الجامعة العربية في محنتها الراهنة !

بقلم: نصر شمالي

في لحظة تاريخية حرجة أسفر فيها الإباديون الصهاينة تماماً عن وجوههم، وفي موعد دوري محدّد لاجتماعها، فشلت الجامعة العربية في تأكيد وجودها بصورة لائقة ولو شكلياً، وبدا انكفاؤها واضمحلالها بوضوح في المشهد التونسي، الأمر الذي أحزن الرأي العام العربي، وأصاب مشاعره في الصميم، مع أنه لم يكن يتوقع من اجتماعها الكثير، ولم يعد يرجو أكثر من بقائها رمزاً يشير إلى حقيقته القومية، ويعبّر عن تضامنه ولا نقول وحدته!

لكن الجامعة العربية لا تعاني وحدها من الانكفاء والانحدار والاضمحلال، بل المنظمات والهيئات الدولية عموماً، وفي مقدمتها المنظمة المركزية الأم: الهيئة العامة للأمم المتحدة! لقد انهارت الضرورات التي استدعت إنشاء الهيئة الدولية المركزية والهيئات الإقليمية الموازية لها والدائرة في فلكها، وهكذا فإن محنة جامعة الدول العربية لا تقتصر على عجزها عن تلبية احتياجات الأمة، والانسجام مع توجهاتها التاريخية المفهومة والمشروعة، بل تعود بالدرجة الأولى إلى انهيار الضرورات التي استدعت إنشاءها، بعد أن تحوّل العالم من وضع يفترض أن تحكمه علاقات قانونية، ديمقراطية، تجسّدها (ولو شكلياً في معظم الأحيان) هيئاته الدولية، إلى وضع تحكمه مباشرة ديكتاتورية دولية، باغية، لم تعد تخفي ضيقها وتبرّمها من الهيئات الدولية، وصارت توجه إليها طوال الوقت أشدّ الإهانات وأقسى الضربات!

ظروف تأسيس جامعة الدول العربية ؟

كانت الولايات المتحدة الأميركية هي المنتصر الأول والأعظم في الحرب العالمية الثانية، وقد انطلقت على الفور تنظم معسكر أصدقائها ومعسكر أعدائها بما يتفق مع مصالحها وعقيدتها الاستعمارية التي تتناقض مع أسلوب الاستعمار العسكري المباشر، فجاء تأسيس هيئة الأمم، ثم الهيئات الإقليمية الموازية لها، باعتباره الصيغة البديلة للاستعمار المباشر، والكفيلة بملء الفراغ في مناطق النفوذ التي لابد من أن تغادرها قوات الاحتلال. إن حكومات الأمم في ظل الإدارة الأميركية الجديدة سوف تتكفل بحفظ الأمن لصالح الاحتكارات الربوية من خلال عضويتها في الهيئات الدولية، الأمر الذي جعل عواصم الاستعمار القديم تسارع محاولة التكيف مع الصيغة الاستعمارية الأميركية الحديثة، فكانت منظمة الكومنولث البريطاني، والمنظمة الفرانكوفونية الفرنسية، وكانت أيضاً جامعة الدول العربية التي حاولت لندن بواسطتها إيقاف تقهقرها أمام التقدم الأميركي في المنطقة العربية، والاحتفاظ عبرها بما أمكن من نفوذها ومصالحها!

لقد رأت الإدارة البريطانية توظيف نضال العرب الوحدوي لصالحها، مستفيدة من وجودها في كل من مصر وفلسطين والأردن والعراق، فأعلن أنطوني إيدن وزير الخارجية، في أيار /مايو 1941، مايلي: يسعى العديد من المفكرين العرب إلى تحقيق درجة أكبر من الوحدة بين الشعوب العربية عما هو متحقق حتى الآن، وهم في تطلعهم إلى الوحدة يأملون الحصول على دعمنا، ويصعب أن لا نستجيب لمطلب أصدقائنا، ويبدو أنه من الطبيعي والصحيح العمل على تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية، فضلاً عن الروابط السياسية، وإن حكومة جلالته سوف تقدّم من جانبها كلّ تعضيد لأي مشروع من هذا القبيل يلقى تأييد الرأي العام العربي!

حينئذ فهم بعض القادة العرب أن تصريح إيدن يطلق يدهم لتحقيق الوحدة حسب أهداف الثورة العربية الكبرى، ولو في بلاد الشام على الأقل، غير أن الحكومات العربية في دويلات سايكس/ بيكو كانت متناقضة ومتعارضة، بسبب مصالحها الخاصة وبسبب توجيهات العواصم الاستعمارية، فلم تتفق على تحقيق مثل هذه الوحدة، ناهيكم عن الفهم الخاطىء للتصريح الإنكليزي الذي كان، في الحقيقة، يهدف إلى تكريس التجزئة تحت عنوان الوحدة، وبالفعل سرعان ما كشفت المواقف الإنكليزية التالية ذلك!

الوحدة العربية هي الجامعة العربية!

بعد سنتين ونصف تقريباً من الصراعات الحكومية الوحدوية، العلنية والسرية، بين دويلات سايكس/بيكو، وفي 7/11/1943 تحديداً، حسم أنطوني إيدن الموقف حين أجاب على سؤال أحد أعضاء مجلس العموم بمايلي: لعلمكم الخاص، زار رئيس وزراء العراق القاهرة ليبحث مع رئيس الوزراء المصري تنشيط روح التعاون العام بين الأقطار العربية، وخلال الاجتماع بين الرجلين وافق النحاس على الدخول في محادثات مع حكومات الدول العربية الأخرى بهدف اكتشاف ما بينها من أسباب اتفاق، وإذا تمخّض عن هذه المحادثات قدر كاف من الاتفاق فالمقترح عقد مؤتمر في القاهرة تحضره كل الدول العربية المعنية للتوصل إلى اتفاق عام!

بهذا التصريح دخلت فكرة إنشاء الجامعة العربية حيّز التنفيذ، فقد أراد الإنكليز لنا ويا للعجب "وحدة" تشمل الجميع ولا تقتصر على بلاد الشام فقط! غير أن الفكرة الإنكليزية كانت في حقيقتها، بالطبع، قطعاً للطريق على تحقيق وحدة حقيقية! وبعد اتصالات معقدة ومحادثات مريرة بين الحكومات العربية، كانت لندن وغيرها دائماً على مقربة منها إن لم تكن فيها، أعدّ مشروع ميثاق الجامعة، في 14/5/1945، وجرى التوقيع عليه في احتفال كبير أقيم في 22/3/1945، وقد حدث ذلك في وقت تحقق فيه اقتسام العالم من جديد بين الحلفاء المنتصرين، عبر مؤتمرات نهاية الحرب: مؤتمر الدار البيضاء 19/1/1943، ومؤتمر موسكو 19/10/1943، ومؤتمر طهران 27/11/1943، ومؤتمر يالطا 4/11/1945، وقد شمل التقاسم، بالطبع، الدول العربية وجامعتها!

بين الأمر الواقع والأهداف المشروعة!

لقد تضمن ميثاق جامعة الدول العربية المبادىء التي تنص على ما يلي: الاعتراف بسيادة واستقلال كل من الدول الأعضاء بحدودها القائمة! الاعتراف بالمساواة التامة بين الدول الأعضاء كبيرها وصغيرها! الاعتراف لكل دولة بحق إبرام المعاهدات والاتفاقات مع غيرها! ليس هناك إلزام لانتهاج سياسة خارجية موحّدة! عدم اللجوء إلى القوة لفض النزاعات والخلافات، ويقوم مجلس الجامعة بالوساطة بين الدول الأعضاء بناءّ على طلبها.. وهكذا، الخ!

والحال أن ما تحقق هو تشكيل هيئة عربية إقليمية من طراز هيئة الأمم المتحدة وتدور في فلكها، إنما من دون مجلس أمن عربي! لقد كانت صيغة تقول وتفعل كل شيء من جهة ولا تقول ولا تفعل أي شيء من جهة آخرى! كانت فصيحة وفعالة لجهة ملء الفراغ وتحقيق الأمن بما يتفق مع السياسات الدولية! وهي نهضت بصورتها كأمر واقع يمكن تفهمه في حينه وفي ظروفه، ولكن لا يجوز التسليم به إلى الأبد، وبالفعل بدأت محاولات الخروج من الشرنقة (الوحدوية/الانفصالية!) بعد سنوات قليلة، أي منذ ثورة تموز/ يوليو المصرية عام 1952، فظهرت في هذا القطر أو ذاك محاولات متنوعة، شجاعة، بعضها في إطار الجامعة وهي أضعفها، وبعضها أعطى المثل والقدوة عن ضرورة وإمكانية كسر القيود وتجاوز الحدود المفروضة انطلاقاً من قطر واحد وبعضها الآخر توجه لتحقيق الوحدة الجدّية الحقيقية بين قطرين أو أكثر، وهو ما بدأته سورية ومصر منذ عام 1955، وتوّج بوحدة عام 1958، غير أن تلك المحاولات جميعها تعرضت للمؤامرات الشرسة الدولية والعربية، وتمت محاصرتها بإحكام وبقسوة ومن ثم إحباطها بلؤم، بعد أن استغلّت أخطاء قياداتها وضخّمت من قبل أجهزة الدعاية والحرب النفسية الدولية والمحلية، لتطغى الثانويات السطحية على قضايا الأمة المصيرية!

المنطقة حبلى بصيغة علاقات جديدة!

على مدى ستين عاماً تقريباً، وإلى ما قبل سنوات قليلة، بقيت الجامعة العربية في منأى عن التقويض، بل مرعية بفضل تجسيدها للنظام الرسمي العربي المرغوب دولياً والمتناقض مع مصالح الأمة، وأيضاً لأنها جزء من النظام الرسمي الدولي، غير أن الإنقلاب الذي قامت به إدارة الدولة الأميركية (الديمقراطية!) واحتلالها موقع الديكتاتورية العالمية المستبدّة بصورة سافرة، وعودنها إلى أسلوب الاحتلال الاستعماري العسكري القديم، عرّض الجامعة العربية للتقويض مثلها مثل الهيئات المماثلة والهيئة الأم، وفضح ضعفها وهوانها، وكشف سرّ ديمومتها الطويلة واستقرارها الرصين!

لقد أصبحت الجامعة العربية عاجزة عن أداء وظائفها الضرورية في ملء الفراغ وحفظ الأمن لصالح النظام العالمي، وهاهم الأنكلوسكسون ينزلون بجيوشهم إلى الميدان العراقي، والإسرائيليون يذهبون إلى أقصى مدى في حربهم الإبادية ضدّ الشعب الفلسطيني، أي أن المواجهة غدت عسكرية مباشرة بين الأمة وأعدائها، فأية صيغة جديدة للعلاقات سوف تنتجها هذه المواجهة التاريخية الهائلة؟ هل تنتج جامعة دول الشرق الأوسط الأكبر الأميركية، أم جامعة الأمة العربية والإسلامية؟!

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1