ا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

طمــوح الـولايـــات المتحــــدة اللامحــــدود

سمير أمين

 

1- ساد خيار الهيمنة في اوساط الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، بجناحيها الديموقراطي والجمهوري، منذ ثمانينات القرن الماضي، مع ظهور ملامح انهيار النظام السوفياتي. وانحازت اميركا، المأخوذة بنشوة قوتها العسكرية، والتي اصبحت منذ هذا الحين دون منافس قادر على تحجيم نزواتها، الى تأكيد هيمنتها عبر استراتيجية عسكرية صارمة "للسيطرة على الكوكب". وبدأت واشنطن مخططها لخوض حروب لا نهائية، تحمل علامة "صنع في الولايات المتحدة"، تقوم وحدها بإقرارها، والتخطيط لها، بسلسلة من التدخلات العسكرية منذ 1990 في كل من الخليج ويوغوسلافيا، وآسيا الوسطى، وفلسطين، والعراق.

وفي اطار هذا الهدف، توفر الاستراتيجية السياسية الاميركية الذرائع المطلوبة للتدخل العسكري. وهي الذرائع التي تراوح بين مواجهة الارهاب، والتصدي لتجارة المخدرات، وتوجيه الاتهامات بانتاج اسلحة الدمار الشامل. وهي ذرائع ملفقة اذا ما ادركنا التواطؤات التي اتاحت للاستخبارات المركزية الاميركية صنع عدو "ارهابي" على المقاس (طالبان، وبن لادن - لم يلق الضوء بعد على سياقات احداث الحادي عشر من ايلول...)، او بوضع خطة كولومبيا في مواجهة البرازيل. اما الاتهامات الموجهة ضد كل من العراق وكوريا الشمالية بانتاج اسلحة دمار شامل، والتي قد تطاول اي دولة اخرى في المستقبل، والتي تبدو هزيلة للغاية في مواجهة استخدام اميركا الفعلي لهذه الاسلحة في هيروشيما وناكازاكي، واستخدامها للسلاح الكيميائي في فيتنام، اضافة الى تهديداتها المعلنة باستخدام الاسلحة النووية في الصراعات المقبلة... ان هذه الذرائع لا تتعدى كونها نوعا من انواع الدعاية، بالمعنى الذي اعطاه غوبلز للكلمة، وان كانت هذه الدعاية فاعلة في اقناع الرأي العام الاميركي الساذج، لكن صدقيتها في تراجع مستمر خارج حدود الولايات المتحدة.

ان "الحرب الوقائية" التي تقدمها واشنطن على انها "حق" مقتصر عليها تعد ضربة قاضية للقانون الدولي. حيث يحظر ميثاق الامم المتحدة اللجوء الى استخدام القوة الا في حالة الدفاع الشرعي عن النفس، كما يخضع اي تدخل عسكري محتمل من جانب الأمم المتحدة لشروط صارمة، فالرد يجب ان يكون محددا وموقتا. ويدرك جميع القانونيين ان الحروب التي انخرطت فيها الولايات المتحدة منذ 1990 غير شرعية وتاليا فإن المسؤولين عنها هم من حيث المبدأ مجرمو حرب. في الوقت الذي تتعامل فيه اميركا مع الأمم المتحدة بالاسلوب الذي عاملت به الانظمة الفاشية عصبة الأمم قبيل الحرب العالمية الثانية، لكن مع فارق وجود دول اخرى متواطئة مع اميركا اليوم.

2- من ناحية اخرى، فإن الغاء حقوق الشعوب، كما هو واقع بالفعل يستبدل مبدأ المساواة بين الشعوب بمبدأ التمييز بين "الشعب الآري" (المتمثل حاليا بالشعب الاميركي، وبالتبعية الاسرائيلي)، والذي لديه الحق في غزو "المجال الحيوي" الذي يراه ضروريا له والآخرين، الذين لا يقبل الشعب الآري مجرد وجودهم الا في حال عدم "تهديد" هذا الوجود مشروعات من يطلق عليهم "اسياد العالم".

ما هي اذا هذه المصالح "القومية" التي تستدعيها الطبقة الحاكمة الاميركية كما يحلو لها؟

في واقع الامر ان هذه الطبقة لا تعرف الا هدفا واحدا هو "جمع المال". فالدولة الاميركية اعطت على نحو صريح اولوية مطلقة لتلبية متطلبات القطاع المهيمن على رأس المال المتمثل في شركاتها المتعددة الجنسية.

لقد اصبحنا جميعا من وجهة نظر الولايات المتحدة مثل "الهنود الحمر"، اي شعوبا دون حق في الوجود الا في الحدود التي لا تعوّق توسع رأس المال الاميركي المتعدد القومية. وتستخدم الولايات المتحدة شتى السبل لإخضاع اي مقاومة، ولو وصل الامر الى قيامها بعمليات ابادة جماعية. فهي مستعدة للتضحية بثلاثمئة مليون شخص دون تردد، مقابل خمسة عشر مليون دولار تضاف الى ارباح الشركات الاميركية المتعددة القومية. وفي واقع الحال، حازت الولايات المتحدة بتفوق على لقب الدولة "المارقة"، وفقا لتعبير رؤساء اميركا انفسهم، بوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن.

ان الامر يتعلق هنا بمخطط امبريالي بالمعنى الاكثر فظاظة للكلمة، لكنه ليس امبرياليا بالمعنى الذي يقصده نغري، حيث ان الامر لا يتعلق بادارة شتى المجتمعات بهدف دمجها في نظام رأسمالي متماسك، انما يقتصر على نهب مواردها. ان اختزال الفكر الاجتماعي للمبادئ الاساسية للاقتصاد المبتذل، والخاص بالاهتمام الاحادي الجانب الهادف الى تعظيم العائد قصير المدى لرأس المال المهيمن، والذي تدعمه الآلة العسكرية الموضوعة في خدمة رأس المال، مسؤول على نحو اساسي عن هذا الانحراف البربري الذي يحمله رأس المال في داخله، منذ لحظة تخلصه من القيم الانسانية التي يستبدلها بمتطلبات الخضوع لقانون السوق المزعوم.

ونجد ان الرأسمالية الاميركية تخضع لأسباب تعود الى تاريخ نشأتها، لهذا الاختزال على نحو يفوق خضوع المجتمعات الاوروبية له. فقد تمت صياغة الدولة الاميركية ورؤيتها السياسية لتكونا في خدمة الاقتصاد وحده، منحية بذلك جانبا العلاقة المتناقضة والجدلية بين السياسة والاقتصاد. فقد ادت الابادة الجماعية للهنود الحمر، واستعباد الزنوج، بالاضافة الى تتابع موجات من الهجرة التي استبدلت تطور الوعي الطبقي بمواجهات تحركها الطبقة الحاكمة بين المجموعات التي تزعم امتلاك هوية مشتركة، الى خلق ادارة سياسية لهذا المجتمع تقوم على حزب اوحد، هو حزب رأس المال، الذي يتبنى جناحاه الرؤي الاستراتيجية الشاملة نفسها، ويتشاركان في المهمة كل بخطابه الخاص الموجه الى "الناخبين"، الذين يشكلون الجزء الضئيل من المجتمع الذي يثق بالنظام الى درجة تجعله يتحمل مشقة الذهاب الى صناديق الاقتراع.

لقد حرم المجتمع الاميركي من ذلك التراث الذي استطاعت من خلاله الاحزاب العمالية الاشتراكية الديموقراطية والشيوعية في اوروبا التأثير في تشكيل الثقافة السياسية الاوروبية الحديثة، فهو لا يمتلك الادوات الايديولوجية التي تسمح له بمقاومة الديكتاتورية، ولا وزنا مضادا لرأس المال. بل على النقيض، يشكل رأس المال وحده طريقة تفكير المجتمع الاميركي بكل ابعاده، كما يعيد، على نحو خاص، انتاج عنصريته المتأصلة فيه، ويقويها مما يسمح له ان يرى نفسه "شعبا آريا". "كلينتون بلاي بوي، بوش راعي البقر، ينتهجان السياسة نفسها"، هذا الشعار الذي ردده المتظاهرون في الهند عن وجه حق يكشف طبيعة الحزب الاوحد الذي يدير الديموقراطية الاميركية المزعومة.

من هذه الزاوية ان المخطط الأميركي يقترب من المشروع النازي القائم ايضا على مبدأ التفوق الاثني الآري الاقصائي وليست هناك تاليا اية علاقة بين هذا المخطط الأميركي وما يدعيه اساتذة الجامعة الاميركيون الليبراليون، والذين يصفون الهيمنة الاميركية بـ"انها غير مؤلمة".

سيفرز هذا المخطط، اذا ما امتد العمل به لفترة اخرى مقبلة، فوضى متفاقمة، تقود الى ادارة اكثر شراسة ترد الضربة بأخرى دون ان تمتلك رؤية استراتيجية طويلة المدى.

وفي هذا السياق، لن تسعى واشنطن الى خلق حلفاء حقيقيين، يفرضون عليها اظهار بعض التساهل. وستقوم حكومات صورية مثل حكومة حامد قرضاي في افغانستان بالمهمة على نحو افضل ما دام وهم الاعتقاد بالقوة العسكرية الاميركية التي "لا تقهر" سائدا. ولعل هتلر لم يكن يفكر بشكل مختلف عن ذلك.

3- يتيح لنا تحليل العلاقة بين هذا المخطط الاجرامي ووضعية الرأسمالية المهيمنة المؤلفة من مجموع دول الثالوث (الولايات المتحدة، واوروبا واليابان) قياس نقاط ضعفه وقوته.

يرى الرأي الاكثر شيوعا، والذي تروج له وسائل الاعلام التي لا تدعو الى التفكير، ان قوة الولايات المتحدة العسكرية ليست سوى قمة جبل الجليد، وان لهذا البلد الغلبة في جميع المجالات الاخرى خصوصا الاقتصادية، وحتى السياسية، والثقافية، وتاليا فإنه لا مناص من الخضــوع لهـذه الهيمنــة المزعومة.

وينفي تحليل الواقع الاقتصادي هذا الرأي. فالمنظومة الانتاجية الاميركية بعيدة عن ان تكون "الاكثر فاعلية في العالم". بل على النقيض فإنه لا يوثق في تفوق اي قطاع من قطاعاتها تقريبا على منافسيه في سوق مفتوحة حقيقية كما يتخيلها الاقتصاديون الليبراليون. يشهد على ذلك، عجز الميزان التجاري الاميركي الآخذ في التفاقم من عام لآخر، اذ قفز من 100 مليار دولار في عام 1989 الى 450 مليارا عام .2000 علاوة على ذلك، فإن هذا العجز يطاول فعليا جميع قطاعات المنظومة الانتاجية. حتى الفائض الذي كانت تحققه اميركا في مجال المنتجات الفائقة التكنولوجيا، والذي وصل الى 35 مليار دولار عام 1990 تحول الى عجز. وتشهد المنافسة المشتعلة بين "آريان" و"ناسا" و"ايرباص" و"بوينغ" على هشاشة التفوق الاميركي. وعلى الارجح، فإن الولايات المتحدة لن تتمكن من التفوق على اوروبا واليابان في مجال المنتجات الفائقة التكنولوجيا، وعلى كل من الصين وكوريا وبلدان آسيا واميركا اللاتينية الصناعية الاخرى في ما يتعلق بالمنتجات الصناعية التقليدية، وعلى اوروبا وجنوب اميركا في الزراعة الا عبر اللجوء الى وسائل "غير اقتصادية" تمثل في ذاتها انتهاكا لمبادئ الليبرالية المفروضة على منافسيها!

في الواقع فإن اميركا لا تمتلك ميزة نسبية حقيقية الا في مجال التسليح، اذ ان هذا القطاع لا يخضع فعليا لقواعد السوق، كما انه يتمتع بدعم الدولة. وبلا شك فإن لهذه الميزة عددا من التأثيرات الايجابية على المجالات المدنية; والمثال الاكثر بروزا التفوق الاميركي في مجال الانترنت. في الوقت نفسه فإن هذه الميزة كانت مصدر توترات خطيرة عوّقت الكثير من القطاعات الانتاجية. فالولايات المتحدة تعيش على نحو طفيلي على حساب شركائها في النظام العالمي "فهي تعتمد في 10 في المئة من استهلاكها الصناعي على واردات لا تغطيها صادراتها" (ايمانويل تود، ما بعد الامبراطورية، ص 80).

ان النمو الذي شهدته سنوات حكم كلينتون، والذي يتباهون به بصفته نتاج "الليبرالية" التي كثيرا ما قاومتها اوروبا ويا للأسف! كان نموا زائفا في الواقع. وعلى كل حال فهو غير قابل للتعميم لكونه اعتمد على تحويل لرؤوس الاموال ناتج عن ركود شركائها. فنمو جميع قطاعات المنظومة الانتاجية الحقيقية في اميركا لم يكن افضل من نظيره في اوروبا. كما ان ما يطلق عليه "المعجزة الاميركية" قائم فقط على نمو المصروفات الناتج عن تفاقم التفاوت الاجتماعي (الخدمات المالية والشخصية، جحافل المحامين والشرطة الخاصة، الخ...)، وفي هذا السياق، هيأت ليبرالية كلينتون الظروف التي سمحت بالفورة الرجعية، وبفوز بوش الابن اللاحق.

فضلا عن ذلك، "اصبحت الصدقية الاحصائية للناتج الوطني الاجمالي الاميركي، الذي تضخم نتيجة الغش تحاكي ما كان يحدث في الاتحاد السوفياتي"!، كما يقول تود (ص84).

هكذا فإن العالم ينتج بينما تستهلك اميركا، اذ لا يساوي ادخارها القومي شيئا. و"الميزة" التي تمتلكها اميركا هي ميزة قناص، يغطى عجزه من مساهمات الآخرين، برضاهم او بالاجبار. وتلجأ واشنطن الى وسائل شتى لتعويض النقص لديها: مثل الانتهاكات المتكررة لمبادئ الليبرالية، وتصدير السلاح غالبا بفرضه على حلفاء تابعين لها، (فضلا عن كونهم لن يستخدموا ابدا هذه الاسلحة مثل السعودية) حيث تستحوذ واشنطن على 60 في المئة من السوق العالمية.

ان البحث عن ريع اضافي من النفط، يفترض وضع المنتجين تحت السيطرة، وهو الدافع الحقيقي وراء الحروب في آسيا الوسطى والعراق.

كما تقوم اميركا بتغطية عجزها عبر جلب رؤوس الاموال من اوروبا واليابان وكذلك من الجنوب سواء من دول النفط الغنية او من الطبقات الكومبرادورية من كل دول العالم الثالث بما فيها الدول الاكثر فقرا. اضافة الى الابتزاز الذي تمارسه تحت مسمى خدمة الديون المفروضة تقريباً على كل دول الأطراف في النظام العالمي.

 

الطمــوح اللامحــدود للولايــات المتحــدة [2]

سمير أمين

 

الحلقة الثانية الاخيرة من مقالة سمير امين حول موقع الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة:

 

ان الاسباب التي تفسر استمرار تدفق رؤوس الأموال التي تغذّي طفيلية الاقتصاد والمجتمع الاميركيين والتي تسمح لهذه الدولة العظمى أن تعيش يوماً بيوم (بلا تطلع الى المستقبل) معقدة بالتأكيد. لكنها ليست نتاج "قانون السوق" العقلاني والذي لا مناص منه.

ان تضامن القطاعات المهيمنة للرأسمالية المتعددة القومية، الشركاء في دول الثالوث حقيقة واقعة، وهذا يتضح من خلال تبنيهم لليبرالية الجديدة المعلومة ومن هذا المنظار، يتم اعتبار الولايات المتحدة المدافع (العسكري اذا لزم الأمر) عن "المصالح المشتركة". لكن واشنطن لا ترى ان عليها اقتسام عوائد كونها القائد "على نحو عادل". بل على العكس، فهي تجتهد لاخضاع حلفائها. وهي غير مستعدة لتقديم اكثر من بعض التنازلات الصغرى لحلفائها التابعين من دول الثالوث.

هل من الممكن ان يؤدي هذا الصراع على المصالح بين رؤوس الأموال المهيمنة الى تبادل الاتهام بالدرجة التي قد تؤدي الى انقسام في التحالف الاطلسي؟ هذا ليس بالأمر المستحيل لكنه مستبعد.

ان الصراع الواعد ممكن في ميدان آخر هو ميدان الثقافة السياسية. فلا يزال البديل اليساري قائماً في اوروبا. ما سيفرض على اوروبا القطيعة مع الليبرالية الجديدة، (وتالياً التخلي عن الأمل الذي لا طائل منه، الخاص باخضاع اوروبا الولايات المتحدة لمتطلباتها بما يسمح لرأس المال الاوروبي بالمنافسة في الميدان الاقتصادي غير الملغم كما يفرض في الوقت نفسه عدم الدوران في مدار الاستراتيجية السياسية الاميركية). في هذه الحال، ستستخدم اوروبا فائض رأس المال لديها، الذي تكتفي حالياً "بوضعه" في اميركا في خلق انتعاش اقتصادي واجتماعي، لن تستطيع تحقيقه دون هذا الفائض. وستنهار تالياً قوة الاقتصاد الاميركي المصطنعة وستواجه الطبقة الحاكمة الاميركية بمشكلاتها الاجتماعية، في تلك اللحظة التي ستختار فيها اوروبا اعطاء الأولوية للازدهار الاقتصادي والاجتماعي. هذا هو المعنى الذي اعطيه للخاتمة، "أما ان تكون اوروبا يسارية او لا تكون".

وحتى تتمكن اوروبا من تحقيق ذلك، عليها التخلص من وهم انه من الواجب ومن الممكن ان يلعب الجميع لعبة الليبرالية بـ"استقامة"، وان الأمور ستسير على نحو أفضل في هذه الحالة. فأميركا لا تستطيع العدول عن اختيارها الخاص بممارسة الليبرالية على نحو غير متناغم، لأن هذه هي وسيلتها الوحيدة لتعويض قصورها الخاص، فثمن "ازدهار" اميركا هو ركود الآخرين.

لماذا يتوالى اذاً تدفق رؤوس الأموال لمصلحة الولايات المتحدة رغم هذه البديهيات؟ بلا شك، ان حافز الكثيرين هو كون اميركا ببساطة "بلد الأغنياء"، والملجأ الأكثر أمناً. هذا الوضع ينطبق على بورجوازية بلدان العالم الثالث الكومبرادورية. لكن ماذا عن الاوروبيين؟ يبدو ان فيروس الليبرالية، والاعتقاد الساذج بأن اميركا ستقبل ذات يوم "لعبة السوق" لهما سلطة أكيدة على الرأي العام الواسع. من هذا المنطلق، قام صندوق النقد الدولي باضفاء نوع من القداسة على مبدأ "حرية انتقال رأس المال"، وذلك ببساطة للسماح لاميركا على نحو خاص بتغطية عجزها من طريق ضخ الفائض المالي الناتج خارجها عن تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة، التي لا تخضع لها اميركا الا بشكل انتقائي للغاية! الا انه بالنسبة الى الجزء الأكبر من رأس المال المهيمن، تفوق ايجابيات هذا النظام مساوئه، المتمثل في الإتاوة التي يجب دفعها لواشنطن حتى تضمن استمراره.

ان الدول المعروفة بـ"الدول الفقيرة المدينة"، مضطرة للدفع. لكن هناك "دول قوية مدينة"، لن تقوم أبداً بسداد ديونها، كما يجب ان نعلم، وتالياً فان هذه الاتاوة الفعلية التي تفرضها واشنطن من طريق الابتزاز السياسي تصير هشة.

4- يقع خيار اميركا العسكري الراهن ضمن هذا المنظار. فهو يعني الاعتراف بأنه لا يوجد تحت تصرف الولايات المتحدة وسائل أخرى تمكنها من فرض هيمنتها الاقتصادية.

هناك اسباب معقدة وراء ضعف المنظومة الاقتصادية الاميركية. وهي ليست اسباباً ظرفية، من الممكن اصلاحها من طريق تبني سعر صرف صحيح، او صياغة علاقة اكثر ملاءمة بين الأجور والانتاجية على سبيل المثال. بل هي اسباب هيكلية، فتردى نظم التربية والتعليم العام، نتيجة حكم مسبق ثابت متحيز على نحو مطلق لكل ما هو خاص، على حساب الخدمات العامة من الاسباب الرئيسة للأزمة العميقة التي يمر بها المجتمع الاميركي.

من المدهش ان الاوروبيين بدلاً من أن يستخلصوا النتائج المنطقية التي تفرضها حالة عجز الولايات المتحدة، يجتهدون على النقيض لتقليدها. ولعل انتقاد فيروس الليبرالية لا يكفي لتفسير كل شيء، ولو كان يؤدي بعض الوظائف المفيدة للنظام القائم، عبر شله حركة اليسار. فالخصخصة المفرطة، وتفكيك الخدمات العامة سيؤديان الى الحد من الميزات النسبية التي تحظى بها "اوروبا القديمة"، كما يصفها بوش. لكن اياً تكن الاضرار التي ستجلبها تلك الاجراءات في المدى البعيد، فانها تمنح الرأس المال المهيمن، في المدى القصير، الفرصة لتحقيق ارباح اضافية.

ان الخيار العسكري الاميركي يهدد جميع الشعوب. فهو ينبع من المنطق نفسه الذي تبناه منذ عهد قريب ادولف هتلر، والقائم على استخدام العنف العسكري من أجل تعديل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لمصلحة "الجنس الآري" الجديد. يحدد هذا الخيار جميع الظروف السياسية بفرضه نفسه على مقدمة المشهد، حيث ان  استمرار هيمنة هذا المخطط سيضعف الى اقصى حد جميع المميزات التي قد تتمكن الشعوب من الحصول عليها عبر نضالها الاجتماعي والديموقراطي. ويصبح تاليا افشال المخطط العسكري الاميركي مهمة الجميع الأولى، ومسؤوليتنا الكبرى.

ويتخذ النضال من اجل إفشال المخطط الاميركي اشكالا متعددة بالتأكيد، فهو يحمل طابعا ديبلوماسيا، اذ يجب الدفاع عن القانون الدولي، وطابعا عسكريا، حيث يتوجب اعادة  تسليح جميع البلدان حتى تتمكن من مواجهة الاعتداءات التي تنويها واشنطن، فعلينا الا ننس ان اميركا قد استخدمت السلاح النووي عندما كانت تحتكره بينما عدلت عن استخدامه بعد فقدانها هذه الميزة. وثمة نضال سياسي خصوصا في ما يتعلق بالبناء الاوروبي واعادة بناء جبهة عدم الانحياز.

يعتمد نجاح هذا النضال على القدرة على التحرر من الاوهام اللبيرالية، لأنه لن يكون ابدا هناك اقتصاد معولم "ليبرالي حقيقي"، مع اننا ما زلنا وسنظل نحاول بكل السبل تصديق هذه الاوهام. ان خطاب البنك الدولي، الذي يقوم بدور وزارة الدعاية الاميركية، حول "الديموقراطية"، "ترشيد الادارة"، و"تقليل الفقر" ليس له اي دور، مثل الضجة الاعلامية التي صاحبت جوزف ستيجليت، سوى ترديد بعض الحقائق الاساسية، والتي يرددها بسلطوية متغطرسة دون ان يستخلص من ذلك اي نتائج تضع المسلمات الاساسية للاقتصاد المبتذل موضع المساءلة.

ان اعادة بناء جبهة من دول الجنوب، قادرة على تفعيل تضامن شعوب كل من آسيا، وافريقيا، والتريكونتينتال، واعطاءها القدرة على الفعل على المستوى العالمي، ممكنة فقط في حالة التحرر من الاوهام حول خلق نظام ليبرالي عالمي "متناغم" يسمح لشعوب العالم الثالث بتجاوز "تخلفهم". أليس من السخف رؤية دول الجنوب وهي "تطالب بتطبيق مبادئ الليبرالية دون تمييز"، وعندما يفعلون ذلك يصفق لهم البنك الدولي؟! فمتى سبق ان دافع البنك الدولي عن العالم الثالث في مواجهة الولايات المتحدة؟

ان النضال ضد امبريالية الولايات المتحدة ومخططها العسكري هو نضال كل الشعوب، نضال اهم ضحاياه في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، وكذلك شعوب اوروبا، واليابان المحكوم عليهم بالتبعية، بل الشعب الاميركي نفسه. هنا علينا ان نحيي شجاعة كل الذين رفضوا الخضوع من "عرين الوحش" كما رفض اسلافهم الخضوع لمكارثية الخمسينات، وكذلك اولئك الذين تجرأوا على مقاومة هتلر وفازوا بجميع القاب النبل التي يمكن للتاريخ ان يمنحها لهم. فهل يمكن ان تتراجع الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة عن مخططها الاجرامي الذي تبنته؟

سؤال يصعب الاجابة عليه. القليل، بل لا شيء في تكوين المجتمع الاميركي يشير الى ذلك. فلم يسبق ان تخلى حزب رأس المال الاوحد، الذي لا يمكن المجادلة حول سلطته في اميركا، عن هذه المغامرة العسكرية. وفي هذا السياق، لا يمكن التقليل من مسؤولية تلك الطبقة المتورطة في مجموعها.

فسلطة ادارة بوش الابن ليست سلطة "طغمة" رجال النفط وصناعة التسليح. فالسلطة المهيمنة في اميركا طوال تاريخها الحديث هي سلطة ائتلاف مصالح يجمع قطاعات من رأس المال، توصف خطأ بـ"جماعات الضغط". لم يكن لهذا التحالف ان يحكم دون قبول قطاعات رأس المال الاخرى بسلطته. وبالتأكيد، قد تدفع بعض الاخفاقات السياسية، او الديبلوماسية، او حتى العسكرية، اقلية منخرطة في المؤسسة الاميركية ان تقبل التخلي عن المغامرات العسكرية التي انغمست فيها بلادها. ويبدو لي ان انتظار ما هو اكثر هو على الدرجة نفسها من سذاجة توقع ان يتعقل هتلر!

فلو كان الاوروبيون قد انتفضوا في 1935 او في ،1937 لكانوا استطاعوا وقف الهذيان النازي. لكنهم ظلوا مكتوفي الايدي حتى عام 1939 مما كبدهم عشرات الملايين من الضحايا. لهذا فعلينا ان نتحرك حتى يجيء الرد على تحدي نازيي واشنطن الجدد اسرع.

 

Hosted by www.Geocities.ws

1