إنها المساحة القاحلة بين عصرين عالميين!

بقلم: نصر شمالي

تجتاز البشرية اليوم تلك المسافة القاحلة، الانتقالية، التي تفصل بين عصرين عالميين، وإنه لحدث انقلابي هائل لم يشهده التاريخ سوى مرات قليلة لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة. إن هذا الاضطراب العظيم الذي يعصف بالقارات جميعها ليس سوى مظهر من مظاهر الإنتقال، وهو اضطراب عصف بكل يقين بعد أن زلزل الأسس التي تنهض عليها جميع الإيديولوجيات الحديثة، فترتّبت على ذلك انكفاءات مروّعة بلغت حدّ جنوح الكثيرين إلى الاقتناع برعاية مصالحهم الخاصة فحسب!

إن محاولة فهم هذه الظاهرة الانتقالية العظمى التي نعيشها تستدعي العودة إلى الماضي القريب والبعيد، فمثل هذه العودة ضرورة ملحة، وحاجة متجدّدة مستمرة، وإلا فكيف يمكننا تجنب تكرار ما لا فائدة من تكراره واستخلاص العبر والدروس التي تختصر الوقت والجهد والتضحيات؟ وكيف يمكننا أن نعرف كيف آلت أوضاعنا وأوضاع العالم إلى ما آلت إليه اليوم؟

مصير المجتمعات مثل مصير الأفراد!

إن المجتمعات منفردة ومجتمعة، وكذلك نظمها الإجتماعية، ترتبط بحقبة تاريخية محدّدة، فهي تولد في نطاق تلك الحقبة المعينة، وهي تموت وتندثر بانتهائها. ويصيب المجتمع، أو النظام الإجتماعي، أو النظام العالمي الذي يضم جملة المجتمعات الإنسانية، ما يصيب الفرد تماماً، فالمجتمع يتوقف ويكف عن مواصلة الحياة الطبيعية، ويضمحل ويفنى، سواء بسبب كوارث الطبيعة وكوارث البشر، أو بسبب قانون الوجود الذي لا يسمح أبداً لأي مجتمع أو نظام أو فرد بأن يكون أزلياً، ثابتاً وخالداً، بخصائصه وبمضامينه وبملامحه ذاتها!

المجتمع لابد أن يندثر، والنظام الاجتماعي لابد أن يندثر، ليس بسبب الكوارث فحسب، بل بسبب زوال الضرورات القديمة وظهور ضرورات جديدة تفرض تحوّل المجتمع والنظام إلى مجتمع ونظام آخر، وهذا التحوّل يتحقق بتبدّل المكوّنات الجزئية للمجتمع والنظام، فيتبدّل حجمه وملامحه وعلاقاته ونمط حياته القديم، أي أنه يتحوّل إلى كائن آخر مختلف!

وللايضاح أكثر نعتمد القول العلمي المأثور الذي يقول بأن الكائن العضوي، في كل لحظة من حياته، هو ذاته وكائن آخر، فهو طوال الوقت يهضم مواد يتلقاها من الخارج ويفرز مواد أخرى، وفي كل لحظة تموت خلايا جسمه وتولد أخرى، وبعد فترة قد تطول أو تقصر تتجدّد مادة جسمه بكليتها، ولهذا فإن كل كائن عضوي هو ذاته وغير ذاته!

التبدّلات في بنية العصر العالمي الراهن

لقد تبدّلت مكوّنات هذا العصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي مرات عديدة عبر مراحل تطوره خلال القرون الخمسة الماضية: من القرصنة وقطع الطرق الدولية، إلى غزو الأمم الأخرى واستعمارها ونهبها وحرقها والاستيلاء على أوطانها، إلى تعاطي الصيرفة والربا كنظام مفروض على العالم أجمع! أما على صعيد تبدّل أسسه المادية فقد انتقل من عهد المانيفاتورة، إلى عهد الآلة البخارية، إلى آلالات الديزل والكهرباء، إلى عهد التكنترون (الحواسب) الذي نعيش انطلاقته اليوم. لكن هذا العصر الأوروبي الأميركي المتكامل احتفظ دائماً بخصائصه الجوهرية القائمة على التمييز والاحتكار!

غير أن تبدّلات عميقة طرأت على المرتكزات الأساسية، التحتية المادية، التي تنهض عليها الحياة المعاصرة، وهذه التبدّلات تؤذن بزوال خصائص العصر القائمة على التمييز والاحتكار، حيث الحياة العالمية لم تعد تطبق هذه الخصائص، والإضطراب العظيم الذي يعصف اليوم بجميع فروع الحياة الإنسانية يدّل على أن التبدّل في البنى المادية التحتية لجملة المجتمعات قد وقع وانتهى الأمر، وأن التبدّل في البنى الفوقية لابد وأن يتبعه، أي أن ما طرأ من تغيير على الأسس المادية التحتية سوف يليه تغيير في العلاقات الفوقية، الحقوقية والسياسية، وإلى أن يتحقق ذلك سوف يعصف الاضطراب أكثر فأكثر نتيجة لعدم التطابق المؤقت بين البنى التحتية المادية الجديدة التي تحققت والبنى الفوقية الحقوقية والسياسية القديمة التي لم تتبدّل بعد. تلك هي المسافة القاحلة، الموحشة، التي تجتازها البشرية اليوم بين عصر مضى وعصر قادم!

من الأزمات الروتينية إلى الأزمات المستعصية!

لقد عرف عن هذا العصر الأوروبي الأميركي أن نظامه الاحتكاري العالمي ينمو ويترعرع بفضل الأزمات الدورية الروتينية، التي هي ظاهرة بارزة طبعت مسيرته التاريخية بطابعها في جميع مراحله، فاعتبرت تلك الأزمات بمنزلة مولّد الطاقة للعصر ونظامه، بمعنى أنه لا يستطيع أداء وظائفه التاريخية من دون الأزمات، ولا يعيش بصفته نظاماً رأسمالياً احتكارياً ربوياً إلا بها، فالأزمات متصلة، مثل حبل السّرة، بجوهره العبودي. إنها تأكيده لذاته، وتعبيره عن جوهره، وممارسته لحيويته. إن تفريخ الأزمات الروتينية الدورية هو دليل عافيته ومقدرته، وهي لا تطال بنتائجها المدمّرة الأوساط الاجتماعية الدنيا فحسب، بل جميع الفئات الاجتماعية في جميع المجتمعات الإنسانية، حيث لميكانيكية الاحتكار والتمييز فعالية لا تقف عند حدّ، ولا تستثني أياً كان، إلى أن تصبح في مرحلتها الأخيرة حالة يلتهم الجميع فيها الجميع!

ها نحن اليوم في المرحلة الأخيرة من مراحل هذا العصر، حيث الجميع يلتهم الجميع، وحيث الأزمة المستعصية المفتوحة والشاملة، التي لم تعد دورية روتينية، تعبّر عن نفسها بما لا يحصى من الأزمات التفصيلية، من جميع الأحجام والألوان وفي جميع القارات! إن الاستقرار المؤقت لوسط اجتماعي ما، في درجة اجتماعية ما، لم يعد يشكل سوى مظهر خارجي يبرز بغموض قوى تبدو سديمية، فهي تتبادل المواقع على مدار الساعة في حركة تكاد لا تلحظ، ومن خلال تبدّلات ظاهرية في الألوان فحسب!

في هذه الحركة العالمية، العشوائية المخيفة، لا يبدو أي بعد إنساني تمكن ملاحظته عن قرب، أو حتى في الأفق، وهو ما يجعلها مخيفة. إن ما يلاحظ هو المزيد والمزيد من تلاشي الفعالية الإنسانية، ابتداء بمستوياتها القرابية الدنيا وانتهاءً بمستوياتها القومية العليا، فقد تحوّل عالم البشر، المتمايزين المتكاملين، بتأثير قوة عاتية يصعب حصرها وتحديدها، إلى عالم من البشر "الذرّايتين" إن جاز التعبير. عالم من الذرّات والهباء والهلام، تطغى فيه المادة بقدر ما يتلاشى الإنسان!

هل ينكفىء الإنسان تأهباً للارتقاء ؟

في هذه المرحلة العالمية الأخيرة من مراحل هذا العصر أصبح العدو شيئاً ما قابعاً داخل الإنسان الفرد، أي أن الصراع، أو النضال، أو الجهاد، انتقل من الفضاء الرحب إلى داخل الإنسان الفرد. وعند هذا الحدّ توقفت دورية الأزمات الروتينية بعد أن أضاع الإنسان حدوده الوطنية والقومية، مثلما فقدت السلع هويتها الوطنية والقومية، ومثلما فقدت الحروب معانيها وميادينها الوطنية والقومية، أما الإدارات العالمية التي فقدت بدورها هويتها وحدودها فهي تنصرف بكليتها إلى إدارة الأزمة العالمية المفتوحة، محاولة الحفاظ على قواربها سليمة وطافية في خضم تيارات صاخبة لا يمكن لأحد التحكم بمساراتها!

ولكن، تحت سطح التيارات العالمية الصاخبة، وخلف الظاهرات الخارجية الحادة، التي تجعل الأوضاع تبدو سديمية، كل شيء فيها مثل كل شيء، يبقى الجوهر الإنساني كامناً كأنما هو منكفىء تأهباً للارتقاء إلى مستوى التحدي المصيري، الوجود أو اللا وجود؟ فلعل الإنكفاء فسحة للتفكير عميقاً بالمستلزمات العظمى التي تتطلبها المستجدات العظمى!

إذن، فقد توقفت دورية الأزمات الروتينية التي كانت تعبّر عن دينامية النظام العالمي، وصارت الأزمة عالمية، ومفتوحة، وشاملة، الأمر الذي يعني أن خلايا النظام العالمي الحيّة كفّت عن التجدّد، وأنه صار محكوماً بمصير تلك الحشرة التي تخرج من يرقتها المتيبّسة وقد اكتسبت جناحين تطير بهما مؤقتاً، لفترة أشبه بفترة الاحتضار!

ما فعلته الميكانيكية الربوية الباردة الصماء!

على مدى القرون الخمسة الماضية، أبيدت مجتمعات لتنهض مجتمعات، ودمّرت قارات لإعمار قارات، وسحقت طبقات لتحيا طبقات، وصفّيت احتكارات أدنى لصالح احتكارات أعلى، ثم انقسمت الاحتكارات الأعلى على نفسها، فالتهم نصفها نصفها الآخر، واتصل نصفها المتبقي مع ذاته فأنجب كائناً جديداً، شبحياً، محلّقاً، غير محصور بمكان أو زمان، وغير ملتزم بأعراف أو قوانين، هو هذه الشركات المتعدّدة الجنسيات، شركات ما فوق الوطنية والقومية والإنسانية، التي خرجت من شرنقتها المتيبسّة لتحلّق مؤقتاً، مخلّفة بطنينها المتواصل، غير المباشر، الخبل والذهول والصرع في القارات الخمس!

إن الميكانيكية الربوية، الباردة الصماء، متمثلة بالشركات المتعدّدة الجنسيات، تنضح ثروات جنوب الكرة الأرضية، حيث أربعة أخماس البشرية، بلا أدنى هوادة ولا شفقة، والنظام العالمي يتكون من الشمال والجنوب، مثلما يتكون المصنع من مركز الإدارة وساحة العمل، ومثلما يتكون السجن من السجانين والمسجونين، ومثلما يتكون مجتمع الرق من السادة والعبيد، فخصائص الشمال تحدّد خصائص الجنوب، والعكس بالعكس، ووجود أحد الطرفين بالصورة التي هو عليها يشترط وجود الطرف الآخر بالصورة التي هو عليها، وبالطبع، فإن انتفاء وجود أحدهما بخصائصه الحالية يعني انتفاء وجود الآخر بخصائصه الحالية، وفي هذه المرحلة الأخيرة من مراحل العصر الأوروبي الأميركي فإن الشمال، الذي يضم خمس سكان العالم، يستأثر لوحده بما يعادل 84.7% من إنتاج واستهلاك العالم، الأمر الذي يعني قطعاً استحالة الاستمرار على هذا النحو!

مرض عضال، وحالة احتضار طويلة!

إن النظام العالمي يتغيّر عندما يتغيّر موقع وخصائص أحد أطرافه الرئيسة، وهو في هذه المرحلة يواجه مثل هذه التغييرات التي لا يمكن أن تسمح له بالاستمرار هو ذاته، ولما كانت التغييرات تتناول الوجود الأولي، الأساسي، لأحد أهم أطرافه، فإن ذلك يعني أن الطرف الآخر يواجه المصير ذاته. وعلى الرغم من الصعوبة في التبسيط فإن حالة النظام العالمي اليوم تشبه حالة الإنسان الفرد في مرحلة احتضار طويلة نتيجة مرض عضال. مثل إنسان فرد جاهز للرحيل عن الدنيا حتماً، يتعذّب ويعذّب من حوله في علاقة مريرة لا طائل من ورائها ولا يمكن تجنبّها، وبخاصة إذا كان المحتضر مرابياً شريراً!

وهكذا، فإن الفارق بين رؤية ورؤية هو فارق حاسم بقدر ما هو حاسم الفارق بين الحياة والموت. وعندما نستخلص النتائج المرجوّة من رؤية أقرب إلى الصواب فإنه ليفترض بها أن لا تكون رهاناً على الموت، فالمحتضر هو في حكم الميت، ويعامل على هذا الأساس حتى وإن عاش سنوات!

وعندما نشير إلى النتائج المرجوّة التي نبغي استخلاصها، والتي نأمل في أن تكون أقرب إلى الصحة ما أمكن، فإننا نريد من وراء ذلك معرفة كيفية التصرف بصدد علاقات مرحلة الاحتضار، أو لنقل مرحلة الانتقال التاريخية من عصر إلى عصر؟ ثم كيف يتوجب علينا الاستعداد للمرحلة التي تليها؟ وكيف يمكننا إحراز الجدارة للإسهام اللائق في المرحلة الجديدة من العصر القادم؟

هل النظام العالمي يحتضر حقاً؟

إن الوصول المشترك إلى استنتاجات على مثل هذا القدر من الأهمية ليس بالأمر السهل، ولسوف يظل السؤال المشروع الذي يتردّد في الأذهان هو: هل النظام العالمي يحتضر حقاً؟ هل الفساد الذي نتحدث عنه هو فعلاً فساد الاحتضار والموت؟ هل دخل العالم فعلاً مرحلة الانتقال التاريخية من عصر إلى عصر، وأنه يجتاز الآن المساحة القاحلة التي تفصل بين العصرين؟

إن لمثل هذه التساؤلات مبرراتها القوية، حيث العالم يعيش كل لحظة فعالية جبروت وعتوّ وطغيان الإدارة الأميركية للنظام العالمي، ويواجه أذرعها الطويلة الفتاكة، التي تطال أية بقعة من بقاع الأرض، ولكن يتوجب الانتباه إلى أن قدرة التنين، أو الفيل، على التدمير والقتل بحركة بسيطة من جسمه الضخم لا تنتفي حتى وهو في مرحلة النزع الأخير! إن الطائرات المقاتلة، المحترقة في الأجواء، يمكن أن تحقق دماراً رهيباً وحرائق فظيعة، وأن تسقط عدداً كبيراً من الضحايا! فإذا كان الحال كذلك، وهو يبدو كذلك، فإن النظام العالمي وإدارته الأميركية العليا لم يكن في أي يوم قابل للهزيمة مثلما هو الآن، على الرغم من جميع المظاهر التي توحي بعكس ذلك!

 

Hosted by www.Geocities.ws

1