نظرية "الأضرار الهامشية" في الحضارة الديمقراطية!

بقلم: نصر شمالي

منذ مطلع القرن التاسع عشر قدّم الأميركيون الدلائل القاطعة على أن الجمهورية البورجوازية، الديمقراطية المتحضرة، هي جمهورية رجال المال والأعمال، وأن سياساتها نشاطات تجارية، مثلها مثل أي عمل تجاري عادي، توجهها عقيدة المرابي شايلوك! وقد استقرت الحياة السياسية الأميركية على نظام الحزب الواحد بجناحين يمينيين (جمهوري وديمقراطي!) كما وصفها الروائي والصحفي الأميركي غور فيدال. إنه حزب واحد حاكم/معارض بالتناوب، وبتواطؤ ضمني تاريخي! وهو حزب يضم في كل من جناحيه الأوساط ذاتها، أوساط المال والأعمال الربوية التي صعدت إلى مركز قيادة النظام العالمي، وصارت صفوة الحضارة الديمقراطية الأوروبية الأميركية التي ينظر إليها كمثال وقدوة، غير أنها هي نفسها تحول دون ارتقاء الغير إلى مستواها تحت طائلة الإبادة، بينما تتظاهر طوال الوقت بدعوتهم لتحقيق ذلك! وقد شاع هذا الأسلوب في العمل السياسي ليشمل بريطانيا وبقية الدول الأوروبية الرئيسة، حيث صار لكل منها حزبه الواحد الحاكم المستبد الذي يتظاهر أنه حزبان! أما الأمم الأخرى، في جنوبي العالم خاصة، فقد حيل بينها وبين اللحاق بركب هذه الحضارة، سواء بالإخضاع أم بالإبادة، واعتبر تدميرها مجرّد "أضرار هامشية" لابد من وقوعها على طريق تطور الحضارة الديمقراطية!

ولكن، إذا كان ذلك كله مفهوماً، فإن غير المفهوم أن يبلغ الهذيان والانفصام ببعض أبناء الأمم المستضعفة حدّ تبني نظريات المرابين ضدّ أهلهم وشعوبهم المعذّبة، فيعتبرون ما يرتكب ضدّ شعوبهم من جرائم مجرّد "أضرار هامشية"! وبالفعل، فإن هناك من لا ينظر إلى مجازر قانا وصبرا وشاتيلا، والفلوجة والنجف وأبو غريب والقائم، وجنين وغزة ورفح، كما ينظر إلى تدمير حافلة صهيونية، فهو يميّز بينهما لصالح الأخيرة، علماً أن ضحايا صبرا وشاتيلا فاق عددهم ضحايا نيويورك وواشنطن! بل لقد بلغ الهذيان والانفصام ببعضهم درجة تفضيل المحتلين الأميركيين والصهاينة على المقاومة العربية الإسلامية! لقد سمعت مثل هذه المفاضلة وجهاً لوجه! أما التبرير فهو أننا يجب أن ننحاز للحضارة الديمقراطية باعتبارنا امتداداً لها، نفكر مثلها ونعيش طراز حياتها وإن بصورة ناقصة، وهذا النقص الفادح هو مسؤولية مجتمعاتنا البدائية الممتنعة على التحضّر والديمقراطية، وبالتالي فإن ضربها وتدميرها هو مجرّد "أضرار هامشية" مؤسفة ولكن مبرّرة، تستدعيها ضرورة حماية الحضارة وضمان تقدمها وسيادتها!

ظروف ولادة النظرية الفظيعة؟

لقد تبلورت فكرة "الأضرار الهامشية" التي لابد من وقوعها، ولابد من التجاوز عنها لصالح الحضارة الديمقراطية، منذ عام 1580، أي منذ نزل الإنكليز في جزيرة "روانوك"، حيث استقبلهم أهلها الهنود الحمر بالترحاب، وكسوهم وأطعموهم وأقطعوهم ما شاؤوا من الأرض، وعلموهم أسباب البقاء في بيئة جديدة غريبة عليهم، غير أن أولئك الإنكليز، عندما اشتد ساعدهم قليلاً، راحوا يخترعون الأعذار لقتل مضيفيهم، وانطلقوا يتحينون الفرص لإتلاف محاصيلهم، وإحراق قراهم وحقولهم، وقطع أسباب الحياة عنهم، ثم تطوّرت برامج التجويع والتدمير الاقتصادي مع تزايد عدد المستوطنين الإنكليز لتصبح أكثر تنظيماً وتركيزاً واتساعاً، وبعد أقل من نصف قرن، في عام 1622، نشر في لندن بيان تضمن إعلان حق الإنكليزي في اجتياح البلاد الأميركية، وتدمير أهلها، واستيطان أراضيها بعد تطهيرها من سكانها، وأن هذا الحق يعود إلى تفوق الإنكليزي بالوراثة باعتباره من "شعب الله المختار"! لقد اعتبر ذلك البيان إبادة شعوب أميركا مجرّد "أضرار هامشية" لابد أن ترافق انتشار الحضارة، حيث هذا الانتشار يقتضي بالتأكيد موجات متلاحقة من الترحيل القسري والمذابح الجماعية ضدّ المتوحشين الذين يعيقونه!

في القرن التاسع عشر تحوّلت فكرة "الأضرار الهامشية" إلى ما يشبه "نظرية علمية" لاقت ويا للعجب تسليماً وقبولاً على نطاق العالم أجمع، من قبل اليسار واليمين والوسط، فاعتبرت تطوراً تاريخياً طبيعياً وموضوعياً، بل "تقدمياً" مثلما هو تقدمي دور البورجوازية الرأسمالية في التاريخ! أما المستوطنون الإنكليز بعقيدتهم البيوريتانية التلمودية فقد أعلنوها منذ القرن التاسع عشر سياسة رسمية للولايات المتحدة تحت عنوان "حق الحرب" وبدأوا الإعداد لتطبيقها في العالم أجمع!

القدر المتجلّي، والاتفاقيات المخادعة!

لقد صارت سياسة الترحيل القسري والإبادات الجماعية تعرف بعقيدة "القدر المتجلّي"، وهي العقيدة التي تواصل العمل بموجبها حتى يومنا هذا كما نرى في فلسطين والعراق. إنها العقيدة التي تنص على حتمية وقدرية التوسع الأميركي، بالزحف مع دوران الشمس، من الشرق إلى الغرب إلى الشرق، غير آبهة لمصير "الأغيار" باعتباره أضراراً هامشية تبررها مصلحة الحضارة! وإنها العقيدة التي استعارها هتلر من الأميركيين في ما بعد، وأطلق عليها بتواضع وحذر اسم "سياسة المجال الحيوي"!

كانت مستوطنة "جيمستاون" الإنكليزية الرائدة قد رسمت الملامح الأساسية لسياسة "حق الحرب" ولعقيدة "القدر المتجلّي" منذ عام 1610، أي بعد أقل من ثلاث سنوات على تأسيسها في الشمال الأميركي. وفي ما بعد أضاف مجلس مستوطنة "فرجينيا" إلى بيان "حق الحرب" بنداً أساسياً نصّ على دعم سياسة التوسع والاستيطان المفتوحة بعقد اتفاقيات ومعاهدات سلام مع السكان الأصليين، لتخدير الفرائس حتى يحين موعد صيدها! وفي تفسير ذلك قال مجلس فرجينيا أن اتفاقيات ومعاهدات السلام سوف تمنح "شعب الله المختار" فرصة أفضل للمباغتة والتدمير! وبالفعل، كانت الاتفاقيات والمعاهدات تبرم على هذا الأساس، أي أن خرقها كان مقرراً سلفاً! لقد شرح المستوطنون أنه: حين يطمئن أبناء الشعب الضحية إلى أن الاتفاقية حققت لهم الطمأنينة، وكفتهم شرور القتال، وأغنتهم عن الحذر والحراسة، عندئذ يتوجب علينا اغتنام الفرصة، بمفاجأتهم وإتلاف محاصيلهم وحرق حقولهم! إنه عين ما يحدث اليوم في فلسطين، وما يحاولون تكراره في العراق!

إضعاف الأمم واستئصالها وزوالها!

كانت أمة "البوهاتن" الهندية تعيش في شبه دولة فيدرالية على شواطئ الأطلسي الوسطى، وكانت أراضيها تزيد عن مساحة بريطانيا، وعدد سكانها يوازي عدد سكان بريطانيا. كانت تتألف من خمسة شعوب هندية ومن بعض القبائل، وتعيش حياة طبيعية سلمية ومزدهرة. وبعد عشرين عاماً فقط من الوجود الاستعماري الإنكليزي على أراضيها كتب المستوطن روبرت بنيت إلى أخيه إدوارد في لندن، بتاريخ 9/6/1623، رسالة تنضح لؤماً وشماتة وغبطة، جاء فيها أن أمة البوهاتن "لم تعد أمة"!

لقد اعتبروا نجاحهم في جعل أمة عظيمة مسالمة تنحدر إلى أقل من مستواها مجرّد "أضرار هامشية" تقتضيها مصلحة الحضارة الديمقراطية الرفيعة! وقد أسروا آخر رؤساء تلك الأمة، وألقوا به في زريبة حيوانات ضيقة حيث عومل كالبهائم، وهو العجوز الضرير العاجز عن المشي، قبل أن يطلق عليه مستوطن النار بعد أسبوع من أسره! أما الأمة فقد تلاشت نهائياً خلال العقود التالية، ولم يبق منها اليوم سوى حوالي ستمائة إنسان! ولكن، ألم يكن بين أبناء تلك الأمة المبادة من اقتنع بالحضارة الديمقراطية، وعمل لصالحها، وتوهمّ إمكانية قبوله فيها كشعب أو أمة؟ نعم، كان هناك من اعتقد بذلك، وتعاون مع المتحضرين على هذا الأساس، لكنهم، عند مسافة معينة ألحقوه بأنقاض ورمم وطنه وأمته!

بوش يعتبر القتيل قاتلاً!

هاهو الرئيس بوش يقف اليوم خطيباً أمام منظمة "إيباك" اليهودية، بصفته ممثل الحضارة الديمقراطية: الإغريقية /اليهودية/ الأنكلوسكسونية! إنه يعلن بملء فمه أن الصهاينة يدافعون عن أنفسهم بإبادتهم للفلسطينيين العزّل، وبنسف بيوتهم وتدمير حقولهم! والأمر يصبح مفهوماً عندماً نأخذ بالاعتبار اعتناق بوش لعقيدة القدر المتجلّي، ولسياسة حق الحرب المفتوحة، ولمسيرة الإبادة والاستيطان المرافقة لحركة دوران الشمس حول الكرة الأرضية!

إنهم يعتبرون تدمير الفلسطينيين والعراقيين، والعرب والمسلمين عموماً، مجرّد "ضرر هامشي" تستدعيه مصلحة الحضارة الرفيعة! وهاهم القادة العرب وقد وقع اثنان منهم في الأسر، ولعل غيرهما وقع أسيراً بطريقة أخرى شبه طوعية، غير أن عقيدة القدر المتجلّي وحق الحرب لن تعفيهم من القتل والاعتقال المباشر عندما تحين لحظة الانتقال إلى مرحلة متقدمة من مراحل الاحتلال والإبادة والاستيطان!

أما أولئك الخطباء والكتبة الذين استوعبوا نظرية "الأضرار الهامشية" فاعتنقوها وانحازوا إلى أصحابها ضدّ أمتهم، فقد ينتبهون من غفلتهم بعد فوات الأوان، وقد لا ينتبهون أبداً، علماً أن فوات الأوان لا يعني هذه المرة حتمية انتصار الإباديين، بل يعني إمكانية واقعية لانتصار أمتنا والأمم المظلومة جميعها.

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1