لمحة عن تجربة المؤتمر القومي العربي ؟

بقلم: نصر شمالي

دخلت فكرة تأسيس المؤتمر القومي العربي حيّز التنفيذ في النصف الثاني من عقد الثمانينات، ولعلها تردّدت في جنبات "مركز دراسات الوحدة العربية" قبل سنوات من تاريخ إعلانها، فالمركز تأسس في بيروت عام 1975 بجهود نخبة متميزة من الشخصيات القومية التي تنتمي إلى مختلف الأقطار العربية، في مقدمتهم الدكتور خير الدين حسيب مدير المركز. إن مشروع تأسيس المركز لا ينفصل عن مشروع تأسيس المؤتمر، فهو على الأقل من تداعياته الفكرية والسياسية، وإنه لمما يستدعي التأمل، والتعجّب والإعجاب، أن انطلاقة المركز تزامنت بالضبط مع نشوب الحرب الأهلية اللبنانية التي راحت تتصاعد بسرعة مخيفة، غير أن الشخصيات القومية العربية قررت أن يبقى مركز الدراسات في بيروت، ولابد أن موقف الدكتور حسيب كان حاسماً لصالح هذا القرار، وبالطبع فإن خيار بيروت كان صائباً من وجوه أساسية عديدة، ولعل أجواء الحرب الرهيبة أضفت على المركز من المعاني وفتحت له من الآفاق ما لا يمكن تحققه في مكان آخر، وقد واصل المركز برنامجه الطموح، المهيب، عبر الحرب الطويلة، فتوالت إصداراته وندواته ونشاطاته العربية بلا انقطاع، وتطور إلى صرح شامخ من صروح الثقافة والنضال، ثم كان الحاضنة الصالحة لفكرة المؤتمر القومي العربي التي ولدت وترعرعت في أجوائه وجنباته.

لقد كان من حسن حظي أنني تمكنت، منذ عام 1987، من التردّد على بيروت مدعواً للمساهمة في نشاطات فكرية واعلامية وسياسية، عامة وعلنية، فكانت تلك الندوات والمؤتمرات تنعقد في أماكن يفترض أنها آمنة نسبياً، وفي الأقبية السفلى، التي تحتوي على أجهزة الخدمة المركزية للعمارات الضخمة، عندما يتطلب الأمر المزيد من الاحتياط والحذر، وكان المجتمعون ينصرفون بكليتهم إلى الموضوع المحدّد الذي اجتمعوا من أجله، من دون أدنى إشارة إلى الأهوال المحيطة بمكان اجتماعهم! وإنها لظاهرة فريدة أن تحتفظ بيروت العظيمة بمكانتها التاريخية الحضارية، ملاذاً آمناً ومنبراً حراً وميداناً فعالاً لجميع العرب طوال خمسة عشر عاماً من الحرب الضروس!

الظروف لتاريخية، والمهام الحضارية!

في العام 1989، كنا نطل على "مركز دراسات الوحدة" لنجده في أفضل الحالات، هدوءاً وترتيباً وانضباطاً، وانهماكاً دؤوباً في الأعمال المنظمة الناجحة، تحت الإدارة الصارمة للدكتور خير الدين حسيب! وفي مبنى آخر نصعد على الأقدام في الظلام الدامس إلى الدور السابع، حيث مجلة "المنابر" إحدى ميادين نشاطات الأستاذ معن بشور المتنوعة والمتواصلة على مدار الساعة تقريباً! وقد دعينا في ذلك العام، المرحوم الفريق عفيف البزري وأنا، إلى لقاء مع الدكتور حسيب والأستاذ بشور، وانطلق الحديث منذ البداية حول تجربة الوحدة المصرية السورية بحكم دور الفريق البزري الرئيسي في تحقيقها، وسرعان ما أخذ الحوار مسالك معقدة صعب الخروج منها، وتحول إلى ما يشبه الاستعصاء! لقد حدث ذلك دون قصد من أحد، ربما بسبب الخلفيات الفكرية لكل من الحضور، وإن كانوا جميعهم غير حزبيين، وهي خلفيات ماركسية وناصرية وبعثية، وقد بدا من الصعب الانتقال إلى موضوع آخر يفترض أنه سبب اللقاء، ولعله لم يكن ثمة موضوع آخر بل مجرّد لقاء تعارف واستطلاع آراء، غير أنني قدّرت في ما بعد أن تلك الدعوة كانت لمفاتحتنا بفكرة تأسيس المؤتمر القومي العربي، لكن "الاستعصاء" الذي وقع حال دون ذلك!

على أية حال، بقيت على مقربة من أجواء التأسيس، وعندما عقد المؤتمر دورته التأسيسية الأولى، في تونس عام 1990، دعيت واعتذرت لأسباب مادية، وفي الدورة الثالثة، أو الرابعة، التي انعقدت في بيروت، كنت في عداد المشاركين، ولم تفتني بعد ذلك أية دورة!

لقد تحقق تأسيس المؤتمر في لحظة تاريخية بدت فيها الأمة كأنما هي موشكة على الانهيار والتسليم، تحت ضغط الحروب الداخلية والخارجية وفي مواجهة الإملاءات الأميركية الصهيونية. وللوهلة الأولى بدا انعقاد الدورة التأسيسية خطوة شجاعة، إنما ضدّ مسار التاريخ إقليمياً ودولياً. لقد جوبه المؤتمر بالتشكيك في جدواه، وبالانتقادات المتهكمة لطروحاته البالية التي أكل الدهر عليها وشرب، والتي هي مجرّد أحلام وأوهام تصدر عن عجائز أشبه بديناصورات متحجرة! غير أن الأحداث فيما بعد برهنت بصورة قاطعة أن الخطوة وما تلاها كانت متفقة مع مسار التاريخ وليست عكسه، فالعالم عموماً كان، وما يزال، يعيش مرحلة انتقالية مؤقتة ومضطربة، حيث آن أوان التخلص من العلاقات الدولية البالية والظالمة، وهو يجتاز تلك المسافة القاحلة التي تفصل بين عصرين، بينما شاع الوهم أنه يعيش مرحلة مستقرة ينبغي على الجميع التسليم لها والتكيف معها!

لقد تضمن المشروع الحضاري الذي أخذه المؤتمر على عاتقه أهدافاً ستة هي: 1- الوحدة العربية 2- الديمقراطية 3- التنمية المستقلة 4- العدالة 5- التفاعل بين الوحدويين العرب في إطار من التنوع والتكامل 6- تعبئة الطاقات الشعبية من أجل تحقيق ذلك! وهذه الأهداف تغدو مجرّد لغو لا قيمة له في حال أخذنا على محمل الجدّ حكاية العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة، وحكاية العولمة التي سوف تحقق تنمية دولية متكافئة وعادلة وشاملة، واقتنعنا أن العالم يعيش مرحلة طبيعية مستقرة متفقة مع مسار التاريخ، لكن هذه الأهداف تغدو غاية في الأهمية إذا ما اقتنعنا بالعكس، بأن العالم يجتاز مرحلة استثنائية مؤقتة غير طبيعية وغير مستقرة، حيث محاولة تنفيذ كل هدف منها سوف تكون في مستوى إعلان الحرب ضد طغاة العالم، أي أنها هي المتفقة مع مسار التاريخ الذي يحاول الطغاة إعاقته بالقوة الباغية الصماء!

من جهة أخرى، على الصعيد الإقليمي العربي، ساد الاعتقاد بأن الأمة عاجزة عن القيام بأية مبادرة إيجابية فعالة، بل عاجزة عن مجرّد تأكيد ذاتها والدفاع عن وجودها، فجاء تأسيس المؤتمر ليبرهن عن العكس، مع الانتباه إلى أن قيمة أي إنجاز تقدّر قياساً بما هو سائد. وعندما أعلن المؤتمر أن الصفة القومية لا تقتصر على حركات سياسية محدّدة تحمل راية القومية، بل تشمل جميع أبناء الأمة من وطنيين ويساريين وقوميين وإسلاميين، سارعت جميع الاتجاهات لتلبية الدعوة معبّرة باستجابتها السريعة عن الحاجة الموضوعية لتطوير المفاهيم والعلاقات وأساليب النضال، خلافاً للوهم السائد بحتمية التسليم لإملاءات الأعداء، بل سرعان ما اتفق الأعضاء من مختلف الاتجاهات والأقطار على ضرورة تطوير المؤتمر إلى مرجعية قومية.

ليس حزباً، ولا يتطلع إلى الحكم!

ليست فكرة المؤتمر القومي العربي بالجديدة، فهي طرحت منذ بدايات لقرن العشرين، وتبناها حكام عرب منهم الملك فيصل الأول الذي سعى إلى عقد مؤتمر قومي عربي في بغداد، وفي ما بعد اعتمدتها أحزاب عديدة حاكمة وغير حاكمة، إنما الجديد هو المراجعة النقدية، والظروف التاريخية المستجدة، ووعي ضرورة إعادة النظر بالمضامين والعلاقات والتشكيلات ووسائل العمل، فقد غصت الساحات بقوى قومية استهلكتها الصراعات في ما بينها ومن أجل السلطة، والصراعات المريرة الأخرى مع غيرها من القوى التي اعتبرت غير قومية، فكان جرحاً مفتوحاً ظل ينزف على مدى أكثر من نصف قرن. وما كانت الدعوة الجديدة لتأسيس مؤتمر قومي عربي لتلقى الاستجابة لولا أن الظروف الموضوعية صارت تستدعي العمل على معالجة الجراح وإيقاف النزيف، ولولا أن جميع الأطراف صارت مقتنعة بذلك، وهكذا فقد أعلن المؤتمر منذ البداية أنه ليس حزباً، ولا يجوز أن يتحوّل إلى حزب، وأنه ليس بديلاً عن الأحزاب، فالمهام القومية الحضارية، متمثلة بأهدافه الستة، توجب عليه أن ينشط على صعيد الأمة جمعاء بوضعها الراهن، مستقلاً عن الأنظمة الرسمية من دون أن يقطع معها مسبقاً، وغير متطلع إلى الحكم من دون أن ينكر مثل هذا التطلع على الأحزاب التي يتميز عنها وعن نشاطاتها اليومية الميدانية، ومن دون أن يحول ذلك دون انخراط الحزبيين في صفوفه، إنما بصفاتهم الشخصية وليس الحزبية. وبالفعل، عندما توكل إلى أحد أعضاء المؤتمر مسؤولية حكومية سياسية في بلده فإن عضويته تعلّق إلى أن تنتهي تلك المسؤولية.

أبرز إنجازات المؤتمر القومي

على مدى خمسة عشر عاماً واظب المؤتمر على عقد جلسة عامة واحدة كل عام في إحدى العواصم العربية، ما عدا دورة واحدة تعذّر انعقادها لأسباب تتعلق بالمكان. وقد تناوب على مركز الأمين العام أربعة أمناء بالانتخاب، وتبدّلت الأمانة العامة بالانتخاب أربع مرات، وسادت دوراته عموماً روح الإحساس بالمسؤولية، والعلنية مع اللياقة، والنظام مع التكافؤ والتفاعل الحر، فكان ذلك كله، وفي حد ذاته، إنجازاً كبيراً في الحياة العربية. وقد حرص المؤتمر أن يضمن سلفاً عدم تدخل العاصمة التي تقبل استضافته في شؤونه وأعماله. وحدث أكثر من مرة أن استضافته إحدى الحكومات أو الهيئات العامة متحملة نفقاته، أما الذي يحدث غالباً فهو أن الأعضاء الذين يتوافدون بالمئات من جميع الأقطار يتحملون نفقات سفرهم وإقامتهم. وهكذا ساعدت الاشتراكات والتبرعات مؤسسات المؤتمر، الأمانة العامة واللجنة التنفيذية، على تأمين النفقات الضرورية عبر السنة، وإن بصعوبة شديدة. ويحدث كثيراً أن يفتح باب التبرّع خلال الجلسات العامة (غير الاشتراكات) ويتحقق ما يسدّ العجز الآني المتكرر كل عام!

أما الإنجازات الكبيرة، العظيمة الأهمية، التي حققها المؤتمر عبر مسيرته، فيأتي في مقدمتها إنجازان: التأسيس لملتقى الشباب العربي، والتأسيس للمؤتمر القومي الإسلامي. وقد تحقق الأول منذ عام 1990، وساهم فيه على مدى خمسة عشر عاماً آلاف الشباب الذين تراوحت أعمارهم ما بين 17-23 عاماً، فهم يقيمون مخيمهم الشبابي مرة واحدة كل عام في أحد الأقطار العربية، ولمدة أسبوعين زاخرين بالنشاطات الاطلاعية والثقافية والتربوية، بإشراف مجلس أمناء أعضاؤه من جميع الأقطار العربية. وهو مثل المؤتمر القومي، غالباً ما يستضاف من قبل هيئات عامة، وكثيراً ما يتحمل المشاركون الشباب نفقات سفرهم على الأقل. وغني عن الشرح معنى أن يلتقي الشباب لقاء حراً مستقلاً، بإشراف هيئة حرة مستقلة، هاجسها المصلحة القومية العليا، وغني عن البيان ما يترتب على مثل هذه اللقاءات الشبابية من ترميم لأواصر القربى التي فتك بها الأعداء، ومن تحقيق صلات لا تنفصم عراها بين شباب الأمة الواحدة. أما المؤتمر القومي- الإسلامي فقد تأسس قبل عشرة أعوام، وهو يعقد اجتماعاته في إحدى العواصم العربية مرة كل عامين، وقد قطع شوطاً بعيداً على طريق تحقيق التفاعل الإيجابي بين التيارين العريضين، القومي والإسلامي، بحيث توحّدت في جلساته الكثير من المفردات والمصطلحات، وباتت صعبة ملاحظة فروق تستحق الذكر بين قومي وإسلامي خلال المناقشات، وهو مثله مثل المؤتمر القومي العربي يضم مختلف التيارات السياسية بلا استثناء، وبالطبع فإن عضويته ليست وقفاً على المسلمين وحدهم، وفي "لجنة المتابعة" التي تقوم مقام الأمانة العامة يوجد رجل دين مسيحي منتخب، لكن المؤتمر القومي- الإسلامي ما زال يتطلع إلى مزيد من التفاعل الإيجابي داخل التيارات الإسلامية وبينها وبين التيارات القومية، بحيث يبلغ أقصى غاياته لما فيه مصلحة الأمة جمعاء، وبحيث ينعكس ذلك مزيداً من الإيجابية في ميادين المقاومة، وقد انبثقت عن المؤتمر القومي- الإسلامي "مؤسسة القدس" التي أعطاها لبنان ترخيصاً قانونياً، فصارت بيروت مقرّ الإقامة المؤقتة لإدارتها ريثما تتحرر القدس.

ما تعثّر المؤتمر في تحقيقه !

غير أن المؤتمر القومي العربي توقف تقريباً عند هذا الحدّ، بحيث بدا الاجتماع السنوي كأنما هو أبرز وأهم نشاطاته، بينما المقدّر لهذا الاجتماع أن يكون وسيلة لارتقائه إلى سوّية المرجعية القومية. فقد حدث أن الدورات السنوية تحوّلت بصورة غير مباشرة إلى ما يشبه ملتقى أحزاب، فانعكس ذلك على المؤتمر بسلبياته وإيجابياته، بل راح البعض يلحوّن على أن يتحوّل المؤتمر إلى ما يشبه الحزب، وذلك بمطالبته اتخاذ مواقف واتباع أساليب عمل هي من اختصاص الأحزاب، علماً أن المرجعية المنشودة لا تستثني الحزبيين من عضويتها، ولا تشترط تخليهم عن مواقعهم الحزبية، لكنها تشترط أن يساهموا فيها بصفاتهم الشخصية وليس الحزبية!

لقد حدث ذلك نتيجة التباس معادلة الانتساب إلى المؤتمر، وهي المعادلة التي توفق بين الصفة الشخصية والصفة الحزبية، وتميّز في الوقت نفسه بين وظائفهما الميدانية ووظائفهما التاريخية، فالمرجعية يجب أن تكون تاريخية وشاملة، وتستند في الوقت نفسه إلى الميداني اليومي، كي لا تكون معلقة في الفراغ، وقد أدى الالتباس إلى اضطراب معنى المعادلة، فصار الخطاب الغالب حزبياً، وكذلك النشاطات في الأروقة، خاصة في الانتخابات، وهما ظاهرتان برزتا بوضوح في دورة صنعاء عام 2003، غير أنهما غابتا إلى حد كبير جداً في دورة بيروت للعام الحالي 2004!

من جهة أخرى، تميز الخطاب في المؤتمر، عموماً وليس كلياً، بعدم إيلاء الوضع التاريخي للأمة والعالم ما يستحقه من اهتمام رئيسي، حيث ضرورة المؤتمر ووظيفته تستدعيان تعرية هذا العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي الربوي، وتحديد موقع الأمة فيه ومنه، في الماضي والحاضر والمستقبل، بكل ما يترتب على ذلك من ارتقاء إلى مستوى المرجعية القومية، غير أن سيل الخطابات السياسية ذات الطابع الآني ظل يحول دون تحقيق هذا الارتقاء، بل إن طابع الخطاب السياسي الآني طغى على "تقرير حال الأمة" الذي تعدّه مجموعة من المتخصصين، ويوزع متضمناً أحداث العام الماضي. ومع أن هذا التقرير غير ملزم، ويعدّ ويوزع للاستئناس، إلا أنه طبع بطابعه المناقشات والبيانات الختامية عن أعمال المؤتمر!

والحال أن مهمة المؤتمر لا تقتصر على استعراض حال الأمة خلال عام مضى، بل الأهم والأساسي هو تناول حالها التاريخي، أي إعادة اكتشاف موقعها ودورها عبر العصور وفي العصر الحالي وفي المستقبل. إنها مهمة معرفية إبداعية تاريخية، قوامها المراجعة والتدقيق والتصحيح، بعقولنا ومعاييرنا أولاً وليس بعقول ومعايير الأجانب فقط، وإلا فكيف يمكن للمؤتمر أن يتطور إلى مرجعية قومية؟

أخيراً، فقد غطى المؤتمر القومي العربي فراغاً كبيراً على الساحة العربية، ولعله ما زال يتقدم وإن ببطء نحو تحقيق أهدافه، ولعل بالإمكان تجاوز هذا البطء بردم الهوة التي ما زالت تفصل بين خطابه وأدائه وبين تطلعاته وأهدافه التي نصت عليها وثائقه التأسيسية.

www.snurl.com/375h

 

Hosted by www.Geocities.ws

1