الصعود إلى السماء بالنشوة العظمى!

بقلم: نصر شمالي

تميز عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان بميزتين بارزتين طغتا على سواهما، الأولى إعادة الاعتبار رسمياً وعلناً للخرافات التلمودية التي أسست لنهوض الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، والثانية تمركز السلطات في أيدي المجمع العسكري الصناعي إلى حد كبير خفية من وراء ظهر المؤسسات الدستورية والقانونية. وبينما عبّرت الميزة الأولى عن نفسها خارجياً بشعار "إمبراطورية الشرّ الكافرة" الذي أطلقه ريغان ضدّ الاتحاد السوفيتي، عبّرت الميزة الثانية عن نفسها بوقائع فضيحة "الكونترا" التي كشفت عن سلطة عسكرية صناعية تقود الولايات المتحدة على هواها بمعزل عن الكونغرس ومجلس النواب والحكومة، بل بمعزل عن الرئيس بالذات! وبالطبع، فإن تمركز السلطات في أيدي فريق غير شرعي كان يحتاج إلى ملْ الفراغ السياسي بالخرافات التلمودية وبنشاطات الاستخبارات، بالمقابل فإن الخرافات تزدهر في غياب القانون والمؤسسات الدستورية، وما ينجم عن ذلك من اضمحلال للعلاقات العقلانية المنطقية في الداخل والخارج!

كان عهد الرئيس ريغان بداية الصعود على طريق المزيد من المركزية السياسية والاقتصادية داخلياً وخارجياً، هذا الصعود الذي بلغ اليوم مرحلة متقدمة في عهد الرئيس بوش الابن. ومثلما كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر الحليف المخلص التابع للرئيس ريغان، فإن رئيس الوزراء البريطاني الحالي توني بلير هو الحليف المخلص التابع للرئيس بوش، أما تفسير ذلك، إضافة إلى المصالح المشتركة الصناعية والتجارية الداخلية والخارجية، فنقع عليه في الجنس المشترك الأنكلوسكسوني، وفي العقيدة المشتركة التلمودية العنصرية التي يعتنقها بعض الإنجيليين الأنكلوأميركيين بحماسة تفوق حماسة اليهود الصهاينة!

عهد ريغان يؤسس للديكتاتورية العالمية!

على صعيد السياسات الاقتصادية والحريات العامة الداخلية كان التوجه في عهد ريغان، مثلما هو اليوم في عهد بوش، يهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة الأثرياء الكبار والاحتكارات الربوية العملاقة على حساب عامة الشعب، وهذا التوجه لم يقتصر على الولايات المتحدة بل شمل ما يسمى بالمليار الذهبي، أي سكان البلدان الغنية الذين هم خمس سكان العالم المنقسم منذ زمن طويل إلى خمس ثري وأربعة أخماس فقيرة. فمنذ عهد ريغان بدأ العمل على تقسيم الخمس الثري أيضاً إلى واحد بالغ الثراء وأربعة فقيرة، فقراً نسبياً طبعاً. وقد عبّر هذا التوجه الأميركي عن نفسه بما لا يحصى من المماحكات السياسية والضغوطات التجارية والأمنية على حكومات أوروبا الغربية واليابان لإرغامها على تخفيض الدعم للخدمات الاجتماعية في ميادين الضمان والصحة والعطل والبطالة والأسعار.. الخ! وقد تطلب ذلك أن تعطي الإدارة الأميركية ظهرها للمعاهدات مع حلفائها، وللهيئات الدولية التي تديرها بالاشتراك مع هؤلاء الحلفاء، حتى أنها لم تعد تحرص على التخفي وراء المجاملات الدبلوماسية، وقد رأينا مؤخراً رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي الحالي، وهو يوجه الإهانات إلى الحكومات الأوروبية التي عارضت عملية احتلال العراق، حتى أنه وصف أوروبا ذات مرة بأنها مجرّد عقار! وخلاصة القول هي أن عهد ريغان كان البداية العملية للتوجه نحو تحقيق ديكتاتورية أميركية عالمية تملي إرادتها على الحلفاء والأعداء! ولكن، يجب أن يكون واضحاً أن فلسفة هذا الاتجاه الديكتاتوري جرت صياغتها على أيدي بريجنسكي أحد قادة الحزب الديمقراطي، في كتابه الخطير "بين عصرين"، الذي صدر أواخر الستينات من القرن الماضي، وتضمن شرحاً وافياً لمفهوم "المدينة العالمية" وكيفية إدارتها!

من إمبراطورية الشر إلى محور الشرّ!

يخوض الرئيس بوش اليوم حربه العالمية المفتوحة ضدّ ما أسماه "محور الشر"! وهو محور يمكن أن يشمل أربعة أخماس البشرية، أما الرئيس ريغان فقد أعلن الحرب ضدّ "إمبراطورية الشر" متمثلة بالاتحاد السوفييتي، وهو قرن ذلك بنبؤة توراتية توقع أن تتحقق في عهده: "يغزو الاتحاد السوفييتي الشرق الأوسط، وخاصة "إسرائيل"، وتقع حرب ذرية تؤدي إلى دمار شامل يمهّد للظهور الثاني للسيد المسيح"! كان ريغان يقول هذا الكلام ويشرح أن الاشتباك مع السوفييت ودمار العالم قدر توراتي لا مفر منه، بل يجب التجاوب عملياً معه من أجل ألف سنة سعيدة تبدأ بالظهور الثاني للمسيح! لقد ورد ذكر بلدة "مجدّو" الفلسطينية على لسان ريغان خمس مرّات ما بين العامين 1980-1984، وكان يقول علناً عبر التلفزيون: "يمكن أن يكون جيلنا هو الجيل الذي سيرى موقعة هرمجدون" !

غير أن النبؤة التوراتية لم تتحقق، لأن تحققها اشترط غزواً سوفييتياً لفلسطين لم يحدث! وقد انهارت الدولة السوفييتية لأسباب داخلية بالدرجة الأولى، دعمتها الضغوطات والمؤامرات الأميركية والأوروبية، لكن ذلك الانهيار اعتبر، ويا للعجب، انتصاراً رئيسياً لريغان مع أنه حادث مخالف لمعتقداته التوراتية التي بشرّ بها! وفي ما بعد، استبدل الرئيس بوش مصطلح "امبراطورية الشر" بمصطلح "محور الشرّ" ، وطويت حكاية معركة هرمجدون ضدّ السوفييت، التي جرت تعبئة الدهماء وتعطيل العقول على أساسها، وصارت القومية العربية هي العدو بدلاً من السوفييتية الروسية، وصار الإسلام هو الخطر الأعظم على الحضارة بدلاً من الشيوعية، واقتصرت هرمجدون على عمليات إبادة الشعب الفلسطيني!

تغطية حروب النهب بالخرافات!

كان الرئيس ريغان شخصية ثانوية في إدارته التي قادها أشخاص غامضون من أمثال الجنرال نورث. وعبر التحقيقات التي جرت حينئذ اكتشف الساسة الأميركيون بهلع أن سلطة عسكرية صناعية تقود البلاد سراً، لها ميزانيتها ومواردها الخاصة غير النظامية، وأن الدولة موضوعة على طريق حكم ديكتاتوري! وعندما سألوا أحد الجنرالات المتهمين عما إذا كان الرئيس ريغان على علم بما يجري، ابتسم ولم يجب!

لقد كان الرئيس ريغان يعقد اجتماعاته الهامة مع القس الإنجيلي جيري فولول وأمثاله، وكانت الأحاديث تدور حول مسرح الشرق الأوسط الذي يعدّه "الإله" بسرعة لحربين ستنشبان معاً: حرب أجوج وماجوج، وحرب هرمجدون! وأن روسيا سوف تنهزم بالتأكيد بعد أن يباد خمس أسداس جنودها، وأن المؤمنين من أمثال ريغان "سوف يصعدون إلى السماء بالنشوة العظمى في معركة هرمجدون" ! لقد أعلن ريغان: " إن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة التي يمكننا الاعتماد عليها في بقعة من العالم قد تشهد مأساة هرمجدون" ! وقال مخاطباً اليهود: "إنني أعود إلى أنبيائكم في العهد القديم، وإلى النذر التي وردت، والتي تسبق هرمجدون، وأسائل نفسي عما إذا كان جيلنا سيرى هذه الواقعة"!

إنه لمن الواضح أن الضحية لمثل هذه التعبئة العامة الخرافية المستمرة هي شعوب العالم، وفي جملتها شعب الولايات المتحدة، وأنها تغطية للحروب غير المبرّرة لا منطقياً ولاإنسانياً، ولا هدف لها سوى المزيد من النهب والسلب، والمزيد من التمكين للديكتاتورية العالمية الأميركية، أما الرئيس ريغان فلا ندري إن كان حقق أمنيته وصعد أخيراً إلى السماء بالنشوة العظمى بفضل تدمير فلسطين والعراق!

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1