هل أصبح العراق مصيدة للوحش النفطي العالمي؟

بقلم: نصر شمالي

احتل الأميركيون العراق بذرائع واهية كانوا هم أول من يعرف أنها غير قابلة للتصديق والصمود, لكنهم عوّلوا على انتصار سهل لن يكلفهم جهداً يستحق الذكر بعد الحصار المحكم الذي ضربوه على العراق طوال أكثر من عقد زمني. لقد أقدموا لقطف ثمرة يانعة وابتلاع لقمة سائغة, وكانوا على ثقة من أنهم سيقومون بمجرد نزهة, وإذا  بهم يصعقون بمقاومة فعالة لم يحسبوا حسابها واجهتهم منذ وضعوا أقدامهم على أرض العراق. وليس من ريب في أنهم لو توقعوا مقاومة بهذا الحجم لما أقدموا، أما وقد صاروا على أسوار بغداد فقد باتوا ملزمين بالثبات حتى وإن واجهوا الانتحار كاحتمال من الاحتمالات، لأن الانسحاب لا يعني سوى الإخفاق والفشل اللذين راح الرئيس الأميركي يحذّر منهما ومن عواقبهما الاستراتيجية الدولية والتاريخية. كذلك ليس من ريب في أن منتقدي الرئيس اليوم، من المسؤولين والقادة الأميركيين، كانوا سيصفقون له ويمجّدونه كبطل قومي تاريخي لو أن الأمور سارت كما قدّر لها، ووضعوا أيديهم على العراق و نفطه بالكامل وبالراحة التامة!

لن نستعرض هنا تلك الذرائع الأميركية العلنية التي انهارت بمجموعها، ولن نتحدث عن المأزق الذي يعرّض أمن الولايات المتحدة اليوم لأعظم الأخطار كما يردّد علناً بعض القادة الأمريكيين، بل سنحاول وضع الأحداث الراهنة في سياقها التاريخي، حيث من الحمق استعراض أعراض العلة الى درجة الاستغراق، والانشغال بها عن الداء الذي سبّبها والذي هو أصلها، وليس من شك في أن السبب الأصلي لجميع الأهوال التي واجهتها أمتنا، على مدى القرن الماضي وحتى يومنا هذا، هو الوحش النفطي!

الحكومة في خدمة شركات النفط!

منذ عام 1907 أصدر الرئيس الأميركي ويلسون توجيهاً يقول: "على وزارء الخارجية ضمان حماية الامتيازات التي يحصل عليها الممولون حتى لو انتهكت في سبيل ذلك سيادة الأمم التي لاتبدي رغبة في التعاون"! لقد كان يقصد بالامتيازات التي يحصل عليها الممولون الأميركيون امتيازات النفط بالدرجة الأولى. أما وزير خارجيته ويليام جنجر بريان فقد خاطب جماعات المال والأعمال الأميركيين، وفي مقدمتهم جماعة النفط، قائلاً: "يمكنني أن أقول لكم، ليس لمجرد المجاملة، بل للحقيقة الواقعة، أن وزارتي هي وزارتكم فالسفراء والوزراء المفوضون والقناصل جميعهم تحت تصرفكم، وواجبهم هو رعاية مصالحكم وحراسة حقوقكم"!

في ما بعد، كانت شركة ستاندرد أويل قد صممت على خوض معركة لاهوادة فيها من أجل الوصول إلى آبار النفط في المستعمرات البريطانية، وكانت تشعر أن دوافعها على قدر من الخطورة والإلحاح لا يسمح بالتردّد أمام أي اعتبار، وما كانت الإدارة الأميركية لتقيم لأي اعتبار وزناً إذا كان يتعارض مع مصالحها، وهكذا بدأت الخارجية الأميركية صراعاً مستميتاً لكسر الاحتكار البريطاني لنفط العراق، أما شعب العراق، الذي يعذبونه اليوم عذاباً لا يطاق، فلم تكن له في نظرهم أية قيمة، ولم يكن يستحق حتى مجرّد ذكره، وإذا ماذكر فذلك مجرّد ذريعة يستخدمها وحش نفطي ضّد وحش نفطي آخر!

لقد كانت نزعة الاستيلاء على النفط هي التي توجه خطوات الأنكلوأميركان في بلادنا منذ مطلع القرن العشرين، وقد أعلنت إدارة ويلسون أن الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بحق السيطرة المطلقة في نصف الكرة الأرضية الغربي، وفي طرد منافسيها، مع الإصرار في الوقت نفسه على إلزامهم بسياسة الباب المفتوح التي تعطي الأميركيين فرصاً متساوية في أية مستعمرات جديدة يستولي عليها أولئك المنافسون!

مكانة واشنطن تتقرر في بلادنا!

في عام 1946 قال المدير التنفيذي لإحدى شركات النفط الأميركية: "إن الولايات المتحدة ملزمة بتولي المسؤولية نيابة عن حملة الأسهم الأميركيين في هذه الشركة الكبيرة التي تدعى: العالم"! وفي عام 1947 قال وزير الخارجية الأميركي دين تشيسون أن إدارته تنوي حصر المساعدات الأميركية في الدول التي تقرّ واشنطن نظامها السياسي والاقتصادي!

لقد ظل النشاط الأميركي في المنطقة العربية، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، مقتصراً على البعثات التبشيرية  وعلى إنشاء الكليات التعليمية كما في بيروت والقاهرة، وابتداء من العام 1928 نجحت الإدارة الأميركية في انتزاع 23,75%  من أسهم شركة نفط العراق، وبين العامين 1930- 1934 فرضت نفسها في البحرين والكويت، وفي عام 1943 زارت المملكة العربية السعودية بعثة عسكرية أميركية للتباحث في إنشاء طريقين عسكريين دوليين لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وحصلت على تصريح بمسح الأراضي. وفي عام 1945 حصل الرئيس روزفلت على موافقة من حيث المبدأ لإنشاء مطار عسكري أميركي في السعودية، وأعلن هربرت فيس، الموظف الأميركي الكبير مايلي: "يسود اعتقاد قوي في عدد من دوائر الحكومة بضرورة البحث عن قواعد بحرية وجوية في منطقة لشرق الأوسط للاستحواذ عليها، أو لضمان استخدامها، حيث للولايات المتحدة مصلحة حيوية في مستقبل المنطقة، ويجب أن تكون في الموقف الذي يجعل وجهات نظرها فعالة إذا ما نشبت أزمة"! وفي مطلع العام 1946 انتهى العمل في تجهيز مطار الظهران العسكري، على مقربة من مقر شركة آرامكو النفطية!

في عام 1951 أعلن الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور أنه: "ليس هناك، في ما يتعلق بالقيمة الخالصة للأرض، منطقة في العالم أكثر أهمية استراتيجية من الشرق الأوسط، فهذه المنطقة عظيمة الأهمية في ما يمكن أن تساهم به في مجهودنا الحربي كله"! لكن الرئيس آيزنهاور قال أمام مساعديه، في العام 1958، مايلي: "إن مشكلتنا في العالم العربي هي أننا نقف أمام حالة من الكراهية موجهة ضدّنا، ليس من قبل الحكومات بل من قبل الشعوب"! وقد جاء الرئيس بوش الإبن اليوم ليكرر الكلام نفسه بصور تساؤل: "لماذا يكرهوننا؟"!

ما الجديد بعد مائة عام؟

بعد الحرب العالمية الثانية، تعاونت واشنطن مع لندن لطرد المستعمرين الفرنسيين من سورية ولبنان، وكان التفسير الفرنسي لذلك هو تفتح شهية الأميركيين للبترول العربي، حيث من بين خطوط الأنابيب النفطية السبعة التي تقرر إنشاؤها انطلاقاً من السعودية يصب اثنان في طرابلس وبيروت، والشركات الأميركية تفضل التعامل بشأن أنابيب النفط مع حكومات دول مستقلة! وجاء في مقالة نشرتها مجلة "كوليرز" الأميركية في عام 1946 مايلي: "إن امتياز النفط في المملكة العربية السعودية يعتبر أهم مشروع أميركي قائم بذاته في الخارج"! وفي عام 1947 كتبت صحيفة "وورلدر يبورت" تقول: "من الواضح أن الولايات المتحدة تذهب الى الشرق الأوسط كي تبقى"! وفي العام نفسه وقفت الحكومة الأميركية بكامل قوتها وراء مشروع اغتصاب فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني لخلق قاعدة أميركية آمنة ومتطورة في المنطقة العربية! وفي عام 1951 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خبراً عن التحاق ثلاثين ضابطاً أميركياً بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة " تاريخ الشرق الأدنى" والاتجاهات السياسية والحياة السائدة فيه، وقالت أنه بوشر بتدريب مترجمين الى اللغة العربية في مدرسة اللغات التابعة للجيش بولاية كاليفورنيا!

في مطلع التسعينات الماضية قالت مادلين اولبرايت، السفيرة في الأمم المتحدة ووزيرة الخارجية فيما بعد، مخاطبة حلفاء واشنطن بمايلي: "إننا سنتصرف جماعياً عندما نستطيع، لكننا سنتصرف أحادياً إذا اقتضى الأمر ذلك، فنحن نعتبر هذه المنطقة (العربية) ذات أهمية قصوى للمصالح الأميركية"! كان الحصار ضدّ العراق على أشدّه، أي أن العمليات لاحتلاله بدأت، وكانت اولبرايت محسوبة على الحزب الديمقراطي، وهاهي  اليوم توجه بدورها الانتقادات للرئيس الجمهوري، ليس لأنه احتل العراق، بل لأنه لم يحسن احتلاله! وهكذا، فليس ثمة جديد في سياسات الولايات المتحدة التي يقودها الوحش النفطي، على مدى القرن الماضي وحتى يومنا هذا، سوى أمرين: الأول أن دفاعاتها الإقليمية خذلتها واضطرتها للعودة إلى أسلوب الاحتلال العسكري المباشر الذي لا يتفق إطلاقاً مع تركيبة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والثاني هو أن الأمة العربية فاجأتها في العراق بمقاومة فعالة، مفتوحة، وضعتها في مأزق حقيقي لم تتعرّض لمثله من قبل أبداً! حيث النفط الذي اعتبرت سيطرتها عليه تحصيل حاصل يبدو وقد غدا بعيد المنال أكثر من ذي قبل، وبالتالي فإن الخسائر التي تتكبدها تبدو كأنما لا تعويض لها في المدى المنظور، وربما في المدى غير المنظور!

Hosted by www.Geocities.ws

1