أوهام النخب، وحقائق الحياة !

بقلم: نصر شمالي

انهمرت دموع الكثيرين وهم يتابعون في إحدى صالات دمشق وقائع تعذيب السيد المسيح عبر رواية سينمائية عن تلك الآلام المروّعة، المخلّدة، تعرض اليوم في معظم بلدان العالم، وتهزّ بقوة أعمق مشاعر الناس. وفي الوقت نفسه يدور جدل في بعض العواصم العالمية حول ما إذا كانت الرواية معادية للسامية (أي لليهود حصراً) أم لا، وحول ما إذا كانت مخالفة لتبرئة اليهود الحديثة من جريمة سفك الدم المقدس أم لا، وإنه لجدل غاية في الغرابة والوقاحة، حيث الأصح لو تناولت الرواية استمرار تعذيب وآلام أبناء السيد المسيح، وخاصة في فلسطين التي ظهر فيها، فهم يصلبون طوال الوقت على أيدي جلاديهم من الأميركيين والصهاينة اليهود، ولا يستثنى من الصلب حتى الأطفال الرضع!

إن الاستئصال الهمجي للإنسان ومأواه، وزرعه وضرعه، متواصل اليوم على مدار الساعة في عدد من البلدان العربية والإسلامية، فهو ليس رواية موغلة في القدم، تحتاج إلى استحضار تفاصيلها ومن ثم تجسيدها تمثيلاً، بل وقائع حية معاشة، تنقل مباشرة أثناء حدوثها، بالصوت والصورة، فأية تبرئة يجادل بشأنها المجرمون الذين يواصلون سفك الدم المقدس؟ وأي مشهد أفظع من مشهد الطفل محمد الدرة والرصاص يمزّقه بين يدي أبيه، ومن مشهد راشيل كوري والجرافة العملاقة تسحقها لأنها حاولت بجسدها إعاقة تدمير منزل فلسطيني؟!

انتفاضة أبناء السيد المسيح !

إن إثني عشر ألف فلسطيني على الأقل، من العائلات التي نسفت بيوتها، يواجهون في العراء الحصار والقنابل، والجوع والبرد، وقد تشبثوا بأرضهم، فإما أن يبقوا أحياء فوقها، وإما أن يستقروا أمواتاً تحت ترابها. إن شعباً شبه أعزل موضوع بكامله تحت مطرقة الإبادة سواء أقاوم أم لم يقاوم. إن الخيار الوحيد المعروض عليه هو أن ينتحر بيده أو يقتلوه. وهاهو شعب العراق يواجه التجربة ذاتها، ويسلك طريق الآلام ذاته. أي أن الوحش المفترس ليس من اليهود فقط، دائماً وبالضرورة، وإلا فأين نصنّف أمثال بوش و رامسفيلد وتشيني إن لم نصنّفهم في عداد الصهاينة؟ وما هي عذابات وآلام السيد المسيح إن لم تكن عذابات وآلام هذه الجموع الغفيرة من أبنائه؟

ويتوجب علينا أن نسارع هنا ونقول أن الوحش الصهيوني لا يستثني أحداً من الإبادة، مسلماً كان أم مسيحياً أم يهودياً، وعربياً كان أم أميركياً، وصمت الإدارة الأميركية إزاء قتل المواطنة الأميركية راشيل كوري هو الدليل القاطع على أنها شريكة في الجريمة. وهكذا فإن العبرة التي نستخلصها من مراجعة وقائع تعذيب وآلام السيد المسيح تتلخص في ضرورة الإنحياز لأبنائه المعذبين، أياً كان لونهم ودينهم، ضدّ الوحوش المفترسة أياً كان لونها ودينها. وما هي سيرته، في أحد أهم وجوهها، إن لم تكن سيرة انتفاضة فلسطينية ضدّ الظلم والفساد والظالمين والفاسدين؟ إن انتفاضة الشعب الفلسطيني ليست سوى تكرار لانتفاضة السيد المسيح ينهض بها أبناؤه.

أسوأ وأفظع العناصر البشرية !

ولكن، إذا كان ثمة يهودي عذّب المسيح واقتاده إلى الصليب فثمة واحد من اتباعه المدعين خانه وسلّمه لجلاديه! إن المجتمعات الإنسانية سوف تبقى تعاني دائماً من إفرازات نخبها القيادية: أوهام الجهلة، وانتهازية الأوغاد، وخيانات الأشقياء! إن هذه الأصناف تتكاثر جرثومياً في أوساط ورثة الثورات سواء أكانت دينية قديمة أو دنيوية حديثة، فورثة الثورات هم غالباً وعموماً أسوأ العناصر البشرية قاطبة، وهم يظهرون ويتكاثرون لأن الأوضاع البشرية لا تستقر عند خصائص ثابتة، فما هو ايجابي تقدمي اليوم يمكن أن يصبح رجعياً سلبياً غداً، وما هو سلبي رجعي اليوم ربما كان إيجابياً تقدمياً بالأمس!

إن ورثة الثورات يحتلون مواقع خصومها، ويستأثرون بامتيازات أولئك الخصوم، وهي الامتيازات التي قامت الثورة من أجل إلغائها، وهم يمتازون عن الظالمين المندثرين بقدرتهم على توظيف الإرث الثوري ضدّ أصحابه الحقيقيين وضدّ رسالته الإنسانية السامية، ولعل الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر من يجسّد هذه الظاهرة في عالمنا اليوم، حيث يزعم الأول أنه الأمين على إرث السيد المسيح عليه السلام، وحيث يزعم الثاني أنه الأمين على إرث النبي موسى عليه السلام، ولا نستثني غيرهما من أتباع الديانات الأخرى!

أوهام النخب وحماقاتها وخياناتها !

غير أن العالم يجتاز اليوم مرحلة تاريخية انتقالية قاسية تبدو شديدة الغموض والتعقيد للسطحيين والانتهازيين والخونة الذين تفرزهم النخب القيادية، الأمر الذي جعلهم يصدقون حكاية نهاية التاريخ، واضمحلال الأمم، ولا جدوى العقائد، والسيادة الحتمية لنخبة عالمية محدودة! وسرعان ما أداروا ظهورهم لقضيتهم ولأممهم، واندفعوا لاحتلال موقع ما في دائرة النخبة العالمية المحدودة، نخبة ما فوق الوطنية والقومية، وما فوق الإخاء والعدالة الإنسانية! فعلى سبيل المثال لا الحصر، من الذي يصدّق أن ريتشارد بيرل، العضو البارز في الإدارة الأميركية الحالية، وعدداً من رفاقه في هذه الإدارة، كانوا قبل سنوات، ليست طويلة جداً، في صفوف المنظمات اليسارية التروتسكية؟ إن ريتشارد بيرل لم يدر ظهره لقضايا الشعوب العادلة فحسب، بل أصبح من ألدّ أعدائها وأشدّهم صلفاً ووقاحة وقسوة! ولم يقتصر التحوّل عليه وعلى أمثاله من الأميركيين، بل ظهر مثله في أوساط اليساريين في بلادنا، مسلمين ومسيحيين وعرباً وأكراداً، حيث أصبح بعضهم فجأة من غلاة المبشرين بالديمقراطية الأميركية الصهيونية، والمرحبين برعاية الولايات المتحدة لمصالح شعوبهم، فهل يمكن الفصل بين تحوّلاتهم وبين تحوّلات زمرة بيرل؟ إنها الأممية الجديدة وقد تحوّلت من حمراء إلى سوداء، واكتشفت فجأة أن عدوّها التاريخي اللدود هو أمثال ستالين وكاسترو، وليس بوش وشارون! وبالطبع فإن الغرابة هنا ليست في كرههم المفاجىء لاستبداد كاسترو الذي كان مثلهم الأعلى، بل في حبهم المفاجىء لديمقراطية بوش الذي كان ألدّ أعدائهم!

القول الفصل لحقائق الحياة

إن البشرية تمرّ بأشدّ مراحل تاريخها تعقيداً وقسوة، لكنها تلتقط في الوقت نفسه لحظة حرّية تاريخية نادرة، من ذلك النوع الذي توفره مراحل الانتقال، تعبّر عن نفسها بهذا القدر الكبير من وضوح الرؤية لأوضاع العالم، ولحقائق الحياة المعاشة المحدّدة التي تشير إلى أن تغيير العالم، أو النظام العالمي، أصبح ضرورة موضوعية تستدعيها مصالح ومصائر جميع الأمم. وبينما الحال كذلك، وبينما أمتنا تقف في خط المواجهة الأول الذي يستدعي التجميع والتوحيد والتحشيد والتجييش، يهبّ الجهلة والانتهازيون والخونة للإستفادة مما يظنونه فرصة سانحة، فينشدون الديمقراطية عند الديكتاتورية العالمية، ويطلبون نصرة طروحاتهم القومية من المؤسسات الدولية العابرة للوطنية والقومية والإنسانية، لتأتي جهودهم نقيض حقائق الحياة، ومتنافرة مع توجه الأمة نحو رصّ الصفوف، وبما أنهم لم يلتقطوا لحظة الحرية التاريخية النادرة، ولم يدركوا حقائق الحياة المعاشة المحدّدة، فإن ما يفعلونه سوف يرتدّ عليهم كنخب وليس مجتمعات، وسوف يبقى مجرّد أحداث منغّصة، أما الأمة العربية والإسلامية بجميع مكوناتها البشرية والحضارية فلن تنشغل بهم عن همومها التاريخية الحقيقية العظمى.

Hosted by www.Geocities.ws

1