ليس صراع حضارات، بل صراع سياسات!

بقلم: نصر شمالي

إضافة إلى الحملات العسكرية، تتواصل الحملات العنصرية ضدّ الأمة العربية، خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة ، حتى أنها انحدرت في الأيام الماضية إلى مستوى الشتائم والبذاءات! فثقافة العرب – كما يرددون _ لم تقدّم شيئاً للإنسانية، ووضعهم الحالي خطر على الحضارة، وهم لم يكونوا في أي زمن سوى مجرّد بدو و قبائل من الإبل، وإذا كان لهم من فضل فهو في ما حملوه وليس في ما أبدعوه، أما تاريخهم فليس سوى سلسلة فظيعة من الصراعات والخيانات والمذابح، وأما هواجسهم فهي مجرّد الغلمان والقيان.. الخ! وإنه لمن المؤسف أن التأكيد على الحقائق التاريخية العظمى أصبح أمراً تستدعيه أحوال الأمة العربية وليس حملات خصومها، لأن كثيرين من أبناء الأمة يساهمون، وإن بطرق أخرى، في دعم حملات الأعداء ضدها، لتجد نفسها بين نارين، أخطرهما بالطبع هي النار الداخلية!

يرون القشة، ولا يرون الخشبة!

بالطبع، ليس العرب بدواً، لكن البدو عرب. والمجتمعات العربية ليست بدوية، لكن البداوة جزء من المجتمعات العربية. والرعي ليس مهنة العرب في أي عصر، لكنها واحدة من مهن العرب مثلما هي واحدة من مهن جميع الأمم القديمة والحديثة. والخيام ليست مساكن العرب، لكنها الشكل الأمثل، العملي والضروري، لمهنة الرعي تحديداً. وقبل الإسلام لم تكن مكة موطناً للبدو، بل للحضر بالدرجة الأولى، وهي لم تمتهن الرعي حصراً كمهنة رئيسة، بل امتهنت أعقد الوظائف، من الإنتاج الحرفي إلى الصيرفة إلى التجارة الداخلية والخارجية، إضافة إلى الزراعة. ثم إن الجزيرة العربية لم تكن في أي من الأزمنة مجرّد مراعي، بل هي كانت دائماً تتشكل من المدن والمراعي. والأهم أن الجزيرة، منذ ما قبل الإسلام وحتى يومنا هذا، لم تكن وحدها بلاد العرب، بل جزءاً من بلاد العرب، وأهلها ليسوا جميع العرب بل جزءاً منهم. والدعوة الإسلامية لم تكن قضية عرب مكة أو المدينة أو الجزيرة وحدهم، بل تخص جميع العرب، من الخليج إلى المحيط، من أسلم منهم ومن لم يسلم، حيث إرهاصات الدعوة ومقدماتها لم تقتصر على الجزيرة وحدها، بل ظهرت في مصر والشام والعراق، في حينها وقبل قرون وقرون من انطلاقتها، لأن عمقها يعود إلى إخناتون وإبراهيم وحمورابي وموسى والمسيح.

أما عن التاريخ العربي (الحافل بالصراعات والمذابح والخيانات!) فلا نقول سوى أن تاريخ العصر الأوروبي الأميركي حافل بدوره، أكثر بما لا يقاس، بمثل هذه الأحداث، وأن تاريخ السلطات السياسية لجميع الأمم بلا استثناء حافل بمثلها. غير أن أخبار مثل هذه الأحداث شيء، وأخبار النظام الإجمالي شيء آخر كما يفترض أن يكون مفهوماً!

إن الصراعات العربية الرهيبة، والمفجعة للكثيرين، التي كانت تنشب في الأوساط السياسية السلطوية، لم تؤثر أدنى تأثير على المسار الإجمالي للنظام الإجمالي، الذي واصل تناميه وازدهاره واتساعه، فتلك الصراعات شيء وذلك المسار شيئاً آخر، ولهذه مقامها وبحثها، ولذاك مقامه وبحثه الآخر، فهما قضيتان مستقلتان عن بعضهما. وإن الصراعات الأوروبية والأميركية الداخلية الأشدّ رهبة، حيث عشرات الملايين من الضحايا الأوروبيين والأميركيين، لم تؤثر بدورها أدنى تأثير على المسار الإجمالي، وعلى الحضارة الأوروبية الأميركية التي واصلت تناميها وازدهارها واتساعها، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وهذه قضية وتلك قضية أخرى.

لقد أدت تلك الصراعات إلى انتقالات انقلابية ذات صلة قوية بطبيعة التطور، فكان الانتقال الانقلابي من العهد الراشدي إلى العهد الأموي،  من المدينة إلى دمشق، بكل ما رافقه من صراعات وضحايا، لكن ذلك يعادل الانتقال الانقلابي الأوروبي من العهد اللاتيني الأسباني الكاثوليكي إلى العهد الأنكلوسكسوني البروتستانتي بكل ما رافقه من صراعات وضحايا، فلماذا نرى تلك ولا نرى هذه؟

غير أن الحملات الضارية ضدّ الأمة العربية، من خارجها ومن داخلها، لا تقتصر على استهجان الصراعات السياسية والعسكرية،بل تتناول أيضاً حكاية القيان والغلمان! ومن دون أن نوضح مغزى وظروف هذه الحكاية نقول أن مجتمعات بأكملها، في العصر الأوروبي الأميركي، تحوّلت ليس إلى قيان بل إلى عاهرات! إن ثمانين ألف عاهرة كانت موضوعة رسمياً في خدمة القوات الأميركية التي احتلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية! وهي العواصم العالمية القيادية، وفي مقدمتها لندن وواشنطن، تشرّع الحق في تعاطي اللواط، بل الحق في الزواج المثلي، فلماذا نرى القشة ولا نرى الخشبة، ولماذا ننظر إلى الأولى باحتقار وإلى الثانية بإعجاب!

السموّ الاقتصادي مقروناً بالأخلاقي!

إن العنصريين المتعصبين في الغرب، وكذلك ضيّقي الأفق من العرب، يشيرون اليوم إلى مآثر العرب، في حال إقرارهم ببعضها، إشارات مقتضبة، مبهمة، مفعمة بالاستخفاف والاحتقار، فيتظاهرون بالدهشة أثناء حديثهم عن تلك "الزوبعة" الغامضة، التي انطلقت "فجأة" من الجزيرة العربية بصورة "مباغتة" فاجتاحت العالم، ثم يهزّون رؤوسهم هزة الحكماء للتدليل على أنهم لا يفهمون كيف حدث ذلك، ولا يملكون تفسيراً له بعد!

غير أن المؤرخين المراجعين، المتمردين على صياغات المركزية الأوروبية للتاريخ، يتحدثون بطريقة أخرى، فيقول روجيه غارودي:"خلق الفتح العربي الشروط الاقتصادية و الاجتماعية للحضارة الجديدة، وذلك بإزالته فوضى الإقطاع وتدرجاته الطفيلية. إن العامل الحاسم في النصر هو أن الفاتح العربي كان يجلب معه إلى عالم عبودي منحل للغاية، أو عالم إقطاعي متحجر ومقطع الأوصال، أشكالاً راقية من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي تلتزم بها الجماهير العريضة، لأنها تتفق مع احتياجاتها. لقد أطاح الفتح العربي بالبنى الاجتماعية المستندة إلى العبودية، والمتسمة بالجمود والعقم، التي فرضتها السلطات البيزنطية"! أما جان بيرين فيقول:"حقق الفتح العربي انتعاشاً حقيقياً للاقتصاد العالمي، وأضاف إلى سموّ العلاقات الاقتصادية والاجتماعية سموّاً أخلاقياً يرتكز إلى السماحة، ولهذا ارتأى انجلز أن المفكرين العرب هم السلف البعيد للموسوعيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وفي كتابه (ديالكتيك) قال انجلز: إن لدى الشعوب الرومانية فكراً متحرراً، صافياً، مأخوذاً عن العرب، ومطعماً بالفلسفة اليونانية التي اكتشفت مؤخراً!

العقيدة السياسية العربية حاجة إنسانية عامة!

لقد حمل النظام العربي الإسلامي، منذ انطلاقته الأولى، ملامحه العالمية بوصفه نظاماً اقتصادياً وأخلاقياً. وإنها لمسألة بالغة الدلالة تلك التي تتجلى في وجود كل من صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي إلى جانب الرسول العربي الكريم منذ البدايات الأولى للدعوة، فقد تمثلت بأولئك الرجال أمم ثلاث كانت تشكل في ذلك الزمن النظام السائد في جملة منطقة حوض المتوسط على الأقل.

وفي كتابه "اليمين واليسار في الإسلام" يقول أحمد عباس صالح :"لم يكن من المعقول بداهة أن مجموعة من القبائل البدوية تتحول فجأة إلى أعظم امبراطورية في عصرها، فتقوض الامبراطورية الفارسية، وتوشك أن تقضي على الامبراطورية الرومانية قضاء نهائياً، ولا يقتصر الأمر على القوة العسكرية بل يتخطاها إلى القيادة الفكرية والعلمية للعالم كله، حيث تظهر حضارة جديدة ترسل إشعاعاتها في كل مكان وفي كل القارات. إن حدثاً خطيراً كهذا لا يمكن أن يقع من دون مقدمات ومن دون كفاءات واستعداد".

أما الرئيس الهندي الراحل جواهر لال نهرو فيقول :"إن الديانة التي بشّر بها محمد، وبساطتها واستقامتها، والديمقراطية والمساواة اللتين أعلنتهما هذه الديانة، كل ذلك حظي بصدى واسع لدى شعوب البلدان المجاورة التي عانت لأمد طويل من نير الحكام والملوك الطغاة، ومن نير الكهان والقساوسة الذين لم يكونوا أقل طغياناً وتعسفاً من الملوك. لقد تعبت الشعوب من النظام القديم ونضجت لتقبّل الجديد، وقدّم لها الإسلام هذا الجديد الذي كان مرغوباً، لأنه حمل إليها الأفضل من نواح عديدة، ووضع حدّاً للكثير من الشرور الناجمة عن النظام القديم".

الأمة تناضل لاسترداد شرطها السياسي !

ليست الحضارة سوى العمران حسب تعريف ابن خلدون، وهي عمل يتبع السياسة ولا تتبعه السياسة، أي أن العقيدة السياسية تسبق العملية الحضارية، أو العمرانية، وليس العكس. ويمكن للعقيدة السياسية أن تنتج حضارة رائعة، ساحرة وخالدة، سواء نهضت الحضارة  لانتفاع وسعادة طبقة اجتماعية محدّدة أو شعب محدّد، أم نهضت لانتفاع وسعادة المجتمع كله والإنسانية جمعاء، فالعملية الحضارية قيم مادية بالدرجة الأولى، والناس لا يختلفون حول عظمتها وروعتها، سواء أكانت متحركة كسفن الفضاء أو ثابتة كأبراج نيويورك، وسواء أكانت منتجة أم مظهرية، أما العقيدة السياسية فهي قيم أخلاقية، تلخص رؤية أصحابها للحياة في معناها وجدواها ومآلها، والناس يختلفون حولها دائماً، وسوف يستمر خلافهم ما استمرت الحياة. إنهم لا يختلفون حول الإنجازات الحضارية المادية، بل حول وظائفها: سلبية احتكارية، أم إيجابية عامة؟ وهو خلاف سياسي، لأن العقيدة السياسية هي التي تقرّر وظائف العملية الحضارية ووظائف منجزاتها: في خدمة الجميع، أم في خدمة البعض على حساب شقاء الجميع؟

غير أن الاحتكاريين المرابين المتعالين على بني البشر يصرّون على اقتران العملية الحضارية بالخصائص العرقية، فالتخلف أو التقدم الحضاري مقترن بالعرق حسبما يزعمون، بينما هو مقترن بالتخلف أو التقدم السياسي، فتجدهم في حملتهم الظالمة ضد الأمة العربية  يؤكدون على العجز الحضاري وليس على التخلف السياسي!

والحال أن التخلف السياسي يمكن أن يكون قسرياً، مفتعلاً ومفروضاً بالقوة الباغية، كما هو وضع العرب اليوم، ويمكن أن يكون تاريخياً، مرتبطاً بالسوية المتدنية للتطور الذي بلغته جماعة إنسانية ما، مثلما كان حال الأقوام القديمة في شرق وشمال وغرب أوروبا إلى ما قبل حوالي ألف عام. ففي ذلك التاريخ كان ما يحول بين تلك الأقوام وبين الإنتاج الحضاري هو افتقادها أصلاً للشرط السياسي اللازم، بسبب درجة التطور التي بلغتها، والتي كانت من البدائية والسذاجة إلى الحدّ الذي لا يكفي بعد لامتلاك الشرط السياسي. وبالفعل، فقد حاول الرومان، ثم العرب، توفير هذا الشرط لهم فلم يتقبلوه لأنهم لم يكونوا قادرين على ذلك، وقد اكتفى الفتح العربي بالتوقف عند حدود بواتييه كما هو معروف، حيث التقدم إلى ما بعدها كان جهداً ضائعاً لا طائل من ورائه.

أما العرب، فقد كانوا يمتلكون الشرط السياسي في أعلى مستوياته منذ ما قبل آلاف السنين، منذ بابل وطيبة وسبأ وغيرها، وهم جرّدوا منه قسراً على مدى القرون الخمسة الماضية في العصر الأوروبي الأميركي هذا، واليوم هم يناضلون من أجل استرداد ما سلب منهم، وعندما يستردون شرطهم السياسي المسلوب، أي حريتهم واستقلالهم، فإن إسهامهم في العملية الحضارية سوف ينطلق على الفور، وسوف تظهر نتائجه خلال سنوات قليلة وليس عقود طويلة!

www.snurl.com/375h

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1