأنَّهم يُعرفون بكثرة الأموال والغَناء الوافر والسَّعادة الطََّائلة ويقلُّ هذا الازدهار عندما تنشب الحروب بين المسلمين.

عمل الكثير من الحُكام على توفير الأمن وسبل الرَّاحة للرَّحالة قدر المستطاع في عهد العباسيين (132 – 656 هـ = 750 – 1258م) وعهد السَّلاجقة (429 –590 هـ = 1038-1194م). عندما كَثرت  الرِّحْلات وزادت الْمَدَاَرِس والخَوَانِق في بغداد وبلاد فارس كانت بعض الأقاليم في غاية الأمن "بحيث إذا أُعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لا ينقص منه شيء" وكان بعض الولاة مثل بدر بن حسنويه (ت 405 هـ = 1014م) "يصرف في كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين ... وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وحفر الآبار وما اجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بنى عنده قرية" (انظر ابن كثير، البداية والنهاية، أحداث سنة 405 هـ، ابن العماد، ج5، ص 29).

د. جونوثان بلوم وزوجته د. شيلا بلير اللذان يعملان في بوسطن كولج يؤكِّدان على أنَّ المدن الإسلامية المتطوِّرة قَدَيْماً - مثل بغداد والقاهرة - لا يمكن أن تُقاس بالمدن الأوربية حينذاك - مثل لندن وباريس - لأنَّ المدن الإسلامية المليئة بالسُّكان، والكُتب، والحركة، والحمامات النَّظيفة، تدل على حضارة راقية تتضاءل أمامها الحياة الضَّعيفة لأوربا في تلك الفترة. في كتابهما الإسلام: ألف سنة من القوة والإيمان[70] ذكراً أنَّ الرَّحالَة في البلدان الإسلاميَّة عندما يُسافرون بغرض التِّجارة قد يحمل التَّاجر معه ورقة صغيرة تشبه الحوالة البنكيَّة هي الصّك بموجبها يستلم صاحبه المال نقداً من بيت المال أو الوالي وأنَّ كلمة شيك (check) الفارسية الأصل هي المُستخدمة حالياً عندهم أصلها الصَّك. الصَّك تاريخياً وفَّر على المسافر المسلم حمل ألوف الدَّنانير معه (Bloom & Blair, 2001, pp. 12. 105. 115). بمعنى أنَّهم استخدموا ما يشبه الشّيك السِّيَاحِيّ وهذا لا يتم إلا في أجواء الثِّقة والدِّقة بمصداقية النِّظام المَصْرِفِيّ حينذاك.

ومِن نوادر الرِّحْلَة أنَّ شيخ الأندلس يحي بن يحي (234 هـ = 848 م) كان يوماً يَدْرس عند مالك بن أنس في المدينة المنورة فقدم فِيل وخرج النَّاس ينظرون إليه ولم يخرج، فقال له مَالك: لَم لا تَخرج تنظره فإنَّه ليس ببلدك فيل؟ فقال يحي: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم هديك وعلمك، فقال له مالك: أنت عاقل الأندلس (ابن العماد، ج3، ص 160). فهذه هي الأسباب الحقيقية التي جعلت طَالِباً مسلماً من أوربَا يرحل ويَجلس عند مالك عالم المدينة الأجلّ في زمنه.

 

تَعلِيمُ العميان

إنّ الآيات القرآنية في سورة عبس هي الأساس الإنساني لانطلاقة مسيرة قطار التَّعْلِيْم للمعاقين تاريخياً على خارطة الحياة المسلمة. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ في عتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأن عبدالله بن أم مكتوم الأعمى "عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الأعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3}" (سُوْرَةُ عَبَسَ). والفرق بين سبق الإسلام في تقرير حق التَّعلّم والتَّعْلِيْم للمعاق وبين جهود الآخرين الحديثة أنَّ القرآن الكريم نادى بحقوقهم في العهد المكي قبل أن تصل الأُمَّة المسلمة إلى حياة الرَّخاء فرغم صعوبة الدّعوة في مكة نزلت الآيات لتوجيه عناية النَّبيّ في بذل المزيد من الجُهود لهذه الطَّبقة مهما كانت الظُّروف. كان الإرشاد للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه فكانت مسألة تعليم العميان قِمَّة التَّكريم لهم، وقِصة التَّعليم لمن بعدهم. أصبح حق التَّعْلِيْم للمعاقين مكفولاً بمكرُمة سماوية وبنصِ آية قرآنيةٍ خالدةٍ تُتلى إلى يوم الدِّين. نَعم "فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ {14}" (سُوْرَةُ عَبَسَ) جاء الخطاب والعتاب للنَّبيّ الكريم كي يباشر بنفسه - وعلى الفور مهما كَثُرَتْ عَلَيْه المشاغل - تعليم عبدالله الأعمى تعليماً يجعله لاحقاً من الكرام العالمين البررة ومن خواصِّ الصَّحابة. فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك –كما ذكر القُرطبي في تفسيره- إذا رأى ابن أم مكتوم يبَسط له رداءه ويوسِّع له في مجلس الْعِلْم فيجعله قريباً منه ويلاطفه قائلاً: (مرحبا بمن عاتبني فيه ربي). ويقول له أيضاً: (هل من حاجة)؟ فيُقبل على تعليمه مهما كانت المشاغل. ثم جاء العهد المدني فكان عبدالله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قد نضج فكره، واكتملت شخصيته فاستخلفه النَّبي صلى الله عليه وسلم على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما. ومِن مَخايل الخير وملامح الصَّلاح في شَخْصِيَّة  عبدالله بن أم مكتوم أنَّه أصرَّ على المشاركة يوم القادسية راكباً وعليه درع ومعه راية سوداء ليرفع هِمم المجاهدين، وليوهم الأعداء بِكثرة عدد المسلمين[71].

فيما يلي المزيد من الأَمْثِلَة الإجرائيَّة النَّبيلة الدَّالة على أثر توجيهات الإسلام المباركة في رُقِي القِيم التَّربوية التي نهضت بالمسيرة التَّعْلِيْمِيَّة عند المسلمين.

أبو منصور الخيَّاط (ت 494 = 1101م) وهو إمام مسجد في بغداد جلس لتعليم العميان دهراً لله عزَّ وَجَلَّ، يدعو لهم، وينفق عليهم، ويخدمهم. قال المؤرّخون لقد بلغ عدد مَنْ دَرَسَ عند إبراهيم مِنَ العميان 70 نفساً. قال الذَّهبي مُعَلِّقاً "ومَن لَقَّن القرآن لسبعين ضريراً، فقد عمل خيراً كثيراً" (الذّهبي، ج19، ص 223، ابن العماد، ج 5، ص 417). وما ذكره الذَّهبي قاعدة إنسانية قيِّمة عمل المسلمون على تطبيقها كلَّما وجودوا إليها سبيلاً. أبو العباس البصير (ت 393هـ = 1002 م)، اسمه أحمد الرَّازي، وُلد أعمى ونشط في التَّعلم حتى غدا من أركان عِلْمِ الحديث النَّبويّ الشَّريف وأحرز قَصَبَ السَّبق في زمانه وصار من كبار الحفاظ الثَّقات ممن يأخذ الْعُلَمَاء منهم (ابن العماد، ج4، ص 517). ابن سيده، علي بن إسماعيل (398-458هـ = 1007- 1065 م)، العالِم الأندلسي صاحب كتاب المخصَّص - وهو من معاجم اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ  - كان أعمى ابن أعمى والنّاس عالة على كتبه في اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إلى هذا اليوم فتجد في كتب اللّغة يقولون عن كلمة من الكلمات قَالَ ابْن سيدة: أراها غير عربية.. قال ابن سيدة النَّفر ما دون العشرة .. قال ابن سيدة: الصَّنم يُنحت من خشب ويُصاغ من فضة ونحاس.

القابسي، علي بن مُحَمَّد بن خلف المعافري (324 – 403 هـ = 935 – 1012 م)، من أعلام التَّربية الإسلاميَّة، كان ضريراً واشتهر بشغفه بالارتحال في طلب الْعِلْمِ وكتبه التي ألَّفها تُعَدُّ من أجود الكتب ضبطاً ودقّة وتقييداً وذلك أنَّه كان يجلس بنفسه مع ثقات أصحابه ليدِّونوا كلامه بدقَّه ويراجعونه معه. اشتهر القابسي بتصانيفه الفائقة ومنها رسالة مفصلة لأحوال المتعلمين تكلَّم فيها عن أحكام المُعَلِّمين والمتعلِّمين (باقارش والآنسي، 1986م، ص 163، ابن فرحون، 2001م، ص 224). مُحَمَّد المراكشي (ت 752 هـ = 1350 م) كان ضَرِيراً، ولا يترك التَّعلم إلا إذا لم يجد من يُطالع له وعاش مع الفِكْر والثَّقافة جميع نهاره وغالب ليله إلى آخر لحظة من حياته.

يؤكد الصَّفدي في كتابه نَكت الهميان[72] في نُكت العميان على أهمية رعاية العميان. لقد صنَّف ابن قتيبة (ت 267 هـ = 880 م) كتابه المعارف ثم جاء ابن الجوزي (ت 597 هـ = 1201 م) في كتابه تلقيح فهوم الأثر فبدأ التَّخصص الْعِلْمِي في هذا الحقل فتتبَّع تاريخ المعاقين وقام بتقديم وثائق تاريخية تدل على عبقرية العميان العظام وأخذ الْعُلَمَاء في التَّعريف بهم وبمساهماتهم. تشمل تلك الكتب على أهم أخبار العميان في حياتهم التَّعْلِيْمِيَّة وسائر الأوجه الدِّينيَّة والدُّنيوية. لقد وَجد الْعُلَمَاء في تاريخنا المجيد ومن خِلال تعليمهم للعميان أو تعلُّمهم منهم أنَّه قَلَّ أن وُجِد أعمى بطيء التَّعلم وأنَّ مُعظمهم من طبقة الأذكياء. ومن أسباب نبوغهم كما يقول الصَّفدي "إنَّ ذهن الأعمى وفكره يجتمع عليه ولا يعود مُتشعباً بما يراه ونحن نرى الإنسان إذا أراد أن يتذكَّر شيئاً نسيه أغمض عينيه وفكَّر فيقع على ما شرد من حافظته. وفي المثل: أحفظ من العميان " (ص 48).

هكذا تحدَّث الْعُلَمَاء عن إعجابهم بالعميان وحللَّوا نفسياً سبب نبوغهم وبكامل الحب والعرفان كتبوا في فن تاريخ العميان لتبدأ صفحة جديدة من صفحات التَّربية الخاصَّة. والحق أنَّ مساهمات العميان في الفِكر لا يمكن أن تُنكر وقبل كل شيء فَهُم الذَّين علَّمونا كيف يكون الشُّكر مع الصَّبر.

يحدِّثنا الصَّفدي في نفس الكتاب سابق الذِّكر عن سبْق عجيب لاكتشاف مُبْتَكر يتيح للأعمى فرصة القراءة والعمل داخل المكتبة قبل أن يخترع لويس برايل طريقته في سنة 1240هـ = 1824م وينشرها في سنة 1245هـ = 1829م ثم اكتملت في عام 1253 هـ = 1837م. الشَّيخ الإمام العلامة زين الدِّين أبو حسن الحنبلي الآمدي العابر كان شيخاً ثقة صدوقاً كبير القدر والسِّن كتب المؤرِّخون عن سيرته وهي حَرِيَّةٌ بالسَّرد كي يَعْرِف المُعَلِّمون عُلو همَّة الأوائل، ومدى تفنّنهم في اختراع الوسائل، والعيش دائماً مع الْعِلْمِ والمسائل. كان الآمدي آية عظيمة في الْعِلْمِ وفنِّ تعبير الرُّؤيا مع مزايا نادرة ورغم أنَّه فقد حاسة البصر في أوائل عمره إلا أنَّه ظلَّ في مسيرته التَّربوية يُعطي ويأخذ الْعِلْم. وله حكايات غريبة سنذكر طَرَفاً منها هنا. كان الآمدي أستاذاً في المدرسة المُستنصرية ببغداد، وله غرفته الخاصة به (عزب، 2001) ويلتقي مع كبار المسئولين والأمراء في عصره.

قال الصَّفدي "ومن تصانيفه: جواهر التَّبصير في عِلْم التَّعبير. وله تعاليق كثيرة في الفقه والخلاف وغير ذلك. وانتفع به جماعة. وكان يُتجر في الكتب. وله كتب كثيرة جدّاً وكان إذا طُلب منه كتاب وكان يعلم أنَّه عنده نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها كأنه قد وضعه لساعته وإن كان الكتاب عدَّة مجلّدات وطلب منه الأول مثلاً أو الثَّاني أو الثَّالث أو غير ذلك أخرجه بعينه وأتى به. وكان يمس الكتاب أولاً ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة فيكون الأمر كما قال. وإذا أَمَرّ يده على الصَّفحة قال عدد أسطر هذه الصَّحيفة كذا وكذا سطراً فيها. بالقلم الغليظ كذا وهذا الموضع كتب به في الوجهة فيها بالحمرة هذا وهذا لمواضع كتبت فيها بالحمرة. وإنَّ اتَّفق أنها كُتبت بخطّين أو ثلاثة قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا من غير إخلال بشيء مما يُمْتَحن به ويعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشِّراء وذلك أنَّه كان إذا اشترى كتاباً بشيء معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لَطيفة وصنعها حَرفاً أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الجُمل[73] ثم يلصق ذلك على طَرف جلد الكتاب من داخل ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبَّد فإذا شذَّ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتبه مسّ الموضع الذي علّمه في ذلك الكتاب بيده فيعرف ثمنه من تَنبيت العدد المُلصق فيه. وكان لا يُفارق الإشغال والاشتغال (التَّعلم والتَّعليم) أبداً وعنده تودّد عظيم في حاله وتؤدة تامَّة في سائر أموره وحركاته وللنَّاس والحكام والرُّؤساء عليه إقبال عظيم لخيره وفضله وورعه ودينه وعِلْمه ونزاهته ومُروته وتوفي رحمه الله تعالى بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة للهجرة = (1312م)" (ص 159-160).

وهكذا يرجع الفضل إلى الآمدي في ابتداع الكتابة البارزة للعميان ولولا كُتب التُّراث لطوى ذكره النِّسيان إلى آخر الزَّمان. عندما قامت جريدة السَّنتر ديلي تايم الأمريكية بالاتِّفاق مع بدر ملك لكتابة بضعة مقالات خاصة لجريدتهم كانت قصَّة الآمدي من ضمن الموضوعات التي نشروها له على صفحات جرائدهم (Malek, 2001) والسَّبب في اختيار هذه القصة أنها تَحكي مفاخر التَّربية الإسلامية التي جاءت لترسيخ وتطبيق قيم العدالة بجميع صورها ويمكن للإنسانية أن يَستفيدوا من دروسها الثَّمينة.

نور الدِّين أبو طالب عبدالرحمن بن عمر وُلد في سنة 624 هـ = 1226م في قرية من قرى البصرة وبينما هو في سِن الطُّفولة كُفَّ بصره 634 هـ = 1236م ولكنَّه لازم الاشتغال أي التَّعلم حتى أصبح عالماً وبدأ في سنة 648 هـ = 1250م يُفتي النَّاس في أمور الدِّين. تَولى التَّدريس في مدرسة شيخه ابن دُوَيْرة. تمَّ تكريمه في بغداد عاصمة الخلافة وأُعطي المكافأة التي يسمُّونها "الخلعَة" وأُلْبِسَ الطّرحة السَّوداء سنة 652 هـ = 1254م في خِلافة المُستعصم. الطّرحة تُوضع على رأس الْعُلَمَاء وفي ذلك تكريم رسميّ من الدَّولة للعالِم. كانت الْمَدَاَرِس الكبيرة تطلب من عبدالرحمن أن يُدرِّس عندهم لما له من عِلْم وسمعة حَسنه. تُوفي نور الدِّين عبدالرحمن بن عمر - الإمام المفسِّر المُحدِّث الفقيه - سنة 684 هـ = 1284م (ابن العماد، ج 7، ص 675).

عُرِف الخليفة هارون الرَّشيد (193 هـ = 808 م) بتواضعه للعُلَمَاء وكثرة سماع محاضراتهم استدعى إليه أبا معاوية الضَّرير مُحَمَّد بن حازم فسمع منه العِلم - كما تَذكُرُ كُتُب التَّاريخ (ابن كثير، ابن العماد، ج2، ص 141) - قال أبو معاوية ما ذكرتُ عند هارون الرَّشيد حَدِيثاً إلا قال صلى الله عليه وسلم وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثَّرى وأكلتُ مع الرَّشيد طَعَاماً يوماً من الأيام، فصبَّ على يديَّ الماء رجلٌ لا أعرفه، فقال هارون: يا أبا معاوية! تدري من يصبّ على يديك؟ قلتُ: لا. قال: أنا. قلت: أنت أمير المؤمنين! قال: نعم إجلالاً للعِلمِ.

ومن وصايا الأمراء للأمراء كتب القائد طاهر بن الحسين لولده وصيَّة وجَّهها إليه عندما ولاه الخليفة المأمون (198 - 218 هـ = 813  –  833 م) مصر ومما جاء فيها في الوصاية بالعميان والمرضى "واجر للأضرَّاء من بيت المال، وقدِّم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقوماً يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم، ما لم يؤد ذلك إلى سرف بيت المال" ولقد نقل ابن خلدون إعجاب النَّاس والأمراء بتلك الوصايا الخالدة (حوى، 1982، ص 210).

حسن بن مُحَمَّد الإربلي (ت 660 هـ = 1261 م) كان النَّاس يدرسون عنده في منزله عِلْمَ الأوائل (ابن العماد، ج7، ص 522) أي تُراث اليونان في الفلسفة والعقليات وكان يتردد على مجلسه علماء أهل المِلَلِ كلها كاليهود والنَّصارى وغيرهم ورغم نقد بعض المؤرخين له في عِلْمِهِ وسلوكه إلا أنَّهم يعترفون بأنَّه كان ذَكِياً في كثير من العلوم ويذكرون أنَّ الملوك في زمنه يُكْرِمونه ولا يردُّون شفاعته.  

في شَذَرات الذَّهب لابن العِماد (ج7، ص 121-123) نجد سيرة عالمٍ أعمى من كواكب الْعُلَمَاء حلَّق في فضاء الحضارة الإسلامية بقيمها الإنسانيَّة النَّفيسة. العلامَّة أبو البقاء محب الدِّين عبد الله بن الحسين بن أبي البقا العكبري الأزجي الضَّرير (ت 616 هـ = 1219م) حاز قَصَبَ السَّبق في العربية وتخرَّج به خلق. ذهب بصره في صِغره بالجدري وكان ديناً ثقة وإماماً في علوم القرآن، والفِقه، واللُّغة، والنَّحو، والعروض، والفرائض، والحِساب وله في هذه الأنواع من العلوم مصنَّفات مشهورة. كان في طلبه للعلم مُعيداً للشَّيخ أبي الفرج بن الجوزي ثم عندما أصبح عالماً أصبح يُفتى في تِسعة علوم. كان - كما كَتَبَ عنه طُلابُهُ - حَسَن الأخلاق، مُتواضعاً، كَثير المحفوظ، مُحِبّاً للاشتغال أي تعلُّم العِلم والأشغال أي تدريس الطُّلاَب ليلاً ونهاراً، ما تمضي عليه ساعة بلا اشتغال أو اشغال. ومن أجمل ما كانت الأسرة المسلمة تتمتع به كونها أسرة مُثقَّفة تربطهم العلاقات العِلْمِيَّة فلقد كان أبو البقاء الأزجي الضَّرير يجلس مع زوجته وهي تقرأ له باللّيل كُتب الأدب وغيرها. كان أبو البقاء إذا أراد أن يُصَنِّف كتاباً أُحضرت له عدة مصنَّفات في ذلك الفن فيطلب ممن حوله القِراءة فإذا حصَّله في خاطره أملاه.

ومما سبق نعلم أنَّ الإملاء وسيلة استخدمها الْعُلَمَاء العميان ممن توجَّه للتَّأليف والتَّدريس وطريقة الإملاء والمعروفة باسم الأمالي من أشهر طرق التَّعليم في تراثِنا المجيد حيث يجلس العالم فيُلقي الدَّرس والطُّلاب من حوله يقيدون الكلام في أوراقهم. المقصري (ت 975 هـ = 1567 م) كُفَّ بصره "ومع ذلك كان على عادته من التَّدريس والإفتاء والتَّصنيف" (ابن العماد، ج 10، ص 553). كما كانت الرَّغبة في التَّعليم عند بعض "الأطبَّاء في المراتب العِلميَّة أقوى من ميلهم الى ممارسة الطِّب قبل أن يفقدوا حاسة البصر "وكثير من هذا الصِّنف لم ينقطعوا عن التَّدريس حتى بعد أن أقعدهم العمى عن الوصول الى البيمارستان، فمارسوه في مجالس بيوتهم" (صابر، 2001 م).

الغرب عندما يدوِّن تُراثنا ويدرسه فهو كثير الحفاوة بمنجزاتنا الماديَّة في الطِّب والكيمياء والهندسة المعماريَّة وهذا تَوجه جيد ولكن المُلاحظ أن المُستشرقين يغفلون عن رصد نمو وازدهار القيم الإنسانيَّة في تاريخنا فمدارسنا في كثير من الأحيان قَبِلت كل من يُريد أن يتعلَّم وفتحت أبوابها لكثير من طبقات المجتمع. إنَّ هذه الصَّفحات المضيئة في فضاء الحضارة الإسلاميَّة هي من أهم مميزات تُراثنا التَّربوي.

وهكذا فإنَّ الكلام الطَّويل والثَّناء الجميل في سيرة هؤلاء لا يتوقَّف فَهُم كوكبة مُباركة تدل على أنَّ السِّياسات التَّعْلِيْمِيَّة من فجر الإسلام فتحت بوَّابات التَّعْلِيْم لهم. فجََّرت التَّربية الإسلامية ينابيع الخير لأصحاب الإعاقات لا لينالوا الحد الأدنى من العلوم والمعارف ولكن ليحصلوا على أرفع المناصب العِلْمِيَّة، وأكمل المراتب الفِكْرِيَّة. يحق لابن الجوزي وللذَّهبي ولابن العماد وغيرهم أن يُسَمُّوا كتبهم بـ صِفَة الصَّفوة و سِيَر أعلام النُّبلاء و شَذَرَات الذَّهَبِ فِي أَخْبَارِ مَنْ ذَهَبَ وأن يختاروا مثل هذه الأسماء النَّبيلة الرنَّانَة لما احتوت كتبهم على نفائس الآثار. هذه المفاخر التي ذكرناها نقطة في بَحْرٍ زاخر حَري بالمُعَلِّم أن يعرِفها، وينتفِع بها.

 

حَقائق الْتَّارِيْخ تَنطق بروعة تُراثنا

وَصَفَ ابن فضل الله العمري في كتابه  مسالك الأبصار في ممالك الأمصار حركة الحياة اليوميَّة لجامع مِنَ الجوامع الكبيرة في العالم الإسلامي قديماً. وَصْفُ ابن فضل الله العمري الذي سنذكره قريباً رغم قِصره فهو عميق دقيق ويستحق أن نُعيد التَّأمل فيه وربما قراءته على مسامع جمعٍ من المهتمين لمناقشة بعض أسباب سمو الأمم وأسرار رُقي الفكر. كان المسجد –استناداً لوصف ابن فضل الله العمري- مَعْمُوراً بالنَّاس كلَّ النَّهار وطَرَفي اللَّيل ومن حوله المدارس وفيه جماعة كبيرة من العُلماء والمُفتين وطائفة من المُجاوِرين من ذوي الصَّلاح يُلازمون المسجد قُربة لله وطَلَباً لِلعلم وقَلَّ أن يخلو المسجد "طَرفة عين في ليلٍ أو نهارٍ من مُصَلٍ، أو جالس في ناحيةٍ منه لاعتكاف، أو مُرَتِّلٍ للقرآن، أو رافع عَقِيرته [أي صوته] بأذان أو مكرر في كتاب علم، أو سائل عن دين، أو باحث عن مُعتقد، أو مُقَرِّر لمذهب، أو طالب لحل مشكل: من سائل ومسؤول، ومفت ومستفتٍ، هذا إلى مَنْ يأتي هذا المسجد مُسْتَأنِساً لحديثٍ، أو مُرتقباً لقاء أخ، أو مُتَفَرِّجاً في فضاء صَحنه وحُسن مرأى القمر والنُّجوم ليلاً في سمائه. هذا إلى فسحة الفضاء وطيب الهواء وبرد رِواقاته أوقات الهجير، وحسن مرائي ميازيبه أحيان المطر، وفي كل ناحية من وجهها قمر" (ص 116). 

في تاريخ التَّربية الإسلامية كَتب كاتبان أمريكيان فصلاً حافلاً عنوانه الإسهامات الإسلامية للتَّربية الأمريكية (Muessig & Allen). وفيه أثبت الباحثان أنَّ التَّربية أخذت من المسلمين الكثير من المبادئ الْهَامَّة. في ذلك الفصل يذكر الكاتبان مُناظرة قصيرة جرت أحداثها في الأندلس لعلَّها قصَّة ابن حزم (ت 456 هـ = 1064 م) الطَّالب الغني وسليمان الباجي (ت 474 هـ = 1081 م) الطَّالب الفقير. بعد محاورة عِلْمِيَّة جرت بين الطَّالبين اعتذر كل منهما عن تقصيره وقِلّة معلوماته فقال الباجي أنَّه اعتاد أن يُطالع الكتب في اللّيالي على ضوء سراج الحرّاس في الشَّارع في حين أنَّ ابن حَزم كان يُطالع الكتب على منابر الذَّهب والفضَّة وكأنَّ كل منهما يحاول أن يُثبت أنَّ الفقر أو الغنى من العقبات التي تُواجه طالب الْعِلْم (ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ص 974). في تلك الفترة لم تَكن إنارة الشَّوارع وتوفير التَّعْلِيْم المجاني والحِوار الْعِلْمي من المُفردات التي دخلت ضمن القاموس الإجرائي في الدُّول النَّصرانية.

من مَخايل الخير، ومَلامح الصَّلاح أنَّ الضُّعفاء تَعلموا الْعِلْمَ ونبغوا في حضارتنا ففي سيرة الباخرزي في القرن السَّابع الهجري نقرأ وكان له من العبيد ستُّون عبداً من حفاظ القرآن، وتعلَّموا الخط والعربية، وسمعوا الحديث..ومنهم نافع الدِّين، وقد كتب للباخري أكثر من أربعين مُصحفاً وكتاباً (الذَّهبي، 1994، ج23، ص 364). "أستاذ" كلمة نستخدمها بشكل واسع في مدارسنا وهي كلمة أعجميَّة تعني المعلم وشاع استخدامها للدّلالة على التَّوقير (زاير، 1997، ص 240) وفي العهد المملوكي أُطلقت كلمة أستاذ على من يَشتري العبد ويكفله بالرِّعاية والتَّعليم، ثم بعد هذا الإحسان تأتي خاتمة المسك بأن يقوم الأستاذ بعتق تلميذه لوجه الله وكانت رابطة الأستاذية لها قيمة عظيمة وتُعدّ من أقوى الرَّوابط (حلاق وصباغ، 1999، ص 17، دهمان، 1990، ص 14). والْتَّارِيْخ الإسلامي يحدِّثنا بأنَّ العبد أو الأسير قد يُصبح بعد تَعليمه من أكبر علماء الإسلام مثل ياقوت الحموي الذي قامت شهرته على كتابِه الرَّائع مُعجم الأدباء، وقد يرتقي في المناصب العليا في الدَّولة وقد يصل إلى المُلك فَيُصبح مَلِكاً وأميراً كما كان شأن الأمير الحكيم كافور الإخشيدي في القرن الرَّابع الهجري. ولقد تولَّى مصر 22 سلطاناً "مسَّهم الرِّق" وفي الهند أسس القائد قطب الدين أسرة المماليك سنة  603 هـ = 1206 م وكان من الأرقاء الأتراك.

إبراهيم بن دينار أحد أئمة بغداد (ت 556 هـ = 1160 م) بَنى مدرسة وكان يخدم الزمنى العجائز بوجه طَلق (الذَّهبي، 1994، ج 20، ص 450). صاحب المغرب المعروف بأمير المؤمنين المنصور في القرن السَّادس الهجري "كان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصَّبي بدينار وثوب ورغيف ورمَّانة، وبنى بيتاً للمرضى غرس فيه من جميع الأشجار، وزخرفه وأجرى المياه، ورتب كل يوم ثلاثين ديناراً للأدوية، وكان يعود المرضى بنفسه في يوم الجمعة ..وعمل مَكْتَباً للأيتام فيه نحو ألف صَبي" (الذَّهبي، 1994، ج20، ص 315-317 بتصرُّف). القاضي محي الدِّين عبدالقادر النَّبَراوي (ت 928 هـ = 1521 م) كان أسود اللّون وعرفه أهل مصر بأنَّه من أَعرَف الْعُلَمَاء بشئون القضاء (ابن العماد، ج 10، 162، 220).

تَصانيف فقهاء المسلمين خاصة ومُنذ القِدم عالجت مسائل سبقت عصرها فناقشوا عقوبة من يَحمل على ظهر دابته حِملاً ثَقيلاً لا طاقة للحيوان به وما دور المحتسب وصلاحياته في معالجة ذلك. تحدَّثوا عن الهرَّة العمياء إذا دخلت بيتاً غير بيت مالكها فهل يجب عليه إطعامها إذا كانت الهرة عمياء؟ تحدثوا عن الظلم والعدوان وأنكروا جميع صور تعذيب الحيوانات، وتلويث الطُّرقات، والإسراف في استخدام المياه، وإتلاف الأشجار. كانت نصوص الدِّين الإسلامي الرَّحيمة الحكيمة تفتح لهم آفاقاً إنسانية رحبة لا عهد للإنسانية بها. الإسلام دين رحمة لأنَّه يُعلِّم الأبناء والبنات أنَّ الإحسان حتى للحيوان يقود المؤمن إلى جنَّات عدن. وهو دين حِكمة لأنَّه في نفس اللَّحظة يُعَلِّمنا التَّوَسُّط في كل الأمور فلا نُبالغ في رعاية الحيوانات وغيرها إلى حد الإسراف والإسفاف.

الملك السلجوقي العادل: نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر (ت569 هـ = 1172 م) بَنى الْمَدَاَرِس على نطاق واسع  في بلاد الشَّام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة. وبنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الوقوف، وبنى الرُّبط والخانات والبيمارستانات، وقال ابن الأثير "طالعت تواريخ الملوك – قبل الإسلام وإلى يومنا هذا – فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الرَّاشدين، وعمر بن عبدالعزيز مَلِكَاً أحسن سيرة منه" (ابن العماد، ج6، 379). وقال ابن كثير عنه "كان مُجاهداً في الفرنج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر مُحِباً للعلماء والفقراء والصَّالحين مُبغضاً للظُّلم صحيح الاعتقاد مُؤثراً لأفعال الخير لا يَجْسُر أحدٌ أن يظلم أحداً في زمانه وكان قد قَمع المناكر وأهلها ورفع العلم والشَّرع وكان مُدمِناً لقيام اللَّيل يصوم كثيراً ويمنع نفسه عن الشَّهوات وكان يُحِب التَّيسير على المسلمين ويُرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل".

الملك مظفر الدِّين (ت 630 هـ = 1232 م) صاحب مملكة أربل كان من خير الملوك وأجودهم فلقد كان له في فعل الخير عجائب ولم يكن شيء في الدُّنيا أحب إليه من الصَّدقة. بنى أربع خوانق للزمني والعميان وملأها من هذين الصِّنفين وقرَّر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم وكان يأتيهم بنفسه كل عصرية اثنين وخميس ويدخل إلى كل واحد في بيته ويسأله عن حاله ويتفقده بشيء من النَّفقة وينتقل إلى الآخر حتى يدور عليهم جميعهم وهو يُباسطهم ويمزح معهم ويَجبر قلوبهم. وبنى الملك مظفّر الدِّين داراً للنِّساء الأرامل وداراً للضُّعفاء وداراً للأيتام وداراً للملاقيط ورتَّب بها جماعة من المراضع وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم وكان يدخل إليهم في كل يوم ويتفقَّد أحوالهم ويعطيهم النَّفقات زيادة على المقرر لهم وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه وكان له دار ضيافة يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه وفقير وغيرهما وإذا عزم الإنسان على السَّفر أعطاه نفقة تليق بمثله. وبلغت حفاوته بالْعُلَمَاء أن يُعطي كل واحد من الفقهاء والوعاظ والقراء والشُّعراء ملابس يُكَرِمهم بها ويدفع لكل واحد نفقة وهدية وما يوصله إلى وطنه (ابن العماد، ج7، ص 243، 246، باختصار وتصرُّف).

القائد العظيم السُّلطان مُحَمَّد الفاتح[74] (ت 886 هـ = 1481 م) كانت له عِناية كَبيرة بنشر المعرفة، وتأسيس مَعاهد الْعِلْم فبنى الْمَدَاَرِس الثَّمان في القسطنطينية، وقام بتكريم الْعُلَمَاء وجلب الْعُلَمَاء الكبار من أقصى الدِّيار ليقوموا بالتَّدريس في مَدارسه، وجعل للطّلاب أيام الطّلب ما يسدّ احتياجهم، وجعل لهم مراتب يترقون إليها "إلى أن يصلوا إلى سعادة الدُّنيا ويتوصلون بها أيضاً إلى سعادة العقبى" (ابن العماد، ج 9، ص 517، ج10، ص 18). المؤرِّخون يقولون عن المُدرس الذي درَّس في مدارس مُحَمَّد الفاتح "أعطاه إحدى الثَّمانية" "صار مُدرِّساً بإحدى الثَّمانية ثم أُعطِي تقاعداً". ومِن عادة العلماء الأتراك أن يَتنقَّل المعلم بين المدارس إلى أن يرتقي فَيُدَرِّس في المدارس الكبيرة فيكتب المؤرخون في سيرته "قرأ، وحصَّل، ودَرَّس، وترقَّى في التَّدريس، حتى دَرَّس بإحدى الثَّمانيَّة"، ويقولون "ثمَّ ترقى حتى درَّس بإحدى الثَّمانية" "وتَرَقَّى في التَّداريس حتى درَّس بإحدى الثَّمان" (ابن العماد، ج10، ص 318، ص 335، 341).

مِن مُنجزات الحضارة الإسلاميَّة الإنسانيَّة أنَّها عَرفت العدالة الاجتماعيَّة في ميدان التَّعليم ولقد كان عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ = 732 م) أسود أعور أفطس أشل أعرج ثم عمي بعد ذلك وهو من أكبر عُلَمَاء الإسلام ولا يُفتي النَّاس في موسم الحج إلا عطاء بن أبي رباح وإذا دخل على ملك من الملوك أجلسه إلى جانبه. هذا كان في زمن التَّابعين قبل أكثر من 1300 سنة. بمقارنة سريعة مع عصر التَّقدم وحقوق الإنسان كما يُسمُّونه نجد أنَّ من أشهر قوانين تاريخ التَّعليم الغربي هو قانون براون الصَّادر في عام 1954 م وينص على رفع كل الفوارق بين البيض والسُّود في أمريكاFowler, 2000, p. 12). هذا القانون كما يقول المتخصِّصون في السِّياسات التَّعليمية الأمريكيَّة لم يتحقَّق إلى الآن كما ينبغي في أي من الولايات الخمسين (West, 1993). المجلات التَّربويَّة الأكاديمية العريقة في الغرب ما زالت تتحدَّث بإسهاب عن كيفية تحقيق المساواة في الفرص التَّعليميَّة المُتاحة "للرَّجل الأبيض" وبين الفرص التَّعليميَّة المُتاحة للسُّود وغيرهم (Moses, 200). وهكذا فإنَّ أقوال عطاء بن أبي رباح وعلمَه وتَرْجَمَة حياته المبثوثة في كُتب الْتَّارِيْخ والتَّفسير والفقه والحديث من نوادر التَُّراث الإنساني حيث أََهْملت معظم شعوب الأرض ولمدة قرون طويلة تدوين سيرة من هو أسود البشرة بل لم يُعط حق التَّعلم أساساً. عطاء بن أبي رباح مثال من أمثلة كثيرة تمتَّعت بحقوقها الإنسانية لفترات طويلة في تُراثنا التّربوي "لأَنَّ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ سَوَاءٌ".

 

الحَضارة ثمرة المُنجزات لا المُعجزات

وهكذا وعلى ضوء ما سبق تفصيله من مُنجزات مع الأدلَّة القاطعة يحقُّ لنا أن نُجادل شعوب العالم بكل فخر عن مُنجزاتنا وفي وسعنا أن نتحدَّى بثقة فنوجِّه الأسئلة التَّالِية: مَنْ الذي رَسَّخ مبدأ التَّعْلِيْم العام المجّاني في جميع المراحل الدِّراسيَّة، ووسَّع نِطاقه وطبَّقه كحق إنساني للمسلم وغيره؟ مَنْ الذي علَّم العالَم حبّ القراءة وشجَّع الجميع على مطالعة الكتب حتى أثناء السَّفر، وشيَّد المكتبات العامَّة بخزائنها الفاخرة وبما فيها من كتب حسنة النَّسخ، جيدة التَّجليد، وعظيمة الفائدة؟ مَنْ الذي فتح آفاق البحث الْعِلْمِي ودَرَس وترجم وَطَوَّر فنون الشُّعوب الأخرى؟ مَنْ الذي فتح لليتيم والأسود والمرأة والفقير والأعمى آفاق المجد والسُّؤدد والفخر والرِّياسة فساهموا؟ من الذي اعتنى بالتَّخَصُّصات العِلْمِيَّة وبحارها الزَّاخرة ومنح الشَّهادات وفتح الجامعات والكلِّيات ومساكن للطَّلبة الغرباء؟ من الذي علَّم الأُمم التَّسامح الدِّيني ففتح باب التَّعلم والتَّعْلِيْم للمسلم وغيره؟

صانِعُو الحضارة الإسلامية كما هو الحال في تراثنا عاشوا في عدَّة أقاليم مثل بغداد ومصر والشَّام والمغرب والأندلس والهند تحت راية التَّوحيد، ولغة القرآن. صانِعُو الحضارة الإسلامية منهم المفكِّر، والمفتي، والمجاهد القوي، والرَّسام المُتذوق، والخطَّاط المُجَدِّد، والصَّانع المجتهد، والعامل الأمين، والثَّري المُحسن، والعبقري المُبدع، والمرأة ذات الهمَّة العالية والرُّتبة الغالية، والأبيض والأسود، والأعمى والبصير، والعربي والأعجمي.

الْتَّارِيْخ يشهد بأنَّ إسهامات المسلمين الرّاقية كانت سبَّاقة بقرون. قال ول ديورنت المؤرخ الأمريكي المشهور "إنَّ قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في الْتَّارِيْخ، لقد ظلّ الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعَّم العالم كله في القوة والنّظام وبسطة الملك وجميع الطّباع والأخلاق وفي ارتفاع مستوى الحياة وفي التَّشريع الإنساني الرَّحيم والتَّسامح الدِّيني والآداب والبحث الْعِلْمِي والعلوم والطِّب والفَلسفة…وكان الملوك أنفسهم خطاطين وتجاراً وكانوا أطباء وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة" (ص 3132).

عندما حكم المسلمون وقادوا العالم فتحوا الْمَدَاَرِس ورسَّخوا قيم التَّسامح والعدالة وحينما خسر المسلمون وتخلّفوا عن ركب الحضارة جاء الرَّجل الأبيض واستغل الْعِلْمَ والمال والقوة للتَّحكم في الآخرين لا لإقامة موازين العدل في العالم. قال اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {1}" (سُوْرَةُ المائدة). قال المفكِّر الفرنسي المسلم رُوجي (روجيه) جارودي (2001) عن الحضارة الغربية المريضة "إنَّ خمسة قرون من هيمنة الحضارة الغربية، أدَّت إلى تلويث الطَّبِيْعَة واستنفاد مواردها وقدرة تقنية على إتلافها، وانفجار في مستنقعات السُّوق، التي فاقمت العنف، وسعَّرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة، وعمَّقت الهوَّة بين شمال مُستقطب للثَّروات المتناقصة وجنوب يتضوَّر جوعًا". هذه شهادة تاريخيّة لها وزنها في عالَمِ الفِكر لأنَّ رُوجي من أقرب الفلاسفة القادرين على تحليل سيكولوجية وأيديولوجية الفِكر الغربي لأنَّه عاش بينهم وفهم منظومة حياتهم.

مُنجزات الغرب المادِّية اليوم مُذهلة ويجب أن يلحق بها المسلمون ويضيفوا إليها بَيْدَ أن المسلم عليه أن يعلم أنَّ الأمم عاشت من قبل من غير تلك المنجزات المادِّية وسترثها أممٌ من بعد بخير منها فهي مُنجزات لا مُعجزات. غاية أمر هذه المُنجزات الملموسة أنها وفَّرت المزيد من الرَّفاهية أمَّا منجزات الحضارة الإسلاميَّة الإنسانيَّة مِنْ غرس لقيم الحرِّية، والعدل، والإخاء، والمساواة، والتَّسامح الدِّيني، وتسخير الْعِلْمِ لخدمة النَّاسِ، وغيرها من المبادئ لا يمكن العيش بدونها أو التَّفريط بِطَرَفٍ منها. حضارة التَّوحيد هي التي تصل بالنَّفس إلى أعلى مراحل السَّعادة "فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38}" (سُوْرَةُ البَقَرة). حَضارة التَّوحيد تَستضيء بالقيم الإنسانية الخالدة والمعاني التَّربويَّة الرَّبانِيَّة البانية للعدالة ليقومَ النَّاسُ بالإحسانِ قدر المُستطاع.

لقد سبق المسلمون سائر الحضارات برقي النَّظام التَّعْلِيْمِي وتفوقه أخلاقياً لأنهم طبَّقوا مفهوم التَّوحيد أولاً  فقدَّموا أروع النَّماذج الحضارية في العدالة التي هي أهم مُقتضيات التَّوحيد. هذه قيم لا يمكن أبداً أن يعيش الإنسان من غيرها فيزهد فيها، أمَّا التَّكنولوجيا الحديثة المصنوعة لخدمة النَّاس وأحياناً لإذلال الشُّعوب الضَّعيفة فلا يموت النَّاس من غيرها وإذا ماتوا فيمكن أن يموتوا كُرماء أما القيم الإنسانيَّة التي طبَّقها المسلمون ومازالت بأيدينا شواهدها وتطبيقاتها لا يمكن بحال من الأحوال أن يُفرِّط فيها عاقل يرجو عزَّ الدَّارين. وإذا أردنا أن نصل إلى الذي وصل إليه أسلافنا من المَجد فعلينا أن نبذل ما بذلوا من الجِد. قال الله عزَّ وَجَلَّ "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {92} (سُوْرَةُ آل عمران).

إنَّ دراسة جميع الحضارات الحاضرة القائمة أو الغائبة التي قامت في المراحل التَّاريخية المختلفة تُرشدنا إلى أنَّ الحضارة ثمرة من ثمار تخطيط تربوي صحيح، وخطوات عِلمية متواصلة، ومَناهج تعليمية مُتماسكة، وخبرات تطبيقية مُتراكمة. المُنجزات المادية والمعنوية هي مجموعة اسهامات ومجهودات لعدد من الأفراد بذلوا الأسباب المطلوبة فنالوا الغاية الغالية وكل أمَّة تنال نصيبها على قَدر تحصيلها ولا حصاد للزرع بلا حراثة للأرض وقديماً قال الحُكماء "كلٌ يَحصد ما يزرع ويُجزى بما يصنع، وزرع يومك حصاد غدك". الحضارة التي تتكون من رُؤية فلسفية لكيفية الحياة، ومِنْ نُظم وتشريعات، وعلوم ومعارف وفنون وعادات هي وليدة الجهود المبذولة في عِدَّةِ ميادين ويستحيل أن تصل أمَّة من الأمم إلى عصر القوة والرَّخاء من غير بذل وعطاء. الأمم السَّابقة والحالية واللاحقة، المُسلمة والكافرة، العربية والأعجمية، تجري عليها السُّنن الكونية المُستندة للنَّشاط والعمل وهذه السُّنن التي وضعها اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِعباده لا تتخلف كما أنَّها لا تُحابي أحداً، ولا تقوم على الصُّدف أبداً.

 

 

      

 

Hosted by www.Geocities.ws

1