الشتات اليهودي من فعل الرومان والفرنجة!

بقلم: نصر شمالي

حدث الخروج الإبراهيمي من العراق في العام 1900 ق.م، وحدث الخروج الموسوي من مصر في العام 1220 ق.م، أي أن حوالي سبعة قرون تفصل بين الحدثين الكبيرين! وحدث سبي اليهود أو نفيهم إلى بابل على دفعتين، الأولى في العام 597 ق.م، والثانية في العام 586 ق.م، أي بعد انقضاء أكثر من ثلاثة عشر قرناً على الخروج الإبراهيمي، وبعد انقضاء أكثر من ستة قرون على الخروج الموسوي! أما ظهور اليهود فكان في الفترة 638 – 608 ق.م، حيث قامت ما سميت مجازاً "مملكة يهوذا" على مساحة بلدة من بلدات فلسطين، أي بعد نصف قرن أكثر قليلاً أو أقل قليلاً من قيام تلك المملكة، وإنه لمن الضروري التوقف والتمعن في هذه التواريخ البالغة التعبير والدلالة من حيث المسافات الزمنية في ما بينها، فمن دون ذلك سوف يصعب علينا التمييز بين التلفيق الخرافي وبين ما يمكن أن يشكل واقعة تاريخية منطقية!

حكاية سبي اليهود أو نفيهم إلى بابل !

إن الوثنية اليهودية التي ظهرت بعد الإبراهيمية والموسوية بقرون طويلة جداً، وكذلك الصهيونية المعاصرة، تربطان تعسّفاً حركتا الخروج الإبراهيمية العراقية والموسوية المصرية بقضية سبي اليهود أو نفيهم من فلسطين إلى بابل، وتتكئان على الخروج والنفي، باعتبارهما سبب الشتات اليهودي! غير أن التدقيق في التواريخ بمدلولاتها الزمنية، والتدقيق في القوى الاجتماعية التي حققت الخروج، ثم في القوى الاجتماعية التي وقع عليها السبي أو النفي، يجعلنا نتوصل منطقياً إلى شبه انعدام الصلة المباشرة بين حدثي الخروج، وبين حدثي النفي، وبين الشتات!

إن الخروج قضية أخرى مختلفة تماماً عن قضية النفي، ففي الحالة المصرية الموسوية كان الخروج عملية طوعية (كما أوضحنا في المقالة السابقة) توجهت إلى مجاهل سيناء، حيث مجرّد النجاح في الوصول إلى خارج دائرة سيطرة السلطات كان يعني انتصاراً ثورياً يحرّر الممتلكات البشرية للفرعون/ الإله! أما النفي من فلسطين إلى العراق فكان عملية قسرية تعني هزيمة المنفيين الذين أرغموا على تبديل أماكن إقامتهم خلافاً لإرادتهم ومصالحهم، وبما يتفق مع إرادة ومصالح السلطات الحاكمة!

كذلك، فإن تشكيلة جموع الخروج المصري تختلف عن تشكيلة الجماعة التي نفيت إلى بابل. لقد كان الخروج من مصر إلى سيناء حدثاً اجتماعياً مصرياً نفذه خليط كبير من الناس، أما النفي من فلسطين إلى بابل فوقع على جماعات محدّدة من الأوساط اليهودية العليا التي لها مواقعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الممتازة، ولم يقع على عامة اليهود، فهو إجراء سلطوي أمني/ سياسي!

لا علاقة بين الخروج، والنفي، والشتات!

كان يعيش في بابل، قبل أن يصلها المنفيون اليهود من فلسطين، جماعات وصفت في ما بعد بأنها يهودية، ولعلها كانت من أتباع الإبراهيمية ولا علاقة لها بيهود فلسطين، وهي كانت تعيش في العراق حياة مستقرة ومزدهرة!

يقول ابراهام ليون:" إننا نبالغ كثيراً في أهمية النفي أيام نبوخذ نصر، حيث لم تمسّ إلا مصالح قسم من الأوساط اليهودية بتدابير ملك بابل، ولم يبرح أغلبية اليهود القاطنين فلسطين أماكنهم"! وهذا يعني أن النفي إلى بابل لم يؤثر على حياة عامة اليهود في فلسطين، ولا علاقة له بحياة من يوصفون أنهم كانوا يهوداً في بابل قبل النفي، ويعني أيضاً أنه لا علاقة بتاتاً بين ذلك النفي وبين الشتات اليهودي العام الذي يتحدث عنه الوثنيون اليهود والصهاينة المعاصرون!

كانت فلسطين، عندما حدث النفي، جسراً استراتيجياً وتجارياً مهماً، ازداد أهمية بعد الانهيار الفينيقي. فقد خسر الفينيقيون الكنعانيون موقعهم الأول في المنطقة، وأصبحت للطريق الفلسطينية بين مصر وبابل قيمة مستجدة عظمى، بعد أن استتبت الأوضاع في فلسطين لصالح الدولة البابلية الكلدانية الفتية، التي راحت تتطلع إلى بسط هيمنتها وفرض نفوذها في مواجهة مصر وغيرها. وفي تلك الأثناء وقعت حوادث شغب في القدس (لصالح مصر) فحاصرها نبوخذ نصر وسبى "كل الرؤساء وجميع جبابرة البأس، ولم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض" حسب ما جاء في العهد القديم! أي أن النفي وقع على أوساط متنفذة محدودة، ولم يكن عاماً، وقد حدث هذا عام 597 ق.م!

سبب النفي البابلي كان سياسياً وأمنياً!

يقول المؤرخ العراقي الدكتور أحمد سوسة (وهو من أصل يهودي) أن النفي الثاني وقع عام 586 ق.م (أي بعد الأول بحوالي أحد عشر عاماً) نتيجة اكتشاف مؤامرة لصالح مصر التي كانت تسعى لاستعادة سيطرتها على سورية، وأن هذا النفي شمل بقايا جماعة موسى (المصري) الذين هم في أصولهم خليط من الجنود المصريين والهكسوس، لا صلة لهم ببني إسرائيل، ثم اختلط معهم من اعتنق اليهودية من مختلف الأجناس، وجاءت تسميتهم يهوداً نسبة إلى مملكة يهوذا المنقرضة!

وهكذا فإن أصول المنفيين، من جنود مصريين وهكسوس، تدلنا على الخلفية السياسية والأمنية المحضة لذلك النفي. وبالإجمال، أياً كانت أجناس المنفيين، فإن الشتات اليهودي العام لم يبدأ بنفيهم كما يزعم المؤرخون الصهاينة، بل هو حدث في مرحلتين: الأولى في العهد الروماني، على أيدي الرومان الذين كانوا يحكمون مصر وبلاد الشام، والثانية في العصر الأوروبي نتيجة انهيار الأندلس على أيدي الفرنجة!

وجدير بالذكر أنه عندما استولى قورش الأخميني الفارسي على بلاد بابل (539 – 538 ق.م) وسار في فتوحاته حتى احتل سورية وفي جملتها فلسطين، لم يعد إلى فلسطين من اليهود المنفيين سوى فريق ضئيل العدد، عاد إليها كبعثة دينية لبناء الهيكل، وقد تكون العودة سياسية لصالح ذلك النظام الفارسي وبرغبة منه، والفريق العائد كان مزوّداً بالفضة والذهب والأثاث، ولم تحدث عودة جماعية على الإطلاق، لا كرهاً ولا طوعاً!

المبالغات عن دور اليهود في فلسطين!

يقول الفرنسي كوس أن المؤرخين بالغوا في أهمية دور اليهود في فلسطين، واستنتجوا كما لو أن "تاريخ إسرائيل" تمركز حول الجبل المقدس بعد ترميم القدس في العهد الفارسي، وكما لو أن شعباً بأكمله عاد حقاً من المنفى البابلي إلى فلسطين وسكن على أرض مساحتها بضع مئات من الكيلو مترات! أما الحقيقة فهي أن يهود "بلاد يهوذا" لم يكونوا يمثلون إلا جزءاً بسيطاً من اليهودية خارج فلسطين، وربما كانوا الجزء الأقل أهمية وحيوية!

كذلك هناك من ينسب إلى المنفى البابلي دوراً هاماً في تحوّل اليهود إلى " شعب تجاري "! غير أن يهود بابل كانوا موجودين فيها قبل النفي، يتعاطون التجارة والرهن، وشراء المنازل وبيعها، وإقراض الدراهم بالفائدة، وإدارة أموال الغير.. الخ، حسبما يعرض المؤرخ الفرنسي كوس، وحيث ازدهرت أعمالهم، في مصر أو الشام أو العراق أو الجزيرة العربية، فإنه ما كان ليخطر في بالهم اجتياز المسافة القصيرة إلى فلسطين رغم أن أحداً ما كان ليمنعهم من ذلك. وبالطبع، سواء تحدثنا عن أتباع الإبراهيمية أو الموسوية أو اليهودية، فإنهم جميعاً لم يشكلوا عرقاً، أو قومية، بل ديانة اعتنقتها أيضاً قبائل عربية. أما لغة أتباع الديانة عموماً فكانت الآرامية، أي العربية القديمة، أما العبرية فلغة "سامية" إن لم نقل أنها مشتقة من الأصول القديمة العديدة للغة العربية التي توحّدت وسادت في ما بعد.

نهاية اليهودية القديمة في فلسطين!

لقد حلّ العهد الإغريقي في البلاد العربية منذ عام 332 ق.م، بعد فتوحات الإسكندرية، وحيث خسرت بابل مركزها وأهميتها التجارية. وبعد ذلك أسس سلوقس مدينة سلوقية على شاطئ دجلة ليسلب بابل ما تبقى لها من دور رئيس في التجارة الخارجية. وعندما انقسم الإغريق إلى بطالمة، نسبة إلى بطليموس، يحكمون مصر، وإلى سلوقيين، نسبة لسلوقس الأول، يحكمون بلاد الشام، حقق اليهود وضعاً ممتازاً لدى كلا الطرفين بصفتهم وسطاً تجارياً، واستفادوا من الخلافات بينهما. ولم تكن ميزة اليهود التجارية سوى ميزة أقوام المنطقة العربية عموماً، غير أن اليهود اعتادوا وضع أنفسهم في تصرف السلطات الحاكمة أيا كانت، بما فيها الأجنبية، بصفتهم طائفة دينية، الأمر الذي ما كان ليفعله المواطنون عموماً! وقد كتب ابراهام ليون أن التباين كان مدهشاً بين ازدهار الإسكندرية وإنطاكية من ناحية وبين الانحطاط الذي بلغته اليونان في الفترة نفسها من ناحية أخرى! وبما أن الطائفة اليهودية، المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، وضعت نفسها وخبراتها، التي اكتسبتها من الخبرة العامة لشعوب المنطقة، في خدمة النظامين الإغريقيين فإنها استحقت بذلك امتيازاتها عن جدارة!

ثم جاء الاجتياح الروماني لجنوب/ شرق المتوسط، غير أن مرحلة الإمبراطورية الرومانية بكل عظمتها وجبروتها واتساعها لم تكن في واقع الأمر سوى الطور الأخير من أطوار العصر المعبدي/ العبودي القديم، الذي سوف يصطدم بالمسيحية، ثم تنهار مؤسساته وقوانينه وقلاعه في القرن الميلادي السابع بانتصار الدعوة الإسلامية.

لقد ارتكزت قوة روما على استعباد شعوب البلدان المحتلة ونهبها، وليس على إيجاد أسواق عالمية لتصريف بضائعها وتوظيف رؤوس أموالها. وكانت الطبقات الرومانية الحاكمة تنظر بازدراء إلى الأعمال التجارية، وكان محظّراً على الشيوخ الرومان وأولادهم وعلى الأرستقراطية الرومانية عموماً مزاولة التجارة، ولذلك كان معظم التجار من غير الرومان، وفي جملتهم اليهود، وأولئك التجار عموماً كانوا يقومون بتلبية الحاجات الكمالية المتنامية للطبقات الحاكمة، الأمر الذي جعلهم على الدوام عرضة لشرور أمزجة وأهواء الرومان! وقد صار العالم آنذاك يعاني عموماً من النظام الروماني، مثلما يعاني اليوم من النظام الأميركي، لكن المعاناة كانت أقسى في مصر وبلاد الشام. ولم تكن قضية اليهود أساسية في خضم تلك الوقائع الكبرى، فحياتهم ومصالحهم كانت بين مدّ وجزر، بينما هم يحاولون التكيّف مع الأنواء المتقلبة!

ففي عهد قيصر مثلاً (49-44 ق.م) كان اليهود يتمتعون بحرية ممارسة شعائرهم، وبحكم كهنوتي ذاتي، وبعد اغتيال قيصر نشب خلاف بين أوكتافيان وأنطونيوس أدى إلى القتال بينهما (سنة 30 ق.م) وانتهى الصراع بانتصار أوكتافيان الذي تولى الحكم بصفته أول إمبراطور روماني باسم أغسطس! وفي جميع مراحل الصراع بين الرجلين عانى سكان المنطقة العربية الويلات، وفي جملتهم اليهود الذين تمت تصفية كل أثر لهم بعد الميلاد، في حوالي عام 135 م، على يدّ هادريان! لقد دفعوا ثمن انعزالهم وانغلاقهم وأنانيتهم وتقلباتهم بين حاكم وآخر!

يقول كلرمان جانو: " عندما دخل المسلمون (أرض يهوذا) لم يجدوا يهوداً، لأن حروب فاسبازيان وتيتوس، وتراجان وهارديان، لم تترك حجراً على حجر من اليهودية السياسية والوثنية، فقد أمعنوا في القضاء عليها وذرّوا رمادها في الرياح الأربع، ففقدت فلسطين جميع التقاليد اليهودية، وإن جميع اليهود الذين نراهم بلا استثناء هم من الطارئين على فلسطين مؤخراً، نزلوا فيها بعد أن زالت منها اليهودية قبل خمسة عشر قرناً"!

إلى أي بلد ما عدا فلسطين!

تبدّلت الخارطة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية وفي العالم عموماً بعد انتصارات اليرموك والقادسية في القرن السابع الميلادي، وتبدّلت بالتالي خطوط الاتصال والتبادل والتجارة العالمية، وأيضاً قيمة وأهمية المواقع والمدن، فكان لذلك أثره الكبير على حياة اليهود التي بدأت عهد استقرار وطمأنينة ورخاء طويل. فبلاد الشام التي كانت (على سبيل المثال) محرّمة على اليهود في العصر الروماني لم تعد كذلك في العصر العربي الإسلامي، فتحوّل نشاطهم إليها (وليس إلى فلسطين حصراً) وانساحوا مع الفتوحات التحريرية التقدمية إلى أقاصي المغرب العربي، وإلى الأندلس، وإلى أي مكان وصلت إليه تلك الفتوحات في الاتجاهات الأربعة!

منذ انتصار القادسية واليرموك في أواسط القرن السابع الميلادي، وحتى انهيار الأندلس النهائي في أواخر القرن الخامس عشر، أي على مدى أكثر من ثمانية قرون، لن نقع أبداً على مشكلة أو مسألة أو قضية يهودية عامة، فقد اندمج اليهود في نسيج الحياة العامة للنظام العربي الإسلامي العالمي. وبما أنهم وضعوا ثقلهم الرئيسي في الأندلس، فقد كانت الضربة النهائية الموجهة للنظام العربي الإسلامي في تلك الديار كبيرة بالنسبة إليهم، ترتّب عليها شتات يهودي كبير، توجه تيار رئيسي منه إلى البلدان الأوروبية في الأراضي المنخفضة! بينما توجهت التيارات الرئيسة الأخرى إلى المغرب العربي، ومصر، وتركيا، وكذلك إلى القارة الأميركية، أما فلسطين فلم يتوجه إليها من ذلك الشتات اليهودي الكبير ما يستحق الذكر، وبالفعل، فإن الأخبار لا تتحدث أبداً عن يهود توجهوا إلى فلسطين نتيجة ذلك الشتات الذي تسببت به اجتياحات وجرائم الفرنجة!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1