المعاني التاريخية والأبعاد الدولية لاحتلال العراق؟

بقلم: نصر شمالي

بالإضافة إلى ما يريده الأنكلوأميركان في نطاق العراق حصراً، وهو النفط بالدرجة الأولى، فإنهم يريدون من العراق أن يكون قاعدة انطلاق مركزية لإحكام سيطرتهم على المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، أي على مجمل الدول العربية والإسلامية، وهم عبرّوا عن توجههم هذا بثلاثة مشاريع معلنة: الأول، إقامة ما بين خمس إلى سبع قواعد عسكرية ضخمة ثابتة، والثاني، إقامة السفارة الأميركية الأضخم حجماً، والثالث، مشروع الشرق الأوسط الأكبر الممتد ما بين إندونيسيا وموريتانيا!

ولكن، ما يتوجب علينا عدم إغفاله، وإنعاش الذاكرة الجمعية لاستحضاره والإحاطة به، هو أن ما يريده الأنكلوسكسون ليس تأسيسياً هجومياً، بل تعزيزياً دفاعياً، فهم متواجدون في هذه المنطقة، التي أطلقوا عليها اليوم اسم "الشرق الأوسط الأكبر"، منذ مئات الأعوام، لم يغادروها قط، وكان لهم دائماً القول الفصل في شؤونها، وخاصة في الخليج، غير أن تطور الأوضاع الدولية، وتطور أوضاع المنطقة أيضاً، أحدث خلخلة وتهتكاً في شبكة هيمنتهم، فاقتضى ذلك إعادة ترميمها وتدعيمها بإضافات جديدة تمليها التطورات الجديدة غير المواتية لهم، لا دولياً ولا تاريخياً!

حملات الفرنجة تتحول إلى الخليج العربي!

منذ أواسط القرن الخامس عشر انطلقت عمليات الاجتياح المستمرة حتى يومنا هذا، وكانت نقطتها المركزية هي المشرق والخليج العربيين كمحطة على الطريق إلى الهند وشرق آسيا لا غنى عنها بتاتاً، فالوصول إلى تلك المناطق الآسيوية البعيدة لا يكفي في حد ذاته لتحقيق السيطرة، بل هو يستلزم بالضرورة السيطرة على الطرق المؤدية إليها، وذلك يعني السيطرة على شعوبها!

لقد أدى اكتشاف البرتغاليين للطريق البحري إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح إلى نتيجتين مصيريتين بالنسبة للعرب:

1-         1-     بدأت سفن البرتغال الحربية تهاجم أساطيل الملاحة التجارية العربية فتأسرها وتستولي على حمولتها وتبيد طواقمها، وبذلك بدأت نهاية عهد ازدهار التبادل العربي مع مجمل أقطار حوض المحيط الهندي!

2-         2-      تحوّلت طرق المواصلات البحرية والبرية عن المشرق العربي الذي كان جسراً تعبره جميع الشعوب مشرّقة ومغرّبة، فأقفرت طرقه البرّية، وانعزل سكانه عن العالم عزلة قسرية رهيبة ترتبت عليها نتائج اقتصادية وثقافية كارثية ما زلنا نعيش عقابيلها حتى يومنا هذا!

صحيح أن العثمانيين استولوا على القسطنطينية أواسط القرن الخامس عشر (1453م) فأغلقوا بذلك الطريق البرّي لاجتياحات الفرنجة إغلاقاً محكماً، غير أنه لم يمض زمن طويل حتى سقطت غرناطة (1492م) آخر معاقل العرب في أوروبا، فقد تحوّلت اجتياحات الفرنجة إلى هناك، وانطلقت أساطيلهم، الإسبانية والبرتغالية هذه المرة، لمواصلة الحملات الشرقية بالالتفاف حول أفريقيا وصولاً إلى الخليج العربي!

وعندما فتح العثمانيون بلاد الشام ومصر في العامين 1516-1517 م بدا ذلك كما لو انه هجوم معاكس لاسترداد خطوط اتصال العرب و المسلمين مع بلدان حوض المحيط الهندي ( الشرق الأوسط الأكبر !) وليس من شك في أن النجاح يومئذ بتوحيد مصر وبلاد الشام والعراق وفارس بقيادة واحدة، فتية ونشطة، كان بداهة مدخلاً لهجوم معاكس في مستوى حملات الفرنجة الجديدة التي أقامت قواعدها العسكرية في الخليج العربي ، في هرمز خاصة ، غير أننا رأينا العثمانيين يفشلون في إخضاع بلاد فارس الصفوية ، حيث لم يتردَد الصفويون في التنسيق مع البرتغاليين ضدَ العثمانيين في منطقة الخليج ، فتوقف التقدم العثماني في البصرة ، واستمرت المعارك البحرية على مدى عقدين من الزمن في تلك البحيرة المغلقة ( الخليج) دون أن ينجح العثمانيون في الوصول إلى مضيق هرمز واقتحامه وعبوره إلى رحاب المحيط الواسع ! وهكذا تحولت تلك المعارك غير الحاسمة إلى عامل آخر من عوامل عزلة وشقاء المشرق العربي ، حيث تعاظم تحوَل طرق التجارة إلى الطريق البحري حول أفريقيا ، المكتشف عام 1497!

البعد الإقليمي و الدولي للهيمنة البرتغالية !

يقول المؤرخ الهندي  "بانيكار" أن القائد البرتغالي  فاسكو دوغاما وعصبته شرعوا قبل وصولهم إلى الهند في تطبيق ادعاء مليكهم القائل أنه ((  سيَد الملاحة الدولية و مولاها ))  ! فكانوا يقطعون الطريق دون أي تحذير على أية سفينة يلتقون بها و يدمَرونها بعد نهبها تدميراً كاملاً ! أما المؤرخ "بارو" فيقول في كتابه (
آسيا والسيطرة الغربية) أن موقف تلك العصبة و مليكها كان يتلخص على النحو التالي : " نعم، هناك بالفعل حق عام للناس جميعا" في الإبحار، لكن هذا الحق العام لا يتجاوز القارة الأوربية، ومن ثم فإن من حق البرتغاليين بصفتهم سادة البحار مصادرة بضائع جميع من يخوضون البحار دون إذن منهم "!

ولكي نرى بوضوح أكثر طبيعة ذلك الانقلاب العالمي وما ترتب عليه من تحولات تاريخية، ونرى الأساس الذي نهض عليه، نورد هذا المقطع من رسالة وجهها البابا نيقولاووس الخامس إلى الأمير هنري الملاح:"إن سرورنا عظيم أن نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال يسير على خطا والده العظيم الذكر يوحنا، و تلهمه الغيرة التي تملأ الأنفس كجندي باسل من جنود المسيح، يندفع إلى أقصى البلاد وأبعدها عن مجال علمنا، ويدخل في إطار الكاثوليكية الغادرين من أعداء الله و المسيح مثل العرب والكفرة "!

وقد خطب خليفة فاسكو دوغاما في قيادة الأسطول البرتغالي أمام جنوده قائلاً: "هذه الخدمة الجليلة التي سنقدمها لله بطردنا العرب من هذه البلاد ( شرق آسيا) و بإطفائنا شعلة أمة محمد بحيث لا يندلع لها هنا لهيب بعد ذلك، وإني لعلى يقين أننا لو انتزعنا تجارة  " ملقا " من أيدي العرب لأصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين، ولا امتنعت عن البندقية تجارة التوابل كلها ما لم يذهب تجارها إلى البرتغال لشرائها من هناك "!

لقد قيل هذا الكلام بمدلولاته الإقليمية والدولية الواضحة قبيل اجتياح الملايو، وهو كما يتضح لا يفرّق في الأساسيات بين القاهرة والبندقية وجنوى ومكة، وبعد الاجتياح بيع العرب أبناء الجاليات، الناجين من الإبادة، في أسواق النخاسة كعبيد!

جوهرة العالم قاعدة برتغالية !

في أوائل القرن السادس عشر، كان البرتغاليون قد أحكموا سيطرتهم على الخليج العربي بعد سلسلة من حملات الإبادة ضّد المدن العربية بمن فيها، وأصبحت هرمز قاعدتهم الرئيسة، نظراً لقربها من الجزيرة العربية، ودنوّها من  البرّ الفارسي، وإطلالتها على مدخل الخليج، وأهمية موقعها الممتاز بالنسبة للتجارة الدولية.  لقد كان يقال في ذلك الزمن: " إذا كان   العالم خاتماً ذهبياً فإن هرمز هي جوهرته النفيسة "! وإنه لمن الواضح اليوم أن هرمز قد ازدادت قيمة وأهمية !

لقد أحكم البرتغاليون سيطرتهم على الساحل الغربي للخليج باستثناء منطقة الاحساء، وظلوا طوال القرن السادس عشر تقريباً أسياد الموقف هناك، فأنشأوا القلاع الحصينة على ساحلي الخليج، وأقاموا محطة في البصرة، فهيمنوا بذلك على طرق التجارة الممتدة من إندونيسيا و الهند وحتى أوروبا، مروراً بالخليج و رأس الرجاء الصالح، ما عدا عدن التي فشلت محاولاتهم المتكررة في السيطرة عليها!

كان المنطلق السياسي للاستعمار البرتغالي هو المبدأ القائل بأن القانون الدولي لا يطبق خارج أوروبا، وأن ما يعتبر همجية في لندن أو باريس يعتبر سلوكاً متمدناً في بكين، وأنه ليس على الأوروبيين أية التزامات أخلاقية في تعاملهم مع الشعوب الآسيوية.. الخ! وإنه لمن  الواضح أن هذا المبدأ لا يزال معمولاً به حتى يومنا هذا.   

هل كان ممكناً قلب المسار العالمي؟

من جهة أخرى، في أوائل القرن السادس عشر، كانت الجيوش العثمانية تتوغل في أوروبا، لكن ذلك لم يكن الاتجاه الصحيح، لأنه لا يعني شيئاً جوهرياً على صعيد عملية الانتقال التاريخية الضخمة، من العصر العربي الإسلامي إلى العصر الأوروبي، التي كانت تحسم لصالح أوروبا على مسارح حوض الثروات الأزلية، حوض المحيط الهندي! إن مأثرة العثمانيين تتلخص في أنهم كانوا آخر خط دفاعي حافظ على المجتمعات العربية لبضع مئات أخرى من السنين في مرحلة كانت فيها عرضة للإبادة في جنوب/ شرق المتوسط .

كان نمط الإنتاج الجديد قد تموضع في أوروبا، و اشتدّ عوده إلى درجة كافية، وصارت طرق التجارة الدولية متصلة بالعواصم الأوروبية اتصالاً وثيقاً لم ينقطع حتى يومنا هذا، و كانت القارة الأمريكية باحتياطاتها الخرافية من الثروات قد وقعت في قبضة عواصم  العصر الجديد، و بكلمة واحدة كانت عملية الانتقال من عصر إلى عصر قد حسمت لصالح أوروبا، فماذا كان باستطاعة المماليك أو العثمانيين أو الصفويين أو العرب أن يفعلوا سوى الذي فعلوه، وهو الدفاع عن الوجود الأولي للمجتمعات العربية والإسلامية، وتجنيبها مصير شعوب أميركا ؟!

كانت الجيوش العثمانية تتوغل في أوروبا، الأمر الذي أنعش أمالاً وهمية اعتبرت هذا التوغل فتوحات من طراز الفتوحات العربية الأولى! غير أنها لم تكن كذلك بالطبع، لأنها لم تمتلك الأساس المادي المتقّدم و لا القضية الاجتماعية الإنسانية المتقدمة، ثم ماذا كان يوجد في "أوروبا" تلك مما يستحق الذكر قياسياً بثروات حوض المحيط الهندي، المادية و الروحية، وحيث مصير العالم كان يتقرر، و مازال يتقرر، في حوض هذا المحيط ؟!

لم يكن بإمكان العثمانيين دحر البرتغاليين في مضيق هرمز، ثم ملاحقتهم على طرق التجارة الدولية الجديدة، في المحيطين الهندي  والأطلسي، حتى القارة الأميركية! لم يكن ممكنا" حينئذ قلب المسار العالمي رأساً على عقب، لأن هكذا مهمة عظمى كانت تتطلب الانطلاق من قواعد مادية لم تعد موجودة، وتوفّر شروط سياسية لم تعد متوفرة،أما اليوم فقد دارت الحياة دورتها، واختلفت الأوضاع ممهدة لتبدّلات جديدة، بينما العصر الأوروبي الأميركي بلغ أقصى غاياته وبدايات نهاياته!

البريطانيون و الهولنديون على المسرح الدولي!

كانت القواعد والشروط  المطلوبة لقيادة نظام عالمي قد توفرت في أوروبا، وهاهي تتوفر للبريطانيين و الهولنديين بعد البرتغاليين والإسبانيين، ففي بريطانيا وهولندا كانت العقيدة اللوثرية الجديدة، البروتستانتية الثورية، متطابقة أكثر مع احتياجات ومصالح العصر العالمي الجديد، متجاوزة اللاتين الكاثوليك المكبلين بقيود البابوية  الإقطاعية. وكان الإسبانيون  والبرتغاليون قد ارتكبوا خطأ  قاتلا" بإبادتهم للحضارة العربية في شبه الجزيرة الإيبرية، بمسلميها ومسيحييها  ويهودها، و قد هاجر يهودها، مثلاً، إلى البلدان المنخفضة في أوروبا، وانحازوا إلى حكوماتها و خاصة إلى الهولنديين ، ثم إلى الأنكلوسكسون ، الذين تلزمهم عقيدتهم البروتستانتية الجديدة بالعهد القديم أولاً ، فكان ذلك الانحياز حاسماً في صعود الهولنديين والإنكليز إلى مواقع عالمية ، حيث اليهود نقلوا إليهم علوم العرب وخبراتهم الهائلة في الأندلس، فكان ذلك بمثابة حكم بالإعدام على الاسبان والبرتغال الذين سرعان ما أفل نجمهم ، وانتقلت الإدارة العالمية الرئيسة من اللاتين الكاثوليك إلى الأنكلوسكسون البروتستانت ! لقد دمّر الإنكليز الأساطيل الإسبانية الجبارة " الأرمادا " عام 1588م ، وانطلقوا يتطلعون إلى منفذ نحو الشرق، فنجحوا أخيراً في إقامة علاقات تجارية وطيدة مع الدولة الفارسية، مستفيدين إلى أبعد الحدود من العداء بين هذه الدولة وبين العثمانيين! وفي مستهل القرن السابع عشر دشّنت الملكة اليزابيث ، أو اليصابات بنفسها " شركة الهند الشرقية "  الأمر الذي أصاب البرتغاليين بالذعر ، لأن تلك الملكة دشّنت يومئذ في الواقع " الإمبراطورية البريطانية " العالمية التي سوف تستمر حتى نهاية القرن التاسع عشر كإمبراطورية لا تغرب عنها الشمس كما يقولون ! وبالطبع ، كانت مخاوف البرتغاليين في محلها ، لأنهم بدأوا منذ ذلك التاريخ يخوضون معارك دفاعية في الخليج العربي ، ضدّ الإنكليز، والعثمانيين ، والفرس، والعرب، وهي معارك كانت في مجملها وفي محصلتها لصالح الإنكليز، وفي ما بعد، في القرن العشرين ، سوف يواجه الإنكليز في الخليج العربي وفي غيره جبهات متعدّدة ، ويخوضون ضدّها معارك كثيرة ، هي في مجملها وفي محصلتها لصالح امتدادهم الأنكلوسكسوني الأميركي !

لقد خسر البرتغاليون أخر معاركهم وأخر مستعمراتهم في العام 1652م ، فكانت تلك نهايتهم في الشرق، أما الهولنديين فقد ظهروا في الخليج العربي خلال السنوات الأولى من القرن السابع عشر ، في البداية لمناصرة الإنكليز ضدّ البرتغاليين ، ثم دخلوا في منافسة مع الإنكليز ، و نجحوا تقريبا" في الهيمنة على تجارة فارس، بل احتلوا مركز الصدارة في الخليج عام 1640م ، غير أن ذلك لم يدم بعد أن قامت شركة الهند الشرقية الإنكليزية . وعندما ظهرت فرنسا بدورها في الخليج أواخر القرن السابع عشر، تحالف المتحاربان الإنكليزي والهولندي ضدّها ، واستمر ذلك التحالف ريثما زال الخطر الفرنسي اللاتيني الكاثوليكي!

الأنكلوسكسون ينفردون لوحدهم بالخليج!

في العام 1838، قال بالمر ستون وزير الخارجية البريطاني : " إن مهمتنا في الخليج الفارسي هي وضعه تحت سيطرتنا البحرية بعيدا" عن نفوذ أية دولة أخرى تستطيع منازعتنا هذه السيطرة" ! وبالمناسبة، فإن السبب الذي يجعل الأوروبيين يصرون على تسمية الخليج العربي بالفارسي  يعود إلى أن حكومات فارس كانت معهم منذ بدايات ظهورهم في الخليج، أي منذ مطلع القرن السادس عشر، وحتى عهد الشاه محمد رضا بهلوي وانتصار الثورة الإسلامية !

بعد ذلك انصرف الأنكلوسكسون إلى تعزيز وتدعيم وجودهم في بلادنا بشتى السبل: تمزيق المنطقة جغرافيا"، وبث الفرقة و إثارة الصراعات المحلية، وانتزاع العقود والمعاهدات من بعض الشيوخ والحكام بالإكراه أو بالحيلة ، إلى أن استتبت لهم الأمور تماما"، و لكن هاهم بصورتهم الجديدة يواجهون ما طرأ على بنية النظام العالمي من تطورات ليست في صالحهم، فقد تهتك هذا النظام وبدأ يضمحل، وصارت البشرية جمعاء تتطلع إلى نظام عالمي جديد قوامه التكافؤ و العدالة، أما الأمة العربية والإسلامية التي يحاولون اليوم إحكام قبضتهم عليه انطلاقا" من العراق فتبدو في طليعة قوى التغيير وفي خطوط المواجهة الأمامية التي تتوقف على فعالياتها ونتائجها مصائر البشرية!

Hosted by www.Geocities.ws

1