ولّــى زمـن الاسـتـئـصـال

ليث شبيلات

 

يفرض فقه الواقع لا البراغماتية، وفقه الحياة العملية وليس فقه التنظير المتعالي الذي يفشل عند التنزيل على ارض الواقع، يفرض على كل صادق منا ان يعرض تجربته وتجربة تياره الفكري للمراجعة. وقد كنا في ما سبق من عقود نجعل الانتماء الى مبدئنا العقائدي القول الفصل والاخير في علاقاتنا مع الآخرين. قد كنا كذلك جميعا، لا استثني احدا الا ما رحم ربي، نعتبر من ليس معنا انه بالضرورة علينا! كنا جميعا في ذلك استئصاليين لا نرى في احلامنا الطوباوية سوى مجتمعات كاملة الطهر اي منتمية بالكامل الى مبادئنا. فالقومي كان ينظر الى الاسلامي بأنه رجعي عميل لا يليق به الا الاستئصال (خاصة بسبب توظيف الاسلام من قبل الحكام لمقاومة الشيوعية واليسار المستقوي بالسوفيات) والاسلامي كان يعتبر القومي واليساري التقدمي ذيلا للغرب ولأفكاره وعاملا على تغريب الامة. وهكذا كنا (وما زال بعضنا) نستعمل ابسط الرياضيات لحل اشد المعادلات تعقيدا، معادلات لا يمكن فهمها وبالتالي حلها الا برياضيات متقدمة لا بمعادلات سطحية بسيطة.

كنا جميعا في التعامل مع فكرنا "مطهرين" Puritans لا نرضى الا بالمجتمع الطاهر من تأثير الغير او حتى من وجوده كليا، وليس بالضرورة الطاهر من الاعمال السيئة. كنا يومها قريبين في تصرفاتنا من "المطهرين" الانكلوساكسون الذين انتجوا المحافظين الجدد في الولايات المتحدة اليوم، ولو تمكن بعضنا من الحكم فان استئصال الآخر كان سيكون منهجه، كما حدث فعلا في حالة كل من تسلموا الحكم منا.

ولم نصحُ الا عندما بدأ العدوان على بلادنا يتفاقم بوجهه السافر وحضر جند الغرب جنبا الى جنب مع جند الصهاينة لفرض وجودهم المادي وسيطرتهم الكلية على بلادنا، عندها اكتشف المخلصون منا ان الدفاع عن الوطن هو قاسمنا المشترك، وفعلا تمايز الناس حسب اخلاصهم للوطن وليس حسب انتمائهم العقائدي، فسقط النذل المستفيد من نظام حكم مستهدفة بلاده في الوقت الذي انحاز فيه الصادقون من خصوم النظام نفسه الى خندقه المدافع عن الوطن رغم الآلام والمآسي السابقة التي لقوها على ايدي جلاوزة ذلك النـظام (...)

ان اعظم هدية اهديناها في السابق الى المستعمر كانت ضيق صدرنا ببعضنا البعض والاستئصالية التي كان يغذيها الفكر البيوريتاني القومي والبيوريتاني الاسلامي والبيوريتاني اليساري. فدخل البعثيون والشيوعيين في مذابح استئصالية في العراق مثلا، لا يقبل طرف وجود الآخر فوق الارض. وفعل غيرهم مثل ذلك كما في الجزائر. حتى انهكتنا صراعاتنا في ما بيننا اكثر مما انهكنا الصراع مع صنائع الاستعمار من الانظمة الخادمة المستخذية للغرب. ولئن صحونا الآن فان الصحوة ليست شاملة ناهيكم عن انها متأخرة وبعد خراب البصرة.

والآن وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب اذ اعلن الاميركيون بأن البعث عدو يجب استئصاله وضموه في ذلك الى الاسلام الثوري والاسلامي الجهادي فلا يجرؤ الا عميل ثقافي على تصنيف البعث والبعثيين واسلام الصادقين من المجاهدين الافغان وابن لادن على انهما عميلان للغرب كما كان خصومهما ينعتونهما في السابق رغم الاخطاء الكبيرة التي اوقع بها هؤلاء انفسهم فيها. فشتان بين الخطأ والخطيئة، "فكل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون". وقد علمنا الإمام علي بن ابي طالب درسا بليغا في ذلك عندما طالبه "الاعلاميون الاستئصاليون" من حوله بلعن الخوارج فأجابهم بمقولته الخالدة: "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلـب الباطـل فأصـابه".

نعم لقد قطعت جهيزة قول كل خطيب! ولئن طبقنا اليوم الفتوى السهلة الممتنعة التي سلح الامام الثائر الخميني الناس بها حتى لا يغدر بهم اشياخهم وملاليهم فيضلونهم من بعده ومفادها: "انظروا الى موقعكم من اميركا فان هي رضيت عنكم فاتهموا انفسكم" لعلمنا اين يقع البعث في الخريطة ولعلمنا مقدار الخطيئة التي يرتكبها ورثة الامام اذ يغازلون اميركا كاللواتي يتمنّعن وهن الراغبات، فيستنبطون شعارات تنسف وجودهم وتنسف المذهب العظيم الذي يعتنقونه والذي انتج المعارضين والثائرين، مثل شعار "الحياد الايجابي" عند حلول الغزو الاستعماري الكافر في البلاد، وشعار "المقاومة السلمية" للاميركيين بعد ان كان شعار الموت لأميركا والموت لاسرائيل محور شعاراتهم.

وعودا الى موضوعنا نقول: لئن اسلم الاستاذ ام لم يسلم، فان البيوريتانية تسيطر على الغرب تعتبر كل العرب مسلمين وتتعامل معهم دون تفريق على هذا الاساس، تماما مثلما جاءت حملة كاملة من حملات الفرنجة في الحروب التي اطلقوا عليها هم اسم الحروب الصليبية تستهدف المسيحية الارثوذكسية في القسطنطينية. وثمل هذا التعميم المخل لا يقوله جهلة عوام في اميركا بل اساتذة في مراكز بحوث يزعم بأنها شديدة الاحترام. فقد قرأت قبل عقد من الزمان في احدى اكثر المطبوعات السياسية احتراما في الولايات المتحدة وهي دورية "فورين افيرز" مقالا عن مؤتمر لمتشددين اسلاميين عقد في الخرطوم حضره اشخاص ذكرتهم المطبوعة ومن ضمنهم جورج حبش ونايف حواتمة. فكل ثائر على الاستعمار عندهم متشدد اسلامي مهما كانت قبلته.

لم تسنح لي الفرصة للالتقاء بالسيد ميشال فعندما كان كثير من زملائي الطلاب الجامعيين منخرطين في العمل السياسي وكثير منهم تعرفوا عليه او على "الحكيم" او على الاستاذ السباعي او الاستاذ النبهاني وامثالهم وانخرطوا في العمل معهم كنت اعتبر القيادة الطليعية السياسية فرض كفاية اذ قام به الغير سقط عن الآخرين حتى الحقتني الظروف بالعمل السياسي بعد بلوغ الاربعين. ولكني التقيت الكثيرين من تلامذة الاستاذ. وكما في كل الفئات والجماعات فان منهم من صدق مع مبادئه فالتزمها قولا وعملا وحفظ اخلاقه من الانغماس في مغانم السلطة عندما تسلم البعث الحكم في سوريا والعراق ومنهم غير ذلك.

لكن لا يمكن القول ابدا بأن من فسد منهم قد فسد بسبب فساد المبدأ بينما تستطيع الجزم بأن الملتزم منهم قد زاده الالتزام بمبادئ البعث خلقا ووطنية فكما ان وجود ثلاثمئة منافق في جيش المسلمين في أُحُد لا يعتبر منقصة في مبدأ الاسلام بل منقصة ذاتية في ذواتهم فان ذلك ينطبق على جميع المبادئ الانسانية. وصدق الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه اذ يقول: "الحق مقياس الرجال والرجال ليسوا مقياسا للحق". ولقد اعجبت بمن عرفت من الملتزمين منهم رغم اخطاء ارتكبوها، وصل بعضهم الى مرتبة الخطيئة، مثل استئصال شأفة الخصوم السياسيين، ولا اجد لهم عذرا ابدا في ذلك، الا اننا معشر المنتقدين لم نرقَ في الحقبة نفسها الى مستوى ارفع من ذلك، فالكل في النصف الثاني من القرن العشرين كان لا يتسامح ولا يتعايش الا قسرا مع الآخر ولو تمكن الآخرون من السلطة لارتكبوا التصرفات القمعية الاستئصالية نفسها في حق الآخرين كما حدث في حالة كل الذين تسلموا السلطة، وان كان الامر على درجات متفاوتة من البطش، في ما عدا الحالة السودانية التي لم يصل الاستئصال فيها الى البطش الدموي.

فلئن كان النقد والادانة واجبين في حق البطش والبطاشين فان الادانة تنسحب ايضا على البيوريتانيين الآخرين الذين كان البطش كامنا في داخلهم ينتظر فرصة السلطة لكي ينطلق ويطهّر الغير ارضاء لله زعما، او للشرعية الثورية او للشرعية الجماهيرية او غير ذلك من الاصنام الحديثة. ومن معرفتي بالتلامذة الملتزمين عرفت استاذهم، فقد سئل سيدنا الامام الشاذلي رضي الله عنه عن كتبه فأشار الى تلامذته قائلا هؤلاء كتبي. لا شك في اننا اخطأنا في وصف الفكر البعثي بأنه إلحادي لأنه مجرد علماني، وقد ساعدنا على ذلك سوء تصرف الكثيرين من البعثيين والقوميين في فترة المد اليساري اذ كانوا يسخرون من الدين ويعتبرونه رجعيا خليقا بالتحالف مع الاستعمار فلم يكونوا منصفين في ذلك. ونحن بدورنا سحبنا تصرفاتهم ومواقفهم على انها مقياس لمبدئهم وهو امر غير صحيح. فمن معرفتي القريبة في العقد الاخير بالبعثين علمت بأن عقيدة البعث ترفض الالحاد ولا تقبل موقفا حياديا منه كما هي الحال ايضا في الفكر القومي الاجتماعي. فمع ان الفكرين علمانيان، يفصلان الدين بالكامل عن الدولة، الا ان ذلك لا يعني الترحيب بالالحاد بل رفضه  وعدم السماح بتغلغله. ولئن سألت بعثيا عن الرسالة في شعار "امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" لما استطاع ان يعلن رسالة غير الرسالة التي حملها العرب للانسانية: رسالة الحضارة الاسلامية. ولكن التصرف لا شك لم ينسجم مع الفكر مما ساعد الخصوم على الطعن في المبدأ من خلال الطعن في الرجال. وان محاضرة الاستاذ الشهيرة "في ذكرى الرسول العربي الكريم" لكفيلة ببيان رأي مؤسس البعث ومفكره في الاسلام وكذلك حملة الايمان التي قادها الرئيس صدام حسين.

لا شك في ان ممارسة البعثيين السيئة وخاصة موقفهم من الانفصال، والانكى من ذلك الخلاف بين البعثيين السوري والعراقي، وعجز جميع الوساطات عن رأب الصدع، الا بعد فوات الاوان، اسقط اسهم البعث وصدقيته الى ادنى الحدود، لكن تمسك البعثيين رغم الخطيئات الكبرى تلك بفضيلة عدم خيانة الامة بالانحياز الى المشروع الاستعماري كما فعل غيرهم من الانظمة الاخرى لدليل على نظافة المعتقد البعثي حتى ان الاميركيين اعلنوا رغبتهم في استئصال شأفة البعثيين من كبيرهم الي صغيرهم لاعتبارهم اعداء المشروع الاستعماري الاميركي.

ان الاعتداء الحاقد اللاأخلاقي على قبر الاستاذ ميشال من قبل برابرة العصر الذين يطبقون المعايير المزدوجة في كل سلوكاتهم من التمثيل بجثث الموتى الى الدوس على المواثيق الدولية في ما يخص الاسرى، الى عشرات التصرفات التي لا تخرج عن اخلاقيات مبيدي الشعوب والامم الاصلية في الاميركتين لهو دليل على مدى حقدهم على ميراث الاستاذ ميشال، خاصة ان صلب المقاومة العراقية الباسلة يتكون من البعثيين. ويعتبر الاميركيون بذلك ان كل قتيل اميركي تقع مسؤوليته على المفكر الذي جمع القوم على مبادئ العروبة والامة الواحدة والنضال ضد الاستعمار والهيمنة.

ولا يدركون بأن تدنيس القبور وازالة آثار الزعماء الذين يمرون على الامة في تاريخها يعتبر صبيانية فوق اعتباره نذالة. فتزوير التاريخ مستحيل وان الامم الحية لتحفظ تراثها بغض النظر عن رضاها او عدم رضاها عن زعامة معينة او فترة محددة. لقد قامت الدنيا ولم تقعد على تدمير صنمي بوذا في بلاد الافغان وعبئ العالم من ضمن ما عبئ ضد "طالبان" بسبب من هذا العمل. اما تدنيس قبر زعيم من زعماء الامة العربية فلا يعتبر جريمة في عرف اللانظـام الدولي ولم يحرج احتجاجا من قبل اي مسؤول عربي. ويمكننا فهم ذلك كدليل على ان زعماء الامة الحقيقيين الذين ماتت اجسادهم ما زالوا احياء في وجدانها يحركون الناس بينما يثبت زعماء الدول العربية مرة اخرى بأنهم جثث متحركة قد ماتت قلوبهم اذ ماتت عندهم الشهامة والغيرة على الارض والعرض(...)

النهار الأربعاء 29 – 10

 

Hosted by www.Geocities.ws

1