دراسات في شعر راشد حسين

 

 اسم الكاتب

 الدراسة

    د. فاروق مواسي

السخرية والمرارة في شعر راشد حسين

 د. قسطندي الشوملي

 كتاب  " جدلية الحياة والموت"

 دراسة بنيوية في شعر راشد حسين

 ابراهيم غنايم

 راشد حسين حياة وموت

 نواف عبد حسن

 راشد حسين : الذاكرة والرؤية

 المحامي علي مصطفى رافع

 تقديم "قصائد فلسطينية"

أحمد حسين

 أحمد حسين عن راشد حسين

مدير المركز ضالح برانسي

كلمة مركز إحياء التراث العربي

 

 

 

 

 

 

 

 

السخرية والمرارة في شعر راشد حسين

 

 

 

لا شك في أن الأدب العربي عرف أعلامًا كانت روح السخرية بادية في أدبهم ، فمن القدماء كان الجاحظ وابن الرومي.....ومن المحدثين : المازني والحكيم ومارون عبود والشدياق وأسعد رستم وعرار.......
أما الأدب الساخر في شعرنا المحلي فقد أرسى قواعده راشد حسين ، فهو يجذب انتباهنا في ديوانيه الأولين (مع الفجر) و (صواريخ) [1] بهذه الخطرات أو الومضات التي تشع بألمه ، وتتوهج بمأساته. وها هو يخاطب ابن عمه في الأردن:
القرية العزلاء يا ابن العم تقرئك السلام
وبيوتها الوسنى تحيي بنت عمتها الخيام [2]
فتحية القرية (العزلاء) و (الوسنى) عرَضها راشد بنوع من الحيادية المتألمة، كما توحي (بنت عمتها) بجو السخرية الذي كان قد عمد إليه المتنبي - حين وص;ف بدر بن عمار وهو يصرع الأسد:
      سمع ابن عمته به وبحاله
                  فنجا يهرول منك أمسِ مهولا [3]

وإهداء السلام كان طريقة شائعة جدًا قبل حرب حزيران ، ولذا يركز عليه الشاعر مرة أخرى، فالشاب الجريح يكتب رسالة ساخرة من الميدان يقول فيها:
والأذرع المتناثرات هنا هنالك في الطريق
والليل والموتى وأفواه الخنادق والحريق
يهدينكم حلو التهاني والتحية     والسلام [4]
فانظر إلى كلمة (حلو) في البيت الأخير تجد أن الشاعر هنا يتدخل ليركز على صورة الألم فأشبعها بمعنى مناقض تمامًا:
إن الشاعر يختار مواقع المأساة كالخيام السود ، حيث اللاجئون يعيشون في المهجر والغربة:
لن تصير الخيمة السوداء في المهجر قصرا
وصديد الجرح والإعياء لن يصبح     عطرا
وجيوش القمل   لن تصبح   أغنامًـا  فتقرى
ودموع اليتم   لن تصبح   للأيتام     خمرا [5]
وثمة فتاة بين الخيام ماتت ولم يسعفوها:
دفنوها في ظلام الليل سرًا دفنوها
لينالوا مؤن الطفلة من قوت جهنم

والأنكى أنهم يطالبون هذا اللاجئ أن يقعد ويسكن:
ومضوا عنه وقالوا:
عش سعيدًا في جهنم [6]
فالشاعر نقل صورة من حياة اللاجئين الذين يتقبلون الإعانات والإهانات ، وأنت عندما تقرأ أن جيوش القمل لن تصبح أغنامًا تعرف أن هذه بديهية، ولكن سرعان ما تخطر على بالك صور تدعوك لتعمق المأساة واستغوارها:
.... هل فمنا يبدو اذا جعنا مخيف
ليفر الخبز من رؤيتنا
أم على أفواهنا خطوا حذار اللاجئين [7]
ثم تسأل هذه الطفلة أبعد من ذلك:
فلماذا يقلق البدر وصحبه
أتراهم جوّعوا؟
وبالمقابل فالشيخ ساهر مع خيالات الشقاء، وعندما يؤذن المؤذن ويقول:
(حي على الفلاح) يرد الشيخ ميؤوسًا:
لقد ضحك الفلاح على الصلاح [8]
من خلال هذه اللقطات التي أوردناها نقل لنا الشاعر صورًا من مآسي اللاجئين، وقد جسّم هذه الصور بشكل ساخر ومرير. أما الطرف الآخر وهو الجندي فسينال الأوسمة. ولكن على أي فضل؟ لندع الجندي يتحدث:
وننال أوسمة
على تيتيم أطفال الأنام
والجندي هذا يطلب في رسالة لأبيه أن يخبر زوجته:
قولوا لها إني بخير تحت أغطية رقيقــه
سأظل أنشدها وأكسب يا أبي ثمن الطعام [9]
فمثل هذه الصورة التي يَلسع فيها راشد تدلنا على كراهية الحرب في نفس الشاعر. هو يقرع ناقوسًا ويحذر من المصير المفجع.
ومثل هذا الجندي جندي آخر تقترب منه دودة مترددة ، فيخاطبها قائلا:
يا جارتاه ستنحنين على فم
ما قبلته سوى معطرة الفمِ
قلبي عشاؤك فانهمي وتنعمي
فلأنت أولى من لهيب جهنم [10]
وإذا سخر الشاعر من أمثال هذين الجنديين ، ومن المصير ، فإنه لا يغفل المتواطئين من بني جلدته ، فيشفي غليله منهم :
إذا مستعمر طلب المطايا
أناخوا فالظهور لها رحاب
وإن عز الركاب أطل تاج
يقول: أنا لسيدي الركاب [11]
وقد تبدو هذه الصورة الساخرة حادة ، لكنها لا تقتصر على هؤلاء كما نقم السياب من (المخبر)[12] ، بل إنه يرى أن الناس كلهم هم رقيق ، لأنهم يتشاغلون عن القضية ، ثم لا يلبث أن يتشاءم من سكان الأرض قاطبة، فقد أعلن عن مزاد لتصدير الأباليس الرجيمة إلى السماء:
وستشتري بعض الملائكة الكبار الأتقياء [13]
ثم تقدم مسرحية الشقاء لسكان السماء ، حيث رايات الإخاء ، وها هم يرقصون على وصايا الأنبياء ، وينتشر النفاق والرياء ....فالسر هو أساس يعمر به الكون؛ وعندما زال الشر لم يجد السجان له عملاً ، ولم يجد الكاهن من يصغي له ، وأقفل الخمّار حانته وتوصل الشاعر إلى القول:
لو لم يكن إبليس في أرضنا
لم يدر بعض الناس ما يأكلون [14]
أما العرب الذين بقوا في الأرض مع راشد فقد نقل لنا الشاعر صورًا مما عانَوه:
فأطفال صندلة الذين قُتلوا يثيرون مشاعره ، فيقول قصيدته التي أشهرته – حسب رأيي – وهو يخاطب مرج ابن عامر، ومجرد خطابه للسهل الذي يحمل اسما كأسماء الأعلام يوحي بأكثر من معنى، وها هو يسأله في تجاهل العارف:
مرج ابن عامر هل لديك سنابل ؟
                  أم فيك من زرع الحروب قنابل ؟
أم حينما عز النبات صنعت من
                  لحم الطفـولة غلـة تـتمايـل ؟
أحسبت أقلام الرصاص بنادقــــًا
                  وبـأن صبيتنا الصغار جـحافل ؟
أم أن أوراق الدروس وثائق
                  أم في الحقائـب عـدة وحبائل؟ [15]

ومثل هذه الصور وهذه التساؤلات تجسم المأساة ، وتشيع المرارة ، وتدع الشاعر يتخلص من سَـورة هزئه إلى حميّا غضبه:
قالوا القنابل عبقري صاغها
                  صدقوا.. ولكن عبقري سافل

ويطالب الشاعر في أكثر من موقف أن نـتساوى بسوانا ، فعن أخيه فتحي يقول:
وعروقه كعروقكم دماء لا عصير [16]
وجملة (لا عصير) فيها وخز لمن يظن أنه من دماء لا تقع تحت تصنيف الدماء المعهودة طبيًا.
وعندما يسأل أحدهم: لماذا لا تكتب عن الموشاب والكيبوتس ؟ يتعرض له راشد شارحًا عن نظام التصاريح الذي عانى منه طويلاً وحال دون تحقيق ذلك:
هل يمدح الأزهار من لم يدخل البستان؟ [17]
وتتمثل روح السخرية أيضًا في جو قريته ، حيث يحصل الأعمى ( أبو رباب) على إنذار من ضريبة الدخل ، فهذا النظام لا يرعوي عن مطاردة حتى ضرير على لقمة عيشه:
ولربما طعن التفاؤل خنجر مر الحساب
انذار دائرة الضرائب للضرير (أبي رباب) [18]

روح السخرية في غزلياته:

لعل العبث النابع من خفة ظل عند الشاعر نجده في كل قصيدة غزل، فعندما يطلب من قلبه أن يصوم عن هواها يجيبه القلب:
وكيف يصوم فؤاد فتى
                  وما أطعموه وما سحّروا
إذا كان لا بد من أن أصوم
                  فإني على قبلة أُفطر [19]

وهذه الفتاة التي يرى المقدسات على صدرها يطالبها بلفتة ذكية أن ترحل معه:
وأن المسجد الأقصى أقيم على ربى صدرك
فما لعجيبة الإسراء لا تأتي على فكرك ؟ [20]
والشاعر يخاف على خازن جهنم- مالك- من مكر النساء:
وأخاف ألا يوقد النيران يا ربي لهنه
فاجعله يا رباه امرأة لتـأمن مكـرهنه [21]
فاستعمال الكلمات المقدسة والأجواء الدينية في معرض الحديث عن المرأة يحمل في جوانبه سخرية طريفة ..... وعندما تسأله إحداهن أ شاعر؟) يقول لها:
........خليه في سرحـــــــاته
لو كان جدي في الحياة سألته
أأحب جدتها قبيل وفاتــــــــه ؟ [22]
ثم يستطرد في وصف الجو حتى يخلق لنا نوعًا من المفارقة:
أشعار قيس أصبحت قرآنه
                  فتلا لها تسعين من آياتــــه
ورمى العمامة جانبًا متبرمًا
                  وأحل قبعة على شعراته

ثم يتدخل الشاعر ويخلص الحبيبة من بين يدي الجد المتهالك العاشق ... ويقول لنا:
لولا هربت لزجّني في سجنه
                  ولضم صاحبتي إلى زوجاته

ولا نلومن الشاعر على هذا الحب الذي أخذ منه:
قل لهذا القلب يصبحْ حجرا
                  ثم لمني إن أنا أحببته [23]

ولا شك أن صورًا أخرى كثيرة فيها تتردد وفيها نوع من الدعابة كقوله:
إنه معلم أربعين ثرثرة ، أو إنها نهبت ما ربحه من المطبعة ، أو يهزأ بها لأنها تسأله عن رقم صندوق البريد في القرية......[24]

الانفعال عند راشد حسين:

لعل الانفعال أيضًا ظاهرة من ظواهر البساطة يقولها كأنها مسبة ، وهو بهذه الشتيمة ينال من الطغاة أكثر من مرة:
وهوى الطغاة أذلة فأعزهم
                  كلب وأكبرهم حمار ينهق [25]

وتتكرر أكثر في ديوانه الثاني على غرار:
وتراجع الطاغي فخير رجاله
                  جرو ينوح وثعلب يصطاد [26]

ومثل هذا الشعر يذكرنا بهجاء المتنبي لابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثُا فكأنه
                  قرد يقهقه أو عجوز تلطم [27]

ويمتزج الانفعال بالسخرية لدى راشد:
أضناكم داء السيادة فانثنت
لتعالج السقماء يا (أسياد)
جئتم إليها زائرين وقلتم
لا ترهبونا إننا (رواد)
يا أحمق الرواد حان رحيلكم
فمع السلامة أيها (الرواد) [28]
ففي قوله " مع السلامة " طرد ، وفي تكرار " أيها الرواد" سخرية لاذعة، بالإضافة إلى وضع الكلمات بين أقواس ، فهذا من شأنه أن يلفت نظرنا إلى التهكم الذي عمد إليه.

المفارقة والصورة:

ألمحنا سابقًا إلى عامل المفارقة بأنه من أبرز دواعي السخرية عند الشاعر ، وتمثل أحيانًا بصورة قريبة إلى الكاريكاتير يرسمها الشاعر... يقول الشاعر على لسان وزير:
وأنا الوزير
لما انحنى البواب مرتعش الفؤاد لمقدمي
صافحته وكأنني البواب وهو (معلمي) [29]
وأنا يطل علينا بصورة أخرى صوتية لا نملك إلا إن نتخيلها.... فالعم سلامة:
الراء نون عنده رغم الخليل وسيبويه [30]
وسرد القصة الساخرة لا يقف أحيانًا عند لقطة أو ومضة ، بل يتعدى ذلك إلى القصيدة كلها - كما في; (من شاب جريح إلى والده) [31] و (قاضي الهوى) [32] و (لغة الأفيون) [33] ، وفي هذه القصيدة الأخيرة يخاطب الشاعر الفلاح الذي خُدع ثم صحا:
قالوا لك الحقل المبارك والمزارع الغدير
ولك الزهور الحالمات وما ملكن من العبير
ولك اخضرار التين والزيتون والأمل الوفير
ولك الحسان الحور في يوم القيامة والحرير
أنت الشجاعة والقناعة.......أنت إنسان قدير
......................
......................
اصبر فرزقك في السماء وفي السما رزق كثير
وعلى هذا النسق يستمر الشاعر في السخرية من هؤلاء الإقطاعيين الذين يزينون الحياة للفلاح.
مما تقدم نرى أن الشاعر يستعمل السخرية ، وقديمًا قيل )شر البلية ما يضحك) - يستعملها تنفيسًا وتعبيرًا عن مرارته. وتبرز هذه السخرية في المفارقات - أي بإظ;هار الصورة وعكسها ، ويطيل الصورة أحيانًا حتى ليكاد يقنعنا بأنه جاد في وصفه.

إن الشاعر في وطنياته يخز ، وفي غزلياته يعبث ، وفي كلتيهما هو ماكر . أما في أدائه فهو يشبع الكلمة دلالة شعبية وصورة ذكية.

------------------------------------------------------------------
[1] - مع الفجر، مطبعة الحكيم، الناصرة- 1975 ، صواريخ، مطبعة الحكيم، الناصرة-1958.
[2] - مع الفجر ، ص 29 .
[3] - ديوان المتبي ، ج 3 ، ( شرح البرقوقي ) ، ص 260 .
[4] - مع الفجر ، ص 23 .
[5] - مع الفجر ، ص 20 .
[6] - م . ن
[7] - صواريـــخ ، ص 11 .
[8] - مع الفجر ، ص 25 .
[9] - مع الفجر ، ص 20 .
[10] - مع الفجر ص 32 .
[11] - صواريـــخ ، ص 5 .
[12] - المجموعة الكاملة لأشعار السياب ( دار العودة ) ، ص 238 .
[13] - مع الفجر ، ص 27 .
[14] - مع الفجر ، ص 92 .
[15] - صواريخ ، ص 5
[16] - صواريـــخ ، ص 20 .
[17] - ن . م ، ص 38 .
[18] - ن . م ، ص 34 .
[19] - مع الفجر ، 40 .
[20] - مع الفجر ، ص 45 .
[21] - ن . م ، ص 37 .
[22] - ن . م ، ص 53 .
[23] - ن . م ، ص 54 .
[24] - صواريــخ ، ص 72 ، 76 .
[25] - مع الفجر ، ص 88 .
[26] - صواريــخ ، ص 47 .
[27] - ديوان المتنبي ، ج 4 ، ص 256 .
[28] - صواريخ ، ص 48 .
[29] - صواريخ ، ص 30 .
[30] - صواريخ ، 15 .
[31] - مع الفجر ، ص 52 .
[32] - مع الفجر ، 52 .
[33] - صواريــخ ، ص 26 .

 

 

1

 

 

 

 

أحمد حسين عن راشد حسين

 

 

(نُشرت في مجلة «المواكب»، تشرين الثاني - كانون الأول 1988)

 



 

يتساءل شاذل طاقه: راشد حسين، ضوء في عتمة الذاكرة؟!  ثم يضيف: وخلافًا لقوانين الطبيعة فقد توهّج لكي لا ينطفئ.. توهّج ليسطع، ولا عليه إذا قضى شهيد الرسالة. ثمّ، من قال إن شهداء الوطن ميتون؟!  أجل توهّج ليسطع، رغم أن بعض أبناء شعبنا يجهلون موقعه من الريادة في الشعر الفلسطيني المعاصر..

لذلك توجّهنا إلى شقيقه أحمد حسين، المعروف بشعره العالي وقصصه الهادفة وفكره الثاقب ونقده الموضوعي، ليحدّثنا عن هذا الموقع الريادي لشهيد الرسالة الفلسطينية الشاعر راشد حسين.

«المواكب»

 

 

س: رغم الدور الكبير الذي أدّاه راشد على الساحة وحضوره الأدبي والسياسي البارز في أحلك فترات المواجهة مع المرحلة التي أعقبت النكبة، يبدو اليوم أن راشد يتعرّض لعملية سلب علنية، تهدف إلى التعتيم على موقعه الريادي من شعر المقاومة، وتأثيره البالغ على مجريات الحدث السياسي والأدبي على ساحتنا في وقت من الأوقات. ما هو سبب ذلك في رأيك؟

 

ج:  وَلِهذا

حينَما أكْتُبُ شِعْرًا أتَمَزَّقْ

وَدَمٌ مِنْ رَحْمِ أمّي             
فَوْقَ وَجْهي يَتَدَفَّقْ

عِنْدَها «يَنْجَنُّ» شِعْري باحِثًا

عَنْ وُجوهِ الخَوَنَة

 

ومات راشد حسين وهو يبحث عن وجوه الخونة، وكثيرون من بيننا، حينما يرون عجينة الواقع الفلسطيني تتشكّل في صورة مخالفة للحلم، تنفجر تصوّراتهم وتندفع في كلّ اتجاه، بحثًا عمّن هم وراء ذلك. ولأننا شعب نفهم الخيانة بشكلها البدائي، كما عوّدنا واقع العمالة العربية، فإننا لا نبحث في المكان المناسب. وكثيرًا ما نجد أنفسنا، أثناء التجوال، نجوب ساحة العمالة ونبحث عن العملاء خارجها.

كثيرون منا، يكاد يصيبهم الجنون، وهم يرون الفجور الفكري والعملي على ساحتنا الفلسطينية، يتمترس في مواقع وطنية، ويرتدي زيّها، بل ويحمل أحيانًا أوسمتها دون أن يفهموا لماذا؟!

وأنا أدّعي أن المشهد الفلسطيني غير مكرّر تاريخيًا، من حيث مستوى الحدث، ومستوى ردّ الفعل لدى الضحية. فالحدث هو ابتزاز كيان بأكمله بطريقة مثالية، خيالية، حلمية، فاشية، ولكن تحت رعاية دولية. وهذا مشهد ليس له نظير في التاريخ المعروف. ولكن الأمر سيبدو أكثر غرابة عند متابعة سلوك الضحية، والحال التي وصل إليها الموقف السياسي والفكر الوطني الفلسطيني. لقد تصاعدت هجمة العدوان على الشعب الفلسطيني باستمرار، حتى احتلّت كامل الأرض الفلسطينية، وقسمًا كبيرًا من مساحة الدم الفلسطيني. وبموازاة ذلك، وباتّساق زمنيّ واضح، كانت القيم الوطنية تتدنّى باستمرار، إلى أن وصل الأمر، على ساحتنا المحلية خصوصًا، حدّ استباحة كلّ المحرّمات الوطنية، ووصل الموقف السياسي الفلسطيني إلى درجة تبنّي هذا الواقع، بل والدعوة إليه.

والحقيقة هي أن الضحية - الشعب الفلسطيني - لم تُعطَ لها فرصة ردّ الفعل منذ البداية، إذ يبدو كأنّ هناك، إلى جانب مشروع الإسقاط، مشروع طفيليّ جاهز، استطاع أن يدخل جسد الضحية، قبل أن تخرج من دهشة السقوط المفاجئ. ولقد استطاع التنسيق المستمرّ، بين مشروعي الإسقاط والطفيلية، أن يأخذ زمام المبادرة ويقود ردّة فعل الضحية في اتجاه سقوطها هي الأخرى. أي أن قيادة الفكر الوطني الفلسطيني سقطت منذ البداية في يد المشروع الطفيلي، حيث قادها في اتجاه التعثّر والهلهلة والقصور عن قانون التوزان والتوازي في ردّ الفعل.

وكانت كلّ فرص النجاح متوفّرة للمشروع الطفيليي. فلقد قدّم له مشروع الإسقاط الصهيوني، الساحة الفلسطينية المحلية على طبق من ذهب. وكان التنسيق بينهما يتمّ على أساس خطّة أمنية واضحة الأهداف، ومنصفة بالنسبة لكليهما، من حيث مكاسبها. فمشروع الإسقاط يريد ساحة نظيفة باهتة وطنيًا إلى أبعد الحدود. والمشروع الطفيلي يريد جمهورًا وشرعية ودورًا سياسيًا، لا يمكن أن تتاح له إلّا في ظروف الوسيلة الديمقراطية التي اتّبعتها الدولة الفتيّة المتحضّرة، المنحدرة من أصل أوروبي. وقد ساعده وجهه الطيّب المضطهَد، وزيّه الأيديولوجي المتعاطف مع ضحايا الإمبريالية والصهيونية، على استمالة الجمهور الفلسطيني على الساحة، ومتابعة المهمّة.

وكانت التنحية التدريجية للإلتزام الوطني، وتخفيض حدّته، هي المهمة الأولى أمام المشروع الطفيلي، على أن يتبع ذلك مهمّة الإسقاط النهائي للقيم القومية والوطنية واستبدالها بقيم الواقع الجديد. وما من شكّ في أن هذا المشروع استطاع أن يطال، ليس فقط أدبيات الفكر الوطني وسلوكياته، إنما استطاع أيضًا أن يفسد إلى حدّ بعيد المواثيق الكلاسيكية العفوية لهذا الفكر لدى جزء من جماهير شعبنا، المكشوفة لممارساته. ولقد اعتمد، في هذا السبيل، بالإضافة إلى أسلوبه ذائع الصيت في المغالطة المنهجية، تملُّق كلّ نوازع الإنحراف والإنتهازية داخل الساحة، بل وتمكّن في بعض الأحيان من خلقها. ومن خلال ذلك استطاع أن يفتح علنًا باب الإباحية الوطنية والاجتماعية على مصراعيه أمام الانتهازيين، وبثمن زهيد، لا يتعدّى الإلتزام النيابي بالمشروع الطفيلي. ومؤخرًا، وصل الأمر درجة من السوء، أصبح معها كلّ فلسطينيي الساحة متساوين في نقائهم والتزامهم الوطني، رغم اختلاف مواقعهم الممتدّة بين السجن وأحضان السلطة، بشرط الإلتزام المذكور آنفًا.

ومأساة راشد حسين وأمثاله من شعراء التراب الفلسطيني - للتمييز عن شعراء الدبلوماسية الفلسطينيين - أنهم كانوا أخلاقيين. أخلاقيين وطنيين. أي مثاليين فاشيّين، حسب تعريف المشروع الطفيلي. لقد آمنوا بالنقاء الشخصي، والقدوة في المثال الوطني من ناحية، وأصرّوا على التمسّك بالمفهوم الإنساني والوجودي للعدالة من ناحية أخرى، مما أوقعهم في الدونكيشوتية. لم تُتَح لهم الفرصة، لتعديل وعيهم الوطني، في اتجاه المفهوم التاريخي للعدالة الذي هو المفهوم العملي الوحيد الذي يصلح للفلسطينيين، كشعب قرّر في ساعة «فجور فكري» اختيار الهزيمة على «العدالة» الدولية حينما رفض التقسيم. لقد تورّط راشد حسين وبعض الشعراء الفلسطينيين - المرحومين بالطبع - في الحبّ، وبذلك فقدوا الصلة مع الواقعية العملية للتاريخ، التي تحظر التورّط في حبّ الأشياء والأفكار، كظاهرة تدلّ على انحلال الوعي، والتوجّه نحو الرومانسية، أي الغيبية، أي الحلم، أي الفاشية. هكذا حاول المشروع الطفيلي أن يقدّمهم دائمًا.

وللإنصاف، فإن الصهيونية، أي «حركة التحرر القومي للشعب اليهودي في أكثر من مئة وعشرين جغرافيا وحضارة كونية، في المكان، وفي جغرافيا وحضارة زمنية واحدة مفصولة عن المكان» لم تكن قائمة على الرومانسية، أي الغيبية، أي الحلم، أي الفاشية، وذلك لأنها كانت تعلم علم اليقين أنها سوف تنتصر، لأن المادّية التاريخية لا تمانع في انتصارها، ما دامت تملك القوة اللازمة لذلك، وما دامت الشرعية الدولية إلى جانبها. وللإنصاف، فإن العدالة الدولية لم تهمل الفلسطينيين، بل سمحت لهم بإقامة دولة على جزء كبير نسبيًا من وطنهم. وإذا كان راشد حسين أو غيره من شعراء التراب الفلسطيني أرادوا التفتيش عن وجوه الخونة، فليبحثوا عنها بين وجوه أولئك الذين رفضوا في حينه، وما زالوا يرفضون الاستماع إلى «النصيحة الثورية الخالدة» التي مات ماركس وهو يردّدها: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!»، ورفضوا بناءً على ذلك تقسيم فلسطين.

لقد رفض راشد حسين، منذ البداية، الانخراط في المشروع الطفيلي، والذي هرب منه بعد ذلك محمود درويش إلى الخلاء العربي. وبذلك أضاع راشد حسين حقّه التاريخي في تصدّر قائمة شعراء المقاومة، عندما يقومون بتلاوتها في الاجتماعات التمهيدية لانتخابات القوائم «الفلسطينية» في الكنيست، أو عندما يريدون تسريب «أسرار» الحركة الأدبية الفلسطينية في إسرائيل إلى دوائر الفكر، ومراكز البحث العلمي المتطوّرة، ذات السمعة الدولية الباذخة، في العالم العربي.

وبالطبع فإن راشد حسين لم يكن يعرف أن المشروع الطفيلي، سوف يتمّ احتواؤه وتبنّيه فلسطينيًا، على أيدي أحد الصحفيين وقادة الفكر الوطني الفلسطيني على ساحتنا. ولم يكونوا هم من جانبهم على استعداد لإطلاع أحد سوى الدوائر المختصّة على هذا السرّ، فاعتقد راشد أنهم خونة، ومات وهو يعتقد ذلك. بينما استطاع محمود درويش أن يدرك بذكائه الفطري، وقربه من دوائر الفكر المختصّة، أن المشروع الطفيلي، قد تبعه إلى الأرض الخلاء، فأعلن الولاء له على مضض. وحينما تغلّب عليه الفجور الفلسطيني في ساعة ضعف، وكتب قصيدته إيّاها (التي يقول فيها: أُخرجوا من برّنا.. أُخرجوا من بحرنا)، قام «أحد الصحافيين» ذلك، بتصحيح الوضع، وإعادة التوازن الفلسطيني إلى وضعه الطبيعي، وأطلع الدوائر المختصّة في إسرائيل على موقف الثقافة الفلسطينية والعربية المتحفّظ من تلك القصيدة، بصفته يتولّى مع الأخ كلوفيس مقصود قيادة الفكر المتّزن في العالم العربي.

إن المشروع الطفيلي لم يعد طفيليًا، من حيث علاقته الفلسطينية. على العكس من ذلك، فإنه الآن في وضع جيد «وطنيًا»، بحيث أن الفكر الفلسطيني أصبح الآن يتطفّل على هذا المشروع. ولكنه رغم «وطنيّته» سوف يبقى مشروعًا استثماريًا من حيث علاقته بالطرف الصهيوني. ومن خلال هذه العلاقة قام بإهدار دم بعض الشعراء الفلسطينيين وتاريخهم. وبذلك ساهم في تصفية ذيول الفكر الفلسطيني الفاشي، وقتح المجال أمام الفكر الداعي إلى السلام الدولي العادل، مما أدّى إلى انضمام كثير من «شعراء» الكواليس الصهيونية العرب إلى مسيرته الفكرية، بكلّ فخر واعتزاز. ومن خلال علاقة الإستثمار هذه، نجح في اغتصاب بعض الشعراء والكتّاب الآخرين بالإغواء حينًا والإرهاب حينًا آخر. وقد لجأ إلى أسلوب خاص مع بعض ذوي العفاف الفكري المتزمّت، فتوصّل إلى إقناعهم بتبنّي حالة مبتكرة من «فقدان الذاكرة» تؤدّي فكريًا ما تؤدّيه حبوب منع الحمل فسيولوجيًا. (وأرجو ألّا يغضب هذا الكلام صديقًا ما زلت أحبّه، رغم مواصلته لاستعمال حبوب منع الحمل).

لقد نجح مشروع الإسقاط، بالتعاون التام وبالتكامل مع المشروع الطفيلي، في خلق مثال جديد للوطنية، قائم على مطلب التسوية العادلة، أي الممنوحة دوليًا. ملغيًا بذلك، مرحليًا، المطلب التحرّري الوطني الثوري. وفي حين كانت الذراع السياسية والعسكرية لمشروع الإسقاط، تقصف الميثاق الوطني الفلسطيني، وتجعل من مسيرة الثورة الفلسطينية سلسلة من المذابح المدنية، كان المشروع الطفيلي، يوظّف حالة الإحباط والانكسار الموقت في تمرير طروحاته الهادفة إلى تخفيف حدّة التناقض بين الفلسطيني وواقعه الرديء.

وكان في ذات الوقت يقوم بقصف المواقع «الفاشية» داخل الحركة الوطنية لفلسطينيي الداخل. ونظرة عابرة وسطحية فقط إلى قائمة المعارك التي خاضها المشروع الطفيلي على الساحة الداخلية، تكفي تمامًا لتوضيح مهمّة هذا المشروع:

المعركة ضدّ حركة الأرض «مستمرّة».

المعركة ضدّ راشد حسين «مستمرّة».

المعركة ضدّ محمود درويش «مستمرّة».

المعركة ضدّ أبناء البلد «مستمرّة».

ورغم كلّ المحاولات المخلصة، والساذجة، لهؤلاء، لتجنّب المواجهة مع المشروع الطفيلي، بل وحتى محاولات التقرّب والتحالف المرحلي معه، فإن هذا المشروع، أجاب على ذلك برفع شعار التوبة أمام جميع «أعدائه» العملاء - كما كان يصفهم قبل التوبة - داخل مشروع الإسقاط، وتحالف معهم باعتزاز عظيم بتوبتهم النصوح، وبقدرته التبشيرية الفائقة، وأقام معهم جبهة ضدّ الفاشية الوطنية في الجانبين. أي ضدّ حركة النهضة وأبناء البلد من ناحية، على سبيل المثال، وحركة «موليدت» و«تْسومِتْ» من ناحية أخرى. وبحركة لبقة وهادفة قام بطرح شعار، إن الصهيوني المعتدل خير من الفلسطيني المتطرّف، ضاربًا عرض الحائط بكلّ الحيثيات التاريخية والاجتماعية لحركة التحرّر الفلسطيني.

هذا هو المشروع الطفيلي، الذي قدّم له مشروع الإسقاط الساحة الداخلية على طبق من ذهب، ليقوم بمهمّته التكميلية الفذّة، ويحقّق مصطلح «العربي الإسرائيلي» العديم الدلالة، والقابل للسحب، والطيّ والتطريق، في مواجهة مشاريع الإلغاء الصهيونية بمستويات بذاءتها المختلفة.
هذا هو المشروع الطفيلي، الذي يستخدم هدم البيوت، والاعتداءات العنصرية، ومذابح المخيّمات والزمن العربي والفلسطيني السيء، لصهينة فلسطينيي الداخل، وتربية الدجاج في أوساط حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، من خلال النصائح الوقائية التي يقوم بتقديمها.

في سبيل ذلك.. في سبيل تأدية أبذأ مهمّة في تاريخ المأساة الفلسطينية، طارد، وحاصر، وحارب، وزيّف، وكذب، وأغوى، وغفر، وأدان، وعذّب، وانتهز إلى درجة النبوغ. ملأ مفكّرتنا الوطنية والأدبية، بالذكريات المرّة، والوجوه التعيسة التي استغلّ بؤسها الفطري، وانكسارها الشخصي، وتعايشها مع المهانة والافتضاح، ليجنّدها في عملية تزييف تكاد لا تصدَّق.
مشروع جريء إلى درجة تجاوز الواقع المادّي والحسّي، والاستهتار بوعي الآخرين ومطالبتهم بتكذيب وعيهم الموضوعي لصالحه.

قدّس المغالطة واعتمدها إلى درجة التثقيف المنهجي، لأنه ليس لديه ما يعتمد عليه غيرها.
جعل من ساحتنا ساحة مطاردة علنية، يستخدم فيها سوط سيّده ولسانه هو. وعلى هذه الساحة عاش راشد حسين، الذي افتتح شعر المقاومة، ولمس العنفوان الذي أنامته النكبة، وأصبح يوميّة جماهيرية أدبية ووطنية. وحينما قادوا المعركة ضدّ الناصرية قادها ضدّهم، وأذاقتهم جماهير شعبنا تلك الهزيمة التي نذكرها وتذكرونها. ولم يغفروا لراشد فاستخدموا سوط سيّدهم، ولم يغفروا لوعي جماهيرنا الوطني، فأقسموا أن يحاربوه. لقد تعلّموا الدرس جيدًا، وعرفوا أن العقبة الأساسية في طريق مشروعهم هي الوعي الوطني الكلاسيكي للجماهير، فعملوا على تنحيته، وتحريفه بكلّ الوسائل المتوفّرة لديهم. وبدأت لعبة السكين والضماد. لعبة تربوية مدروسة جيدًا، هذا يجرّح وذاك يقدّم النصائح الوقائية، والتي بلغت مداها في شعار الصهيوني المعتدل، والفلسطيني المتطرّف.

وقد يكون في هذا الكلام بعض الحدّة، ولكنها على كلّ حال حدّة موضوعية، بالإضافة إلى أنه لا حاجة للاعتراف بأنني أترافع. فأنا لست باحثًا حياديًا، كما أن معرفتي بأن ما قلته هو ما يعرفه الجميع- حتى لو لم يقرّه البعض علنًا، لظروف خاصة - ربّما يكون منحني ثقة زائدة جعلتني أستغني بالصدق، عن المراوغة. والغضب أيضًا هنا أمر مشروع، إذ أن المقارنة بين الصهيوني المعتدل والفلسطيني المتطرّف، تحتوي على قدر من البذاءة والمغالطة المفضوحة، لا يمكن إلاّ أن يثير حالة من الاشمئزاز والقرف، لا بدّ أن تجد تعبيرًا عنها في مضمون ردّ الفعل، وبالتالي شكله. فالمشروع الصهيوني، قد حرم الفلسطيني من كلّ شيء؛ حرمه من أرضه وحقّه الطبيعي في حرّية الإرادة، وهو يطارده يوميًا ليس على خلفية المواجهة القائمة فعليًا، بمدى ما هو على خلفية استغلال اختلال ميزان القوّة والفرصة المواتية للذبح، من أجل إلغائه تمامًا من معادلة الوجود السياسي والاجتماعي، حتى خارج وطنه. ولو افترضنا أن المشروع الصهيوني لم يقم، لكان للشعب الفلسطيني الآن، بعربه ويهوده، دولة فلسطينية واحدة ومصير مشترك. لذلك فإن أيّ موقف فلسطيني، لا يصحّ فهمه خارج إطار التشدّد العادل، أو ربّما الخطأ السياسي. فهو لا يتضمّن انحرافًا عنصريًا، أو فكرًا مخالفًا لأية شرعية، علمية أو سياسية أو إنسانية. وفي المقابل فإن الصهيوني المعتدل، في أحسن حالاته، لا يتجاوز كونه أقلّ تشدّدًا بالنسبة للنظرة العنصرية والتوسّعية الصهيونية. وهو ينطلق في ذلك، من موقفه بالنسبة لقضية الحرب والسلام، وليس من منطلق الاعتراف بأيّ حقّ وطنيّ للفلسطينيين، أصحاب كلّ الحق.

بين فكّي الكمّاشة.. مشروع الإسقاط الصهيوني من ناحية، والمشروع الطفيلي الملازم له من ناحية أخرى، حاول راشد باسم الجماهير الفلسطينية على الساحة، أن يطرح فكره الممنوع. وهبّ المتضرّرون ليفرضوا عليه معركة غير متكافئة، استطاعوا من خلالها أن يغيّبوه عن الساحة، ثم يغيّبوا حضوره الأدبي والسياسي جزئيًا. ولكن ذلك هو أمر مرحليّ فقط، لأن المعركة ليست مع راشد، بل هي مع تيّار الفكر الوطني الأصيل، الذي لا بدّ من عودته، ليرفع راياته، ويعلي منابره ويشهر سيرة أعلامه وعلى رأسهم راشد حسين. وذات يوم سوف يجوع التاريخ - كما قال راشد - وسوف تأكل الكلاب من سمَّنها.

 

س: لبعض الشعراء بصمات واضحة على مسيرة الشعر والفكر في عصر من العصور، يظلّ تأثيرها ظاهرًا في العصور التالية.

يقول عزّ الدين المناصرة في مقدّمته لمجموعة الشاعر راشد حسين «أنا الأرض لا تحرميني المطر»:  «... كثيرون من أبناء شعبنا في الوطن والمنفى حفظوا هذه الأبيات، وهي للشاعر راشد حسين. وكثيرون كانوا يحفظونها، وما زالوا، وهم لا يعرفون أنها لراشد حسين.. لا يهمّ ذلك.. فشعراء الشعب كانوا دائمًا ينكرون ذاتهم، وراشد حسين واحد من هؤلاء الذين علّموا أجيالاً بشعرهم ونضالهم..».

نتوجّه إليك، يا أخي أحمد، لتوضّح للقرّاء - وخصوصًا الجيل الجديد منهم - أين تكمن، في شعر راشد حسين، هذه المواطن التي علّمت الأجيال، أو بكلمات أخرى، الرسالة القومية والفكرية والسياسية والفنية التي حملها شعر راشد إلى أبناء شعبه، فكانت منارًا لهم في توجّههم القومي؟


ج: راشد حسين حادثة شخصية ووطنية نادرة. إنه سياق قصير في موازاة السياق الأدبي الفلسطيني العام. هو جزء منه يستمدّ نفس الجذر، ولكنه خارج عليه. ويقع في هذا السياق شعراء وأدباء آخرون، منهم عبد الرحيم محمود على سبيل المثال، ولكنهم ليسوا كثيرين، بالإضافة إلى خاصّيتهم الفريدة في اقتناص الموت المأساوي، والاختفاء السريع.

لقد انطلق راشد بقوّة فريدة، وهي بالقطع جزء من قَدَره العنيف الذي انتظم حياته السريعة. كان هناك شعراء سبقوه بكثير على الساحة، ولكن حضورهم كان شكليًا محضًا. كان بعضهم يبدو جزءًا من الماضي أكثر مما هو إشارة إلى الحاضر أو المستقبل. وكان بعضهم باهتًا من الناحية الفنية إلى درجة عدم الإقناع، أمّا البعض الآخر فلم تُتَح لهم فرصة التألّق لانخراطهم في المهمّة الجزئية، أو الشخصية. وقد استطاع بعضهم أن يتألّق فعلاً، بعد تحرّره منها، والشاعران جمال قعوار وطه محمد علي مثل جيّد على ذلك.

انطلق راشد بقوّة فريدة، لأنه وُلد مع الهمّ الفلسطيني، وخرج من النفسية الحزينة الثائرة لشعبه مباشرة إلى الشعر. وكان ملتزمًا بهمّه الفلسطيني إلى درجة قاتلة، أخرجته من السياق العادي إلى سياقه الخاص. وهذا السياق الخاص لم يكن إنجازًا فنيًا متميّزًا ومتفرّدًا بقدر ما كان خصوصية فردية مشبعة بالغضب والمثالية والإخلاص للمهمّة إلى درجة الفدائية.

المثال العفوي الذي اقترحه راشد هو مثال صعب جدًا، لا يكفيه مجرّد شاعر وقضية. إنه يحتاج إلى شاعر يحسّ بأنه مسؤول شخصيًا عن كلّ الأخطاء التي يرتكبها الآخرون، والتي تتعارض مع الإلتزام المشترك. لذلك فإن من حقّه أن يتصدّى لهم. وحين يفشل فإن من واجبه أن يتعذّب بالنيابة عنهم، وعن نفسه لأنه عاجز.

وَلِهذا

حينَما أكْتُبُ شِعْرًا أتَـمَزَّقْ

وَدَمٌ مِنْ رَحْمِ أمّي

فَوْقَ وَجْهي يَتَدَفَّقْ

عِنْدَها «يَنْجَنُّ» شِعْري باحِثًا

عَنْ وُجوهِ الخَوَنَة

 

حينما يصبح الشاعر، في مرحلة الفعل الثوري، على وفاق مع المهمّة الشعرية الخالصة، ويساوي بين الاحتجاج والفعل، ينتهي دوره كشاعر ملتزم، لأنه ينتقل من التحريض إلى الترويج والوصف.

والشاعر الملتزم فعلاً، هو ذلك الذي يعي باستمرار أن شعره لا يشكّل فدية عن دمه، إلاّ إذا كانت المهمّة الشعرية بالنسبة له، تتضمّن فعلاً على مستوىً كبير من الخطورة والأهمّية، توازي فدائيته فدائيّة المقاتل. وهذا الموقف، من جانب راشد، مثل كلّ المواقف النموذجية، يمكن أن يستثير الإلتزام أو أن يؤثر في فحواه، ويمكن أيضًا أن يساهم في دفع الوعي الوطني، نحو تعقّب سلوك مدّعي الإلتزام من الشعراء وغيرهم من ذوي الفعالية الوطنية، كما أنه يمكن أن يسهم في فضح مشاريع الاستثمار الشخصية، شعرية كانت أم مادّية، على حساب القضية. كلّ ذلك ممكن، لكن من الصعب مطالبة أحد، غير الناس العاديين، كأطفال الحجارة مثلاً، بالتزام مواقف الفدائية. فالشعراء والسياسيون والملتزمون وأمثالهم، هم على الأغلب، مجرّد أناس يستثمرون مواهبهم في العمل الإبداعي أو السياسي الملتزم، بدلاً من استثمارها في السوق الحرّة. وهذا ما لم يستطع راشد أن يفهمه.

إن هذا الالتزام الفدائي بالقضية، على مستوى المهمّة الشعرية والفكرية، والسلوك الشخصي، ليس فقط إلى درجة نكران الذات- كما تقول - وإنما إلى درجة التحرّش الدائم بها وإدانتها واستفزازها علنًا، هو المثل الشخصي الذي قدّمه راشد. أمّا المثل الشعري فإنه لا يعدو في حالة راشد أن يكون صورة طبق الأصل للمثل الشخصي. فمثلاً، إن أكثر ما يدهش في راشد، قدرته الهائلة على الصمود. لقد طورد من موقع إلى موقع، وقاتل في جميع هذه المواقع في ظروف كانت ستدفع غيره حتمًا إلى الاستسلام أو حتى إلى السقوط. أمّا هو ففضّل الموت.

في هذا الصمود بساطة مخيفة حقًا، عناد طفوليّ مثير للدهشة، يشبه إلى حدّ بعيد بساطة الفلاّح الفلسطيني وعناده حينما تستثار كرامته أو يعتدى عليه، بحيث يتوقّع دائمًا أن يدفع دمه ثمنًا لكرامته في وقت من الأوقات. والتفتيش عن وجوه الخونة ليس مهمّة شعرية. إنه فعل أو تحريض على الفعل، يمكن أن يدفع الشاعر دمه ثمنًا له.

وراشد لم يكن على وفاق مع المهمّة الشعرية الخالصة في يوم من الأيام، ولو استطاع أن يفعل ذلك لكان الآن يجلس على عرش الشعر الفلسطيني، بدل جلوسه على عرش الشهادة. لم تكن القضية مسرحه. كانت ساحة عذابه ومعاناته الشخصية. لذلك لم يستطع أن يتعايش مع المشروع الطفيلي على الساحة، رغم كونه مشروعًا استثماريًا مربحًا على كلّ المستويات، يؤمّن الأمان والشهرة، والزيّ الوطني. وحينما تحيّز هذا المشروع لأعداء الناصرية والقومية العربية، خاض معه راشد، إلى جانب جماهير شعبنا، معركة انتهت بهزيمة ذلك المشروع المعروفة. ولم يغفر المشرع الطفيلي لراشد، وظلّ يلاحقه منذ تلك الواقعة وحتى بعد وفاته. وكان هذا جزءًا من الثمن.

وحينما غادر راشد البلاد، لم يتخلّ عن مهمّة الملاحقة، ملاحقة الذات وملاحقة الآخرين. كان ثائرًا إلى درجة الخطأ، فاعتقد أن فداحة النكبة هي التي يجب أن تملي شروط الإلتزام وفحواه على الفلسطيني، بغضّ النظر عن أيّ واقع شخصيّ، وأنه لا يجوز أن تتداخل المهمّة الشخصية في المهمّة الوطنية أو أن تتجاوزها. واعتبر ذلك نوعًا من الخيانة التي يجب التفتيش عنها وفضحها.

هذا المثال القاتل الذي اقترحه راشد والتزم به، يصلح بلا شكّ مثالاً تحريضيًا، ولكنه كالتزام وكمهمّة، لا يمكن أن يضطلع به سوى الفلّاح الفلسطيني. إن هذا الفلّاح يمتزج لديه معنى الحقّ بمعنى الكرامة، لذلك فهو أحيانًا لا يؤمن بموازين القوى، ولا يعود الموت بالنسبة إليه فاصلاً بين مصلحة الكائن الحيّ ونقيضها، لأن معنى الحياة لديه أصبح متعلّقًا بالكرامة التي لا يشكّل الموت قضية بالنسبة لها:

وَلَوْ قَضَيْتُمْ عَلى الثُّوّارِ كُلِّهِمُ

تَمَرَّدَ الشَّْيْخُ وَالعُكّازُ وَالحَجَرُ

 

لم يعد هذا الكلام شعرًا بعد الانتفاضة، وإنما أصبح، على ضوئها، مجرّد جملة في «الببليوغرافيا» الفلسطينية.

وهذا الفلاّح الفلسطيني، الذي هو راشد حسين أو غير راشد حسين، والذي هو أحيانًا طفل أو طفلة في غزّة أو نابلس أو أحد المخيّمات، ليس نموذجًا انتحاريًا. فنحن لسنا مثلاً كاليابانيين، الذين كان الإنتحار لديهم رياضة قومية، نحن مجرّد أناس يدفعوننا بكلّ الوسائل المتوفّرة نحو المواجهة الطوعية مع الموت، وفيما عدا ذلك فنحن شعب يحبّ مشروع الحياة الإلهي أو الطبيعي حبًا عظيمًا، ونحبّ فيه الأطفال بشكل خاصّ، ونحبّ طفولتهم بالذات، لذلك يشكّل الأطفال أغلبية شعبنا. إن فعلنا الثوري ليس اختيارًا فقط، إنه اختيار محكوم بالشرّ الذي يصنعه الآخرون:

 

ضِدَّ أنْ يَجْرحَ ثُوّارُ بِلادي سُنْبُلَة
ضِدَّ أنْ يَحْمِلَ طِفْلٌ
أيُّ طِفْلٍ قُنْبُلَة
ضِدَّ أنْ يُصْبِحَ طِفْلٌ بَطَلاً في العاشِرَة
ضِدَّ أنْ تَدْرُسَ أخْتي
عَضَلاتِ البُنْدُقِيَّة

 

ضِدَّ ما شِئْتُمْ وَلكِنْ
ما الَّذي يَصْنَعُهُ حَتّى نَبِيٌّ أوْ نَبِيَّة
حينَما تَشْرَبُ عَيْنَيْهِ وَعَيْنَيْها خُيولُ القَتَلَة؟

 

لقد كانت حياة راشد وشعره وحدة متكاملة، كانت قضية شعبه همّه الشخصي كلّه، وما تبقّى - ومن ضمن ذلك المهمّة الشعرية - كان في خدمة هذا الهمّ. رفض كلّ ما يشغله عن التزامه، أو يتطاول عليه، أو لا يطاله، إلى درجة أنه رفض الشعر أحيانًا:

 

أجْمَلُ الرِّجالِ سافَروا إلى خَنادِقِ الشَّمالْ

وَخَنْدَقي أنا جَريدَة                

وَبُنْدُقِيَّتي مَقالْ

أو:

أحْمَدُ حَرَّرَ شِبْرًا في الجولان.. وَأَنْت؟

ماذا حَرَّرْت؟!

 

وإلى درجة أنه ينكر على نفسه أحيانًا حقّها في التمتّع بامتيازات الحياة، التي هي من حقّ المقاتلين وحدهم:

 

وَتَسْتَحي ألاّ تَكونَ واحِدًا مِنَ الأبْطال

فَالحَرْبُ في السَّماء

وَالحَرْبُ في الجِبال

وَأنْتَ جالِسٌ تَكْتُبُ شِعْرًا في دِمَشْق

بِأيِّ حَقّ؟

بِأيِّ حَقّ؟

تولَد....

تَكْبُر....

مِثْلُهُمْ...

بِأيِّ حَقّ؟

 

ونغمة التحرّش بالذات هذه، شائعة في شعر راشد إلى درجة أعتقد معها، أن أكبر الأزمات في حياة راشد كانت إحساسه، بأنه لا يحقّ له الاحتفاظ بدمه في ظروف المواجهة الفدائية الفعلية للآخرين.
وبينما كان راشد في سنوات الصبا المبكّرة من حياته، يغازل المرأة، بين الفينة والأخرى، كان الإحساس بالذنب يقطع عليه سياق التجربة، ويفرض عليه نوعًا من التنبيه والإعتذار عن نفسه:

لِلحُبِّ نَحْوَ القَلْبِ دَرْبٌ واحِدٌ

وَلِمَوْطِني في القَلْبِ مائَةُ مَدْخَلِ

وَطَني أحَبُّ إلَيَّ رَغْمَ جَفائِهِ

مِنْ كُلِّ حَسْناءٍ تُثيرُ تَغَزُّلي

أو:

قالَتْ سَألْتُكَ بِالغَرامِ الأوَّلِ

أجَميعُ قَلْبِكَ لي وَكُلُّ هَواكَ لي

فَأجَبْتُها: خَطَأً ظَنَنْتِ فَمَوْطِني

هُوَ مِنْ فُؤادي في المَكانِ الأوَّلِ

 

والحقيقة كلّها أننا من راشد، أمام عربيّ وفلسطينيّ وشاعر لا يحاول أن يضرب المثل، إذ أنه مشغول عن ذلك بالمعاناة... بالنار العربية والفلسطينية التي ولد فيها، هذه النار هي ناره هو وحده، وعليه أن يكتوي بها حتى النهاية.

أين هو الهمّ العربي أو الفلسطيني الذي لم ينغمس فيه راشد حسين بكلّ كيانه؟؟ إسأل ميراثه الشعري الصغير!!

واكب بشعره جميع الأحداث الثورية في العالم العربي والتزم بها من خلال ذلك، وكأنه يتكلّم على ساحة الحدث. ووراء هذا الإلتزام الفذّ كانت النار الفلسطينية المقدّسة، هي التي تدفعه باستمرار للاقتراب من كلّ الأحداث الثورية في هذا العالم، لأنه آمن أن نسيج الثورة متّصل الخيوط مثل نسيج الظلم في عالمنا المترابط.

أمّا على صعيدنا المحلّي فعلّك تعرف أكثر منّي عن تلك الظاهرة التي كان اسمها راشد حسين. تعرف أنه حتى الأمّيين من أبناء شعبنا كانوا يبحثون عمّن يقرأ لهم آخر ما كتبه راشد، وأن هؤلاء الأمّيين كانوا يحفظون شعره ونثره ويردّدونه بسهولة، لأنه لم يكن يختلف عمّا كان يحسّ كلّ واحد منهم أنه أراد قوله ذات يوم، ولم تسعفه أداة التعبير. ولقد بدأ راشد همّهم من أوّله، وبحذافيره. عمل معهم في ورشة واحدة، يلملمون معًا خيوط ذلك النسيج الذي مزّقته النكبة، ويصنعون منه شراعًا وعلمًا لسفينة الحلم العربي والفلسطيني. تلك السفينة التي سيعود فيها اللاجئون، ثم تتفرّغ لحمل البرتقال إلى الموانئ القريبة.
تعرف أكثر منّي أن راشد، أدخل الشعر ومعاناة السياسة، إلى ديوان كلّ قرية من قرانا، ليس كحدث ثقافي، وإنما كاستنفار لإحساسات ومشاعر ما زالت غارقة في الدهشة التي رافقت أحداث النكبة. كان صوت راشد كصوت المؤذّن، الذي أيقظ الناس على صوت مألوف وكلمات مألوفة، بحيث بدا وكأنه يقوم بفرض الكفاية عنهم، وكلّ ما يقوله مفهوم لديهم سلفًا:

 

إذا صَلّى الإمامُ بِنا اسْتَدَرْنا

فَكَعْبَتُنا مَنازِلُنا الخَرابُ

أأنْسى، عَلِّموني كَيْفَ أنْسى

وَكَيْفَ أدوسُ ما غَرَسَ الشَّبابُ

وَأوْصُوا اللَّيْلَ ألّا يَبْتَليني

بِأحْلامٍ لَها الماضي ثِيابُ

وَقولوا لِلرِّياحِ فَلا تُريني

غُبارًا فيهِ مِنْ حَقْلي تُرابُ

أو:

لا تَعْتَذِرْ، مَنْ قالَ إنَّكَ ظالِمٌ

لا تَنْفَعِلْ، مَنْ قالَ إنَّكَ مُعْتَدي

حَرَّرْتَ حَتّى السّائِماتِ غَداةَ أنْ

أعْطَيْتَ أبْراهامَ حَقْلَ مُحَمَّدِ

مِنْ أَيْنَ هذا القَمْحُ؟ كَيْفَ سَرَقْتَهُ

وَبُذورُهُ مِنْ دَمْعِنا الـمُتَجَمِّدِ

أنا لَوْ عَصَرْتُ رَغيفَ خُبْزِكَ في يَدي

لَرَأيْتُ مِنْهُ دَمي يَسيلُ عَلى يَدي

 

هل يمكن لهذا الكلام أن يخرج عمّا كان، وما زال، في نفس كلّ فلسطيني في هذه البلاد. لا أعتقد أنك تريدني أن أستمرّ. حقًا إن ميراث راشد الشعري صغير نسبيًا، ولكن مجلّتكم أيضًا محدودة الصفحات.

ولقد كان حلم راشد، العربي والفلسطيني، كلاسيكيًا بمعنى الكلمة، وكانت رؤيته ونبوءته وأداته ثوريّة بشكل خارج عن المألوف الثوري المخفّف. كان ناصريًا مثل كلّ أبناء شعبنا، أو على الأقلّ هكذا اعتقد.

لذلك فإن راشد كان موفدًا جماهيريًا إلى الساحة، أكثر مما كان داعية إلى فكر سياسي خاص به. كان تعبيرًا ثوريًا أصيلاً عن الحلم الفلسطيني والعربي العام لهذه الجماهير، التي استدعته بوحيها وحمّلته الراية لأنها رأت فيه الإبن الذي يحمل كلّ ملامحها في التزامه وفي أدبه. ويكفينا من راشد، فلسطينيًا، أنه افتتح شعر المقاومة الفلسطيني الحقيقي، والذي انحدرت به الرخويات الفئوية الزائفة، إلى مستوى الضجيج المتعمَّد الفارغ.

أمّا الناحية الفنية فإن حديثها يطول، ولكن راشد كما تعرف، هو صاحب النقلة الفنية في الشكل والمضمون لشعرنا بين أوائل سنوات الخمسين وما بعدها. والأثر الفني لراشد على من اتّبعه من الشعراء يوازي أثره على الساحة السياسية. ولكن التطوّر الفني لدى راشد يبدو أحيانًا غير منطقي. فشعر راشد المبكر والمتأخّر يحتوي قفزات فنية مدهشة، ولكن يتخلّله أحيانًا ما يمكن اعتباره عدم التزام بقضية المستوى الفني. وفي رأيي أن هذا الأمر أوضح من أن يفسّر بالنسبة لمتابعي حياة راشد الفنية. فمشاغل راشد الأولى كانت دائمًا مشاغل نضالية، وكانت المهمّة الشعرية تالية لذلك، والنتيجة الحتمية لمثل هذا الموقف، هي حسم التناقض بين المصلحة الشعرية والمهمة النضالية لصالح الأخيرة.

وراشد كان مناضلاً متفرّغًا، ولم يكن في يوم من الأيام شاعرًا متفرّغًا. لذلك كان تتابع الأحداث على الساحة وخارجها يُثقل في أحيان كثيرة على الأداة الشعرية، لدى راشد، ولا يعطي التجربة الفسحة الزمنية اللازمة للانتقال من زمن الإنفعال إلى زمن الشعر. وحياة راشد المضطربة، وحالة العوَز الدائمة التي عانى منها، وظروف المطاردة النفسية والفعلية، وقفت كلّها عائقًا أمام موهبة شعرية نادرة إلى حدّ بعيد. ومع ذلك فقد استطاعت هذه الموهبة أن تتألّق في بعض الأحيان إلى درجة لم تزل غير مألوفة في الشعر الفلسطيني عامّة، وفي شعر المقاومة خاصة.

 

س: لقد كان راشد حسين شاعرًا عظيمًا، بمعنى أنه لا يكتفي بالتعبير عن خلجات عواطفه التي هي صورة صادقة لعواطف الشعب الفلسطيني عامّة، وأنه لا يكتفي بشحن الجماهير بالشحنة القومية العارمة في فترة كان أكثر الناس يخشون فيها من التصريح، بل كان يرسم، إلى جانب ذلك، طريق الأمل ويمهّد السبيل الذي يسلكه السائرون إلى محطة الأمان.

 

ج: ولد راشد، وبدأ حياته على أرضية العدوان التاريخي على شعبنا. وكانت نتيجة هذا العدوان مدهشة إلى حدّ الغرابة. فقد كانت تتناقض مع كلّ مفاهيم القوة والبطولة والتوازن العددي، وتقديرات الإعتزاز والثقة بالنفس التي كانت في أذهان أبناء شعبنا. ولكن الدهشة، كشيء عابر في طبيعته، أخلت مكانها بعد فترة من الزمن، للغضب والنقمة واتهام الذات القومية بكلّ مكوّناتها، بالعجز والخيانة. وأخذت قناعة التغيير مكانها على رأس قائمة القناعات التي خلّفتها النكبة. فقد كانت التهمة ثابتة، بما لا يدع مجالاً للشك، على الواقع العربي بمستوياته الشعبية والقيادية. وجاءت ثورة الضبّاط الأحرار في مصر على خلفية هذه القناعة، سواء من حيث دوافعها على الساحة المصرية، أو من حيث تقبّلها على الساحة القومية. وكانت الأحداث الثورية اللاحقة والإنجازات الوطنية والقومية العظيمة لهذه الثورة بقيادة عبد الناصر، النبي الذي ارتجلته النكبة، تأكيدًا جديدًا لقناعة التغيير تلك.

لقد كان إحساس راشد بعنصرَي العجز والخيانة في الواقع العربي الذي ولّد النكبة، إحساسًا ملحّاً وعنيفًا إلى الحدّ الذي جعله يخوّله صياغة حياته الشخصية والفنية كلّها. لقد كانت البنية النفسية لراشد مكوّنة في أساسها من الحقد على هذا الواقع، لذلك آمن بالثورة بشكلها الشامل والعنيف، كأداة لتغيير هذا الواقع. والتزم هو نفسه سلوكًا ثوريًا سواء في مواقفه النضالية أو شعره، كثيرًا ما كان يتجاوز حدود الرغبة في التغيير إلى الرغبة في التدمير. فالعلاج الوحيد لظاهرة الخضوع والاستسلام لدى البعض هو الإلغاء التام.

 

هاتِ لي حَبْلاً وَهَيِّءْ مِطْرَقَة

وَحديدًا فَسَأبْني مِشْنَقَة

لَمْ تَزَلْ في أمَّتي طائِفَةٌ

تَمْضَغُ العارَ وَتَمْشي مُطْرِقَة

فَلْنُعَلِّقْ في الذَّرى أعْناقَها

وَلْنُعَلِّقْ قَبْلَهُنَّ الشَّفَقَة

أو:

حُرِّيَّةُ الشَّعْبِ السَّجينِ رَهينَةٌ

بِدَمٍ عَلى حَبْلِ الـمَشانِقِ يُهْرَقُ

 

ولقد يبلغ به الغضب أحيانًا حدّ القول:

عَبَثٌ صَلاتُكَ أيُّها الشَّعْبُ المُناصِرُ لِلْعَبيد

 

أمّا مقالاته المشهورة حول العمالة والعملاء، فقد بلغت درجة من العنف عرّضته لخطر الاغتيال أكثر من مرّة. ولقد شاع اصطلاح «حيوان + إنسان = حَيَسان» الذي أطلقه على العملاء - كما تعلم - على أفواه الناس، إلى درجة جعلت العمالة بضاعة مهرّبة بعد أن كانت تمارَس باعتزاز من قِبل البعض. ولقد ظلّت كذلك إلى أن أعاد لها المشروع الطفيلي رونقها وبهاءها، وجعل منها مهمّة تقدّمية، وحتى وطنيّة مؤخّرًآ.

لقد أصبحت الدعوة إلى الثورة مألوفه الشعري الأول، حتى أنه يمكن القول إن الجزء الأكبر من شعره يدور مباشرة حول هذا الموضوع، ويتردّد فيه لفظ الثورة ومشتقّاته بشكل دائم، ولا غرابة في ذلك:

لا كُنْتُ إنْ لَمْ أكُنْ خَلاّقَ ثُوّارِ

 

ولقد التزم بذلك أكثر مما ينبغي في موقع كموقعه:

وَرَأيْتُ قَوْمًا يَصْبِرونَ عَلى الأذى

فَكَأنَّهُمْ في صَمْتِهِمْ حُكَماءُ

ألصَّبْرُ مِنْ شِيَمِ الكِرامِ، يَقولُ لي

شَيْخٌ وَيُسْنِدُ قَوْلَهُ الفُقَهاءُ.

لا صَبْرَ إلّا لِلْعَبيدِ فَأيُّنا

عَبْدٌ، وَأيْنَ السّادَةُ الأمَراءُ؟!

أليَوْمَ تَنْفَجِرُ النُّفوسُ تَـمَرُّدًا

وَظَلامُ دَرْبِ الثّائِرينَ يُضاءُ

خَلِّ الشَّبابَ الحُرَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ

وَلْيَنْتَحِرْ وَلْيَغْضَبِ الكُبَراءُ

قَدْ أوْشَكَ الأمْواتُ أنْ يَسْتَيْقِظوا

فَمَتى سَيَنْهَضُ عِنْدَنا الأحْياءُ؟

أو:

تَفَجَّري يا بَراكينًا أُهَدِّؤُها

وَاجْري عَلى الأرْضِ مِنْ دارٍ إلى دارِ

إنْ كانَ يُرْهِبُهُمْ شِعْرٌ أرَدِّدُهُ

تَعَلَّمِ الشِّعْرَ وَالإرْهابَ يا جاري

 

ولقد كان وعيه الثوري متكاملاً منذ البداية، فالثورة لم تكن بالنسبة له حدثًا تلقائيًا وانفعاليًا، وإنما كانت حدثًا تفاعليًا في سياق اجتماعي متكامل ضمن كلّ مظاهر الصراع بين القديم العاجز أو الخائن، وبين الجديد الملتزم بالتغيير. ووعيه لهذه الحقيقة يكمن وراءه تعرّضه الدائم لكلّ مظاهر التخلّف والرجعية في الحياة الاجتماعية ونصيرها التراث الرجعي. ولكن قضية التغيير ذاتها لم تكن كما يبدو هدفًا بحدّ ذاته بالنسبة إليه، إلّا بقدر ما كانت تمسّ شاغله الوطني. ولا يعتبر ذلك قصورًا في الوعي بمدى ما هو ضرورة مرحلية فرضها هاجس النكبة الملحّ على كلّ فلسطيني.

وإذا كانت الثورة أداة تغيير واقع العجز والخيانة، وتحقيق الأمنية القومية والوطنية، في الأساس، فإن الثورة الناصرية تحمل كلّ مواصفات التصوّر الثوري لدى راشد، وبالتالي فهي الدعوة الشرعية الوحيدة الموجّهة للالتزام القومي والوطني. وكلّ الدعاوى الأخرى، وبضمنها المشروع الطفيلي على الساحة، هي دعوات لا تحمل الشرعية الوطنية، ولا تتّصل بالأماني الحقيقية لجماهير شعبنا.

كان هذا هو موقف جماهيرنا الفلسطينية بالأساس، وكان هذا موقف راشد، لأنه كما قلت كان موفد الحسّ الوطني والقومي إلى الساحة. لذلك تصدّى راشد لكلّ مظاهر العمالة الفئوية والفردية على الساحة، ورفض أية صلة حزبية، يحبّ بعض المنكوبين، أحيانًا، أن يتصوّروها أو أن يوحوا بها، كذريعة جزئية لتهالكهم وذُبابيّتهم وانتكابهم الطوعي.

إن قناعة المشروع الطفيلي بأن الوعي الوطني لجماهيرنا لم يتحوّل أبدًا، كما يتمنّى، تجعله في خوف دائم من استرجاع تلك الفترة التعيسة من تاريخه، يوم واجهته جماهيرنا بالتزامها القومي والوطني الأصيل. وهو يخاف من استرجاع تاريخ راشد، لعلاقته الأساسية بذلك الحدث. فهو منذ ذلك التاريخ يحاول أن يستعبد ذاكرة جماهيرنا، ليُخرج منها كلّ تفاصيل معركتها تلك معه، وكلّ ما يتعلّق بها من أشخاص أو أحداث.

لقد منحت جماهيرنا - كما تعلم - لراشد من الحب ما لم تمنحه لأحد على الساحة. وهو نوع من حبّ الأب لابنه الذي يحمل كلّ ملامحه. ولا أعتقد أنك أنت أو أنا أو راشد نحلم بأكثر من ذلك. أمّا ما تبقّى من راشد فلا شأن له به. إنه شأننا نحن، شأن الشعب الفلسطيني، وشأن التاريخ الذي لا يرحم ولا يحابي.


س: راشد المفكر... راشد المنظّر... راشد الكاتب... هو صورة متكاملة من راشد الشاعر.. أم أن هناك فرقًا بين شعره ونثره؟

 

ج: لا يمكن تناول حياة راشد بكاملها إلّا على أنها حادثة وحيدة، فالترابط العضوي بين تفاصيلها يجعل من الصعب تجزئتها. الحادثة الحياتية مرتبطة تمامًا بالحادثة الشعرية. والتجربة والمعاناة على المستوى الوطني تتضمّن التجربة الشعرية والنثرية كأحد تفاصيلها فقط، وليس بالعكس كما لدى البعض، حيث تشكّل تجربة الإلتزام جزءًا مصطنعًا في كثير من الأحيان من التجربة الشعرية. ومقالات راشد النثرية، هي فقط الوجه النثري لذات التجربة. فنحن نقرأ ذات الموقف بكلّ أبعاده في قضايا، هي فقط أكثر التصاقًا بالحدث اليومي، والمعاناة المادّية أو السياسية العينية. والفرق بين شعره ونثره هو فرق فنّي محض.

يلاحَظ في شعر راشد، الذي كتبه في الخارج، إضافات جديدة على مستوى التجربة العملية. ولو أردنا تلخيص ذلك مع بعض التجاوز لقلنا إنه شعر تفوح منه رائحة الصدمة من ناحية، وانسحاب العنفوان والحماس لصالح اللوعة والتعب. والأمران مفهومان تمامًا. فبالنسبة للأمر الأول، وكما هو متوقّع سلفًا، فإن راشد أصيب بالصدمة حين رأى أن الالتزامات الفردية داخل الثورة الفلسطينية تختلف عن مفهومه الشخصي في هذا المجال. ولكن ما صدمه أكثر هو كثرة المشاريع الذاتية، ونوعية الممارسات الجارية، وسلوكيات البعض داخل صفوف الثورة الفلسطينية. وكالعادة فإنّ راشد لجأ إلى أسلوب المواجهة، والذي كان شخصيًا في بعض الأحيان، وصنع لنفسه الكثير من الأعداء ليزيد بذلك من معاناته وأزمته الشخصية.
أما بالنسبة للأمر الثاني، اللوعة، فمصدره البعد عن الوطن والأهل، وخيبة الأمل التي مُني بها على الصعيدين القومي والوطني، والشخصي:

ما الَّذي ظَلَّ مِنَ الثَّوْرات...

مِنْ أجْمَلِ أحْلامي القَديمَة؟

غَيْرُ آثارِ وَليمَة

وَنُجومٍ فَوْقَ أكْتافِ الَّذين امْتَهَنوا

شَرْحَ الهَزيمَة.

 

ويصل به الإحباط وخيبة الأمل، إلى درجة نفض يده مما يجري:

ما الَّذي ظَلَّ

سِوى أنْ تَبْدَأَ الثَّوْرَةُ مِنْ أوَّلِ حَرْف

ما الَّذي ظَلَّ

سِوى قَتْلِ الجَريمَة؟

 

ويبدو أنه عند هذا الحدّ بدأ بالتفتيش عن وجوه الخونة.

أمّا اللوعة فتصل حدودًا لا يمكن تصوّرها لدى الآخرين، خارج إطار الجنون:

أتَيْتُ الطِّبَّ في نيويورْك

أطْلُبُ مِنْهُ مُسْتَشْفى

فَقالوا أنْتَ مَجْنونٌ وَلَنْ تَشْفى

أمامَكَ جَنَّةُ الدُّنْيا

وَلَسْتَ تَرى سِوى حَيْفا

 

ويبدو أيضًا، أنه في بعض الأحيان، كان يشعر بنوع من التفاؤل فيحاول أن يستعيد عنفوانه القديم، ويغضب كما اعتاد أن يفعل:

فَاغْضِبوني

وَاغْضِبوني

وَاغْضَبوا

تَشْتَهي الثَّوْرَةُ لَحَظاتِ غَضَبْ

 

ولكن اللّوعة تتغلّب عليه، ويشعر بخوف شديد عندما يحسّ أن انفساخ علاقته المباشرة بالأرض، يهاجم هويّته الإنسانية ويفرض عليه فسخ علاقته المنطقية السابقة بالمطر، فيحاول أن يقيم معه علاقة مباشرة من خلال أنّ جسده هو موقع ترابيّ من مواقع الوطن، ويحاول أن يقنع المطر بذلك بأن يزرع جبينه بالقمح والعشب:

أنا الأرْضُ لا تَحْرِميني المَطَرع

أنا كُلّ ما ظَلَّ مِنْها

إذا ما زَرَعْتُ جَبيني

عُشْبًا وَقَمْحًا

فَجودي، وَجودي، وَجودي مَطَرْ

 

وتتوالى ألوان المعاناة، من إحباط وغضب، ولوعة في شعر يتراوح بين العاديّة والروعة، كما عوّدنا منذ البداية.

ظلّ الموقع قائمًا لا يتزحزح عنه قيد أنملة، ولكن ظروف الموقع هي التي تغيّرت، وتركت آثارها في نفسه وشعره.

 

س: نظرة عامّة في مواقف راشد حسين القومية والسياسية والاجتماعية من خلال شعره.

 

ج: لقد تطرّقت إلى الإجابة عن هذا السؤال ببعض التوسّع، فيما سبق. ودراسة مواقف راشد القومية والسياسية والاجتماعية من خلال شعره، تحتاج إلى كثير من الصفحات... إلى كثير جدًا، لأن خصوبة الهمّ الذي حمله راشد وعبّر عنه في شعره، لا تدانيها خصوبة في شعر لدى شاعر أعرفه.


س: أين يقع راشد حسين بين الشعراء الفلسطينيين، من حيث المستوى الفنّي؟

 

ج: راشد حسين، كما قلت لك، سياق خاصّ في الشعر الفلسطيني يقع في موازاة الجميع. لقد كانت له فلسطينه الخاصة، والمحرّمة. والصدق لديه، يشمل كلّ القضية الفنية. ولقد عايش راشد المعاناة أكثر مما عايش الشعر، ومع ذلك فقد اهتدى بصدقه الوطني، والإنساني وبعفويته إلى قمم فنّية نادرة في شعرنا، لم يبلغها أيّ شاعر فلسطيني بعده. قد تكون هذه القمم قليلة، ولكن حياة راشد كانت قصيرة، وحياته الشعرية كانت أقصر، ولم يتح له أن يكتب الشعر مسترخيًا، ولا أن يعيد النظر في مكياج القصيدة. فقد كان مشغولاً جدًا، بين المواجهة مع مشروعي الإسقاط والطفيلية هنا، وبين التفتيش عن وجوه الخونة هناك. وكان في صميم حالة الحب والافتقاد يبدو مشغولاً بالألم أكثر مما هو مشغول بالشعر:

وتسألني الكواكبُ عن بلادي

فأسألها: كأنّكِ من بلادي؟!!

 

 

 

 

 

 

 

راشد حسين: الذاكرة والرؤية

 

 

 

نواف عبد حسن

 

 

لقد كدتُ أبكي حين قالوا تمرّدت

ولولا قيـودي كـنتُ آتيـك هـائـما

رأيـتُ جـليـلي راقـصـًا ومثـلـثي

وعكا يغنّي حولها الموج حالـما

تحيّـيـك يا بغـداد حيـفا وبحـرها

وكـرملها يهـدي إليكِ النسـائـما

 

 

سيظلّ تراث راشد حسين، المهيمن بحضوره دائمًا، والطاغي برؤيته، وكأنه لم يكتب قبل أكثرمن ثلاثين عامًا. فهذا التراث يحمل بين طيّاته مأساة شعبنا الفلسطيني، ومأساة أرضه ووطنه، والتي شكّلت جرحًا يتكئ على موهبة تفيض بالتقاط البعد الجوهري والعميق لجراح الإنسان العربي والفلسطيني والولاء لها.

 

لقد كان راشد حسين يتمتع ببصيرة بلغت من الوضوح حدّ النبوءة، وحضورًا يرافق الزمان مهبّ الثورات، من أجل خلاص الإنسان والأرض من قوى الشر والطلام التي تنشر هاجسه، مع أول لحظاته الشعرية حتى آخرها. فكلماته أعلاه تحية فلسطينية نقلت مشاعرنا، وتنقلها اليوم أيضًا. وذلك لأن راشد شاعر ثوري وملتزم وأصيل، فحيثما تقرأه تجه معاصرًا ومشعًا، يضيء مسيرة الأجيال الصاعدة في صنع المستقبل الأجمل، ولهذا "فحين يسود الظلام وتنتشر سيول الأباطيل، تبقى لامعة عيون الأطفال، وكلمات الشعراء".  وراشد حسين من الشعراء الذين عانق بريق كلماتهم بريق عيون الأطفال بصورة مدهشة وبارعة، بحيث لم تستطع آلة الجريمة العصرية التي يحشدها الطغاة من إطفاء اللهب العاصف، لمهمّة حملها أطفال القدس، وقد ضبطوا خطواتهم على إيقاعهم الشخصي، إلى أن صار:

للأشجار

والأحجار

والأزهار

والماء

أظافر.

 

هذا الالتحام المدهش لعناصر الطبيعة والأرض والإنسان، في مواجهة العدوان، يعدّ من الظواهر البارزة في رؤية الشاعر راشد حسين الواعية والملتزمة، فالأرض التي رُويت بدماء شهدائها تحولت حقولها وجبالها وأطفالها إلى مخالب للمقاومة، بعدما تمّت المصالحة بينها وبين الموت، شرطًا للحياة.

 

زرعت ديار أمّــته قبـورًا           فكـيف  تريــده  ألاّ  يـثـورا

ويعلم أنه والموت ســارا           معًا ... لـمّا تعــمّد أن يثورا

وليس بمحجِمٍ عمّا انتواهُ           ولو رصفوا نوافذه صقورا

 

تبرز في قصائد الشاعر بوفرة، مفردات تدلّ على هول السبي الفلسطيني، من قِبَل الغزو الصهيوني الاستيطاني على مجتمع مستقرّ، فحوّله إلى شعب تكتظ به الصحراء مشردًا بين الخيام وبين المنافي، والتفتت سكين الإبادة إلى الجسد الذي ظلّ من علامات الماضي، بحيث أدخلت تجربة الفقد إلى كل بيت وصارت الأرض مزرعة للعويل. هذا السبي، الذي ولدته النكبة، والتي ما زلنا نتنفس مناخها حتى اليوم، وهي الواقع والتجربة التي عاشها الشاعر وعبّر عنها في عديد من قصائد ديوانه "مع الفجر": "أزهار من جهنّم" و"الخيمة الصفراء" و"إلى ابن عمّي في الأردن" و"أنّة لاجئ" وغيرها.

 

القرية العـزلاء يا ابنَ العمّ تُـقرئك السلام

وبيوتُها الوسنى تحيّي بنتَ عمّتِها الخيام

 

لقد توحّدت هموم الخيمة مع عذاب واغتصاب القرية العزلاء، فالإنسان الذي شُرّد وسكن الخيمة هو الأرض والبيت والذكريات المسجونة والمحاصرة، تمامًا كالحقل والمحراث الذي ظلّ داخل الحصار، ففلسطين تحاصَر بالموت، والاغتيال يرافقه الصمت المفروض لتمرير الجريمة.

 

في الخيام السود في الأغلال في ظلّ جهنّم

ســجنوا  شــعبي  وأوصـــوه  بألاّ  يـتـكلم

هــدّدوه  بســياط  الجــند  بالموت  المحتّم

أو  بقـطع  اللقـمة  النتنة،  إن  يـومًا  تألمْ

ومضوا عنه  وقالوا عش سعيدًا في جهنّم

 

وعندما تنفلت الصرخة من قلب جهنم، يتدفّق نهر الغضب، وينغرز في الصدر سؤال يتّسع للمفارقة والتي تأتي بحجم الدهشة نفسها.

 

مَن قضى أن تسعدَ الأرضُ وتبقى في جهنّم

 

التساؤل يحمل فجيعة الروح البشرية كلّها، وشقائها. ومن هنا كان عنفوان التحدّي واحتدامه، في الاتّكاء على الخيار الطبيعي، العضلة والساعد – قدر الإنسان – لأجل أن تمزّق الشمس أستار الظلام البهيم.

من هُنا سوف تشقّ الشمسُ دربًا أزليّة

للمـلايين  التي  لـمْ يحسبوها  بشــريّة

 

وفي قصيدة "أنّة لاجئ" يعود الشاعر ليؤكّد أن الخيمة ستكون المِطهَر ليأسنا ومنها ستنطلق الشرارة التي لا تخطئ المرفأ.

خــيامُ اللاجئين قـصـور أهلي

                          سيرسل من هناك لك الحسابُ

بلى!.. ولســوف نعـلنه حسابًا

                          رهــيبًا  يـوم  تأكـلك  الكــلابُ

 

هذا التفاؤل، هو الذي صانته الذاكرة الشعبية، والذي منح الشعر صفة التحدّي والعناد...

 

مهْما صنعتمْ من النيرانِ نُخمدُها

                          ألم  ترَوْا  أننا  من  لفحِها  سُمُرُ

ولـو قـضيـتمْ عـلى الثـوّارِ كـلّهِمُ

                          تمـرّدَ  الشـيخُ  والعكّازُ  والحجَرُ

 

وهذا الزخم الثوريّ، هو الذي ترسّخ في الوجدان الفلسطيني، وظلّ شاهدًا على عراقة ما قدّمه الشاعر، من وضوح المسلك والهدف، ولذلك كثرت صور الفجر والشمس والكواكب والشموع والصباح ومترادفاتها، لتشير إلى حتمية الوصول إلى عتبات الخلاص، والثورة على كل ما يقف دون تحقيق ذلك.

لا  كـنتُ  إنْ  لمْ  أكُـنْ  خلاّقَ  ثـوّارِ

 

على ضوء ذلك يُقرأ هذا الإنجاز الإبداعي لراشد حسين، والذي يمكن أن يعدّ مدخلاً لدراسته، باعتباره واضع الحجر الأساس في شعر المقاومة الفلسطينية، وقد زرع الأرض في قلبه زادًا وإلهامًا للعزيمة في لحظات الحزن والغضب.

هذه الأرض التي أحالها فعل الاغتصاب إلى مزرعة ثمارها للمغتصب، ولأصحابها الحسرة والدموع المتجمدة. عندها تجد الحلم قد تجسّد، عن طريق كشف المضامين الحقيقية للمعاناة لارتباطه بالعناصر الطبيعية الفلسطينية، وتَوحدها بالإنسان.

 

أأنسى، علّـموني كـيـف أنـسـى

                           وكيف أدوسُ ما غرسَ الشبابُ

وأوْصُــوا  الليــلَ  ألاّ  يـبتـليني

                           بأحــلامٍ  لـها  المـاضي  ثــيابُ

وقــولوا  للريـاحِ  فلا  تُــريني

                           غبارًا  فيهِ  من  حقــلي  تُرابُ

 

إن هذا الوجع الفوّار لا يعادله إلاّ الغدر المتواصل والمبرمج في إسناد أمر مصادرة الأرض إلى فعل القوانين المستلة عند الطلب. وهذه المرّة بأسلوب متطور يضفي على اختراع هذه القوانين الشرعية الشكلية المزيفة في كون السرقة قانونًا؛ يتجلى ذلك في قصيدة "ألله لاجئ":

 

ألله أصــبـحَ لاجــئًا يا ســـيّدي

                         صادِرْ إذَنْ حتى بساطَ المسجدِ

وَبِعِ الكنيســةَ فهيَ من أملاكِهِ

                         وَبِعِ المؤذّنَ في المزادِ الأسْودِ

واطفــئ ذُبالاتِ النجــومِ فإنّها

                         ستضيءُ دربَ التائهِ المتشـرّدِ

 

في افتقاد ممارسة القوة الإلهية تُصادَر "أملاك الوقف" أيضًا. وفي غياب العدل الطبيعي، يصبح معيار الحق هو القوة، والقانون هو السيف الذي يحيل السبي لشعب بكامله عدلاً وأعيادًا استقلالية للأسطورة التوارتية. ينسحب ذلك أيضًا على تحرير السائمات الحيوانية من غرائزها الطبيعية، وتتجسّد أسطورة يشوع في خاصية التحكم بمدار الكون!! إذ لا فرق بين إيقاف الشمس وإطفاء نورها. ومن معه شرعية اغتصاب الكون، فواجب محمد الفلسطيني "البدائي" إزجاء الشكر لهذا النهج "الحضاري" الشرعي!.

 

حررتَ حتى السائماتِ غداةَ أن

                          أعطـيتَ "أبراهامَ" حقلَ محمّدِ

فالخــيلُ في قـمم الجبالِ طليـقةٌ

                          تـدنو.. لتصـبحَ مُلكَ أمدنِ سـيّدِ

والأرضُ تُقرئُكَ السلامَ وقمحَها

                          شكرٌ تجـمّعَ في بحـيرةِ عسـجَدِ

 

يبدو أن معطيات التراجيدية اليونانية لم تكن من العنف بحيث توحي لكتّابها باكتشاف هذا التطابق المدهش بين المأساة والملهاة. وعليه يمكن تصوّر المأساة الطروادية لهوًا، بجانب طروادة الفلسطينيين، وهو الأمر الذي اكتشفه من بين الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، غسان كنفاني في روايته "رجالفي الشمس"، وراشد حسين في قصيدته "ألله لاجئ". والفرق الوحيد بين رؤية الشهيدين – عدا الشكل طبعًا – هو أن غسان قد ترك بطله يسترسل في الحديث مع رجال الشرطة، مدة كانت كافية لموت من في الخزّان، فراح يخاطب الموتى "لماذا لم تدقّوا على جدران الخزّان؟"، ولكن بعد فوات الأوان. أمّا راشد فقد استشرف ذلك قبل أن يصل إلى هذا الموقف، فذكر الشرطي الباحث عن طريق الاغتصاب عن ذاته، بتمرّد الذات الأكثر أصالة:

 

ونـســــيتَ  أنّ  لـفــيـفـةً  مـتــروكــةً

                                 تكفي  لتحرقَ..  أو  تضيءُ  لتهتـدي

من  أينَ  هذي  الأرضُ  إن  ترابَــها

                                 نــارٌ  فكـيف  حمـلـتَ  نـارَ  المــوقـدِ

من  أينَ  هذا  القمحُ  كـيف  ســرقتَه

                                وبــذورُه  مــن  دمــعِــنا  الــمـتجـمّـدِ

أنا لو عصرْتُ رغيفَ خبزِكَ في يدي

                                لرأيـتُ  منهُ  دمـي  يسـيلُ  على  يدي

 

إن وضع القضية بهذا العنف في المجابهة مع الذات، ومع النقيض، لم يُكتب شعرًا إلاّ في ديوان راشد حسين. وإن هذه القصيدة لحظة وافرة من لحظات الشعر الفلسطيني، وتوازيها في هذا قصيدة "الحب والجيتو" التي كتبها راشد قبل مغادرته البلاد بمدة قصيرة، والتي اتخذت من مدينة يافا رمزًا لمسرح الكارثة الفلسطينية، وإبراز جوهر ودوافع الفكر الصهيوني وأيديولوجيته العنصرية، والمتضمنة أيضًا عن طريق الفن، دليل الإدانة العلني لكل القيم الحضارية والودودية لهذا الإفراز "الأوشفيتزي":

 

يـا شـرطيَّ اللهِ هـلْ سـلختَ سـاعدي

لترقعَ السواعدَ التي مزّقها سوايْ؟!

 

 

**    **

 

 

ومن الصور البارزة في شعر راشد حسين، التركيز على ظاهرة العمالة والعملاء، والتي شكلت بالنسبة له همًا ملازمًا حمله على تخصيص أكثر من قصيدة لكشفهم، وأكثر من مقال نثري لتعريتهم وفضحهم. فمصطلح "حَيَسانات" الذي نحته لوصف تلك الكائنات الفاقدة لكل كرامة إنسانية، ابتداءً من متعاوني الحكم العسكري وحتى الابتذال في السياسة العربية والفلسطينية. إن احتقاره وكراهيته لتلك النماذج، دعاه إلى إيقاع العقاب بهم بنفس التلقائية التي يتمتع بها الإنسان الفلاحي البسيط. هذا الفلاح الذي فقد كل شيء سوى كرامته، التي يحاول العملاء تجريده منها أيضًا. فكتب الشاعر هذا الحقد على لسانهم:

 

هاتِ لي حبلاً وهيّءْ مطرقَة

                          وحــديدًا  فـسأبني  مشــنـقة

لم  تزَلْ  من  أمّـتي  طـائـفة

                          تمضغُ العارَ وتمشي مُطرقَة

فلْنعلَقْ في الذرى أعناقَها

                        ولْنعلَقْ  قـبلهُنّ  الشــفقَة

 

إن استبعاد الشفقة عن هولاء الذي يسمّيهم تارة بالعبيد وتارة ببائعي شعبهم وأخرى بلاعقي الأكفّ الأذلاّء، قد حرّضه على اقتراح "مصل" خاص لتطعيم الأمّهات به قبل رضاع الأطفال، بحيث لا ينجو من ذلك غير الشرفاء والأحرار، والثوار.

 

يشــربُ  الحُـــرُّ  فلا  تقـــتُــلُــهُ

                         فــلهُ  من  نفسِـــه  درعٌ  أمـــينُ

وإذا  عــــبدٌ  خــسيـــسٌ  ذاقَـــهُ

                         فتّتَ  العـظمَ  به  قـــبلَ  الــوتينِ

وسـأســـقي  كـلّ  أمٌٍ  جـــرعـــةً

                         يخـــتزنْها  ثـــديُـها  للراضعــينِ

فــإذا  كــانَ  ذلـــــيـلاً  طــفــلُها

                        ماتَ قبلَ الشـهرِ.. لا بعدَ سِــنيـنِ

وإذا  كــــــانَ   أبـــــيّـاً  ثـائـــرًا

                        عاشَ سُـمّاً في كؤوسِ الظالمينِ

 

إنّ الإبادة الجسدية تعمّق من معنى الحياة والإحساس بقيمتها، أمّا إبادة الروح فلا تقود إلاّ إلى السائمة والضياع. ولذا، ولّد هذا الفارق بلزوم التركيز المسؤول والملتزم على صيانة الروح والذات من عدْوى التشويه التي يبذرها عبيد المرحلة.

 

قالتْ حلمتُ بطـــفلٍ لا  أريدُ  لهُ

                            أبًا سجينًا فقلتُ : الحلمُ  يعتكفُ

أتـحلــمينَ بطــفلٍ قــلبُ  والـدهِ

                             عبدٌ؟.. أعيذُكِ من عبدٍ لهُ خلفُ

 

إن مسؤولية الالتزام في بناء الإنسان تنشئةً ووعيًا، للمستقبل، هو الذي دفع الشاعر في إطلاق هذه الزلزلة العنيفة على رؤوس من تعاونوا على تمييع الوجه الحقيقي للنضال الوطني.

 

إهتفْ بشعبي يا نشيدي.. أينَ انتفاضاتُ الزّنودِ

يا شـعبُ كيف تســيرُ مع من فرّقوا كلَّ العُـهودِ

أبهؤلاءِ  تــريدُ  يا  شــعبي  بنــاءَ  غــدٍ  جـديدِ

أبهؤلاءِ  تــريدُ  نَيْــلَ  الحــقّ  للطـفلِ  الشريدِ؟

 

إنّ ما أثار حفيظة الحسّ الشعبي لدى الفلسطيني، أنه في الوقت الذي كان يتحسّس فيه مكان الطعنة الدامية والعميقة، كانت أصابع الحكم العسكري تشكل من النماذج المنافقة والوضيعة، زعامات وقيادات توفّر لها الحماية وتيسّر لها الأمور المعاشية والمادية، حتى الشكلية منها، مثل الشارب والسيارة الخصوصي، لتكريس السلوكيات المنحرفة إلى حدّ اللاأخلاقية.  يبرز ذلك من قصيدة "اليوم جئت"، التي تستند بها جراح المثلث على جراح الجليل، والأنين على امتداد المرج والساحل.

 

وأنا أتــيتُ من المثـلثِ حـامــلاً

                            هــمًا لهُ في خاطــري ضوضاءُ

يا إخوتي بكتِ الجراحُ ولمْ تزَلْ

                            تبكــي فــدمعُ عُــيونِهــنّ دمـاءُ

 

إن التياع الشاعر وحسرته التي تتنفسها مقاطع القصيدة، قد عانق فيها إيقاع القاف5ية فتحكي حركة الوثبة المرتجاة لتحقيق الفعل:

 

يا طالبًا عَرشَ الزعامةِ هاتِ لي

                          حقّي  وخُــذ  ما  يأخذُ  الكُــبَراءُ

ومَن  الزعيمُ؟  أشاربانِ بوجهه

                          ومــلابسٌ  وعــباءةٌ  شـــقـراءُ؟

لا  صــبرَ  إلاّ  للعــبـيـدِ  فـأيُّــنـا

                           عــبدٌ  وأيـنَ  السّـادةُ  الأمـراءُ؟

أليــومَ  تنفجـرُ  النفوسُ  تـمرّدًا

                           وظـلامُ  دربِ  الثائـرينَ  يضـاءُ

 

ولأن القضية في انتصاراتها وخيانتها، قد اعتبرها راشد حسين مصيره الشخصي، فقد ظلّ على ما عهدناه به حتى أواخر أيامه، يتعقّب في شعره الخوَنة والعملاء، بوصفهم صاروا جزءًا من أدوات الجريمة، التي تعيش عالة على حساب القضية متسترة وراء شعار "سيّدي يحب الثورة". وهذا ما دفع الشاعر إلى جنون البحث عن هذه الممارسة الملتبسة والمركّبة.

 

ولهذا حينما أكتبُ شعرًا أتمزّق

ودمٌ من رحم أمّي فوق وجهي يتدفّق

عندها ينجنّ شعري باحثًا عن وجوه الخوَنَة

 

وإن كان الشاعر قد بدأ هذه القصيدة الجريحة بذلك الحزن وذلك الأسى الكاوي شغاف القلب، وكأنها مرثية للآمال المحطمة على ميقات العقم..

 

ما الذي ظلّ من الثورات من أجمل أحلامي القديمة

غير آثار وليمة

ونجوم فوق أكتاف الذين امتهنوا شرح الهزيمة

 

إلاّ أنه عاد ليؤكد أن تجاوز عاهات الجريمة هو في وأد رموزها لتبدأ الثورة من مفهومها البسيط.

 

ما الذي ظلّ سوى أن تبدأ الثورة من أوّل حرف

ما الذي ظلّ سوى

قتل الجريمة؟!!

 

وحقيقةً قد بدأت الثورة، وتعمل راهنًا على قتل الجريمة. بدأها أطفال فلسطين الذين حفظوا الأمانة المودعة في رحم الجراح المتراكمة،

 

وضمّ المخيّمُ أمّي

فقالت:

سأحملُ ذكراكَ حقدًا وحُبْ

سأزرعُ إسمكَ في الياسمينِ

وموتِ الخيانة في كلّ دربْ.

 

هذا الحب، هو الذات الفلسطينية التي أخذت تحقق ذاتها بعدما حرقت قواعد "النحو والصرف وأغلال القواعد". واستبعدت من تاريخها جميع التقويمات والساعات الممتهنة، أي الأزمنة المشبوهة.

 

دقّت الساعةُ دقّاتٍ أخيرة

ثم ماتتْ،

لم تعد بالقدس للساعاتِ حاجة

حطّمت ساعاتِهم بنتٌ صغيرّة

عُمْرها مائةُ مليونِ معذّبْ

أمّة رغمًا عن

التخديرِ

والأفيونِ

يومًا سوفَ تغضبْ

 

**

 

ولهذا كلّما مرّتْ بمحتلّي عيونِ

القدسِ طفلة

طفلة.. بنتٌ صغيرة

فتّشت أعْينُهم، آلاتُهم

في صدرِها

في رحمِها

في عقلِها.. عن قنبلة

وإذا لم يجدوا شيئًا أصرّوا:

"هذه البنت الصغيرة

وُلدت في القدس

والمولود في القدس

سيضحي قنبلة"

صدّقوا.. المولود في ظلّ القنابل

سوف يضحي قنبلة

 

إنّ راشد حسين، الذي كان دائمًا يرى الصبح مقبلاً، سواء راح العذاب أو جاء، فلأنّ جذور عزيمته كانت من الأرض التي زرعت الزمان والمكان في قلبه، وقد رافقته هذه الرؤية من أول حرف - وهو عنوان ديوانه "مع الفجر"-  إلى آخر قصيدة "عائدون" في هذا الديوان الكامل

 

أرى الأرضَ صبحًا سيأتي

وتقتربُ الأرضُ منّي

 

اقترابُ الأرض، اقترابُ الحبيبة، والوالدة والأخت، قد تكون حيفا الحبيبة وقد تكون القدس الأخت والوالدة، لا فرق، كلّها تُخصب في الرحم أحلامًا وأجيالاً قد تحرّروا من الذلّ، ويرتّلون آيات الحب المقدّس، تهمس بها شفة المعشوقة كي تحتضن أكبادها المشرّدين عن أرصفة الموانئ والسفر.

 

أيّها الحبُّ

فلسطينُ على كفّ فدائيّ من الذلّ تحرّر

ولهذا لن تردّ النارَ إلاّ النارُ فلنحرصْ عليها

عندها في جبل الزيتون في القدس

نرى أحلامَنا في شفتيها

عندها يافا وحيفا وصفد

سوف تدري أن شعبي عائدٌ حتمًا إليها.

 

 

 

نواف عبد حسن

مركز إحياء التراث العربي – الطيبة

20/9/1990

 

 

 

 

 

1

كلمة مركز إحياء التراث العربي

 

 

 

بعد وفاة راشد وعودته إلى أرض الوطن، تشكلت "لجنة إحياء تراث راشد حسين"، التي قامت بجهد مشكور في مجال جمع تراثه النثري والشعري ونشره. ومع تقديرنا التام لذلك الجهد وأهميته، فإننا ما نزال نرى أن ما أُنجز حتى الآن لا يفي بما يستحقه راشد، ولا بما تستدعيه حاجة الساحة الثقافية الوطنية إلى التراث الفكري لشعراء الالتزام الفلسطيني، وعلى رأسهم راشد حسين. لذلك قرّر مركز إحياء التراث العربي أن يتبنى هذه المهمّة، وقام بالعمل على نشر تراث راشد، ومتابعته بالتدارس والبحث وتوفير المناسبات اللازمة لتعميمه، على مختلف مستويات الطرح والاستفادة الثقافية والوطنية.

والتعامل مع راشد، الشاعر الفلسطيني، ومع شعره المتميّز بالتزام فريد في المستوى، يشكّل مجالاً خصبًا إلى أبعد الحدود. ومما يزيد في هذه الخصوبة ويعطيها عمقًا فريدًا هو ذلك الالتحام المدهش بين التزام الشخص والشاعر، بحيث لا يمكن رؤية أحدهما بمعزل عن الآخر. واسمحوا لي أن أروي هذه الحادثة الصغيرة البعيدة الدلالة، والتي تشير إلى رؤية ملحمية لقضية الالتزام لدى راشد، يصبح فيها الشاعر والإنسان مجرد وجود ثانوي على هامش التزامه. ولقد أثبت راشد لاحقًا أنه كان يعني هذا عندما قاله:

قبل سفر راشد بفترة قصيرة، زارني في الطيبة، ومكث لديّ بضغة أيام. وخرجنا عصر أحد الأيام إلى تلّ مرتفع واضطجعنا تحت زيتونة كبيرة. وتجاذبنا أطراف الحديث ساعات، إلى أن فاجأنا الغروب. وصمت راشد لفترة طويلة، واحترمت صمته، ولكنني سألته أخيرًا: "فيم تفكر؟" قال: "في الغروب. ما أجمله وأخصبه وأغناه بالمعاني" قلت: "أولى بك أن تفكر بالشروق، فإنه أكثر غنىً وخصوبة" قال: "لا. لولا الغروب لما كان شروق. الغروب عطاء وتضحية لا يكون بدونها شروق".

هذا الكلام قد لا يعني الكثير حينما يكون مجرّد تعبير عن سورة رومانسية عابرة، ولكنه يعني الكثير حينما يكون تعبيرًا عن التزام يحققه الفعل. وهذا الجانب من شخصية راشد، إلى جانب الالتحام بين شخصية الشاعر وسلوكياته وتجربته الشعرية، وهو ظاهرة شديد الندرة، يجعل من تتبّع شعر راشد في شخصيته الثرية وبالعكس، أمرًا بالغ الخصوبة.

وكان من أبرز صفات راشد الوفاء. وكان من أبرز مفاهيمه في الوفاء أن الشخص الذي يعجز عن الوفاء لأهله ولصديقه، لا يمكن أن يكون وفيًا لشعبه ولقضيته. وكذلك كان. أفَلسنا نحن أيضًا جديرين أن نكون له أوفياء كما كان هو، لنا ولشعبنا ولقضيتنا؟

 

مدير المركز

صالح برانسي

 

 

 

 

 

1