قرن ونصف من المآسي الأميركية اللاتينية !

بقلم: نصر شمالي

على مدى قرن ونصف من الزمان، عاشت بلدان أميركا الجنوبية مأساة مروعة،حيث جعلتها شركات الولايات المتحدة حقولاَ للتجارب بمختلف أنواعها، ثم طبقت نتائج تلك التجارب لاحقاَ في القارات الأخرى، فهل يعقل أن تعامل بلدان بأكملها كحقول للتجارب، وأن يجري التصرف بحياة أبنائها مثلما يجري التصرف بحياة الأرانب والفئران في المختبرات ؟

لقد ترتبت على قرن ونصف من التجارب المخبرية نتائج تلخصت بالدرجة الأولى في اعتماد نمطين من الأنظمة اللاتينية الحاكمة التي دبرتها واشنطن: فهي تساعد أو تقيم نظاماَ عسكرياَ يحرس مصالحها، فيمارس أبشع عمليات القمع والتنكيل والقتل ضد الشعب، وفي الوقت نفسه تحتفظ بصلاتها المتينة مع الأوساط المحلية الليبرالية البرلمانية، فإذا طفح الكيل وبلغ الإرهاب البوليسي منتهاه، وبدأت الجماهير المسحوقة تتململ وتحن إلى نسمة من حرية وإلى مجرد إمكانية السير على الأرصفة بأمان، سارع المرابون الاحتكاريون الأميركيون إلى تسهيل سقوط الإدارة البوليسية ودفعوا بأصدقائهم الديمقراطيين إلى سدة الحكم، فتنطلق الصحافة بعد غياب، ويرفع الناس أصواتهم في الشوارع والساحات، وتتوالى الانتخابات البرلمانية، وتنعقد الجلسات المهيبة، وتحتدم المناقشات الديمقراطية، لكن السنوات تمر دون تحقيق أي تقدم لصالح الجماهير التي تزداد أحوالها تردياَ وبؤساَ، حيث يشيع الفساد وتتعاظم السرقات وتنتشر العصابات من مختلف الأصناف، فتبدأ مظاهر التبرم الشعبي بالبروز إلى أن تبلغ حدا معيناَ ولحظة مناسبة، فتكون الشركات الأميركية مع حكومتها جاهزة لتقديم البديل العسكري الاستبدادي المنقذ من الفوضى والفساد الانفلات الأمني، وسرعان ما يطل الجنرال مقطباَ، معلناَ برنامجه الكفيل بوضع حد للمأساة البرلمانية ! هكذا توالت عقود كثيرة من الزمن وبلدان أميركا الجنوبية تدور في هذه الحلقة الجهنمية المفرغة التي تشبه أغنية الشيطان ! سنوات من الحكم البوليسي الرهيب تليها سنوات من حكم الضجيج الفارغ والفساد والضياع، فيتناوب نمطان من أنظمة الحكم على طريق تبدو بلا نهاية، بينما الشركات الربوية منصرفة براحتها التامة إلى نهب ثروات تلك البلدان بجهود شعوبها !

ستاندرد أويل كانت هناك طبعاَ !

على رأس الاحتكارات، التي نظمت ورعت لعبة التناوب في الحكم بين الاستبداد والديمقراطية، كانت شركة ستاندرد أويل الأميركية التي ضمنت لنفسها ولشقيقاتها نهب البترول، إضافة إلى البن والقصدير والرصاص والنحاس والسكر والموز والكاكاو واللحوم والأصواف والجلود ..الخ ! لقد نهبت جميع هذه الثروات واستنزفت وأتلفت بطرائق وحشية في إسرافها وتبذيرها، وتم الاستيلاء على تلك الثروات مقابل أسعار زهيدة جداَ، وألحقت أفدح الأضرار بالأرض والطبيعة والبيئة والإنسان، فأتخم نهابوها وجاع أصحابها الذين توجب عليهم شراء الآلات الصناعية والسلع المصنعة من النهابين بالأسعار التي يفرضونها ومن الأنواع التي يحددونها ! لقد وجدت شعوب أميركا الجنوبية نفسها شبه عاجزة في هذا الوضع الغريب: تقبض قليلاَ جداَ وتدفع كثيرا جداَ ! والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي يطلان عليها ويمليان تعليماتهما حين تلجأ إليهما طلباَ للقروض، أو من أجل جدولة تسديد فوائد القروض التي تتزايد باستمرار على طريقة المتواليات الهندسية، لصالح ستاندرد وأخواتها !

كان صندوق النقد الدولي ولا يزال ( وكذلك المؤسسات الموازية الأخرى ) جاهزاَ دائماَ لإرسال مبعوثيه من مقراتهم في واشنطن لتقديم النصح والمشورة للجنوبيين المفلسين، والنصيحة تتلخص دائماَ بموازنة الميزانية على حساب الصحة والتعليم والتغذية بالدرجة الأولى ! أي التقشف الصحي والتعليمي والغذائي ! أي إشاعة المرض والجوع والجهل ! ولا يزال مبعوثو الاحتكارات الربوية يشترطون دائماَ، قبل منح القروض، شد الأحزمة على البطون الخاوية ورفع أسعار المواد الغذائية، والصبر على المرض والتكيف معه ورفع أسعار الأدوية، وتشغيل الأطفال في المهن الشاقة من دون أجر تقريباَ، ورفع تكاليف التعليم ! أما النتيجة بصورة عامة فهي الركود الاقتصادي، وتفشي البطالة والجهل، ومن ثم التحلل والفساد والموت !

غير أن خبراء المصارف الدولية لا يضيعون وقتهم في إسداء النصائح فقط، بل يغتنمون فرصة الزيارة لمسح البلد بحثاَ عن مكامن الثروة، فالمسح والاستطلاع هو وظيفتهم الرئيسية، وخاصة اكتشاف مكامن النفط على أي عمق كان، وسرعان ما يحضر رجال ستاندرد أويل وشقيقاتها وبناتها وحفيداتها مع معداتهم. ولربما سبق حضورهم أو رافقه انقلاب عسكري استبدادي، أو انقلاب برلماني ديمقراطي، يسهّل أمورهم !

عندما يحدث خرق للقاعدة !

ذات مرة حدث خرق للقاعدة. ففي عام 1951 منحت بوليفيا قرضاَ بقيمة 8,5 مليون دولار، حيث كانت الحكومة البوليفية تمثل أقلية من أصحاب المصالح الكبيرة، وقد حصلت على القرض لمدّ خطوط أنابيب النفط ولإنشاء معامل صغيرة للتكرير، ولكن سرعان ما اتضح أن العملية كانت مرتبة، وأن الجانب الخفي منها أهم من المعلن، فقد سهلت  ستاندرد أويل للحكومة البوليفية عملية الحصول على القرض كي تأخذ منها تعويضاَ عن تأميم حقولها النفطية عقب حرب تشاكو! لقد لعبت المصارف الأميركية دوماَ دور القوة الدافعة لمضخة الاحتكارات التي تنضح ثروات أميركا اللاتينية من موطنها الأصلي لتصبها في الولايات المتحدة. كانت ستاندرد أوف نيو جيرسي تربح في أميركا الجنوبية أكثر بكثير مما تربحه استثماراتها في أرض الوطن، ففي عام 1927 كان في مقدورها تحقيق 31% من أرباحها في مجال التسويق من أعمالها في أميركا الجنوبية، مقابل 15% من كندا، و8% من أوروبا، و46% من السوق المحلية في الولايات المتحدة موطنها ! أما في عام 1959 فقد انخفضت أرباحها على أرض موطنها إلى 34% مقابل 38% تجنيها في أميركا اللاتينية ! وكما يقول هارفي أوكونور: كانت أميركا اللاتينية ثمرة معسولة الرحيق، ليس بالنسبة لستاندرد وحدها بل بالنسبة لشركات البترول الأميركية الأخرى، وظلت لوقت طويل جداَ ميداناَ للصيد والقنص، له أهمية خاصة، ففيها تتوفر الفرص كلها لصالح الصيادين !

ثلاث سياسات اقتصادية مرعية !

لقد ظلت القروض الأميركية لمدة عقد من السنين، بعد الحرب العالمية الثانية، محصورة في نطاق تسهيل شراء الجنوبيين للسلع الأميركية، وتمويل الشركات الفردية، ودعم صادرات الولايات المتحدة، فحرمت البرازيل، مثلاَ، من قروض التنمية بسبب موقفها المتشدد ورفضها التنازل عن سيادتها على منابع النفط، وكانت الإعانة النموذجية التي قدمها الأميركيون على شكل قرض بمبلغ 300 مليون دولار (عام 1954) لبنك البرازيل، كي يتمكن البنك من سداد ديونه التي طال توقف سدادها للدائنين في الولايات المتحدة.. وهكذا ! لكن سلوك المصارف الأميركية كان مختلفاَ تماماَ مع ديكتاتور الأرجنتين بيرون، الذي وقّع صكاَ لصالح ستاندرد أوف كاليفورنيا تنازل بموجبه عن الحقوق الوطنية في قطاع واسع من أراضي بلاده، فانهالت عليه القروض والميداليات ! وعندما ثار الشعب الأرجنتيني، وعزل الديكتاتور، نجحت الخارجية والمخابرات الأميركية في العثور على رئيس بديل تنازل عن منابع البترول !

كانت هناك ثلاث سياسات يتم تنفيذها في أميركا اللاتينية بموافقة البيت الأبيض، وهي:

1- خفض المعونة الاقتصادية المقدمة لأميركا الجنوبية إلى أقصى حد ممكن.

2- تخفيض منزلة البرازيل في مجال العلاقات المتبادلة بين الولايات المتحدة ومجموعة البلدان اللاتينية، كنوع من الإجراء التأديبي بسبب امتناعها عن منح امتيازات بترولية لعدد معين من الموظفين السابقين في حكومة الولايات المتحدة، وبعضهم على اتصال وثيق بالبيت الأبيض.

3- التدخل المباشر اقتصادياَ وسياسياَ.

هذا ما أورده سيمون هانسون عام 1960 في مجلة ( الشؤون الإقتصادية الأميركية). وقد كوفىء الرئيس الأرجنتيني فرونديري سياسياَ واقتصادياَ بسبب استعداده لمنح موظفي الولايات المتحدة السابقين امتيازات بترولية بشروط لا تتفق مع القواعد السائدة، ومجحفة بحق الشعب الأرجنتيني إجحافاَ شديداَ، ففقدت الخارجية الأميركية وقارها وزمام نفسها من شدّة الفرح، بينما هي تلخص للصحف اللأميركية المهام الملقاة على عاتقها: (إن الأرجنتين هي أكبر أمل لنا لنشر الأسلوب الديمقراطي في جميع أنحاء أميركا اللاتينية) !

نهب آبار المكسيك الأسطورية !

كان الرواد الأميركيون والبريطانيون في ميدان البترول المكسيكي قراصنة حقيقيين، لا همّ لهم غير السلب والنهب ! هذا ما يقوله هارفي أوكونور في كتابه:"الأزمة العالمية في البترول". إن تلك الآبار المكسيكية العظيمة التي أذهلت العالم كانت ضحلة، يمكن حفرها بطرق بدائية، وهذا يعني توفيراً هائلاً في تكاليف الإنتاج، فدمّر النهابون بئر دوس بوكاس حرقاً، لأنهم لم يدعمّوها حتى ولا بالإسمنت، فهم كانوا يريدون أخذ كل شيء من دون أن يدفعوا أي شيء! كان يتدفق من تلك البئر ما بين 50 – 100 ألف برميل يومياً تحت سحابة ملتهبة حجبت سماء المكسيك. أما بئر بوتريرووللانو رقم 4 الشهيرة فقد ظل النفط يتدفق منها دون ضابط لمدة ثمانية أشهر بسبب عدم تنفيذ تدابير الحفر الضرورية. وبعد السيطرة على هذه البئر أنتجت 118 مليون برميل! وثمة آبار مكسيكية أخرى كانت تنتج كميات هائلة وصفت بالأسطورية عن جدارة، غير أن مخزونها القريب من سطح الأرض نهب نهباً، بينما الغاز المتصاعد إلى الأجواء يحترق! وقد أدى كل ذلك الجشع والاستهتار إلى إتلاف مناطق الحقول المكسيكية، فانساحت المياه المالحة لتتلف إقليم جولدن لين المكسيكي وتحوّله إلى شاهد صارخ حزين على نهب وتبديد خيرات الطبيعة وكنوزها. وعندما توقف ضغط الغاز هجروا تلك الآبار وتركوها من دون اتخاذ الإجراءات والاحتياطات العادية البسيطة، مثل تغطية فوهاتها، مما أدى إلى تدفق المياه المالحة التي سممت ودمّرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية!

ماذا فعل المكسيكيون إزاء ذلك؟

لقد خطر للمكسيكيين، وهم يتابعون ما ترتكبه الشركات الأميركية من جرائم، أن الوقت قد حان كي تكون لهم يد في السيطرة على ثروات بلادهم، فنظر مجلس النواب (عام 1913) في اقتراح يقضي بإنشاء شركة بترول وطنية، فكان أول اقتراح من نوعه في العالم وأول تحدّ لسيطرة الاحتكارات الأميركية. غير أن الانفجار الحقيقي وقع عام 1917، عندما أعاد الدستور الثوري الجديد التأكيد على ملكية الأمة للمعادن الموجودة في باطن الأرض. وقد طعنت الاحتكارات الأميركية في صحة النص الدستوري المكسيكي، ورفضت إعادة تسجيل امتيازاتها، فخوّلت الحكومة الوطنية الجنرال كارانزا سلطة الاستيلاء على آبار فيراكروز الشمالية، لكن اغتياله وضع حداً لذلك التحدي الذي واجهته الشركات الأميركية!

وفي ما بعد، تحولت المكسيك إلى مسرح هائل للصراع، وكانت ستاندرد أويل ومعها الحكومة الأميركية تتبع سياسة تتراوح بين التسلل والاحتيال وبين العمل العسكري المباشر بواسطة المارينز، بينما عمليات النضح تتواصل بلا رحمة وبسرعة خاطفة مذهلة، بحيث أن الآبار المكسيكية، التي كان مقدراً لها أن تستمر في الإنتاج لزمن يتراوح ما بين 30 – 50 سنة، جرى استهلاكها خلال شهور فقط، بينما الغاز ينفد، والمياه المالحة تزحف إلى الآبار، بل لقد حدث ما هو أغرب وأفظع حين قامت الشركات الأميركية بالحفر بطريقة تؤدي إلى سرقة البترول من آبار جيرانها ومنافسيها! وكانت عمليات التكرير في معظمها مركزة في الساحل، حسب الوضع القائم، أما احتياجات المكسيك الداخلية من النفط فلم تخطر ببال أحد، وفرضت الشركات الأجنبية على الشعب المكسيكي أسعار البترول المنتج في دياره، وهي أسعار أعلى بكثير مما كانت عليه في الولايات المتحدة!

والآن، ماذا عن نفط العراق؟

يقدّر الخبراء أن احتياطي النفط العراقي يبلغ حوالي 300 مليار برميل، وتعتقد الإدارة الأميركية أنها وضعت يدها على هذا الاحتياطي ولن ترفعها أبداً! إنها تنوي رفع الإنتاج النفطي العراقي خلال السنوات السبع القادمة إلى أكثر من عشرة ملايين برميل يومياً، علماً أن استهلاك الولايات المتحدة اليومي من النفط يزيد على تسعة ملايين برميل يومياً، وأنه سيرتفع أكثر فأكثر بالتأكيد! كذلك تقدّر الشركات الربوية النفطية الأميركية، التي يملكها ويديرها حكام واشنطن أنفسهم، أن نفط العراق سوف يحقق لهم خلال العقود القليلة القادمة أرباحاً لا تقلّ عن تسعة آلاف مليار دولار، أي تسعة تريليونات من الدولارات! والويل ثم الويل للأمة العربية والإسلامية، وفي مقدمتها شعب العراق الباسل، إذا ما تحققت إرادة الأميركيين بالسيطرة على نفط العراق وعلى سيادته!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1