من بونابرت وكليبر، إلى بوش وبريمر!

بقلم: نصر شمالي

تعتقد الديكتاتورية العالمية أنها نجحت أخيراً في الاستيلاء على البنية الفوقية القيادية للمجتمعات العربية، وأن يدها باتت طليقة في تفتيت وتدمير البنى الإجتماعية التحتية الواسعة التي أصبحت بلا رأس! وبالفعل، فإن بعض أوساط الأنتيليجنسيا انحازت للأعداء، فمنها المتواطىء الخائن، ومنها المتوهّم الجاهل، ومنها المتعب المستسلم! وتبرّر هذه الأوساط أقوالها وأفعالها المشينة بذريعة الاستبداد، ولعل الردّ البسيط على ذريعتها يتلخص في ما قاله أحد حكماء الصين، وفحواه أن قرناً من الاستبداد الداخلي لا يعادل في قسوته ساعة من استبداد الأجنبي! أما عن أجدادنا فإنه لمعروف موقف الإمام علي بن أبي طالب من البيزنطيين الذين حاولوا استغلال الحرب الداخلية الدائرة بين الكوفة ودمشق.

لقد أدار البعض ظهورهم لأمتهم، متوهمين أنها لا شيء من دونهم، معتبرين أن حالهم هو حالها، ناسين أنها هي من أنجبتهم وليسوا هم من أنجبها، وبينما هم كذلك فإن لسان حالها يردّد طوال الوقت مع جدّنا المتنبي: كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم/ ثم انتفضت فزال القبر والكفن/ قد كان شاهد دفني قبل مولدكم/ جماعة ثم ماتوا قبل واندفنوا!

مشكلة الأمة الأولى بعض أبنائها!

إن الأمة قادرة على تعويض أبنائها العاقّين بأفضل منهم، وهي تملك ذاكرة تاريخية بالغة العمق، وعظيمة التوهّج، تستطيع استحضار الأحداث التي وقعت قبل آلاف السنين كأنما هي وقعت بالأمس، فكيف يتوهّم البعض أنها عاجزة عن المقارنة بين حملة الإمبراطور بوش على العراق اليوم وبين حملة الإمبراطور بونابرت على مصر عام 1798؟ إن الأمة تربط جيداً بين الحملتين اللتين رفعتا، كلتاهما، رايات التنوير والتحضير والتحديث، وتقارن ببساطة بين أزمتي كل من الإمبراطورين في بلاده أثناء الحملة، وترى الشبه التام بين وكيليهما: كليبر وبريمر! ومثلما كانت المقاومة في مصر قبل أكثر من مئتي عام هاهي المقاومة ذاتها اليوم في العراق! إن بريمر في بغداد يحاول طوال الوقت تجنب مصير كليبر على أيدي سليمان الحلبي في القاهرة! أما عن الصهاينة المرتزقة الذين ولغوا في دماء أطفالنا، واستباحوا حرماتنا، وتفننوا في إذلال وتعذيب نسائنا وشيوخنا في فلسطين، فإن مصيرهم تقرر، سلباً أو إيجاباً، بنزول بريمر/ كليبر في بغداد. إن مصيرهم هو مصير حملته قطعاً!

ولكن هذا البعض من أبناء جلدتنا، أدعياء الواقعية والعقلانية، المتجلببين بجلباب الحكمة والإنسانية، يريد إقناع أمتنا أن خلاصها لن يتحقق سوى بالديمقراطية الأوروبية/ الأميركية، كأنما هي لم تبلو حملات التنوير الأجنبية سوى في أيامهم هذه، وكأنما هي بلا ذاكرة سوى ذاكراتهم المحدودة! إنهم يحاولون تضليلها بخبثهم الساذج، وبثقافتهم الضحلة الصبيانية المضحكة، وهي التي خبرت على مدى العصور دوافع مثل هذه الحملات الأجنبية وخفاياها ونواياها وأحابيلها، واستوعبت جيداً دروسها وعبرها، وأجادت التعامل معها سواء أطالت جولاتها أم قصرت.

الحرب المفتوحة والغزو المستمر!

إن الأمة تذكر جيداً ما حلّ بملايين العرب الأندلسيين من عمليات الاستئصال والإبادة والتشريد، وتذكر كيف بدأت منذ أوائل القرن السادس عشر عمليات الاستيلاء على ثغور أوطاننا، في جبل طارق وباب المندب ومضيق هرمز، بهدف إحكام الحصار حتى الموت ضدّ العرب، ثم كيف انتقلت الحملات إلى الداخل، فبعد احتلال الفرنسيين لمصر عام 1798، بدأت الأساطيل الحربية للدولة الأميركية الديمقراطية الحديثة تصبّ حممها على بلدان المغرب العربي بلداً بلداً، ليبيا وتونس والجزائر ومراكش، طوال خمسة عشر عاماً متوالية، من عام 1800 وحتى عام 1815، إلى أن أرغمت حكامها على الإذعان لمطالبها الجائرة! ثم بدأت عمليات الإبادة والاستيطان الفرنسية في الجزائر منذ عام 1830، التي تواصلت حتى عام 1961، والتي انتقلت إلى تونس عام 1881! ثم احتل البريطانيون مصر عام 1882، والإيطاليون ليبيا عام 1911، والفرنسيون مراكش عام 1912! أما المشرق العربي الذي بقي في منأى عن حملاتهم التنويرية التحضيرية التحديثية، لأنه كان لا يزال جزءاً من الدولة العثمانية، فقد طالته عمليات الاحتلال منذ نهايات العقد الثاني من القرن العشرين، وزرع في قلبه السرطان الصهيوني الذي ما زال يخوض ضدّ أمتنا حرب وجود أو لا وجود، والذي لا تنفع معه التنازلات مهما بلغت، ولا يقبل بأقل من زوال شعبنا وإذعان أمتنا!

أهداف الديمقراطية الأوروبية/ الأميركية؟

هل هذا الذي حدث ومازال يحدث، على مدى خمسة قرون عموماً وعلى مدى القرنين الأخيرين خصوصاً، وبلا انقطاع، يمكن تجاهله كأن لم يكن؟ هل يمكن الفصل بين حلقاته المتوالية، وهل نلوم أمتنا لأنها ترى خلفه مؤامرة مستمرة، ونسخر من عقليتها (عقلية المؤامرة) ومن رؤيتها الصائبة لبريمر باعتباره تكراراً لكليبر، ومن تعاملها مع غزو العراق باعتباره تكراراً لغزو السويس؟! ولكن، إن ما يسميه الجهلة الأشقياء "عقلية المؤامرة" ليس إلا وعي الأمة الذي مكّنها من الحفاظ على وجودها في أساسياته، ومكّنها من الحيلولة حتى اليوم دون تحقيق الأعداء لأهدافهم النهائية، وبينما الحال كذلك حقاً وعملياً نجد ذلك البعض من أبناء جلدتنا يلخص القضية كلها بمشكلة الاستبداد الداخلي، الذي هو في أحد وجوهه الرئيسية وبالدرجة الأولى نتاج التآمر والحصار الأجنبي المفتوح.

إن الأعداء وقد اعتقدوا أنهم نجحوا في إلحاق البنى الفوقية القيادية للأمة بقواتهم الميدانية، يرون أن الجولة ضدّ بناها التحتية الاجتماعية العريضة باتت محسومة، وأنهم سوف يحوّلونها إلى هباء بواسطة مشاريعهم الديمقراطية الشرق أوسطية الكفيلة بإخماد روحها المقاومة إلى الأبد، وجعلها تنشغل بالترّهات اليومية مثلما تنشغل القطعان بأعلافها، فهل باتت المعركة محسومة حقاً بالصورة التي يرغبونها؟!

مصير الأمة تقرر في الجزائر!

في عام 1832، وقف الجنرال الفرنسي بيجو خطيباً أمام قواته، معلناً أهداف حملته ضدّ الجزائر بقوله:" يجب القيام بغزو فرنسي أوروبي واسع. نحن بحاجة إلى معّمرين (مستوطنين) يهيئون لكم أفضل الظروف. وحيث يوجد الماء الصالح والأرض الخصبة ينبغي توطين المعمرين من دون أي اعتبار لمن تكون ملكية الأرض. يجب أن نوزعها على المستوطنين ونسجلها ملكاً لهم. علينا أن نسير إلى غاية ثابتة وأن نتوصل إلى تأسيس ولاية فرنسية. لابد من غزو واسع لأفريقيا مماثل لغزو القوط، فمن دون ذلك لن نصل إلى شيء"! وبعده وقف خليفته دورو فيجو ليقول:" مادام تحضيرهم متعذّراً (يقصد الجزائريين) فلا بدّ من دفعهم بعيداً كالحيوانات المتوحشة التي تطرد من المناطق المأهولة. لابد من دحرهم إلى الصحراء أمام التقدّم البطيء لمؤسساتنا، وأن نلقي بهم دوماً إلى رمال الصحراء"! لقد كانوا يحاولون إقامة "نيو فرانس" في الجزائر على غرار "نيو انجلند" في أميركا، غير أن الشعب الجزائري، الذي ما زالوا يعذبونه هم بالذات حتى اليوم، نجح في دحر مشروعهم الاستيطاني الإبادي بعد مائة وثلاثين عاماً من المحاولات. لقد نجح في الحفاظ على وجوده الأولي الأساسي بفضل مقاومته وبفضل انتمائه لأمته، وها هم يواصلون مساعيهم ذاتها في فلسطين وفي العراق وفي السودان، حيث نظرة بسيطة ترينا بوضوح أن الأشخاص والأقوال والأفعال تتكرّر اليوم. إن الإختلاف يقتصر على المظاهر السطحية، على الأسماء والمفردات وأساليب الفعل، أما الجوهر فهو ذاته، لم يتغير أبداً! لكننا نستطيع القول بثقة أن مصير فلسطين والعراق والسودان، والأمة عموماً، قد حسم في الجزائر، مرة واحدة وإلى الأبد، عندما فشلت محاولات استئصال الجزائريين على مدى مائة وثلاثين عاماً، وإنه العناد والمكابرة، والصلف والغطرسة، ما يجعلهم يواصلون العمل في ما لا طائل من ورائه.

 

Hosted by www.Geocities.ws

1