كيف نقرأ قصة النعمان بن المنذر ؟!

بقلم: نصر شمالي

قبل ألف وأربعمائة عام ونيف كانت مجتمعات المنطقة العربية تنوء تحت نير ثلاث إمبراطوريات عظمى: الرومية القيصرية في الشمال، والفارسية الكسروية في الشرق والحبشية النجاشية في الجنوب. وكان النظام السياسي السائد في مراكز تلك الإمبراطوريات، وفي البلدان التابعة لها، نظاماً عبودياً استغلالياً لم يخفف من غلوائه وشروره ظهور بعض الأكاسرة والأباطرة، الحكماء والأتقياء، من حين إلى آخر، فمثل ذلك الظهور كان استثناء لا قاعدة، وبالتالي فهو حالة سطحية عابرة! أما العرب فكانت إمبراطورياتهم العديدة، المصرية والسورية والعراقية وغيرها، قد زالت منذ زمن طويل، بينما هم لا يزالون في مرحلة الأصول والروافد المتعدّدة، المبعثرة، التي لم يتحقق ارتقاؤها التاريخي إلى مستوى الأمة الواحدة، وكانوا بالإجمال بلا سيادة سياسية تامة منذ انهارت دولهم أمام فتوحات الإسكندر وما تلاها من عهود يونانية ورومانية وفارسية وحبشية.

مرحلة جيشان الأصول والروافد!

غير أن ذلك الافتقار إلى السيادة السياسية التامة لم يكن يعني غياب العرب كمجتمعات فاعلة في العهود غير العربية، فقد كان الحضور العربي بارزاً في جميع ميادين العمران، بل وفي الميدان السياسي حيث شخصيات عربية عديدة احتلت منصب الإمبراطور الروماني، إنما في العاصمة الرومانية، وبصفتهم أباطرة رومانيين من أصول عربية، مثلما حكم الأرجنتين في عصرنا الحالي رئيس أرجنتيني من أصل عربي سوري! وبالمناسبة، فقد حكم محمد علي باشا مصر بصفته عربياً مصرياً من أصل ألباني، وليس أسخف من أولئك الذين يعتبرونه أجنبياً، ولا شك في أنه كان سيحارب ألبانيا، لصالح مصر أو دفاعاً عن مصر، لو نشبت حرب بين الدولتين!

في تلك الحقبة، قبل ألف وأربعمائة عام ونيف، كانت البنى التحتية لتلك الأصول والروافد العربية قد بدأت تجيش ضمناً بعوامل الارتقاء إلى مستوى أمة واحدة. لقد كان ذلك الجيشان يحدث في رحم الحياة الاجتماعية، بصورة غير مرئية وغير مباشرة، بحيث أن أحداً لم يكن ليدرك أن عملية وحدة الأمة قد أوشكت على التحقق، وأنها اجتازت خلسة جميع المقدمات، وتوفرت لها معظم الشروط الذاتية والموضوعية، بل إن أحداً ما كان ليجرؤ حينئذ على القول بذلك، والعرب في هوان ما بعده هوان، لأنه سيتهم بالسخف أو الجنون!

في الحقيقة، لقد تكهن بعض العرب، الأكثر علماً وتفاؤلاً، بإمكانية ظهور إمبراطور عربي يتمركز في عاصمة عربية، في مصر أو الشام أو العراق، فيعيد للعرب الاعتبار والسيادة التامة، إنما في نطاق النظام الإمبراطوري السائد في منطقة المتوسط، وقد كان لمثل هذا التكهن ما يبرره ويؤيده شرعياً ومنطقياً وواقعياً، حيث الملكة التدمرية زنوبيا قامت بمحاولة ضخمة في هذا الاتجاه وكادت تنجح، فلماذا لا تتكرر المحاولة وتنجح؟ أما البعض الآخر من العرب، الأكثر شفافية وحكمة وإنسانية، فتكهنوا بانبعاث روح الدعوة الإبراهيمية الموسوية المسيحية من جديد، وبظهور نبي يجسّد عقيدتها ويحقق انتصارها الحاسم!

النعمان بن المنذر ملك العراق

لقد توفّرت في النعمان بن المنذر بعض المواصفات التي تتفق مع تكهنات بعض العرب حول إمكانية ظهور إمبراطور عربي، فهو ملك شديد البأس معتدّ بنفسه، سريع المعاقبة إلى حدّ الظلم، متكبّر متجبّر إلى حدّ الاستبداد، إضافة إلى أنه لم يكن يخفي نزوعاً إلى التفرّد والاستقلال، وتبرّماً من التبعية للنظام الكسروي في فارس، فكان ذلك خطيراً وملفتاً في منطقة صارت أقطارها مجرّد مناطق مدارة بحكم ذاتي تحت سيطرة الأباطرة والأكاسرة! إنه الوضع الذي عادت فتردّت المنطقة إليه اليوم في عصر الأوروبيين والأميركيين!

في تلك الحقبة، كانت المنطقة حبلى بمختلف الاحتمالات الخطيرة الكبرى، ولابد أن الإدارة الكسروية أدركت ذلك، واحتاطت له، وبالتالي ما كان وضع النعمان قابلاً للتجاهل، فراح كسرى يستفزه كي يدفعه لفضح نواياه العصيانية إن وجدت، وللتخلص منه استباقياً، أو وقائياً، في جميع الأحوال! وهكذا طلب كسرى الزواج من إحدى نساء أسرة النعمان وهو يعلم استحالة تلبية طلبه، فكانت تلك الذريعة كافية لانطلاق سلسلة من الأفعال وردود الأفعال أوصلت الطرفين إلى حافة الحرب!

لقد كان موقف الإدارة الكسروية من الملك النعمان ذرائعياً، تعجيزياً، وبدت التهم التي وجهت إليه واهية، بل سخيفة إلى درجة السذاجة كما تعرضها الرواية العربية القديمة، والأقرب إلى المنطق المعقول أنها كانت تفتعل سبباً لشنّ حرب استباقية تقطع الطريق على وقوع حدث اجتماعي مجهول، كبير وخطير، فوجدت في النعمان مدخلها لضرب قومه، غير أنها كانت محاولة لمنع وقوع حدث تاريخي موضوعي كبير لا يمكن منع وقوعه، وبالفعل، انطلقت الدعوة العربية الإسلامية بعد عقود قليلة، وقوّضت النظام الكسروي من جذوره!

كلا، لم تكن المشكلة بين كسرى وبين الملك النعمان، بل بين نظام ظالم ومجتمعات مظلومة، وإلا فإن عملية تسيير الجيوش الكسروية لاحتلال العراق تغدو غير مفهومة ولا مقنعة إذا ما نظرنا إليها عبر الأسباب الغريبة المعلنة!ولم يكن بمقدور كسرى أن يعلن من الأسباب سوى ما أعلنه، وهل بإمكانه الإعلان أنه يشنّ حرباً استباقية لقطع الطريق على انتفاضة عربية محتملة جداً وإن لم يظهر أي دليل ملموس عليها؟!

العرب لم ينهزموا، والكسرويون لم ينتصروا!

لقد حاول النعمان بكل طاقته تجنب الحرب، وتعامل دبلوماسياً مع المطالب الكسروية بأقصى ما سمحت به تركيبته الشخصية الصعبة، وعندما استدعي للمثول أمام كسرى، من دون ضمانات كافية لأمنه وأمن قومه، توجه إلى وجوه قومه يسألهم النصح، فأشاروا عليه بقبول الدعوة حقناً للدماء، حيث العرب غير قادرين على مواجهة الإمبراطورية الكسروية العظمى، أما إذا غدر كسرى به فقتله، وواصل استفزازاته وتمسك بمطالبه التعجيزية، فإنهم يتعهدون بعدم الانصياع والتسليم، وبالمقاومة! وبالفعل، توجه النعمان لمقابلة كسرى، حيث لقي مصرعه، وهو يفتقر إلى استكمال شرطين ضروريين من شروط النصر: التسلح بوحدة قومه من خلفه، والتسلح بعقيدة متفوقة على عقيدة خصمه! وبعد إعدامه أرسل كسرى إلى قومه يأمرهم بتسليم تركته، فامتنعوا وأبوا نقض العهد والتفريط بالأمانة، فوجّه جيوشه لإرغامهم، لكنهم صعقوه بمقاومة فعالة أربكت قواته، وألحقت بها خسائر فادحة، وحرمتها من تحقيق الأهداف السياسية والمادية للحملة!

كانت تلك موقعة ذي قار(613م) الحدث النوعي بدلالاته التاريخية، حيث لأول مرة تشن الجيوش الكسروية هجوماً بتلك الضخامة ضد العرب ولا تنتصر، ولأول مرة يتصدى العرب للهجوم الضخم ولا ينهزمون، وبالنظر إلى موازين القوى المتفاوتة بين الطرفين لصالح كسرى فإن العرب قد انتصروا في تلك الموقعة!

بعد أن شاعت أخبار موقعة ذي قار بدأ اليقين يتبلور بين العرب في جميع أقطارهم وأمصارهم حول قابلية الكسرويين للهزيمة الكاملة، وحول أهلية العرب للانتصار الكامل في حال امتلاك الشرطين الذين افتقر إليهما النعمان!

لقد تابع أخبار تلك الموقعة فتى عربي يافع، فالتقط بصواب معانيها ودلالاتها، ورأى أنها أنصفت العرب، وظل يردّد :" بارك الله بذي قار "! وعندما كبر وقعت على عاتقه قضية رسالة التوحيد، توحيد الحق وتوحيد الأمة، ووقع على عاتقه عبء التأسيس لنظام إنساني جديد ينهض على أنقاض نظام الإمبراطوريات الباغية البالية، وقد تحقق كل ذلك بالفعل، وبسرعة قياسية فاجأت العالم أجمع!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1