ما هي مكوّنات الهيكل الصهيوني للإمبراطورية الأميركية؟

بقلم: نصر شمالي

تتحدث مصادر الأخبار العالمية عن نكسة استراتيجية أصابت الصهاينة اليهود في فلسطين المحتلة والأنكلوسكسون الصهاينة في العراق المحتل. وتتلخص أسباب هذه النكسة في عامل واحد تقريباً، هو التطور النوعي التاريخي الذي حققه الأداء الكفاحي العربي. ويعبّر هذا التطوّر عن نفسه في أن العدو لم يعد قادراً على التحكم بمسار المعارك، وتحديد حجمها، وتعيين ميادينها ومدة استمرارها، وإقرار نتائجها مسبقاً! لقد ظلّ الأعداء يفعلون هذا على مدى عشرات السنين، أي أنهم كانوا يقودون الحرب على جبهة ضحاياهم مثلما يقودونها على جبهتهم! وكان الإنسان العربي يفجع بالنتائج المذهلة المروّعة، لجهله بهذه الحقائق، وينكفئ إلى حالة من الإحباط والشعور بالنقص، بينما العدو يتمادى في صلفه وغروره، حتى أن آبا إيبان، وزير خارجية الصهاينة الأسبق، كتب في عام 1965 مقالة نشرتها صحيفة "فورن أفريز" الأميركية جاء فيها ما يلي:

-        "ليس من السخف أن نتصور قادة العرب يطالبون في المستقبل بإلحاح بالعودة إلى حدود عام 1966، أو عام 1967، تماماً كما يطالبون اليوم بالعودة إلى حدود عام 1947، تلك الحدود التي رفضوها في الماضي"!

أليس مذهلاً أن يبدو المرتزق الصهيوني إيبان على هذا القدر من الاستخفاف، بحيث يفشي سلفاً عبر الصحف سرّاً عظيماً هو موعد الحرب التي نشبت فعلاً عام 1967، وأن يتحدث سلفاً بثقة عن ردود فعل بعض القادة العرب وتصرفاتهم، كما جاءت لاحقاً بالضبط؟! غير أن الأمر يغدو مفهوماً، لا مذهلاً ولا مرعباً، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن بنية النظم الحاكمة في البلدان العربية المستقلة حديثاً كانت تفتقر إلى الاستقلالية والمتانة بجميع المعايير، أما اليوم، في زمن المقاومة التي صارت تمتلك قدراً عظيماً من الاستقلالية والمتانة، فإن تبجحات إيبان ورامسفيلد وأمثالهما يمكن أن تنقلب ضدّهما بصورة النكسة الاستراتيجية والحرب المفتوحة خلافاً لإرادتهما،وهو ما يحدث اليوم وتتحدث عنه جميع مصادر الأخبار العالمية.

بين فلسطين اللاهوت وفلسطين الجغرافيا!

ولكن يبقى الكثير مما لا يزال مطلوباً إدراكه في معارك المصير التي تخوضها أمتنا، وأول ما يتوجب إدراكه هو طبيعة العلاقة التاريخية بين الصهيونية اليهودية والصهيونية غير اليهودية، حيث على الرغم من التطور النوعي في الوعي العربي، وفي أداء المقاومة العربية، لاحظنا كيف أن بعض العرب يتحدثون عن حاجة الأنكلوسكسون المصيرية لليهود الصهاينة في العراق المحتل، وعن حاجة اليهود الصهاينة المصيرية للأنكلوسكسون في فلسطين المحتلة، وإنها لمفارقة واضحة التناقض يتوجب جلاؤها!

لا يجوز أن يخفى على أحد الطابع الصهيوني لهيكل الدولة الأميركية منذ تأسيسها، ولهيكل إمبراطوريتها العالمية منذ بدأ تكوينها بعد الحرب العالمية الثانية. وفي معرض الهيكل الإمبراطوري اعتمدت واشنطن على ما لا يحصى من المنظمات والتشكيلات الاجتماعية والسياسية والاستخباراتية، والقواعد العسكرية المباشرة وغير المباشرة الموزعة في مختلف أنحاء العالم، فكانت المنظمات اليهودية العالمية والكيان الصهيوني في فلسطين من أبرزها وأشدّها فعالية.

في ما يتعلق بالكيان الصهيوني تحديداً، فإن هذا الكيان يشكل قاعدة وامتداداً للنظام الاستعماري الذي تقوده واشنطن من جهة، وهو جزء من الشبكة الصهيونية العالمية مندمج عضوياً في بنيتها الاحتكارية الربوية من جهة ثانية.  لقد تجنّد اليهود الصهاينة، منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لخدمة الرأسمالية في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في فلسطين، حيث لدى الوثنيين من اليهود موهبة التفجّع الكاذب بإظهار "الأشواق الحارة" إلى المقدسات التي ما كانوا ليأبهوا لها لولا وقوعها على طريق مكامن الثروات الاستراتيجية. إن فلسطين عبر أكثر من ألفي عام لم تكن بالنسبة لليهود سوى موضوع ذكريات لاهوتية غامضة وغير قابلة للتجسيد، مثل جنة عدن، ليس لها أي مدلول مادي فيزيائي أو جغرافي، والبعد والقرب منها ليس سوى مسألة روحية، إلى أن جاء الوثنيون اليهود المعاصرون بتحريض من الإنجيليين الأنكلوسكسون، وجسّدوها مادياً وجغرافياً!

التشكيلات الثلاث للتجمعات اليهودية!

لقد تطورت الحركة الصهيونية اليهودية، وأخذت موقعها الممتاز في شبكة النظام الربوي الاحتكاري العالمي، من خلال التشكيلات التالية:

1-        تشكيلة الكيان الصهيوني المموّه بصورة "وطن ودولة وشعب" بينما هو مجرّد قاعدة عسكرية في جملة القواعد الأميركية المنتشرة في حوض المحيط الهندي، التي يشكل مجموعها جهازاً استعمارياً قائماً في منطقة الاحتياطي العالمي للنفط وللثروات الآسيوية والأفريقية الأخرى. وعلى سبيل المثال، قال الجنرال الأميركي كولنز في بحث أعده للكونغرس ما يلي:" تتمركز قوات التدخل السريع في الخليج في القواعد المتقدّمة، كإسرائيل..."!

2-         تشكيلة التجمعات اليهودية الصهيونية في البلدان الرأسمالية الثريّة، وخاصة في الولايات المتحدة، وهذه التجمعات توجهها مؤسسات يهودية تشارك في الوقت نفسه عضوياً في قيادة النظام العالمي، ويقوم تناغم وتنسيق بين هذه المؤسسات الصهيونية القائدة (مثل إيباك) وبين الكيان الصهيوني في فلسطين لتحقيق غرضين متداخلين: الغرض الأول هو خدمة كبار الاحتكاريين الصهاينة اليهود بشكل خاص، والثاني تحقيق المصالح المادية للبيروقراطية اليهودية القائدة وشبكات السماسرة والوسطاء اليهود في فلسطين المحتلة وغيرها.

3-          تشكيلة يهود روسيا وأوروبا الشرقية، التي هي التجمع الأصلي للخزر المتهوّدين قبل ألف عام (الأشكينازيم) وهذا التجمع كان ولا يزال موضع اهتمام كبير من القيادات الصهيونية العالمية باعتباره المادة الأساسية لبناء مجتمع الإبادة والاستيطان في فلسطين، لأنه أكبر التجمعات اليهودية عدداً وأشدّها قابلية للخدمة، إضافة إلى أن جهود التجنيد للاستيطان لا تتركز على التجمعات اليهودية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، التي تصلح كشبكات إعلامية وسينمائية واستخباراتية ومالية تساعد في حفظ النظام عموماً وفي تعزيز النفوذ اليهودي خصوصاً!

الوحدة العضوية بين الصهيونية والاحتكار!

إن خدمات الكيان الصهيوني تعزز مكانة اليهود في أوساط القيادات الربوية الاحتكارية العالمية، وهذه القيادات تعزز بدورها مكانة الكيان الصهيوني كقاعدة مندمجة عضوياً في مجمل التشكيلات الاستعمارية، وبفضل النفوذ اليهودي الواسع والعملي في القيادات الدولية تتدفق المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية على الكيان الصهيوني كضرورة عملية أيضاً! إن هذا المستوى من العلاقات الجدلية يقتصر على البلدان الرأسمالية الغنية، أما بلدان أوروبا الشرقية عموماً فإنها لا تصلح للخدمة على هذا المستوى، وخاصة في العهد الاشتراكي، أما بعد انهياره فقد صارت مفيدة للصهيونية العالمية في ميدانين:

1-       ميدان التجسس والتخريب الاجتماعي والاقتصادي لصالح الاحتكارات، كما نرى في روسيا مثلاً، تحت ستار قضية الهجرة إلى فلسطين، وقضايا الديمقراطية والحقوق المدنية، والليبرالية واقتصاد السوق، وكل ما من شأنه توفير المناخ الملائم لنشاط عملاء المخابرات الأميركية.

2-          ميدان الاستفادة من توجيه المهاجرين اليهود إلى فلسطين بالدرجة الأولى، أو إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة عندما تقتضي الضرورة ذلك، وخاصة إلى الولايات المتحدة حيث عدد اليهود يفوق تقريباً ضعف عدد المستوطنين المرتزقة في فلسطين، وحيث اللعبة الانتخابية الديمقراطية المكرّسة لحماية الروح الصهيونية للنظام تقتضي حشداً كافياً من اليهود، من دون أن تتعارض الجنسية الأميركية مع الجنسية الإسرائيلية!

نستنتج من ذلك أن الولايات المتحدة، بفضل صهيونيتها الخاصة بها، حققت لإمبراطوريتها العالمية قاعدة ثمينة في فلسطين ، في السلم وفي الحرب، في منطقة الاحتياطي النفطي العالمي وعلى طريق ثروات حوض المحيط الهندي، وحققت لها أيضاً جهازاً عالمياً نشطاً منبثّاً في جميع القارات، ولا يتورع عن القيام لصالحها بأحط الخدمات، وهذا هو مغزى الحماسة الأميركية لليهود، التي يرى البعض فيها "حماسة عمياء" بينما هي حماسة عملية وضرورية في نشاطات الاحتكارات الربوية.

أخيراً، فإن التمييز بين الصهيونية اليهودية والصهيونية الأنكلوسكسونية هو خطأ فادح، فلا مجال للحديث عن فارق بين المحتلين للعراق والمحتلين لفلسطين، لأن هكذا أوهام يمكن أن تعيق تحقيق مزيد من التطور النوعي التاريخي في وعينا وأدائنا، وهو التطور الذي ينبغي أن يتواصل ويتراكم كشرط لتحقيق الخلاص.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1