الفارق بين عولمة الرشيد وعولمة إليصابات!

بقلم: نصر شمالي

يتصدى الأنكلوسكسون اليوم لقيادة العالم باعتباره بلدة صغيرة واحدة، ويفوضون أنفسهم بترتيب شؤون ما أسموه الشرق الأوسط الأكبر باعتباره وحدة إقليمية، ويحتلون العراق باعتباره دولة واحدة تعرضت للتدمير وواجبهم إعادة ترميمها، فيتوهم البعض أنهم دعاة نهضة أممية مشتركة وتكامل إنساني متكافئ، ويغفل عمداً أو جهلاً أفعالهم الميدانية التي تعطي نقيض ما يعلنونه، حيث الأنكلوسكسون والصهاينة يتعاملون  مع العالم واقعياً باعتباره عوالم منفصلة ومستقلة عن بعضها تماماً، ومع الشرق الأوسط الأكبر باعتباره ما لا يحصى من الشظايا والنفايات، ومع العراق باعتباره خليطاً سلبياً مما يشبه الأقوام والأديان، غير القابلة للانصهار والإبداع.. الخ!

والحال أن العالم موحّد أصلاً، أو متكامل أصلاً، في سيرورته التاريخية وفي صيرورته الإجمالية. إن العولمة ليست اكتشافاً، والعالم كان دائماً موحداً ومتكاملاً في الأساسيات، وإن هو تناقض وتناحر في الثانويات، وبالنسبة إلينا كعرب ومسلمين فإننا لا نرى في العولمة الإيجابية اكتشافاً انكليزياً جديداً، لأن عقيدتنا التوحيدية الإنسانية تنص عليها، حيث الآية الكريمة في القرآن الكريم تقول: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"! لكن الأنكلوسكسون وأمثالهم عبر العصور هم الذين يحاولون تغليب الاستثناء على القاعدة في الحياة البشرية، بطروحاتهم عن صراع الحضارات وعن شعب الله الأنكلوسكسوني / الصهيوني المختار، وتحت غطاء اكتشافهم للعولمة كأنما هي اختراع جديد، بينما هم في الحقيقة يتصدون لها بهدف تحقيق التجزئة وفرضها ولو إلى حين، لأن ديكتاتوريتهم العالمية ومصالحهم الضيقة، غير الطبيعية، تقتضي التفتيت والتجزئة، وتتناقض مع التكامل المتكافئ الإيجابي، أي مع العولمة الحقيقية الإيجابية، وليس العولمة التجزيئية الاحتكارية الديكتاتورية!

عاصمة الرشيد وعاصمة اليزابيث !

على مدى حوالي قرنين من الزمان، حاول آباؤنا وأجدادنا، من المسلمين والمسيحيين والقوميين والاشتراكيين، التجاوب والتناغم مع المبادئ والاتجاهات التي أعلنتها أوروبا وأميركا، ومثلهم حاولت أمم أخرى، مثل الروس بقيادة بطرس الأكبر، لكن ثبت بالدلائل القاطعة أن الأوروبيين والأميركيين عندما يتحدثون عن البشرية فإنهم يقصدون بها أممهم وحدها، وعندما يقرّون مبادئ حقوق الإنسان فإنهم يقرّونها لصالح إنسان أممهم وحده! إن العرب والمسلمين لم يرفضوا أبداً أن تكون واشنطن ولندن وباريس وبرلين بديلاً قيادياً عالمياً لدمشق وبغداد وسمرقند وطشقند، وهم تغنّوا بالتقدم الذي أحرزته العواصم الأوروبية، وحرّضوا شعوبهم على الاقتداء بها والتعاون معها، لكنهم اكتشفوا بأسى بالغ الاختلاف الجذري بين العولمة الإنسانية الإيجابية بقيادة بغداد الرشيد والعولمة السلبية الاحتكارية بقيادة لندن اليزابيث، أو إليصابات، وهاهم يدفعون اليوم ثمن أوهامهم التي تسببت في ضياع أزمنة طويلة وقوى ثمينة، حيث انطلت عليهم أضاليل الاحتكاريين المرابين ذات التأويلين!

لقد فرح البعض، والأتراك في المقدمة، بزوال الدولة العثمانية الظالمة المتخلفة، واتجهوا إلى أوروبا المتحضرة الراقية، محيط العلوم والآداب والأخلاق والأنوار، ورنوا بأبصارهم إلى الولايات المتحدة نصير التحرر والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوقعوا أن يقبلوا شركاء ولو صغار في الحضارة التي حرمتهم منها وأعاقت وصولهم إليها تلك الدولة المتخلفة التي بادت أخيراً، فماذا كانت النتيجة؟ إن تركيا ما تزال مستثناة من الدخول في الوحدة الأوروبية على الرغم من انحيازها التام لهم طوال حوالي ثمانين عاماً! لقد كان ثمن اكتشاف عبودية وعنصرية عولمتهم باهظاً حقاً، وهاهم يتعاملون مع الفلسطينيين والعراقيين كما تعاملوا مع الهنود الحمر بالضبط قبل مئات الأعوام، أي أنهم يعتبرون الأتراك والعرب والمسلمين عموماً أقوام أخرى لا يمكن أن تعامل على قدم المساواة، ولا ضير في إبادتها إذا اقتضت مصالح حضارة الشعب المختار ذلك!

تقطيع أوصال بلاد الشام والعراق!

إن البعض مازال يرى ضرورة إعطاء الأنكلوسكسون وحلفائهم فرصة إثبات حسن نواياهم في العراق وفلسطين والشرق الأوسط الأكبر، مع أن الموقف من هذه النوايا يفترض أن يكون محسوماً منذ الحرب العالمية الأولى، حيث ثبت أنهم لا يوحّدون إلا في معرض التجزئة، ولا يعطون إلا في معرض الأخذ! ففي أيار/ مايو عام 1915، وقد كان الفرنسيون يتطلعون إلى الاستيلاء على بلاد الشام بكاملها، أعلن جورج ليغ رئيس وزراء فرنسا مايلي :" لن يكون البحر المتوسط حراً في نظرنا، ولن نظل سادته، إلا إذا بقيت سورية ضمن مناطق نفوذنا. ويجب أن يفهم من ذلك أننا لا نعني سورية المشوّهة المجزّأة، بل سورية الكاملة التي يمكنها العيش سياسياً واقتصادياً وجغرافياً. سورية الحقيقية التي تمتد من العريش إلى طوروس، ومن الموصل الشرقية إلى شواطئ البحر"!

وكان الجنرال الفرنسي "دي تورسي" قد أعدّ كتاباً عنوانه "مفكرات عن سورية" ورد فيه ما يلي :" مهما قيل في بعض الأحيان حول أن بعض أجزاء سورية، لا سيما فلسطين، قد سلخت عنها مراراً وآماداً طويلة، فإن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن البلاد واحدة جغرافياً وعسكرياً (لاحظوا: لم يقل اجتماعياً!) وهي تؤلف منطقة حددتها الطبيعة تحديداً منظماً كاملاً، أما الأسباب التي تتخذ ذريعة للقول أن سورية قد جزئت في تنظيمها السابق فهي أسباب سياسية بحتة، وطابعها الاصطناعي كاف لإزالتها "!

واضحة تماماً الإشارة إلى المشروع الصهيوني في فلسطين، الذي كان معتمداً من قبل الأنكلوسكسون! إن الجنرال الفرنسي ورئيس حكومته يلمحان إلى أن المشروع الصهيوني الاستيطاني مجرّد ذريعة إنكليزية بحتة، ويصرّان على سورية الموحدة من العريش إلى طوروس ومن الموصل إلى البحر، أي أنهما يرفضان فكرة الكيان الصهيوني، اللهم إلا إذا كان تابعاً لفرنسا! لكن واضعي السياسات الدولية الأبعد نظراً، الأنكلوأميركان، كانوا ضدّ إتاحة الفرصة لتجمع بشري عربي كبير وموحد يمكن أن ينهض على طرق وتخوم مناطق النفط ويشكل عاجلاً أو آجلاً خطراً كبيراً يجب تلافيه بواسطة الحروب الاستباقية، ويجب تدميره سلفاً بتقطيع أوصال بلاد الشام والعراق، وقد اقتنع الفرنسيون لاحقاً فكانت اتفاقيات سايكس/ بيكو في 16 أيار /مايو 1916!

ما المعيار لقياس نجاحاتنا وإخفاقاتنا ؟

اليوم، بعد احتلال العراق والإفصاح عن النية في تجزئته (وهو الجزء!) نتساءل: ترى بأي مقياس يتوجب علينا قياس مقدار نجاحنا أو إخفاقنا على مدى القرن الماضي؟ هل ثمة مقياس أكثر وضوحاً وواقعية من نتائج تعاملنا مع اتفاقية سايكس /بيكو التي صنعت دويلاتنا الممسوخة ورسمت حدودنا العجيبة، واقتطعت جزءاً مقدساً من أراضينا لإقامة قاعدة استيطانية معادية؟ ما هو التقدم الذي أحرزناه على مدى القرن الماضي، والذي يستحق الذكر، إن لم يكن تقدّماً على جبهة إلغاء ترتيبات الاتفاقية الصهيونية، أو بعضاً منها على الأقل؟ أليس استمرار ترتيبات اتفاقية سايكس /بيكو بكاملها، والبدء اليوم بتجزئة الأجزاء كما يحاولون في العراق، يعني أننا لم نحرز أي تقدم يستحق الذكر؟

إذن، فالعولمة والشرق الأوسط الأكبر والعراق الموحد، هي شعارات توحيدية ظاهرياً تطرح في معرض السعي إلى مزيد من تفتيتنا وتفتيت العالم لصالح الاحتكار الربوي العالمي، وهم اليوم أشدّ حرصاً على استمرار أوضاعنا المهينة معزولين عن بعضنا داخل الحدود التي فرضوها علينا، بينما نحن من جهتنا لم نخرج عليها قيد أنملة، ونبدو كأننا أكثر التزاماً وتقيداً بها منهم!

إن نتائج كفاحنا ضدّ ترتيبات سايكس/ بيكو هي معيار نجاحنا أو فشلنا، وإن عدم الخروج على هذه الترتيبات ولو جزئياً هو الإخفاق التام بعينه، حيث لا يمكن أن ينهض أي إنجاز صحيح على قاعدة غير صحيحة، سواء أكان اقتصادياً أم اجتماعياً، ومثل هذه الإنجازات، مهما بدت جيدة، سوف تتحول تلقائياً إلى رديئة وضارة إذا ما تحققت انطلاقاً من التسليم بالأمر الواقع الأنكلوسكسوني الصهيوني، الجغرافي والاجتماعي والسياسي.

Hosted by www.Geocities.ws

1