من أعلام الفكر التربوي

من أعلام الفكر التربوي

د. بدر محمد ملك    د. لطيفة حسين الكندري

الفهرس

أفلاطون  1

العوامل التي أثرت في فكر أفلاطون  3

بعض آراء أفلاطون التربوية  6

أفلاطون في تراثنا التربوي  9

تعليقات موجزة على فكر أفلاطون  15

التربية عند جون ديوي  18

الأفكار التربوية  20

تعليق على أفكار جون ديوي  26

ماريا منتسوري  30

بعض الأسس التربوية عند ماريا منتسوري  32

تعليقات موجزة على طرائق ماريا 35

التربية عند أحمد بن مسكويه  39

فلسفته التربوية  42

التربية الأخلاقية عند ابن مسكويه  44

مع الأخلاق الفاضلة  47

تعليقات موجزة على كتابات ابن مسكويه  50

 

أفلاطون

(427 ـ347 ق.م)

التغيرات المبكرة التي انتابت الفكر التربوي كثيرة ولولاها لما تشكلت التربية بالطابع الذي نعاصره. أفلاطون (Plato) اسم يعرفه المثقفون في جميع أنحاء العالم واقترنت شهرته الفائقة بالفلسفة ومازالت كتبه الكثيرة، وأفكاره الوفيرة من أقدم مصادر المعرفة التي لها وزنها في التراث الإنساني. اسمه أرسطو قليس ولقبه أفلاطون أي الضخم. ولد في أثينا ولزم الحياة العلمية وأخذ ينهل من علم أستاذه سقراط الذي قتل على يد خصومه من الديمقراطيين في عام 399 ق. م. فاعتزل أفلاطون الحياة السياسية لأنه أدرك أن التربية - لا السياسة - هي الأساس فرحل إلى إيطاليا وصقلية ومصر وبدأ يركز فكره في فلسفة العدل. عندما عاد إلى أثينا أسس مدرسته الرائدة التي أسماها الأكاديمية. ساهمت مدرسة الأكاديمية في الحفاظ على آثار أفلاطون ومنهج تعليمه لفترة طويلة من الزمن وظلت هذه المدرسة لمدة تسعة قرون مفتوحة الأبواب للراغبين بالدراسة. كانت الأكاديمية تُدرس الرياضيات والفلك والموسيقى والأخلاق والطب واعتمدت الدراسة المنهجية في إعداد القادة، وتنمية العقول، وتهذيب النفوس حتى جاء الإمبراطور الروماني جوستينيان عام 529 م فأغلقها. جاءت كلمة أكاديمية من اسم رجل يوناني هو أكاديموس وكان بطلاً قومياً. قامت الأكاديمية على أرضه وفي مزرعته. أصبحت كلمة الأكاديمية ذات دلالة علمية في معظم لغات العالم إذ يستخدمها الناس بكثرة في حياتهم العادية ومناقشاتهم اليومية وإن جهلوا تاريخ وجذور هذه الكلمة التي مازالت تطلق على كثير من المدارس العلمية والعسكرية، والمنتديات الأدبية والفنية.

ركز أفلاطون على فكرة إعداد المواطن الصالح والمدينة الفاضلة وبث أفكاره في كتابه الجمهورية والقوانين وركز على مفاهيم تعليمية عديدة من أهمها مفهوم الحوار والمناظرة والمناقشة والشرح. يتفق مع أستاذه سقراط في أنه ركز على مادة الفلسفة وقام بإعلاء شأن العقل، والمثالية، وخدمة الوطن، والالتزام بالأخلاق الفاضلة.

عاش أفلاطون في بيئة معظم أفرادها تدين بدين الصابئة، وعبدة الأصنام، ونبغ منهم جمع من العلماء فكانوا من أبرز أساطين الفلسفة والعلوم الرياضية، والمنطقية، والعلوم النقلية. رغم تقادم الزمن فمازالت اللغة الإغريقية تجد عناية أكاديمية كبيرة في جامعات الغرب والشرق على حد سواء.

 

العوامل التي أثرت في فكر أفلاطون

نشأ أفلاطون في أسرة أرستقراطية ذات مكانة اجتماعيه كبيرة ومصادر غنية. استناداً إلى التقاليد اليونانية فإن التعليم الجيد كان من نصيب النُخبة التي قبضت على ناصية الأمور ولهذا فإن أبناء هذه الأسر كانوا في طليعة المتعلمين الأحرار بل كان النظام التعليمي للدولة يقتصر عليهم ويعتبر مَن سواهم مِن الأرقاء مجرد خدم عليهم أن يكدحوا من أجل خدمة هذه الشريحة. لقد عاش أفلاطون في أسرة أرستقراطية ولكن لا نعرف شيئا كثيراً عن تفصيلات حياته الأسرية.

درس أفلاطون على يد سقراط (480 ـ 399 ق.م) عدة سنوات فتفتحت آفاقه، وتفتَّقت أفكاره ومن أقوال سقراط الدالة على عمق فهمه لأركان العملية التعليمية وشروط طالب العلم قوله" ينبغي للطالب أن يكون شابا، فارغ القلب، غير ملتفت إلى الدنيا، صحيح المزاج، محبا للعلم، بحيث لا يختار على العلم شيئا من الأشياء، صدوقا، منصفا بالطبع، متدينا، أمينا، عالما بالوظائف الشرعية، والأعمال الدينية، غير مخل بواجب فيها، ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه، ويوافق الجمهور في الرسوم والعادات، ولا يكون فظا سيئ الخلق، ويرحم من دونه في المرتبة، ولا يكون أكولا، ولا متهتكا، ولا خاشعا من الموت، ولا جامعا للمال، إلا بقدر الحاجة، فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم" (حاجي خليفة). وقال "لست مواطناً لأثينا أو اليونان، أنا مواطن للعالم"، وقال:"اعرف نفسك بنفسك" (عبود، 2001 م، ص 647-648). يمكن تحليل منهج سقراط في التعليم من خلال كتابات أفلاطون التي تبين أنه كان يقدر مهارة النقد، ويعلي من شأن التفكير المستديم، ويميز بين المعلم الجيد وبين المعلم الذي يعيش مع التناقض كما أن سقراط آمن بقوة التربية في إيجاد حياة أفضل ويرى أن المتعلم يتحمل الجانب الأكبر من مسئولية التعلم والحصول على المعرفة (Woodruff, 1998, p. 14). 

 مقتل أستاذه سقراط بسبب أطروحاته الفلسفية وكان هلاكه على يد "الديمقراطيين" مما جعل أفلاطون يعادي الحرية السياسية وينادي بنظام لا يختلف كثيرا عن الأنظمة الدكتاتورية وهو القائل: "الديمقراطية شكل فاتن من أشكال الحكم مليئة بالتنوع والفوضى، وتوزِّع نوعاً من القيمة للمتساوين وغير المتساوين على حد سواء".

 احتكاكه ببلاد كثيرة مثل إيطاليا وصقلية ومصر فساهمت أسفاره في نمو أفكاره.

 الحرب الطاحنة التي جرت بين مدينة أسبرطة وأثينا من جهة ومعارك اليونان مع الفرس من جهة أخرى وشارك في بعضها كمقاتل. رغم أن اللغة والدين والدم عوامل مشتركة بين المدينتين إلا أن المصالح الاقتصادية والأفكار السياسية كانت أشد تأثيراً في علاقة الجارتين مما انعكس أثره على شخصية أفلاطون وبالتالي فلسفته العامة ككل.

 اطلاعه على فلسفة الشرقيين في الهند وفارس وتأثر تأثراً كبيراً بالحضارة المصرية.

احتكاكه بنوابغ الفكر مثل سقراط وإقليدس وأرسطو[1] كما أن محاوراته مع النوابغ تدل على استفادته منهم واعتزازه بهم إذ أن كتب أفلاطون تدل على شغفه بمحاورة الآخرين وتدوينه لمساجلاتهم ومنافساتهم ومحاوراتهم. عمد أفلاطون إلى تأسيس مدرسة الأكاديمية وسار نحو العمل المنظم. أستخدم أرسطو أسلوب التعليم الحر البسيط حتى أنه كان يعلم الناس أثناء سيره في الطريق. المشاؤون هم تلاميذ أرسطو. كان أرسطو في مدرسته "اللوقيون" يدرس طلابه ماشيا فعرف أتباعه بالمشائين. قال الغزالي في المنقذ من الضلال إن أفلاطون أستاذ أرسطو وهو "هو الذي رتب لهم المنطق وهذَّب لهم العلوم وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل وأنضج لهم ما كان فجاً من علومهم" (ص 8). لأن أرسطو اهتم بالحواس وخالف أستاذه فإن العلم التجريبي الحديث يعرف أهمية هذا المفكر الذي وجه الفكر الغربي خاصة نحو استثمار التجارب في عالم الاكتشافات والصناعات.

الحركات الفكرية التي سادت اليونان مثل السوفسطائية جعلت أفلاطون يحرص على مهاجمتها من خلال طرح منهجه الذي يعتمد على العقل أكثر من الحواس.

 أحب أفلاطون الشِّعر، وطلاوة اللسان في صدر شبابه ثم ما لبث أن تراجع عن رواية الشعر وتوقف عن تدوين قصائده فأحرق أشعاره وهجر هذا الميدان العاطفي وتحول نحو التأمل والتفكير الموضوعي.

اقترب أفلاطون من بعض الحكام في صقلية ولكنه لم ينجح في تطبيق أفكاره من خلالهم بل تضرر منهم فتوجه إلي التدريس في مدرسته "الأكاديمية" التي كانت بمثابة جامعة لدراسة علمي الفلسفة والسياسة.

التعلم عن طريق الحوار المعروف بالمنهج السقراطي (Socratic method) جعل أفلاطون صاحب أفكار وافرة ومتكاثرة. هذا المنهج من أروع طرائق التعليم لأنه يبنى الشخصية التي تستطيع التعبير عن آرائها فتنتج النظريات وتنجح في التواصل مع الآخرين والمشاركة الايجابية في صنع القرارات التي تتجاوب مع احتياجات المجتمع.

 

بعض آراء أفلاطون التربوية

  يرى أفلاطون أن التربية يجب أن تخدم الأغراض السياسية لإقامة العدل كما أنه اعتنى بالتربية الوطنية فقال "لم يولد الإنسان لنفسه. ولد الإنسان لوطنه" (عبود، 2001 م، ص 649) وذلك أن موضوع التربية الوطنية وغرس الولاء وخوض الحروب قضية مصيرية. الهدف الأسمى للتربية عند أفلاطون هو أن يتم إعداد الإنسان ليكون مواطناً صالحاً. ويرى أن الدولة يجب أن تراقب ما ينشره الأدباء وتمنع كل ما ينافي الأخلاق والتعاليم التي حددها لدولته الفاضلة. محبة الفلسفة مرحلة عالية يصل إليها النوابغ والحكماء والحاكم في رأيه يجب أن يكون فيلسوفاً.

لفت أفلاطون الانتباه إلى مفاهيم تجريدية كالجمال والحق والعدل والصدق والأخلاق. عالم المثل يختلف عن الواقع وتصوراتنا لا تمثل الحقيقة الكاملة كما هي. آمن أفلاطون بأن الأرواح خالدة وأما البدن فإنه مؤقت وخادم للروح.لم تكن الفلسفة عنده مقيدة بالكتب والمحاضرات بل كانت منهج حياة. كان أفلاطون يلقن الحكمة لأصحابه ماشياً تعليماً لها وتابعه على ذلك أرسطو ويسمى هو وأصحابه بالمشائين. قال العاملي "كان تلامذة أفلاطون ثلاث فرق: وهم الإشراقيون والرواقيون والمشائيون فالإشراقيون: هم الذين جردوا ألواح عقولهم عن النقوش الكونية فأشرقت عليهم لمعات أنوار الحكمة من لوح النفس الأفلاطونية من غير توسط العبارات وتخلل الإشارات. والرواقيون: هم الذين كانوا يجلسون في رواق بيته ويقتبسون الحكمة من عباراته وإشاراته. والمشائيون: هم الذين كانوا يمشون في ركابه ويتلقون منه فرائد الحكمة في تلك الحالة وكان أرسطو من هؤلاء وربما يقال: إن المشائين: هم الذين كانوا يمشون في ركاب أرسطو لا في ركاب أفلاطون" (ص 237).

أشار أفلاطون في كتابه (الجمهورية) إلى فكرة شيوعية النساء والأولاد. وتخيل أفلاطون أن هناك مدينة فاضلة يرأسها فيلسوف ولكنه أهمل أهمية القانون في حياة الشعب وتدارك ذلك في كتابه "النواميس" وكذلك تنازل عن فكرة الشيوعية وطالب الدولة بتزويج الرجال وطرح فكرة التجنيد الإلزامي على الجميع بعد أن كان يقول أن التهذيب يغني عن الشرائع. حذر أفلاطون الحاكم من السكر والكسل والأخلاق الوضيعة. الدولة الصالحة بالنسبة له هي التي تتمتع بأربع صفات وتسعى إلى غرسها في نفوس الناس وهي (الحكمة - العفة -الشجاعة -والعدالة) وتظل العدالة أهم الفضائل.

ورغم حديثه الطويل عن العدل إلا أنه يرى أن النساء أقل اتقاناً للأعمال التي يؤدونها نسبة إلى الرجل باستثناء الحياكة والطبخ. فبشكل عام الجنس الذكوري أفضل في كل الأمور من الجنس الآخر (ابن جاسم، 2002 م، ص 32). هذه الصورة المتحيزة سيطرت على فكر الفلاسفة وممارسات الناس لعدة قرون وخاصة في العصور الوسطى وإلى الآن فإن مواضع التحيز لم تسلم منها حتى المناهج التعليمية في جميع الدول.

  يرى أفلاطون أن الطفل منذ سن السابعة يجب أن يستمع إلى القصص الهادفة والأدب الأخلاقي  وعلى المربين الاعتناء بنمو الطفل من الجانب الجسدي واعداده للمستقبل. في كتابه "الجمهورية" نجد هذا الحوار التربوي الهام في تربية الأطفال:"س [سقراط]: فيجب تلقين تلاميذنا، منذ حداثتهم، الحساب، والهندسة، وكل فروع العلوم الابتدائية، التي تمهد السبيل لفن المنطق- مع الاعتناء بتلقينهم العلم بطريقة غير إجبارية.

غ [بوليمارخس]: ولماذا؟

س: لأنه لا يجوز أن يمزج تهذيب الحر بشيء من ملابسات الاستعباد، لأن إرغام الجسد في الأعمال الجسدية لا يحدث تأثيراً في الجسد. أما في أمر العقل فلا يتأصل علم في المذاكرة إذا أتاها بطريق الإرغام.

غ: حقاً.

س: فيجب، أيها الصديق الفاضل، إعطاء الدروس للأحداث بأسلوب الألعاب والتسلية، دون أدنى ظاهرة إرغام لكي يتمكن كل منهم من معرفة ميله الخاص". وهو الأمر الذي أكد عليه فلاسفة التربية مثل برتراند رسل (1872-1970 م) الذي يرى أهمية إتاحة الفرصة للطفل ليلعب وينطلق على سجيته مع الأولاد ومع الكبار أيضاً (انظر أسعد 1991 م، ص 123).

ولقد قسم أفلاطون مراحل التعليم إلى عدة مستويات:

سن ما قبل السادسة يصف لهم القصص والتسلية فهي مرحلة حضانة.

6-18 يتعلمون عناصر أساسية (القراءة والكتابة والحساب والموسيقى).

18-20 تدريبات عسكرية.

20-30 (رياضيات وهندسة).

30-35 ( الفلسفة و الجدل و القانون ).

35-50 الاشتغال بالحكم.

50 الاعتزال وصياغة النظريات الفلسفية.

الحوار والمناظرة والمناقشة من ركائز التعليم العالي كما يقول أفلاطون في كتاباته. ولقد أظهر أفلاطون أهمية التربية العقلية والروحية والجسدية وذكر أن الفيلسوف يجب أن يحتقر الذات الجسدية (الجمهورية ص 178). ولقد قلل أفلاطون من أهمية الوظائف المهنية واليدوية.

أرشدت الحكمة أفلاطون إلى الإشارة لفيض من الفضائل الإنسانية الجالبة للسعادة كقوله "أضعف الناس من ضعف عن كتمان سرِّه، وأقواهم مَن قوي على غضبه، وأصبرهم من ستر قامته، وأغناهم من قنع بما يُسِّر له" (عبود، 2001 م، ص 650).

 

أفلاطون في تراثنا التربوي

تأثرت اللغة العربية والعالمية بالثقافة اليونانية ويمكننا أن نستدل على ذلك بجملة من الأدلة منها بعض الكلمات التي نتحدث بها اليوم ولها أصولها اليونانية مثل كلمة الأكاديمية، وطلاسم، والفلسفة، والإسطرلاب، والأسطول، والأولمبياد، والديمقراطية، والموسيقى، والقانون، والجغرافيا. كثير من تلك الكلمات هي لغة علم وحضارة وحركة وسياسة وإدارة نقلت من اليونان فأضحت عملة عالمية متداولة عند أهل المشرق والمغرب ولها دلالة واحدة. ومن الأدلة على عمق أثر الحضارة اليونانية بثقافات العالم أن تاريخ معظم العلوم اقترن بإسهامات اليونانيين فتُرجمت كتبهم بشتى اللغات. ومن الأدلة أيضاً أن أسماء لامعة مثل فيثاغورس وسقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأرخميدس وجالينوس وإيسوب ... دخلت منذ عصر مبكر إلى عالم الفكر وفتحت بوابات الثقافة.

كانت الدولة العباسية أول من عني بالعلوم اليونانية بشكل شامل فبدأت حركة علمية رسمية واسعة ومنظمة لترجمة كتبهم إلى اللغة العربية. شجع الخلفاء كل المترجمين على الإطلاع على علوم اليونان وكان من الخلفاء من قد اشتهر بالتمكن في العلوم اليونانية ولقد كان أبو جعفر المنصور قد عرف بسعة علمه في العلوم الشرعية من جهة والعلوم الفلسفة من جهة أخرى.

نجد كلام أفلاطون الذي ترجم إلى اللُّغَة الْعَرَبِيَّة منثوراً في كثير من الكتب الإسلامية التراثية الفلسفية في الدرجة الأولى ثم التاريخية والشرعية والطبية والأدبية والسياسية والتربوية. وكلامه قد يكون منقولاً بنصه المترجم أو بمعناه العام أو مختصراً من قوله وفعله أو شرحاً لبعض حكمه. بعض أقواله تفيض بالإيمان واليقين والبعض الآخر مليء بالشك والشبهات.

من الأمور المتفق عليها أن فكر اليونان بسلبياته وإيجابياته لقي رواجاً بين أوساط الكثير من المثقفين المسلمين، ترجمة ومناقشة، ولاسيما فكر أفلاطون وأرسطو بل يرى الفارابي "أن هذين الفيلسوفين الفريدين قد توصلا إلى الحقيقة الخالصة على أثر تمتعهما بالعمق الفكري وبعد النظر في كل شيء" (خاتمي، 2001 م، ص 161). رفض الكثير من العلماء ذكر علوم اليونان وبعضهم مثل الغزالي نقدها وهناك من أخذ وبالغ.

قال الشهرستاني في الملل والنحل" أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس، من أثينة، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين. معروف بالتوحيد والحكمة، ولد في زمان أردشير بن دارا، في سنة ست عشرة من ملكه، وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثا متعلما، يتلمذ لسقراط. ولما اغتيل سقراط بالسم، ومات، قام مقامه، وجلس على كرسيه".

 قال أفلاطون ما من علم مستقبح إلا والجهل به أقبح .. إنَّ الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة، كما يستحيل الغذاء الصَّالح في بدن السقيم إلى الفساد (القنوجي، أبجد العلوم). وقال غذاء الطبيعة من أنفع أدويتها.. الدليل على ضعف الإنسان أنه ربما أتاه الخير من حيث لا يحتسب والشر من حيث لا يرتقب.. إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك.. من استحى من الناس ولم يستح من نفسه فلا قدر لها عنده.. انبساطك عورة من عوراتك فلا تبذله إلا لمأمون عليه.. احفظ الناس يحفظك الله.. إذا أردت أن تعرف شكر الرجل على المزيد فانظر كيف كان صبره على النقص..كان مكتوباً على باب أفلاطون من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا.

وفي وصية أفلاطون لتلميذه أرسطو "اعرف معبودك واحفظ حقه، وأدم على التعليم لا تمتحن أهل العلم بكثرة علمهم بل اعتبر أحوالهم بتجنبهم الشر والفساد ولا تسأل الله شيئاً ينقطع نفعه وتيقن أن المواهب كلها من عنده والتمس من حضرته النعم الباقية والفوائد التي لا تفارقك.." (العاملي، الكشكول، ص 609). "قال أفلاطون: فليستمع للأصوات الحسنة فإن النفس إذا حزنت خمد نورها، وإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمد" (النابلسي، 1981 م، ص 60، الأبشيهي، ص 618).

ذكر أبو حيان التوحيدي، في الإمتاع والمؤانسة، عن أفلاطون أنه قال "إن للنفس لذتين: لذة لها مجردة عن الحسد، ولذة مشاركة للجسد فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشراب وغير ذلك" (ص 144). وقال "مثل الحكيم كمثل النملة تجمع في الصيف للشتاء وهو يجمع في الدنيا للآخرة" (ص 149). "العلم مصباح النفس ينفي عنها ظلمة الجهل فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل" (ص 150). "موت الرؤساء أصلح من رآسة السفلة.. وإذا بخل الملك بالمال كثر الإرجاف به" (ص 151). "من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر" (ص 152). "إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق" (ص 152).

من أقواله في التربية السياسية أيضا "أول رياضة الوزير أن يتأمل أخلاق الملك ومعاملته، فإن كانت شديدة فظة عامل الناس بدونها، وإن كانت لينة مطلقة عاملهم بأقوى منها ليقرب من العدل في سعيه" (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب). "الملك كالنهر والأمراء كالسواقي فإن كان عذباً عذبت وإن كان ملحاً ملحت" (العاملي، الكشكول، ص 786).

ومن علامات السلطان المظفر الحكيم في رأي أفلاطون: "علامة السلطان المظفر على العدو، أن يكون قوياً في نفسه، لازماً لصمته، مفكراً في رأيه وتدبيره بقلبه، وأن يكون عاقلاً في ملكه، شريفاً في نفسه، حلواً في قلوب الرعية، رفيقاً في سائر أعماله، مجرباً لعهد من تقدمه، خبيراً بأعمال من هو أقدم منه صلباً في دينه وعزمه. وكل ملك تجمعت فيه هذه الخلال وحصلت له هذه الخصال كان في عين عدوه مهيباً ولا يجد العائب له معيباً إذا كان الملك يرى أن حوله وقوته بالله جلت قدرته وإن كان عدوه قوياً فإنه يظفر به" (الغزالي في التبر المسبوك، ص 49)

       قال القزويني في آثار البلاد وأخبار العباد إن أفلاطون استخلف تلميذه أرسطو على كرسي الحكمة وكان أفلاطون تاركاً للدنيا ولا يعلم الحكمة إلا من كان ذا فطانة ونفس خيرة والتلميذ يأخذ منه الحكمة قائماً تبجيلاً للعلم (ص 484). هذا ولقد كان أرسطو طاليس قد سمي بالمعلم الأول لأنه نقح علم الحكمة وهذب مسائلها وهاجم التقليد ووضع أسس علم المنطق وخالف أستاذه أفلاطون فقيل له: "كيف خالفت الأستاذ؟ فقال:"الأستاذ صديقي والحق أيضاً صديقي لكن الحق أحب إلى من الأستاذ" (ص 484 انظر الكامل لابن الأثير، ص 163). 

في كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة مجموعة من تعاليم أفلاطون الجامعة وفيما يلي طائفة منها "للعادة على كل شيء سلطان، وقال إذا هرب الحكيم من الناس فاطلبه وإذا طلبهم فاهرب منه وقال من لا يواس الإخوان عند دولته خذلوه عند فاقته. وقيل له لم لا تجتمع الحكمة والمال فقال لعز الكمال وسئل من أحق الناس إن يؤتمن على تدبير المدينة فقال من كان في تدبير نفسه حسن المذهب. وقيل له من يسلم من سائر العيوب وقبيح الأفعال فقال من جعل عقله أمينه وحذره وزيره والمواعظ زمامه والصبر قائده والاعتصام بالتوقي ظهيره وخوف اللَّه جليسه. وقال الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار فإن كان عذباً عذبت وإن كان مالحاً ملحت. وقال إذا أردت أن تدوم لك اللذة فلا تستوف الملتذ أبداً بل دع فيه فضله تدوم لك اللذة وقال إياك في وقت الحرب أن تستعمل النجدة وتدع العقل فإن للعقل مواقف قد تتم بلا حاجة إلى النجدة ولا ترى للنجدة غنى عن العقل وقال غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه وقال لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم وقال لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس لا يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنما يسألون عن جودة صنعه. وقال إحسانك إلى الحر يحركه على المكافأة وإحسانك إلى الخسيس يحركه على معاودة المسألة وقال الأشرار يتبعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد ويترك الصحيح منه وقال لا تستصغر عدوك فيقتحم عليك المكروه من زيادة مقداره على تقديرك فيه وقال ليس تكمل خيريَّة الرجل حتى يكون صديقاً للمتعاديين وقال اطلب في الحياة العلم والمال تحز الرئاسة على الناس لأنهم بين خاص وعام فالخاصة تفضلك بما تحسن والعامة تفضلك بما تملك.

وقال لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق من طبعه شراً وأنت لا تدري. وقال إذا قامت حجتك في المناظرة على كريم أكرمك ووقرك وإذا قامت على خسيس عاداك واصطنعها عليك. وقال من مدحك بما ليس فيك من الجميل وهو راض عنك ذمك بما ليس فيك من القبيح وهو ساخط عليك. وقال إنما صار التقليد واجباً في العالم لأن الضعف فيه قائم في الناس. وقال من تعلم العلم لفضيلته لم يوحشه كساده ومن تعلمه لجدواه انصرف بانصراف الحظ عن أهله إلى ما يكسبه. وقال ليكن خوفك من تدبيرك على عدوك أكثر من خوفك من تدبير عدوك عليك. وقال شهوات الناس تتحرك بحسب شهوات الملك وإرادته. وقال ما معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم وقال الأمل خداع الناس وقال احفظ الناموس يحفظك وقال إذا صادقت رجلاً وجب أن تكون صديق صديقه وليس يجب عليك أن تكون عدو عدوه. وقال المشورة تريك طبع المستشار وقال ينبغي للعاقل أن لا يتكسب إلا بأزيد ما فيه ولا يخدم إلا المقارب له في خلقه. وقال أكثر الفضائل مرّةُ المبادي حلوةُ العواقب وأثر الرذائل حلوة المبادي مرة العواقب. وقال لا تستكثرن عن عشرة حملة عيوب الناس فإنهم يتسقطون ما غفلت عنه وينقلونه إلى غيرك كما ينقلون عنه إليك. وقال الظفر شافع المذنبين إلى الكرماء. وقال ينبغي للحازم أن يعد للأمر الذي يلتمسه كل ما أوجبه الرأي في طلبه ولا يتكل فيه على الأسباب الخارجة عن سعيه مما يدعو إليه الأمل وما جرت به العادة فإنها ليست له وإنما هي للاتفاق الذي لا تثق به الحزمة. وقيل لأفلاطون لم صار الرجل يقتني مالاً وهو شيخ فقال لأن يموت الإنسان فيخلف مالاً لأعدائه خير له من أن يحتاج في حياته إلى أصدقائه ورأى طبيباً جاهلاً فقال هذا محب مزعج للموت وقال الإفراط في النصيحة يهجم بصاحبها على كثير من الظنة وقال ليس ينبغي للرجل أن يشغل قلبه بما ذهب منه ولكن يعتني بحفظ ما بقي عليه.

وسأله أرسطوطاليس بماذا يعرف الحكيم أنه قد صار حكيماً؟ فقال إذا لم يكن بما يصيب من الرأي معجباً ولا لما يأتي من الأمر متكلفاً ولم يستفزه عند الذم الغضب ولا يدخله عند المرح النخوة وسئل مم ينبغي أن يحترس فقال من العدو القادر والصديق المكدر والمسلط الغاضب وسئل أي شيء أنفع للإنسان فقال أن يعنى بتقويم نفسه أكثر من عنايته بتقويم غيره وقال الشرير العالم يسره الطعن على من تقدمه من العلماء ويسوؤه بقاء من في عصره منهم لأنه يحب أن لا يعرف بالعلم غيره لأن الأغلب عليه شهوة الرئاسة والخيِّر العالم يسوؤه فقد أحد من طبقته في المعرفة لأن رغبته في الازدياد وإحياء علمه بالذاكرة أكثر من رغبته في الرئاسة والغلبة وقال تبكيت (أي تعنيف) الرجل بالذنب بعد العفو عنه إزراء بالصنيعة وإنما يكون قبل هبة الجرم له وقال اطلب في حياتك العلم والمال والعمل الصالح فإن الخاصة تفضلك بما تحسن والعامة بما تملك والجميع بما تعمل. وسئل أفلاطون عند موته عن الدنيا فقال خرجت إليها مضطراً وعشت فيها متحيراً وها أنا أخرج منها كارهاً ولم أعلم فيها إلا أنني لم أعلم" (ص 62-64 بتصرف).

 

تعليقات موجزة على فكر أفلاطون

لا يمكن نقد فيلسوف إلا بالنظر إلى عصره فإن المرء ابن بيئته يتأثر بها سلباً وإيجاباً ولكن هذا لا يمنع من تدوين بعض الملاحظات الجوهرية ومنها:

لم يهتم أفلاطون كثيراً بالجانب العملي في التدريس وفي المقابل ركز على الجانب النظري الفلسفي القائم على التأمل والمثالية.

هون من شأن العمل اليدوي.

لم يضع ضوابط تكبح من سلطة الدولة تجاه إنتاج المفكرين ولم يعط ضمانات ولو محددة لحماية أصحاب الفكر من سطوة وبطش السلطة الحاكمة رغم أن أستاذه سقراط راح ضحية تسيب الدولة. هل الفلسفة لوحدها تقود للعدالة؟ ما معيار قياس العدل؟ لا يكاد الباحث في كتب الفلاسفة يظفر بإجابات شافية أو كافية لأمثال هذه الأسئلة الجوهرية.

قدم أفلاطون للفلاسفة من بعده الأمل في أهمية التغيير الاجتماعي والسياسي والسلوكي مع تعظيم دور التربية في ذلك .

غموض الجانب الديني.

شيوعية النساء، تفضيل الحكام على الصنّاع والزرّاع ….تلك الآراء تدل على موازين أخلاقية وإنسانية هشة فالناس سواسية كأسنان المشط في آدميتهم وحقوقهم في الحياة الكريمة وهو الأمر الذي لم يذكره أفلاطون وسار على عكسه في سياسته التربوية. أما عن رأيه في الاستغناء عن القوانين ففيه خيال وإغراق في المحال فهناك فرق بين حياة الناس كواقع وبين ما ينبغي أن يكون الناس عليه.

من أهم نقاط الضعف في فلسفة أفلاطون وتطبيقاتها التربوية أنه قسم الناس إلى ثلاثة أصناف مفصولة تجسد المجتمع الطبقي الذي يتنعم فيه الأغنياء على حساب الفقراء. فيما يلي نظرة أفلاطون لطبقات المجتمع:

أناس من الذهب (الحكام) قوة عاقلة.

 أناس من الفضة (العسكر) قوة عصبية.

 أناس من النحاس (وهم الزراع والصناع) قوة شهوانية.

كان هدف مدرسة الأكاديمية إعداد السياسيين والقادة ممن يحكمون بالعدل ووفق أسس عقلية ويعتبرها بعض الباحثين أول جامعة عالمية.

يرى أفلاطون وأرسطو وروسو قديماً أن الفروق البيولوجية بين الجنسين لا تُنكر ولكن الاختلاف لا يعني سيطرة جنس على الجنس الآخر وتفضيله بصورة مطلقة. كيف نؤمن بالعدل والحق دون رعاية حقوق الخلق؟ نجح الرجل عبر القرون في أن يمرر فكرة التفوق والسيطرة والأفضلية فخضعت المرأة لسلطانه وسخر الدين ليخدم تفسيرات باطلة تحقق مآربه. الكثير من آراء الفلاسفة مطية لتبرير الظلم وتمرير المبالغات والمغالطات. لم ينجح أفلاطون في إعطاء كل ذي حق حقه فأفكاره لم تعمل على إيجاد فلسفة العدالة المنبثقة من مفهوم عادل ميزانه "النساء شقائق الرجال" وأن ضغوطات الواقع الاجتماعي المثقلة بعادات سلبية تزدري المرأة لا يمكن أن تكون أساساً للتنشئة السليمة.

لقد أثرت تعاليم أفلاطون ببعض فلاسفة المسلمين فنقلوها في كتبهم.

حظيت أفكار أفلاطون باهتمام الفكر الغربي إلى عصرنا هذا ففي كل عام تظهر مقالات أكاديمية جديدة في موضوع "الجمهورية" في محاولة لتحليل أفكاره. وينسب له أنه قال "نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ على التفكير".

افتتن فلاسفة التربية بأفكار أفلاطون ومازال فكره الحي يشحذ أذهان المربين رغم مرور آلاف السنين. يقول جون ديوي "إن قراءتي المحببة هي محاورات أفلاطون وأن الفلسفة الحق هي في الرجوع إليه" (شفشق، 1980، ص 380).

 

 

 

 

 

 


التربية عند جون ديوي

(1859— 1952م)

 

يعتبر جون ديوي (John Dewey) من أشهر أعلام التربية الحديثة على المستوى العالمي. ارتبط اسمه بفلسفة التربية لأنه خاض في تحديد الغرض من التعليم وأفاض في الحديث عن ربط النظريات بالواقع من غير الخضوع للنظام الواقع والتقاليد الموروثة مهما كانت عريقة. ولد في أمريكا في ولاية فرمونت  Vermontفي مدينة برلنغتون. كان أبوه في حالة اقتصادية جيدة وأمه من أسرة مثقفة وثرية. ساهمت والدته في حثه على المثابرة في طلب العلم وكانت شديدة التعلق به وحريصة على تعليمه. كان ديوي منذ صغره محبا للقراءة والإطلاع. كان يقضي معظم وقت فراغه بالمكتبات وعندما تزوج "أليس" أثرت فيه تأثيرا عظيما ودفعته إلى الاهتمام بمشاكل الحياة المعاصرة. ومما يروى عن فرط محبته لأبنائه وبناته أنه ألف كتابه الديمقراطية والتربية "وهو يحمل طفله على إحدى ركبتيه ويضع الورق الذي يكتب فيه على الأخرى" (شفشق, 1980 م، ص 381).

حصل على درجة الدكتوراه من جامعة جون هوبكنر (1884 م) وعمل في التدريس وأثناء ذلك قام مع زوجته "أليس" ببناء مدرسة تجريبية ليطبق مشاريعه في الميدان. لقد أتيحت الفرصة لديوي فزار الكثير من دول العالم وحاضر فيها ونشر أفكاره وفي منتصف الخمسينات من القرن العشرين أصبحت فلسفة التربية البراغماتية من أشهر الفلسفات وقد لاقت رواجاً حتى في العالم العربي.

قام ديوي بتأليف عدة كتب وهي تدل على سعة اهتماماته. تركز كتبه على التربية وعلم الأخلاق والفلسفة وعلم النفس وكثيراً ما تكررت كلمة خبرة Experience في محتويات كتبه ورسائله. من أهم كتب جون ديوي:

المدرسة والمجتمع The school and Society .

الديمقراطية والتربية Democracy and Education .

الخبرة والتربية Experience and Education .

كيف نفكر How We Think .

الحرية والثقافة Freedom and Culture .

تأثر ديوي فكرياً بدراسات هيجل الفلسفية وفروبل النفسية ودارون التطورية وكان امتدادا لبيرس ووليم جيمس في فلسفتهما البراغماتية القائمة على المنفعة والعائد الملموس أو الذي يمكن أن يلاحظ بالقياس. حرص ديوي على التأكيد على غرس مبدأ تربية المتعلم على إتباع منهج علمي في حل مشكلاته الحاضرة من خلال دراسة المشكلة وفرض الفروض وتجريبها.

نجح ديوي في هجومه على فلسفة التعليم النمطية التقليدية وساهم في دفع عجلة التعليم إلى مسار مغاير له حيث نادى بأهمية الخبرة في التعليم وانتقد أسلوب التلقين (Rote learning) وأنكر الاعتماد الكلي على الكتاب المدرسي والمعلم كما شن هجومه على النظام التعليمي الصارم المبني على الطاعة التامة للوائح الإدارية الجامدة.  توجه ديوي إلى جعل المدرسة بيئة ثرية بالخبرات حافلة بحركة المتعلمين من أجل تكوين عقلية علمية راشدة تستطيع حل المشكلات بأسلوب منهجي. من القواعد التي جاهد ديوي من أجل ترسيخها أن الطفل شمس التربية ونقطة ارتكازية في العملية التعليمية وأنَّه لن يتعلم بشكل أمثل إلا من خلال الخبرات الحياتية فإنَّ تعلم السباحة مثلا لا يمكن أن يتحقق من دون أن يمارس المتعلم عملية السباحة داخل الماء وكذلك شأن سائر المهارات العقلية والاجتماعية.

 من جانب آخر فإنه ومن خلال تجاربه ودراساته شدد على أهمية ربط المدرسة بالمجتمع ونادى بالحياة الديمقراطية وبما أنه من أبرز علماء الفلسفة التقدمية والبراجماتية فإنه حصر التربية بالمنفعة والمصلحة وأن التعليم يجب أن يخدم الأغراض العلمية والأهداف الواقعية التي تنفع الفرد الحر والمجتمع الديمقراطي. 

عمل ديوي في التدريس في كل من جامعة "متشغن" و"منيسوتا" وفي جامعة "إلينويز" وبدأ أعماله التجريبية قي مدرسته الخاصة بأفكاره ولعل الاتجاه التقليدي القديم العقيم لم يوافق على توجهات ديوي فاستقال في عام 1904م والتحق بجامعة "كولومبيا" في نيويورك إلى أن تقاعد في عام 1930م. ولم تكن جهود ديوي منحصرة في الولايات المتحدة فلقد دعته تركيا في العشرينات من القرن الماضي ليضع لها أسس تربية تقدمية.

وإذا كانت أفكار ديوي عموماً قد ساهمت في بناء الفكر التربوي المعاصر إيجابياً فإن عددا من الباحثين الغربيين يرون أنَّ الانهيار الأخلاقي الذي وصل إلى هاوية سحيقة لأسباب كثيرة منها مساهمة العلوم الاجتماعية الإنسانية في تقويض القيم الروحية والأخلاقية.  لقد آمن جون ديوي بنسبية الأخلاق وأنها متغيرة فخسر العمق الروحي التربوي عندما أبعد ترسيخ مفهوم الإيمان بالله في تربية الفرد والمجتمع بشكل متكامل.

 

الأفكار التربوية

التربية كما يتصورها ديوي "تعني مجموعة العمليات التي يستطيع بها المجتمع أو زمرة اجتماعية كبرت أو صغرت أن تنقل سلطانها أو أهدافها المكتسبة، بغية تأمين وجودها الخاص ونموها المستمر، إن التربية هي الحياة" (العمايرة، 2000 م، أصول التربية، ص 10). وبهذا حدد ديوي غرض التربية كحركة تخدم المتعلم في يومه قبل غده مع التأكيد على أنها عملية مجتمعية ديمقراطية إذ أن قوة المجتمع هي التي تصبغ الأفراد وتصيغ الأهداف فالعلاقة بين التربية والمجتمع علاقة وطيدة منذ القِدم.

الفلسفة عند ديوي ترسم مسارات التعليم ولا يمكن الفصل بين الفلسفة والتربية فالأول يقدم التصورات الضرورية والثاني يمثل التطبيق العملي لتلك التصورات. إنَّ إسهامات ديوي يمكن تصنيفها تحت العلوم التربوية والفلسفية والنفسية والسياسية. إذا أردنا أن نوجز فلسفة وعقيدة ديوي التربوية فإن التعليم الأمثل عنده هو الذي يغرس مهارات ولا يكدس معلومات، وهو الذي يلامس متطلبات الواقع، ولا ينغمس في تقديس الماضي.

ومما يترتب على الرؤية الفلسفية السابقة جملة من التطبيقات التربوية منها أن التربية تقوم على مبدأ تفاعل المتعلم مع البيئة المحيطة به والمجتمع الذي يعيش فيه ولذلك فإنه يحتاج إلى تنمية مهاراته الفكرية والعملية دائماً ليقوم بحل المشكلات بشكل راشد وأسس علمية. استناداً لهذه الرؤية فإن العلوم النظرية وتشعيباتها الكثيرة ليست ذات أهمية في المنهاج التعليمي طالما أنها لا تخدم المتعلم في تصريف شئون حياته. قام ديوي بتحويل عملية تهذيب الإنسان من العناية بالمُثل العقلية المجردة إلى الاهتمام بالنتائج المادية الملموسة. في ظل هذه الفلسفة التي عُرفت باسم البراغماتية والأداتية والوظيفية فإن البحث العلمي لحل المشكلات الواقعية أهم أداة في الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي.

يرى ديوي أن أسلوب المحاضرة من الطرائق القاصرة في التعليم ومنافعها محدودة لأنها لا تتيح الفرصة للمتعلم كي يستكشف الواقع، ويجمع المعلومات، ويقيس الأمور، ويبحث عن الحلول. لهذا فإن أسلوب السعي في حل المشكلات القائم على حرية المتعلم أكثر إيجابية وخير من الدروس التقليدية القائمة على محاضرات المعلم التلقينية. وهكذا فإن جون ديوي لا يتفق مع طريقة جون فريدريك هربرت في توصيل المعلومات عبر خطوات منهجية في عرض الدرس لأن الطالب سيكون سلبيا فالمعلومات تأتي إليه في الفصل ولا ينجذب إليها.

من أفكار ديوي التربوية طريقة المشروع "project method" ويقصد بها أنَّ يقوم المتعلمون باختيار موضوع واحد ودراسته من عدة جوانب كأن يذهب المتعلمون إلى مزرعة وفيها يتعلمون كيفية الزراعة ويستمعون إلى تاريخ الزراعة في تلك المنطقة ويتعاون كل فرد من المجموعة بعمل جزء من المشروع. في عملية تنفيذ المشروع يقوم الطالب بجمع البيانات المطلوبة من المكتبة أو مقابلة الأساتذة. من أهم سمات طريقة المشروع كنشاط شامل أن المتعلم عادة سيتفاعل معه لأنه قد يكون شارك في اختيار الموضوع. طريقة المشروع تشبع حاجة المتعلم النفسية لأنها تراعي الفروق الفردية، وتدفعه إلى التعلم الجماعي، وتحرره من قيود الكتاب المدرسي.

لم يوضح ديوي تفاصيل طريقة المشروع في التدريس ولكن تلميذه كلباترك قام بوضع التفاصيل. من أهم خطوات طريقة المشروع للفرد أو للمجموعة:

وجود الغرض.

رسم الخطة.

تنفيذ الخطة.

تقويم الخطة (الحصري والعنيزي، 2000 م، ص 194).

يُعرِّف جون ديوي الديمقراطية التربوية بأنها طريقة شخصية للحياة، وهي بالتالي ليست مجرد شيء خارجي يحيط بنا فهي جملة من الاتجاهات والمواقف التي تشكل السمات الشخصية للفرد والتي تحدد ميوله وأهدافه في مجال علاقاته الوجودية. ويترتب على هذا التصور ضرورة المشاركة في إبداء الرأي وصنع القرار، وتأسيس الحياة المدرسية والأسرية على هذه المضامين الديمقراطية لتنظيم الحياة (قمبر، 2001 م، الحرية الأكاديمية، ص 337). في ظل هذه المنظومة نرى أن الديمقراطية في الحقل التربوي تعني ممارسات اجتماعية تؤكد قيمة الفرد وكرامته، وتجسد شخصيته الإنسانية، وتقوم على أساس مشاركة أعضاء الأسرة والجماعات في إدارة شئوونها ديمقراطياً (نذر، 2001 م، ص 413).

من الواضح أن كتابات ديوي تحمل في طياتها نقداً لاذعاً للتربية التقليدية السائدة في عصره وعلى مر العصور. انتقد التربية التي تعتمد على حفظ المعلومات عن ظهر قلب، وإعداد المتعلم للمستقبل مع تجاهل الحاضر وتهميش المرحلة التي يعيشها المتعلم. كانت القاعدة هي أن المعلم هو أساس العملية التربوية وجاء ديوي ليقلب الموازين وينقل الفكر التربوي إلى شمس التربية أي إلى المتعلم واحتياجاته.

كانت كتابات ديوي دعوة قوية حطمت سيادة الأسلوب التقليدي الذي ساد التاريخ الإنساني لفترات طويلة وفي مقابل ذلك جاء المذهب البراغماتي ليؤكد على دور كل من الأسرة والمدرسة والمجتمع في تنمية المتعلم ليعيش حراً مفكراً منتجاً. التربية عند ديوي هي الحياة في حاضرها أولاً ثم تهتم بالمستقبل.

معاينة الدراسات الغربية تدل على أن الغربيين في معظمهم ينكرون فضل الحضارة الإسلامية وأثرها في النهضة الغربية إلا أن ديوي في محاضراته كان يؤكد على أن الغرب لا يذكر فضل الحضارة الإسلامية فقال: إننا عادة نغض الطرف عن الاعتراف بفضل الحضارة المحمدية وأثرها في الحضارة النصرانية فلقد كانت الحضارة الإسلامية متقدمة بشكل كبير. هذا كان صحيحا في ميدان الفلسفة وأيضا في الميادين الأخرى"  .(Dewey 1993, p.105)

في كتابه نظرية الحياة الأخلاقية تحدث ديوي عن دور الإقناع العقلي في غرس القيم والأخلاق إذ يرى أنه لا يكفي المدح والذم، والثواب والعقاب، والتحليل والتحريم. أساس الأخلاق ومضمونه هو معرفة أسباب العادات التي نقوم بها لنتأكد من المعايير التي تضمن أنها عادلة…الذين يضعون القانون ويشاركون في إيجاد العادات المفترض أن تكون، لديهم رؤية ثاقبة لحقيقة تلك الأسس وإلا فإنَّ الأعمى سيقود الأعمى.

في كتابه الحرية والثقافة Freedom and Culture يناقش الماركسية كفلسفة سياسية واقتصادية ويخالفها من حيث حرية الفرد ويؤكد على أن البيت أول مكان يتعلم فيه الفرد الديمقراطية ويعتبرها منهج حياة ثم في نهاية الكتاب يتحدث عن أمريكا كنموذج عالمي يقوم على البحث العلمي والتجربة والإيمان بالتعددية الثقافية.

من خلال مراجعة كتابات جون ديوي يمكن استخلاص فلسفته التربوية في ضوء النقاط الآتية:

أولاً في ميدان العقيدة التربوية لجون ديوي:

1-كل تربية فاعلة تقوم على مشاركة الفرد في الوعي الاجتماعي للجنس البشري.

2-المدرسة مؤسسة اجتماعية بالدرجة الأولى وينبغي أن تعكس صورة الحياة الجماعية:

"I believe that the school is primarily a social institution.”

3- الحياة الاجتماعية للطفل هي الأساس لجميع الأنشطة التعليمية.

4- نمط التعلم يجب أن يعتمد على طبيعة نمو قوى الطفل واهتماماته.

5-التربية هي الطريقة الأساسية للتقدم والإصلاح الاجتماعي.

أعلى ديوي من شأن الخبرة الإنسانية واعتبرها مصدر العلوم والقيم وبخلاف المدرسة المثالية فإن يرى أن المعرفة والقيم نسبية غير ثابتة فالعقل البشري هو الحاكم الذي يقرر الصواب والخطأ.

ثانياً أهم وظائف المدرسة:

1-تبسيط وترتيب عناصر ميول الطفل التي يراد إنماؤها.

2-تطهير المتعلم من العادات الاجتماعية المذمومة وتهذيبه.

3-تحقيق الانفتاح المتوازن للناشئين كي يعيشوا في بيئة مصغرة فيها مشاركة وتآلف وتكاتف.

المدرسة عند ديوي بيئة ديمقراطية تسعى لإيجاد المواطن الديمقراطي والتربية عملية دائمة للفرد ليساهم في بناء المجتمع مع مراعاة الفروق الفردية في التدريس ووضع المنهج الدراسي.

 

ثالثاً: جوانب تساهم في التقليل من دور التربية المنظمة :

1-تكوين العادات اللغوية فإن "التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان الأساليب الحديثة التي تعلموها عن عمد، ويرتدون إلى لغتهم الأصلية الحقيقية".

2-القدوة أشد فعلاً في النفس من النصيحة "فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته السيرة" للأفراد الذين يكونون في بيئة الطفل الاجتماعية.

3- ينمو الجانب الجمالي والذوقي حسب البيئة المحيطة والتعليم المقصود والمباشر يستطيع أن يقدم معلومات لا خبرات.

رابعاً: أسس التفكير العلمي:

1-وجود خبرة تهم الطالب.

2-ظهور مشكلة وعند المتعلم الحافز لحلها من خلال عملية التفكير.

3-ملاحظة المشكلة وربطها بالمعلومات السابقة عند المتعلم.

4-وضع الفروض والاحتمالات لحلها.

5-اختبار الفروض واقعياً ليتحقق المتعلم من صدقها. قائد السيارة مثلا إذا توقفت سيارته ولم يعرف السبب فإن هذه المشكلة تُعتبر خبرة حية وموقف يدفعه إلى التفكير في سبب المشكلة وهذا يدعوه إلى استرجاع معلوماته عند سبب توقف السيارات عموماً. حرص السائق على تصليح العطل وعلاج الخلل أيضاً يدفعه إلى وضع احتمالات وفروض مثل (نفاذ الوقود- عطل في البطارية…).

كيف يعمل هذا؟ كيف يصلح هذا هنا … هذه الأسئلة التجريبية هي أساس فلسفة ديوي الذي لم يتّبع الأسئلة النظرية التجريدية (Solomon & Higgins, 1996, p. 262). يرى ديوي أن التفكير العلمي المبني على القدرة على الفهم والتحليل وحل المشكلات العملية أفضل من حشو أذهان المتعلم بحشد من المعلومات فالأصل في التعليم غرس المنهج العلمي في التفكير.

 

 

تعليق على أفكار جون ديوي

يقوم التفكير العلمي كنشاط إنساني على مبدأ الإيمان بقدرة الحواس والعقل والبرهان من أجل الوصول للحقائق بصورة موضوعية تعتمد على إجراء التجارب، واثبات النتائج تحت مجهر الاختبار. هذا المنهج الذي ينادي به الإسلام يعمل على كسر احتكار العلم على فئة ما كما يعمل على نبذ الأوهام والغيبيات التي لا سند لها. جاء جون ديوي ليركز على الحواس وكل ما يمكن قياسه مادياً وبذلك أخذ جانباً من المنهج العلمي السليم في حين أنه فرَّط في قدرة العقل على الاستنباط والاستدلال فما يتصل بأمر الدين فأخل ديوي بالمنهج العلمي الشامل للتفكير من المنظور الإسلامي.

إن أسلوب حل المشكلات الحاضرة خير مهارة يتعلمها الإنسان لمستقبله ولمواجهة تغيرات الحياة والتغلب على مشكلاتها. يجمع الباحثون على أن فكر ديوي مازال يلعب دورا حيوياً وعلمياً وعملياً في الميدان التربوي المعاصر رغم الانتقادات الموجهة والتحديات المتزايدة.

الكثير من أعلام الفكر التربوي العربي المعاصر لا يثيرون نقطة جوهرية هامة عند حديثهم عن فلسفة ديوي وهي أنه غرس في أعماق التربية فلسفته الإلحادية(Atheistic Philosophy)  حيث أصبحت القيم نسبية.

كتب ديوي تقريراً عن طرق إصلاح التعليم في تركيا. لم نعثر على أي دراسة تحليلية لهذا الموضوع علماً بأن ديوي لمس جوانب هامة في كيفية إصلاح مؤسسات التعليم في تركيا وذلك من المنظور الغربي. اهتم تقرير ديوي بضرورة توسيع دائرة التعليم المهني وتوجيه التعليم في تركيا نحو الدراسات العملية. التقرير هو ثمرة لزيارة ميدانية قام بها ديوي لتركيا ووجد أن العلوم النظرية هي السائدة في حين أن العلوم العصرية مهملة. كما طالب بإنشاء مؤسسات وتخصصات تلبي التطورات في ذلك العصر الصناعي.

طريقة المشروع فيها إبداع وكسر للجمود في نمط التعليم ولكن من العقبات التي واجهت ديوي ومازالت تواجه فكرته أن طريقة المشروع تستلزم تكاليف مالية ومتطلبات إدارية غير متوفرة في المدارس العادية. ومن سلبيات هذه الطريقة أن بعض الطلاب في المجموعة سيقومون في أداء المشروع وإنجاز الشطر الأكبر منه فيصعب التحقق من مشاركة الجميع في إعداد وتنفيذ المشروع. يميل بعض الطلاب للعمل الفردي والتربية يجب أن تهتم بالفروق الفردية. ومن الثغرات أن المواد الدراسية تتداخل ويقع فيها التكرار في بعض الموضوعات أو الإهمال في موضوعات أخرى. وأهم عقبة أننا من الصعب أن نقيس مدى استيعاب الطالب للمادة العلمية المطلوبة إذا كان في المشروع مراحل كثيرة. إضافة لذلك فإن بعض المشاريع قد تستغرق وقتاً طويلاً مما يصعب معه تقييم مستوى الفائدة المرجوة.

تعرض ديوي للنقد عندما اقترح طريقة حل المشكلات كطريقة من طرائق التدريس في المدرسة. ويمكننا أن نوجز بعض التحديات العملية التي قد تواجه أسلوب حل المشكلات فيما يلي:

أسلوب حل المشكلات يحتاج بلا شك إلى معلم له إلمام بمسائل متنوعة وله ثقافة واسعة وتجربة متجددة وهذا النمط من المعلمين المحترفين قلة لأن المدارس التقليدية لا تعتني بهم ولا تمتلك مصادر متنوعة لتنمية ثقافتهم.

الطالب الطموح المحب للاستكشاف سوف يستفيد من هذا البرنامج أكثر من الطالب الذي يحتاج إلى عون المعلم.

المدارس ذات الموارد المحدودة ستحصر مشكلاتها (الأنشطة) داخل الأسوار المدرسية.

حل بعض المشكلات سيولد أحياناً المزيد من التساؤلات والمتاهات.

المبالغة في التأكيد على حرية المتعلم، ومرونة المناهج، وديمقراطية القرار قد تؤثر في المخرجات النهائية ولا تتحقق الأهداف المرجوة.

  هذه التحديات لا تقلل من قيمة هذه الطريقة فلكل وسيلة تربوية نقاط ايجابية وأخرى سلبية ولا تسلم أي نظرية من التحديات وهذه طبيعة الحياة التربوية. إننا نتوقع نمو متزايد لأفكار ديوي لأن التكنولوجيا الحديثة ستفتح المزيد من آفاق البحث الحر والمشاريع الإبداعية والانفتاح الثقافي. كما أن سقوط الشيوعية أنعش الديمقراطية مما يدل على أن أفكار ديوي ستكون أكثر قبولا على المستوى العالمي.

لقد تعلم ديوي من إسهامات الفلسفة الكلاسيكية ثم رسم مدرسته الحديثة على أسس نفسية واجتماعية مختلفة. لقد أخذ من سقراط صفة الصبر، ومن أفلاطون عمق التأمل، ومن أرسطو فكرة الواقعية ثم قدم لنا - مع غيره - الفلسفة البراجماتية بغية تكوين الفرد الليبرالي والمجتمع الديمقراطي. ربط ديوي الفلسفة بالتربية ثم ربط التربية بالحياة العملية ومشكلاتها وتحدياتها بشبكة فكرية ذات نزعة عملية. هذه الشبكة هي نظرياته الشاملة التي تعتبر من أبرز نظريات التربية الحديثة القائمة على مبدأ البحث الحر المستمر عن المعرفة النابعة من الخبرة المباشرة والنشاط الذاتي.

 


ماريا منتسوري

 (1870 – 1952 م)

بينما كانت أفكار جون ديوي تمد الحركة التقدمية بأساسيات التطوير التربوي في أمريكا كان الأمر نفسه في أوربا يسير نحو تطوير نظريات جديدة تثري التربية والتعليم في أنحاء العالم وكانت ماريا منتسوري (Maria Montessori) على رأس قائمة رواد الفكر التربوي في ميدان الطفل نظرياً وعملياً. منتسوري شخصية قوية تمتاز بسعة وعمق الفكر إلى جانب حركة نشطة مؤثرة وصلت بصماتها شرق وغرب العالم في أقل من نصف قرن. تأثرت ماريا بأفكار روسو الذي طالب بعودة الطفل إلى أحضان الطبيعة فناصرت فكرة تربية الطفل وفق ميوله وقامت بعمل إبداعي إجرائي لتنمية الطفل روحياً وفكرياً وحركياً عبر مجموعة أنشطة تلبي حاجاته وتنمي إمكانياته داخل مؤسسات متخصصة طبقاً لمواصفات وأهداف تعليمية معينة (Parkay & Stanford, 2001, P.  109). آلاف من مؤسسات رياض الأطفال إلى اليوم وفي دول كثيرة تنتمي فكرياً وعملياً لفلسفة ماريا في طرق التعليم الخاصة بتنمية الأطفال وآلاف الجامعات تدرس فكرها التربوي الخصب.

ولدت ماريا منتسوري في إيطاليا مدينة شيارافال Chiaravalle لأسرة محافظة ولكنها دخلت كلية الطب بجامعة روما University of Rome وخالفت التقاليد وتخصصت فيما بعد في دراسة أمراض الأطفال ومشاكل ضعاف العقول. تخرجت عام 1894م وعملت في التدريس في جامعة روما فاهتمت بالأنثروبولوجيا anthropology وطرائق التعليم pedagogy كما عملت طبيبة مساعدة في مستشفى الأمراض العقلية مما جذبها إلى دراسة الأطفال أصحاب المصاعب العقلية ونجحت في تأسيس مدرسة ترعى ضعاف العقول واكتشفت أن لهم قابلية للتعلم الجيد. لاحظت لاحقاً أن الطرق التقليدية في التدريس من أهم أسباب ظهور التأخر الدراسي. عملت ماريا على توفير جو من الحرية للطفل ليختار الألعاب والأنشطة المتوفرة في المدرسة من أجل تطوير قدراته المعرفية ومهاراته الحرية بأسلوب اللعب. اشترطت في الوسائل التعليمية التي ينبغي أن توجد في المدرسة أن تكون قادرة على جذب عناية الطالب وتقوية دافع التعلم عنده. في عام 1915 م تبنت مئات المدارس في العالم نظريات ماريا واليوم نجد الكثير من أفكارها الأصيلة وأنشطتها التعليمية المبتكرة، ووسائلها المقترحة أصبحت من الثوابت التربوية الحديثة وأضحت من أهم معايير تقييم المناهج وإدارة المدارس الخاصة بالأطفال في مرحلة الحضانة ورياض الأطفال. توجت ماريا جهودها بسلسلة من الأسفار والمحاضرات الدولية فأصبحت أول طبية إيطالية تفتح آفاقاً عالمية للطفل مليئة بالابتكار وتستحق الانتشار.  تخطت ماريا التربية التقليدية فبنت بيوت الأطفال والمدارس (Casa dei Bambini Children's House))  في بدايات القرن الماضي وكانت في بداية أمرها قرب حي فقير في روما[2]. لقد استفادت ماريا من أطروحات فروبل وروسو وبستالوزي كما تأثرت في بدايات مشوارها العلمي "بجان إيتار" و"إدوارد سيفان" فكل منهما عُني بالتخلف العقلي.

بثت ماريا منهجها وعصارة تجاربها في مجموعة من كتبها مثل:

منهج منتسوري

(The Montessori Method, 1912).

طريقة منتسوري المتقدمة

 (Method 1917-18 The Advanced Montessori).  

سر الطفولة (The Secret of Childhood 1936).

التربية لعالم جديد

 (Education for a New World 1946).

من أجل تربية القدرات الإنسانية

 (To Educate the Human Potential 1948).

اكتشاف الطفل (The Discovery of the child).

العقل المستوعب (The Absorbent Mind, 1949).

تتابعت قصص نجاح مدارس منتسوري فقامت في أربعين سنة بنشر خبراتها في العديد من الدول وأشرفت على تأسيس برامج إعداد وتدريب المعلمين وخلال هذه الفترة ترجمت كتبها إلى جميع اللغات العالمية الهامة. تركت منتسوري إيطاليا هرباً من الحركة الفاشية (Fascist rule) التي أسسها موسوليني في إيطاليا وتوسعت مع نفوذ الاشتراكية وبما أن الفاشية كنظام سياسي واجتماعي لا يتماشى مع طبيعة الإنسان الحر والنزعة الديمقراطية فيبدو أن ماريا لم تتأقلم معه. كانت محاضراتها في دول فقيرة وغنية فحاضرت في أوربا وأمريكا وفي الهند وسري لانكا وأسبانيا ثم استقرت ماريا في هولندا حيث توفيت سنة 1952 م.

 

بعض الأسس التربوية عند ماريا منتسوري

       بدأت ماريا مشوارها التربوي في حقل الأطفال مع مجموعة من المعاقين عقلياً وأحرزت تقدماً ملموساً. هذه التجربة النافعة جعلتها توسع نطاق تجاربها فشقت طريقها نحو الأطفال العاديين وحققت نجاحاً فاقتربت من عقل وقلب وجسد الطفل وراحت تفرد الصفحات تلو الصفحات وهي تتحدث عن أسرار ومفاتيح الدخول إلى عالم الطفل.

يمكننا أن نجد ملامح واضحة لمنهج ماريا في مسألتين نراهما من أهم المسائل التي تمكننا من فهم فلسفة ماريا. أولاً: طبيعة الطفل وطرائق التعلم وثانيا: وظيفة المعلمة (الموجهة).

فيما يلي بعض نظرات ماريا في الطفل وأهداف التربية وطرائقها:

الملاحظات العلمية والعملية لماريا تثبت أهمية الطفولة المبكرة وتطالب بضرورة استثمار الطاقة العاطفية الكامنة في الطفل (Montessori, 1995, p. 2). تقول ماريا "إن جاء الخلاص، فإنه يبدأ بالأطفال ما داموا خالقي الإنسانية. إن للأطفال قدرات غير معروفة يمكن أن تكون مفاتيح مستقبل أفضل. فإن أردنا تجدداً وانبعاثاً حقيقياً، فإن تنمية الطاقة البشرية هي المهمة التي ينبغي أن تضطلع بها التربية" (روهرس، 1994 م، ص 117).

 الطفل مخلوق مبدع ومن حقه أن يتعلم ويعامل كشخص مستقل right to be treated as an individual. "خطوة التربية الأولى هي أن نؤمن للطفل بيئة تسمح له بتنمية الوظائف التي حددتها له الطبيعة. وهذا لا يعني أن علينا إرضاءه والسماح له بأن يفعل ما يشاء، بل يعني أن نكون على استعداد للتعامل مع نظام الطبيعة، ومع إحدى سننها القائلة بوجوب أن يتم هذا النمو عبر تجارب الطفل الخاصة" (روهرس، 1995 م، ص 116).

 التعلم الذاتي (self-education) محور العملية التعليمية.

 الصمت وسيلة من وسائل التعليم واللعب وتنمية حاسة السمع عند منتسوري في حين أن المدارس التقليدية تحرص على الهدوء كمظهر من مظاهر النظام والطاعة فقط (Montessori, 1972, 172). فلسفة الصمت وتطبيقاتها للأطفال من الأمور التي لم ينتبه لها المربون من قبل كما قالت منتسوري.  الصمت يكون مطلوباً في المدارس التقليدية عندما يختل توازن الأمور فقط أما عند ماريا فالأمر مختلف.

 النمو الإنساني هو سلسة من الولادات المتعاقبة (روهرس، 1994 م، ص 117).

 ركزت على أهمية الخبرة الذاتية للطفل كأساس من أسس التدريس الناجح.

 أعطت اهتماما كبيرا للوسائل التعليمية حتى أنها قامت بنفسها بإعداد وتصميم بعض الوسائل.

نادت بضرورة فتح بيوت للأطفال من سن 3-7 سنوات حيث يقوم البيت بتنمية الجانب العاطفي والاجتماعي للطفل مع التركيز على اللعب وكان ظهور أول بيت لخدمة تلك الفكرة عام 1906م.

على النقيض من مدرسة الجشطالت فإن منهج منتسوري يقوم على أهمية توصيل المعلومات من خلال تدريس المعلومات الجزئية ثم الانتقال إلى المعلومات الكلية أي أن البداية تكون بتعلم الحروف الهجائية ثم يتعلم الطفل الكلمات أو الجمل.

بالغت منتسوري في التأكيد على أهمية الاعتناء بالحواس كالسمع والبصر وقالت أن الحواس أساس النمو العقلي وهي نوافذ المعرفة. تمرين الحواس له أهمية كبيرة في النمو البيولوجي والاجتماعي أيضا كما تقول منتسوري.

لقد رسمت ماريا مسئولية المعلمة (الموجهة) بصورة مختلفة عن النظرة التقليدية فدور الموجهة يتمثل في مراعاة الأمور التالية:

إعداد بطاقة الملاحظة المنظمة وهي تضم معلومات وتعليقات عن الطفل تسجلها الموجهة بانتظام. هذه البطاقة شاملة لأنها ترصد الطفل عاطفيا وعقلياً وجسداً.

المعلمة لا تتدخل في شئون المتعلم بل تساهم في توفير احتياجاته وخاصة الوسائل التعليمية. الأساس في العملية التربوية عند منتسوري هو ميول المتعلمين وأنشطتهم الذاتية وحريتهم الشخصية وبناء على ذلك فإن هدف التربية هو تنمية شخصية المتعلم.

لا تقوم المعلمة بإعداد الدروس التقليدية لأنها تقلل من مساحات الحرية فالصغار لا يحبون الإجبار والحرية أساس النمو السليم.

المعلمة تعد البيئة التعليمية الثرية الشائقة التي تناسب استعدادات وميول الأطفال.

المعلمة قدوة ايجابية لاسيما في هدوئها، وسمتها، وسماحتها.

الصبر والتعاطف مع الطفل من مستلزمات العمل التعليمي لأنها تتسق مع احترام ذاتية الطفل. ومن أشهر أقوال ماريا "اترك الطفل يعمل ما يفكر فيه" (بدر، 2000 م، ص 193).

وسيلة العقوبة (الحرمان من اللعب) والترهيب والنقد ليست من الأساليب الهامة في تربية الطفل فالموجهة لا تتدخل إلا في مسائل محدودة جداً.

يجب أن تتمتع المعلمة بجملة مهارات متميزة في مجال الحركة والموسيقي والرواية والرسم كي توفر المناخ الملائم والممتع للطفل.

 

تعليقات موجزة على طرائق ماريا

إضافة للتحليلات السابقة ومن خلال جولاتنا العديدة في المدارس الأمريكية وحديثنا مع عدد من المسئولين والعاملين في مدارس رياض الأطفال وجدنا أن مدارس ماريا منتسورى:

1- لها انتشار وتواجد في عدة دول رغم وجود مدارس ومناهج جديدة وبديلة فإن بعض المدارس الخاصة ما زالت تسير على إرشادات منتسوري وبعضها تحمل الاسم نفسه وتتبنى الفلسفة المنتسورية برمتها. قوة سمعة المدرسة المنتسورية في العالم جعلت الكثير من الأسر يطمئنون لهذه النوعية من المدارس.

2- عندها وضوح كامل في الأهداف ونوعية الأنشطة لكل مرحلة عمرية وهذه الأهداف يفهمها العاملون في المدرسة كما يفهما أولياء الأمور.

3- متقيدة في منهج واحد يعتمد على استيعاب الفروق الفردية وتعزيز حرية اللعب والتعلم من خلاله. يلتزم العاملون في هذه المدارس بنظرية ماريا ولا يضيفون عليها وهذا يجعل النظرية جامدة وضيقة الآفاق لأنها مقيدة لإبداعات العاملين.

4- لا تعتني مدارس منتسوري كثيراً بالأنشطة الورقية من كتابة ورسم بقدر اهتمامها بالبرامج الحركية الأخرى كما يزعم بعض الناقدين مع أن منهجها من الناحية النظرية لم يغفل هذا الجانب.

5- الأنشطة الجماعية الاجتماعية لا تحتل مكاناً بارزاً في منهج منتسوري إذ أن منهجها مبني على مراعاة الجوانب النفسية أكثر من الجوانب الاجتماعية في رأينا.

6- رغم أهمية هذه المدرسة إلا أنها لا تصلح للجميع وهذا شأن جميع المدارس البشرية وما ذلك إلا لتفاوت الفكر واختلاف الطباع فبعض الأطفال قد يناسبهم الانخراط في مثل هذه المدرسة والبعض الآخر يفضل مدارس لها عناية أكبر بالجوانب الدينية أو الجوانب الاجتماعية. وبطبيعة الحال، فإن أهم سمة للتربية هي أنها متنوعة ولها العديد من النظريات والتطبيقات ولا تخلو مدارسها من جوانب القوة والضعف.

يؤكد موريس شربل في كتابه "علماء التربية وعلماء النفس " على أن أهم الانتقادات التي تم توجيهها لنظرية منتسوري هي كالآتي:

" لا تؤكد منتسوري علي كلية الفرد بل تربي كل حاسة بمفردها.

 خططت بنفسها إنتاج الوسائل التعليمية دون أن تأخذ بعين الاعتبار عفوية الطفل وحريته في اختيار الألعاب وفي إمكانية خلق اللعب من صنعه وابتكاره.

 أهملت مونتسوري تنمية الخيال في برامجها التعليمية لأنها أكدت جدا على الحواس. رغم الانتقادات العديدة التي وجهت إلى هذه الطريقة في التربية فقد انتشرت في كل بلدان العالم كما تعرضت إلى تعديلات كثيرة في الألعاب والوسائل والانتظام" (ص 238).

 لاحظت د. سهام محمد بدر (2000 م) أن ماريا أهملت الحاسة الأدبية عند الطفل (ص 198).

 تعتقد د. سهام محمد بدر أن منتسوري اعتمدت على تعليم الحروف ثم الكلمات فالجمل وهو منهج لا يناسب عقل الطفل (ص 198). والذي نراه أن منهج التعليم من خلال الجزء للكل قد يناسب بعض الطلاب وأن الخلاف نسبي فأهل المشرق والمغرب قديما كما ذكر ابن خلدون قد اختلفوا في هذا الموضوع ومن الواضح أن د. سهام تنتصر لمدرسة الجشطالت التي تؤكد على تعليم الكليات (الكلمات) قبل الجزئيات (الأحرف) وهو المذهب السائد في الأقطار العربية وغيرها اليوم في النظرية والتطبيق.

رغم تأثر ماريا منتسوري بالدين (المسعد والهولي، 2002 م، ص 95) إلا أنها لم تضع معالم واضحة للتربية الدينية (بدر، 2000 م، ص 197).

أهملت التمثيل والأشغال اليدوية (بدر، 2000 م، ص 197). رغم أهميتها ومناسبتها للأطفال.

علق كلباترك (Kilpatric) على مجهودات ماريا بعد دراسة شاملة فقال "لقد جعلت منتسوري من نفسها خير قدوة لما يجب أن تكون عليه الأم في المنزل والمربية في روضة الأطفال، والمعلمة في المدرسة الابتدائية بما أكدته من وجوه من اعتماد الطفل على نفسه ومن اقتصار تدخلها في أموره على أضيق الحدود ومن اختصارها لزمن الدرس مما يثير الشوق ويدفع الملل ويشد الانتباه ويدفع للعمل ويدعو للإقبال وينشر في المدرسة حياة طبيعية تنمي الميول والقدرات" (صبح، 1993 م، ص 93 ). قال جون ديوي "كل لعبة من ألعاب منتسوري تخفي من خلالها صعوبة من الصعوبات يتطلب من الطفل تذليلها" (بدر، 2000 م، ص 199). وكأن ديوي يدافع عن ماريا ويؤكد أن منهجها عملي يهتم بالابتكار وحل والمشكلات.

 

 

 

 


التربية عند أحمد بن مسكويه

(320 - 421هـ = 932 – 1030 م)

أبو علي الخازن هو أحمد بن محمد بن يعقوب المشهور بلقب ابن مسكويه ولقبه مسكويه نسبة إلى  المسك. ويسمى أيضا في كتب التراث بمشكويه[3] وهي مدينة بقرب الري. ولد أحمد في بلاد فارس في مدينة الري. طلب العلم بهمة عالية ووجد غرامه في القراءة والإطلاع على كتب الأدب والتاريخ والكيمياء والفلسفة. وفي بغداد دخل قصور الوزراء فكانوا يستعينون به ويثقون فيه ويستشيرونه ثم اتصل بابن العميد وأخذ من أدبه ثم أصبح خازنا للكتب في مكتبة عضد الدولة بن بويه فزاد إطلاع ابن مسكويه وتوسعت دائرة ثقافته وتوثقت علاقاته بأركان الفكر في عصره واستقلت شخصيته. برع ابن مسكويه بالأدب والفلسفة والتاريخ والأخلاق واهتم بالكيمياء ويُقال أنه حاول أن يصنع الذهب فلم يفلح.

كان الخازن في ذلك العصر يحتفظ بالكتب ويرمم شعثها ويبذلها للمحتاج إليها ويسهل استعارتها للفقراء وعلى الخازن أن يراعيهم أكثر من الأغنياء. وليس للخازن أن يعير الكتاب إلا برهن. ولقد ذكر العلماء أهمية هذه المهنة وواجباتها كما فعل عبدالوهاب السبكي في كتابه معيد النعم (ص 88) وعلى هديه كتاب ابن طولون الصالحي الدمشقي في كتاب نقد الطالب لزغل المناصب (ص 157).

ذكر ابن سينا في القانون في الطب "مسكويه هو أبو فاضل[4] في العلوم الحكمية متميز فيها خبير بصناعة الطب جيد في أصولها وفروعها ولمسكويه من الكتب "كتاب الأشربة" "كتاب الطبيخ" كتاب تهذيب الأخلاق" ص 2330). وقال القفطي في أخبار العلماء بأخيار الحكماء "مسكويه: أبو علي الخازن من كبار فضلاء العجم وأجلاء فارس له مشاركة حسنة في العلوم الأدبية ... وله مناظرات ومحاضرات وتصانيف في العلوم فمن تصانيفه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف" (ص 197، ابن العبري ص 152).

كان ابن مسكويه شديد التأثر بفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو وبروسن وجالينوس وحاول في كتاباته الجمع والتوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية. ثقافته هي خليط من ثقافة العرب والهند والفرس واليونان. قرأ ابن مسكويه كتب الفلاسفة وثقف الفلسفة اليونانية ونقل الكثير من آراء فلاسفتهم وتبناها في مناقشاته. شكل النموذج السياسي عند الفرس قبل الإسلام الكثير من آراء ابن مسكويه فيما يتصل بالتربية السياسية فأبرز ملامح العدل وتطبيقاته من الشواهد الإسلامية وألحقها ببعض النماذج الفارسية طبقاً للتجربة الساسانية.

نهج ابن مسكويه نهج الفلاسفة في تبني أفكاره وربطها بأدبياتهم ومناقشاتهم وآمن أن  الشريعة الإسلامية وشعائرها تشمل على منهج واضح في رياضة النفس وتهذيب الخلق وأنها تعلي من شأن العقل وهي بذلك تنسجم مع معطيات الفلسفة.

كان ابن مسكويه مؤرخا وأديبا وحكيما ومبتكراً وفي كتبه دلالة على ذلك. من أهم كتب هذا العالم الجليل:

"تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" وهذا الكتاب من أهم وأقدم كتب التربية الأخلاقية.

"تجارب الأمم وتعاقب الهمم" وهو كتاب تاريخي قال عنه العلماء "كتاب عظيم النفع" (حاجي خليفة).

"آداب العرب والفرس".

"كتاب السعادة".

"أنس الفريد".

 "فوز النجاة. وهو كتاب في الأخلاق.

"الأدوية المفردة".

"كتاب في تركيب الباجات من الأطعمة". وهذا الكتاب يدل على سعة علمه وعلى سبقه التاريخي في الكتابة التفصيلية عن فنون الطبخ.

من الواضح أن ميله الكبير لفلاسفة اليونان جعله يحاول أن يصبغ أفكاره بثمار نتاجهم دون الإخلال بقواعد الأخلاق الإسلامية التي آمن أنها تدعو إلى المحبة والحكمة والخير والفضيلة والعدل. عاصر ابن مسكويه شخصيات علمية فذة مثل ابن العميد الأديب، وابن سينا الطبيب، والبيروني الجغرافي الشهير. اتسم عصر البوهيّين بالتوسع في الترجمة والتفنن بكتابة الكتب بأسلوب مسجَّع وشهد أيضاً العناية، بالكتب والمكتبات، والمحاضرات والمناظرات العلمية بين العلماء وفي قصور الأمراء، وتنوعت العلوم النقلية والعقلية.

يرى د. سعيد الديوه جي (1988 م) أن ابن مسكويه وصل إلى نتائج دقيقة وصائبة لأنه فلسفته تقوم على أن تقويم الأخلاق يقدم على التعليم وأن ما يتعلمه الطفل بالمحاكاة أكثر مما يتعلمه بالقول وأن كرامة النفس من أول الأمور التي تنمى في الطفل كما أن حفظ المواعيد حتى إنجازها من أهم الوصايا (ج 2، ص 234، 236، 240). درس خاتمي (2001 م) فكر ابن مسكويه في التربية السياسية وتوصل إلى أن ابن مسكويه يرى أن الدين والحُكم توأمان، لا يكتمل أحدهما إلا بالآخر فالإسلام هو الأساس والملك هو حارسه ويظهر الاستبداد والتغلب إذا كان الحاكم فاقداً للعدالة. يرى ابن مسكويه أن النظام الساساني في إيران قبل الإسلام يتضمن صورا مشرقة للعدل السياسي تتوافق مع المقاصد الإسلامية (ص 212).

 

فلسفته التربوية

من منظور فلسفي، يمكن ملاحظة الآتي من دراستنا لبعض كتابات ابن مسكويه:

1-اهتم ببيان اختلاف الفلاسفة في فهم طبيعة النفس البشرية وتساءل هل هي مطبوعة على الخير أو الشر؟

2-آمن ابن مسكويه بقدرة التربية على التغيير،  ويطلق على التربية اسم التأديب والتقويم والتهذيب والسياسة ويقول "والشريعة هي التي تُقوم الأحداث وتعودهم الأفعال المرضية وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلاغ إلى السعادة الإنسية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم وعلى الوالدين أخذهم بها وبسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات من الضروب إذا دعت إليه الحاجة أو التوبيخات إن صدتهم أو الإطماع في الكرامات أو غيرها مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات.  حتى إذا تعودوا ذلك واستمروا عليه مدة من الزمان كثيرة أمكن فيهم حينئذ أن يعلموا براهين ما أخذوه تقليدا" (تهذيب الأخلاق، ص29).

3-آمن ابن مسكويه أن هناك فروقاً فردية بين الناس ويجب أن يراعي المعلم ذلك فتحدث عن مراتب الناس في قبول الأخلاق الفاضلة.

4-أن فلاسفة اليونان ومدارسهم الفلسفية من أبرز المدارس الإنسانية التي حاولت سبر أغوار النفس وتحليلها تحليلاً فلسفياً. من مدارسهم الفلسفية المدرسة الرواقية: Stoicism   والرواقية تاريخياً مذهب فلسفي أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيِّشيومي (336-264ق.م). سموا بالرواقيين لأن معلمهم زينون كان يقوم بتعليمهم في رواق والرِّوَاقُ سقف في مقدم البيت‏. يؤمن الرواقيون كما يقول ابن مسكويه أن الناس كلهم يخلقون أخياراً بالطبع ثم بعد ذلك يصيرون أشراراً بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تقمع إلا بالتأديب فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن والقبيح منها. ويؤمن الرواقيون بوحدة الوجود وأن ليس في الوجود إلا المادة.

5-الحديث عن مصاحبة الأخيار والأشرار المبثوث في كتابات ابن مسكويه فيه دلالة على فهم فلاسفة المسلمين لأهمية الدور الاجتماعي والبيئة المحيطة وخاصة جماعة الرفاق في عملية التنشئة.

6-تتسم كتابات ابن مسكويه بالأمانة العلمية والمنهجية في عرض الاختلافات العلمية والكتابة الموسعة الموثقة لدراسة وبحث قضية واحدة من عدة جوانب وبعمق. من الواضح جداً أن ابن مسكويه يعرض الآراء بأمانة علمية وتجرد ثم يقول رأيه ويرجح بين الآراء وفي هذا دليل على أن الاجتهاد لا التقليد سمة من سمات المفكر.

7- تدل كتابات أعاظم المفكرين في ميدان الفلسفة على أنه لا يمكن فصل التربية عن الفلسفة كما أن للتربية أساسيات نفسية (سيكولوجية) واجتماعية (سسيولوجية).

8-الفكر الإنساني المفتوح يتجاوز الحدود الجغرافية والزمانية فكل حضارة تتأثر بالأخرى وتنفتح عليها وتتمازج مع بعض أفكارها وتظل انتاجات المفكرين معالم هامة للدراسات الجادة ليتم الاستفادة من ثمارها وتجنب سلبياتها.

 

التربية الأخلاقية عند ابن مسكويه

كتاب "تهذيب الأخلاق" من أهم الآثار العلمية لأحمد بن مسكويه في ميدان التربية الأخلاقية. وفيما يلي جملة من الآراء التربوية التي أشار إليها أحمد بن مسكويه:

حب الناس بعضهم للبعض الآخر واجب لأنهم أعضاء لبدن واحد وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه فكل واحد يتمم الآخر.

الأخلاق تتكون من أربع فضائل وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وهي مصدر سائر الفضائل. أضداد هذه الفضائل: الجهل والشره والجبن والجور.

ربط بين الأخلاق السيئة والأمراض النفسية كالخوف والحزن والغضب.

استخدم كلمة التهذيب وتأديب وتقويم بمعنى التربية.

إتباع اللذات البدنية الدنيئة تدمر الإنسان. يقول ابن مسكويه "والناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر أتباعهم"(ص37).

يرى ابن مسكويه أهمية تربية الطفل وطالب بضرورة وضع المناهج المتنوعة له لأن المناهج تلعب دورا كبيرا في التأثير في شخصية المتعلم. يقول ابن مسكويه "فمن اتفق له في الصبا أن يربى على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين. ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان فلا يسكن إلا إليها ثم يتدرج حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان فهو السعيد الكامل"(ص42 بتصرف).

حذر من أن يسمع الطفل الشعر الفاحش ونهاه عن الاستكثار من الطعام والانهماك في الملذات.

عقد فصلا في تأديب الأحداث والصبيان وأكثره كما قال منقول من بروسن اليوناني ولعل تلك الآراء استفاد منها الغزالي رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين ومما جاء في ذلك الفصل أهمية الحياء عند الطفل وأنه أول منازل النجباء وأن النفس مستعدة للتأديب ويجب ألا تهمل. وأن نفس الصبي ساذجة لم تنتقش بعد بصورة كما يقول ابن مسكويه فإذا نقشت بصورة فقبلتها نشأ عليها واعتادها. حث ابن مسكويه على لبس الثياب البيضاء وطالب الطفل بحفظ مقطوعات أدبية من الأخبار والأشعار فمن المعلوم أن الحاسة الأدبية تثري العقل وتجعل الخيال خصباً.  لقد أكد بن مسكويه على أن المعلم عليه أن يمدح المتعلم إذا ظهر منه خلق جميل وأن يتغافل عن بعض الزلات. وطالب بمنع الطفل من النوم بالنهار وأيضا يمنعه من النوم الكثير ليلاً لأنه يميت الخاطر. كما يجب أن يمنع من الفراش الوثير حتى يتصلب بدنه ويتعود الخشونة. وطالب بتعويد الطفل الحركة والمشي وركوب الخيل والرياضة. في هذا الفصل أيضا كشف عن أهمية الأخلاق والأدب وحسن التعامل مع المعلم وأكد على أهمية اللعب والاستراحة في بعض الأوقات.

قرن السعادة بالتربية وأكد على أن "الإنسان في ابتداء تكوينه محتاج إلى سياسة الوالدين ثم إلى الشريعة الإلهية والدين القيم حتى تهديه وتقومه إلى الحكمة البالغة ليتولى تدبير نفسه إلى آخر عمره" (ص85).

الدين عند ابن مسكويه هو "وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى".

تكلم عن الصداقة ومدح الصداقة بين الأخيار وحث على الإكثار منها لأنها تكون لأجل الخير وسببها هو الخير. كيف يتم اختيار الصديق من منظور بن مسكويه. أولاً: يجب أن يكون الصاحب حسن العشرة والسلوك مع أهله ثم مع أصدقائه. ثانياً: يجب أن يحسن إلى كل من يحسن إليه. وثالثاً: أن لا يحرص على محبة متاع الدنيا من ذهب وفضة. رابعاً: أن لا يحب الرئاسة والغلبة والترؤس. وخامسا: عليه أن يبتعد عن اللهو المحرم.

يرى أحمد بن مسكويه أن لا يكثر الإنسان من الأصدقاء إذا لم يستطع الوفاء بحقوقهم وأنه يجب أن لا يتتبع صغار عيوب صديقه. ولقد توسع ابن مسكويه بآداب الصداقة وذكر منها تعاهد زيارة الصديق وعدم الاستهانة باليسير من حقه إذا ألم به حادث وأن يتلقاه بالوجه الطلق والخلق الكريم وأن تظهر له في عينيه وحركاته ما يدل على الحفاوة به وأن يتعامل مع أصدقاء صديقه بنفس السماحة والسخاء. وعلى الصديق أن ينشر محاسن صديقه وأن يشترك معه في كل خير يحصل عليه وأن ينصحه برفق.

من خلال تحليل كلام ابن مسكويه نجده يطالب بالتعليم المستمر ويمكن استنباط أهم أسباب التعليم المستمر بما يلي: أ- أن العلم لا نهاية له وفوق كل ذي علم عليم. ب _ أن ترك العلم يدل على إعجاب الإنسان بنفسه وهو خلق ذميم. ج - النسيان آفة العلم وعلى الإنسان أن يجدد معارفه وعلومه كي يسلم من تلك الآفة. د - ترك طلب العلم دليل الكسل وهو بخلاف أخلاق السعي والعمل. ر- من أسباب سعادة الإنسان طلبه للعلم ففيه لذة مطالعة الحكمة. ز- لا يخلو الإنسان من الجهل وعلاج الجهل هو العلم فالحكمة هي التي تخلص الإنسان من الظنون الكاذبة التي هي نتائج الجهالات.

طالب بمحاسبة النفس ومعاقبتها كلما ارتكب الإنسان السيئات وذلك بالالتزام ببعض الأعمال الصالحة التي بها كد وتعب مثل صلاة النوافل. ومن وسائل محاسبة النفس ومعرفة العيوب قبول نصيحة الأصدقاء بل ويدعو أحمد بن مسكويه إلى ما دعا إليه جالينوس من أن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم فطالب الفضيلة يستفيد من كل الناس إذا رأى الحكمة عندهم.

أشار إلى الفروق الفردية بين الناس وكما يقول أن "الفضل مقسوم بين البشر وليس يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره. وكل من كانت فضيلته عند غيره فواجب عليه أن لا يعجب بنفسه"(162).

 

مع الأخلاق الفاضلة

 لماذا كتب ابن مسكويه كتاباً كاملاً عن تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق؟

لعله تأثر بتراث اليونان واستسلم لفكرهم الوافد ولكن المسألة ليست بهذه البساطة! إن مقصود الإسلام هو الارتقاء بالخلق وكلما تهذبت أخلاق الأمم كلما تقدمت في مضمار الحضارة. ولأن للأخلاق مقومات راسخة أراد ابن مسكويه أن يبينها للسائرين في درب تهذيب النفس كما أنه أراد أن يرد على الشبهات التي تتردد على ألسنة بعض الفلاسفة الذين يرون أن الأخلاق وراثية لا تتغير فلا حاجة للتربية والتعليم.

       إننا نعتقد أنه أراد أن يثبت أن فضائل العقل لا تتعارض مع فرائض الدين وأن للتهذيب طرائق عملية كثيرة ينبغي الإطلاع عليها والاسترشاد بها. لقد كان يهدف إلى أن يشرح لمحبي الفلسفة أن التربية الإسلامية لا تتناقض مع كثير من الفضائل المعروفة في الحضارات السابقة فبعضها يتفق مع مضمون الفكر الإسلامي. وأخيراً فإنه أراد أن يبين أن الخلق الحميد هو أساس التفاضل بين الناس لا الحسب أو الرئاسة.

ولنترك ابن مسكويه يجيب بأسلوبه عن سؤالنا: لماذا كتب ابن مسكويه كتاباً عن تهذيب الأخلاق؟

يقول ابن مسكويه في مقدمة كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" غرضنا في هذا الكتاب أن نُحَصِّل لأنفسِنا خُلُقاً تَصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سَهلة علينا لا كُلفة فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي والطَّريق في ذلك أن نعرف أولاً نفوسنا ما هي وأي شيء هي ولأي شيء أُوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها، وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرُّتبة العلية وما الأشياء العائقة لنا عنها وما الذي يزكيها فتُفلح وما الذي يُدسيها فتخيب فإنَّ الله عزَّ من قائل يقول: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {10}" (سورة الشَّمس) . ولما كان لكل صناعة مبادٍ عليها تبتني وبها تحصل وكانت تلك المبادئ مأخوذة من صناعة أخرى وليس في شيء من هذه الصِّناعات أن تُبين مبادئ أنفسنا كان لنا عذر واضح في ذكر مبادئ هذه الصِّناعة على طريق الإجمال والإشارة بالقول الوَجيز وإن لم يكن مما قصدنا له وإتباعها بعد ذلك بما توخيناه من إصابة الخُلق الشَّريف الذي يشرف شرفاً ذاتيّاً حقيقياً لا على طريق العرض الذي لا ثبات له ولا حقيقة أعني المكتسب بالمال والمكاثرة أو السَّلطان والمغالبة."

 يحتوي كتاب "تهذيب الأخلاق" على مباحث عديدة منها:

تعريف الخلق.

مناقشة دور الوراثة والبيئة في تشكيل السلوك الإنساني.

التفريق بين الخير والسعادة.

طرائق تهذيب الأخلاق وتربية الصبيان.

مناقشة المشكلات الاجتماعية والنفسية العارضة (الحزن – الغضب- الخوف) مع تقديم الحلول.

التعريف المهارات الحياتية مثل آداب الصداقة وآداب الطعام والشراب وآداب الملبس.

سرد بعض محاسن الشريعة الإسلامية.

تلخيص نظرية التربية الأخلاقية عند اليونان.

حفظت الكتب التراثية الكثير من النظرات الفلسفية المتناثرة لابن مسكويه ويمكن أن تندرج تحت علم النفس التربوي ومن هذه النظرات:

"إننا قابلون للإصلاح" هكذا أكد ابن مسكويه هذا الأصل في مقدمة تهذيب الأخلاق. الوراثة تلعب دوراً كبيراً في تشكيل السلوك ولكن دور التربية أكبر في تغيير النفوس. قال ابن مسكويه "إن أخلاق النفس وإن كانت تابعة لمزاج البدن فإن التأديب والسياسة تصلح منها إصلاحاً كثيراً" (التوحيدي، ص 163). وقال عن التأديب والتعليم "إن الأدب يجري في النفس مجرى القوت من البدن" (التوحيدي، الهوامل والشوامل، ص 168). التربية عملية اجتماعية والإنسان دائم الأنس بالناس هكذا ينظر ابن مسكويه للإنسان ككائن اجتماعي مدني بالطبع.

 الطفل يعشق سماع القصص الخرافية وكلما كبر أحب معرفة الحقائق (التوحيدي، الهوامل والشوامل، ص 7).

 يؤمن ابن مسكويه أن المهارات إذا لم نمارسها لم نتقنها فيقول "إن الصناعات لا يكتفي فيها بالتعلم المتقدم والمعرفة السابقة بها حتى يضاف إلى ذلك العمل الدائم والإرتياض الكثير وإلا لم يكن الإنسان ماهراً. والصانع هو الماهر بصناعته. مثال ذلك الكتابة فإن العالم بأصولها وإن كان سابق العلم غزير المعرفة إذا أخذ العلم ولم تكن له دربه انقطع فيها ولم ينفعه جميع ما تقدم من علمه بها. وكذلك حال الخياطة والبناء وبالجملة كل صناعة مهنية كقيادة الجيش ولقاء الأقران في الحروب ليس تكفي فيها الشجاعة ولا العلم بكيفيتها حتى يحصل فيها الإرتياض والتدريب فحينئذ تصير صناعة" (التوحيدي، الهوامل والشوامل، ص 168).

 من قواعد الصحة النفسية عند ابن مسكويه التفاؤل. يقول ابن مسكويه "وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة في الظن الجميل والأمل القوي" (ص172). وهذا الأمر من أهم قواعد النجاح في معترك الحياة فلا حياة كريمة من غير الأمل الصادق، والتفاؤل الجميل، والإرادة القوية.

تعليقات موجزة على كتابات ابن مسكويه

       تنم كتابات أحمد بن مسكويه التربوية عن عقلية متفتحة باحثة عن القيم العملية الرفيعة لإسعاد الإنسان وحماية المجتمع نظرياً وعملياً. لقد تفاعل ابن مسكويه مع التحولات الحضارية في عصره فجاء فكره ترجمة صادقة لبعض قسمات المجتمع المسلم قبل ألف سنة حينما بدأ يتأثر بافرازات الفكر اليوناني وغيره فظهرت ثلاث مدارس فكرية تتعامل مع الفكر الوافد: المدرسة الوسطية التي تصطفي الصواب من التراث الوافد، والمدرسة الثانية ترده  تماماً، والمدرسة الأخيرة تقبله دون نقد.  لقد جاءت أعمال ابن مسكويه كمحاولة وسطية جادة للتوفيق بين تعاليم الدين وثمار الفلسفة بألفاظ لطيفة، وبلغة سلسة المأخذ تستهوي النفس.

من الملاحظ أن أحمد بن مسكويه لم يتعرض للتراث اليوناني بالنقد ولكن الكثير مما نقله يعد من القيم الإنسانية العامة التي لا وجه لنقدها فنقَلها بعد انتقاء وتمحيص.

ذكرت الباحثة نادية جمال الدين (1995م) جملة من الملاحظات في دراستها لأحمد بن مسكويه. فهي ترى أن بعض علماء المسلمين من الفلاسفة نقلوا من تراث اليونان مثل ابن سينا والغزالي دون أن يصرحوا بذلك ولكن ابن مسكويه صرَّح بأنه نقل من كتب اليونان. وأشارت نادية إلى أن ابن مسكويه لم يذكر تفصيلات حول المادة العلمية التي ينبغي للصبي أن يتعلمها وفي نفس اللحظة لم يشر إلى المعلمين وآدابهم كما يفعل سائر المهتمين بموضوع تهذيب الأخلاق. وذكرت أن ابن مسكويه تأثر بالثقافات الوافدة ومن سلبيات هذا التوجه أنه تحدث عن تعليم الصبيان وحدهم دون الفتيات (ص 98 -100).

هناك من يرى أن علم الأخلاق في الإسلام يجب أن لا نخلطه بفلسفة اليونان. قال بعضهم " وقد قضت الشريعة المصطفوية حق علم الأخلاق فلم تدع لأحد فيه مثالاً يقوله وكلاماً يتلكم به، فالكتاب والسنة يكفيان لمن يريد إدراك هذا العلم والتحلي به عن تلك الكتب المشار إليها، فإن الصباح يغني عن المصباح" (انظر: القنوجي). هذا التوجه يلغي كتباً كثيرة من المكتبة الإسلامية قديما وحديثا لكوكبة من علماء الإسلام ولا بد من دراسات مقارنة شريطة بيان ما يتعارض مع الدين والتحذير منه كي لا يقع المحذور. يبدو أن كثرة المزالق الناجمة عن فتح هذا الباب لاسيما في ميدان العقيدة من أهم الأسباب الداعية للتحذير من الخوض في فلسفة الأخلاق وهو توجه له وزنه ومبرراته الوجيهة.

ومهما يكن من أمر تلك الملاحظات فإن أحمد بن مسكويه علم من أعلام التربية وله فضل السبق في كونه من أوائل من تناولوا موضوع الأخلاق وفلسفة التربية بعمق وتوسع وقام بإفراد موضوع التربية الأخلاقية في كتاب محدد الغاية، عملي النزعة، منظم الموضوعات، واضح الأدلة، قوي البيان، يفيض بالأمل والتفاؤل.

 



1 المشهور عند البعض أن أرسطو كان معلما ووزيراً للإسكندر المعروف بذي القرنين المذكور في سورة الكهف والصواب أن الدلائل التاريخية لا تثبت ذلك فلقد كان أرسطو وزيراً لاسكندر مشرك وليس للاسكندر المذكور في القرآن الكريم. انظر مناقشة ابن تيمية لهذا الموضوع في الجزء الأول من كتاب الرد على المنطقيين ص 189 وهناك تعليقات جيدة للدكتور رفيق العجم في هامش الصفحة يتتبع فيها الوهم الذي وقع فيه بعض المؤلفين.

[2] .http://www.montessori-ami.org/4people/4bmaria.htm. accessed 2002-05-31

1 لقب مشكويه قليل الاستخدام والجمهور يقولون ابن مسكويه. ومن القلائل الذين يسمونه ابن مشكويه: الثعالبي في الإعجاز ص  127، والحصري في زهر الآداب، ص 428، والسيوطي في الإتقان ص 525) ومن المعاصرين د. محمد خاتمي في الدين والفكر.

2 هكذا وردت العبارة ولعل الجملة لم تُكتب بالصورة الصحيحة والصواب "مسكويه: فاضل في العلوم الحكمية..."

 

Hosted by www.Geocities.ws

1