تحقيق ضحى شمس ـ جريدة السفيرـ انتخابات 1996

معارك الزمان الغابر... حوربة و سيوف مشعشعة

" باريس مربط خيلنا... و رصاصنا قلط جنيف "

" عندك شباب مثقفة ... معها شهايد فلسفة "

الحوربة الانتخابات، و هي فن شاع في لبنان في مواسم الإنتخابات، و هي الابنة الشرعية لفئتين من فنون الشعر عند العرب و هما الهجاء و الفخر. و كلمة حوربة آتية من حرب كما هو واضح. و بما أن الفعل من حرب هو حارب و ليس حوْرَبَ ، فإن الواو تحل محل الألف لإفادة معنى اللعب بالحرب ، أو الحرب من غير سلاح فعلا ، الحرب بالكلام أو بالشعر" الهوبرة " بالمختصر : الحوربة. و أصل الحوربة ـ غير الانتخابية ـ ربما يعود إلى تقاليد الحرب القديمة ، حيث كان من عادة الجيوش ، حقنا للدماء ، إنتخاب فارس مغوار ، ينزل إلى الميدان منادياً : " هل من منازل ؟ هل من مقارع ؟ " ، ثم ينشد مادحاً نفسه ، ذاماً أعداءه، متحمساً للحرب، فخوراً بشجاعته، فينبري له فارس صنديد من الفريق الاخر فيفعل فعله في الإنشاد، ثم يلتقي الفارسان كأنهما جبلان، فتلتحم السيوف، و ترتجف القلوب و تطير الرؤوس، و تسيل الدماء كأنها الانهار"... و تنجلي المعركة مع غروب الشمس عن فوز احدهما، فينشد انتصاره . و مع الوقت و انتشار اللهجات العربية الشعبية، انتشرت " الحواريب " لأبطال شعبيين من أمثال الزير ابو ليلى المهلهل او أبو زيد الهلالي . و عادة ما تنشد الحواريب على لحن الحداء، الذي يقول عنه سلام الراسي في كتابه " ثمانون " صفحة 75 : " الحداء فن مميز على لحن الشعراء الاقدمين ينغمون عليه . و القيسيون هم أول من أتوا هذا اللحن من الجزيرة العربية لدى قدومهم منها " . و لقد غيّر اللبنانيون في بعض الاحيان من اللحن الشائع لإنشاد الحواريب، فاعتمدوا " الدلعونا " في حين و" الميجانا " في أحيان و بحر الرجز المجزوء في أحيان كثيرة . و لعل أشعر المحوربين في لبنان كانوا في جبل عامل . و مما يلفت الانتباه ان اهل الجبال و الجرود يبرعون في الشعر و الزجل من هذا النوع، في حين تضعف رديات اهل الساحل و تتعثر ، و بالكاد تصل الى قافية الردية

أسعديات

:ففي حين يقول جماعة أحمد الأسعد في دعم البيك المرشح

طير البيطير بنذبحوا............و قلب العدو بنجرحوا

بنشيل بدر من السما.............و نحط أحمد مطرحوا

:يقول أهل صيدا في دعمهم لمرشحهم

صيدا يا بيك صيدا...........صيدا لعينيك صيدا

:و يقول أنصار أحمد الأسعد أيضاً

لما زحف اسطولنا............و اعتز أحمد بالنجاح

صارت تفز خيولنا...........من فوق شلفات الرياح

:يقول أنصار عادل عسيران

عندك شباب مثقفة...........معها شهايد فلسفة

الكراميون

:أو يقول انصار عبد الحميد كرامي

ورد مفتح فوق بيت كرامي........و بعيني شفتو فوق بيت كرامي

:ثم تقال الردية ذاتها لوريث زعامة آل كرامي رشيد أفندي، فيرد أنصار عبد المجيد الرافعي، الخصوم

ما أرخصك يا أفندي...........اثنين كيلو بربع يا أفندي

!فيلقي عليهم القبض المكتب الثاني

مربط خيلنا

و لا شك في ان طبيعة الجنوب اضافة إلى فصاحة اهل جبل عامل المعروفين بأنهم " قوالون " أي بارعون بقول الشعر، جعلت اهم شعراء الحواريب ينتسبون الى هناك، من مثل اشهر ردية، علي هيدوس من بنت جبيل الذي قال : ـ

بيشكوف خبر دولتك............سلطاننا عبد اللطيف

باريس مربط خيلنا...........و رصاصنا قلط جنيف

و بيشكوف هو مستشار عسكري فرنسي عينته سلطة الانتداب مع السلطة المحلية، بمعنى انه كان حاكم الجنوب الفعلي . وحسب الدكتور أحمد بيضون، هو الابن غير الشرعي للأديب الشهير مكسيم غوركي، و بقي في الجيش الفرنسي حتى ايام ديغول الذي انتدبه لتهدئة البال في الصين الوطنية فورموزا ( تايوان اليوم ) عندما اعترفت فرنسا بالصين الشعببية و كان قد أصبح جنرالاً. أما علي هيدوس فلقد قال ما قال بمناسبة ترشح عبد اللطيف الأسعد عام 1935 للانتخابات الفرعية في الجنوب ضد مرشح الفرنسيين وقتها بهيج الفضل " و لولا التلاعب لنجح الأسعد لكن الانتداب وضع كل ثقله فنجح بهيج الفضل " حسب سلام الراسي في كتابه " لئلا تضيع " في الصفحة 55 . و مما قاله هيدوس أيضاً في خلاف بين رياض الصلح و بين أحمد الأسعد : ـ

يا رياض مش هيك الأمل.........ذبحت لربعك جمل

ممنوع تطلع ع الجبل............تتبوس جزمة أحمد

:فرد عليه جماعة رياض الصلح

طربوش بيك أسعدي............معكوف عكفة زعرنة

باعوا المنارة لليهود............شو هالزعامة الخرينة

*******************************

أكبر زعيم بها لبلد...........منمددوا و منذبحوا

منشيل راسوا من الجسد........ومنحط جزمة مطرحو

و في إحدى المهرجانات الانتخابية، رفض اهل حولا المجيء إلى المهرجان لدعم ترشح أحمد الأسعد، فعاقبهم بمصادرة حميرهم ( وسيلة النقل أيامها ) و بعد تشاور عاد اهل حولا و قرروا المجيء إلا الشيخ أمير ( صاحب التمرد )، فوصل أهالي حولا و هم ينشدون : ـ

شقرا و حولا و مركبا...........رضيوا بكلمة مرحبا

وين الوعد يا أحمد طلال.........وين المياه و الكهربا

*******************************

و يا بيك حولا شرفت...........من غير حزب الشيخ أمير

وليش السبب لتأخرت...........من حيث ما رجعوا الحمير

*******************************

إجت حولا بفحولا...........يا سيدي البيك

إجت حولا زيحولا...........كرمال عينيك

بيضون و بزي

و من المعارك المشهودة ـ الانتخابية الشعرية طبعاً ـ بين آل بيضون و بزي، و كان شاعر آل بيضون وقتها أبو عاطف الحاروفي من بنت جبيل ( 1950 ) فقال الحاروفي : ـ

بيضون الله قدّسك...........حط العناية تحرسك

والخصم البدو يعاكسك...........بذيل مهرك كتفوا

بيضون يا حامي الحمى.......بالمعركة سهمك رمى

و الأرض راجت و السما...........لمّا انتخى عبد اللطيف

و عندما سقط عبد اللطيف بيضون في هذه الانتخابات و نجح علي بزي انشدت جماعة بزي بخفة :ـ

يا بنت جبيل اعتزي..........و النايب علي بزي

هني ناموا جوعانين..........ونحنا تعشينا وزه

و في جبيل

و ربما كان أشعر المحوربين بعد أهل جبل عامل، أهل جبل لبنان منطقة بلاد جبيل و كسروان، لكن النغم يتغير هنا، و يصبح الدلعونا و الميجانا و بحر الرجز اكثر من استخدام نغمة الحداء. فيقول الكتلويون في منطقة بلاد جبيل، المتحالفون مع السيد أحمد الحسيني الزعامة الشيعية في الجرد :ـ

اميل اده كيف ما مال...........بتميل الجمهورية

و الزعامة للكتلة.............و النيابة حسينية

و يقول إلياس النجار و هو من أنصار الكتلة أيضاً : ـ

دوري ياسمرا دوري ...........وتفي ع بشارة الخوري

تفي ع رياض و ريمون...........و كل من هو دستوري

و بعد موت د.انطون سعيد احد رموز الدستوريين في بلاد جبيل و انتقال زعامة الدار إلى زوجته ـ النائبة اليوم ـ نهاد جرمانوس سعيد ( ام فارس ) لم تعد تصلح هتافات الزمن القديم من مثل : ـ

دكتورين و محامي...........تلبقلن الزعامة

*******************************

عالكرسي ما بدو يكون...........غيرك يا دكتور انطون

*******************************

السيد و سعيد و شهيد...........نوابك يا بلاد جبيل

فأنشدت " بدورة " و هي إمرأة من جرود العاقورة من شاعرات البلاط عند آل سعيد : ـ

نهاد سعيد يا صندوق برزاتوا(اقفاله)...........و سبع باشات ما هزت أساساتو

و كان من عادة بدورة عند احتدام المعركة بين ريمون اده و نهاد سعيد، ان تسرج دابتها و تلصق على قفاها صور العميد، و تدور بين القرى تنشد حواريبها، و من خلفها انصارها يغنون على لحن السكابا : ـ

سكابا يا دموع العين سكابا............و بدور سرجتلن الدابة

و لم تكن بدورة المرأة الوحيدة المحوربة، فلقد كان هناك في جبل عامل العدرة( العذراء ) وهي امرأة من بنت جبيل قادت تظاهرات النساء في انتفاضة 1936 ، و كانت تقول الزجل، و تحورب، و من حواريبها في الانتفاضة من مثل موسى الزين شرارة ( أبو عدنان ) و علي بزي ( أبو هاني ) التالية : ـ

بدنا حلو و بدنا مر...........و بدنا تفاح بلودان

و بدنا نكسر باب الحبس........و بدنا نطلع بو عدنان

بدنا حلو و بدنا مر...........و بدنا حامض لفاني

و بدنا نكسر باب الحبس...........و بدنا نطلع بو هاني

و لعلي هيدوس نفسه، طبعاً، بعض الحواريب في انتفاضة 1936 : ـ

بنوّد تكسير البواب...........بالسجن في إلنا شباب

يا حاضر بأول نيسان............خبّر شو شفت من العجب

شفت الخيول مطرد خيول.......و تصيح من عظم المصاب

شفت السرايا تكسرت...........البواب من أربع جناب

يا ناس ما شفتو انيس...........لّمن على المنبر خطب

شفت الضحايا تدفقت..........للموت عم تضحك طرب

هذا...و قد حلّت اليوم يا سادة يا كرام، التلفزيونات و الإذاعات و الندوات الانتخابية و الصور و الكلام الكثير، من ذلك النوع الذي يتزحلق عن آذاننا و لا يدخل السمع و لا القلب و لا يستثيرالمخيلة، محل المنتخب من الكلام الجزل مما قل و دل و أطرب و حمس الجماهير بالصورة الجميلة و المبالغة المحببة و التشبه الفكه، التي لا يطلب منك تصديقها فعلاً لأنك تعرف انها تبقى في اطار الشعر. اما كلام الانتخابات في يومنا فيلح عليك عبر تكراره و اجتراره من كل فوهه اعلامية ان تصدقه، و قد تناسى اصحابه انه خارج الشعر، التأكيد مرتين يعادل النفي مرة واحدة. ـ

1