وهل تهزم الأمم إلاّ من داخلها؟

بقلم : نصر شمالي

تبرهن التجارب الميدانية مرّة أخرى وأخرى أنّ الأمم مثل القلاع، لا تؤخذ ولا تهزم إلاّ من داخلها، سواء اقتصادياً أم سياسياً أم عسكرياً، وهاهي وقائع حرب التدمير الشامل ضدّ قطاع غزّة تكشف تماماً مقدار اختراق العدو للأمة العربية من داخلها وعبر حكوماتها، إلى الحدّ الذي لم تعد الجماهير العربية تملك معه سوى مجرّد الخروج إلى الشوارع مذهولة غير مصدّقة، وغير قادرة على نجدة عرب غزّة سوى بإظهار ألمها وإعلان تضامنها الوجداني، مثلها مثل جماهير الأمم الأخرى المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني في مأساته المروّعة، وإنّها لظاهرة لا مثيل لها فعلاً في العالم المعاصر، أنّ الحكومات العربية الرسمية، المسؤولة عن سلامة شعوبها وأمتها، هي التي تشكّل الثغرة التي ينفذ منها الأعداء، ليس من أجل تحقيق بعض المصالح والمكاسب المادية، بل لإبادة شعب فلسطين وإحلال شعب آخر محله، ولتدمير الشعب العراقي وإلحاق وطنه بوطن آخر لشعب آخر في قارة أخرى، والحبل على الجرّار!

ظاهرة حكوماتنا لا مثيل لها!

إنّ الأقطار العربية لا تتعرض تباعاً لخطر الدمار الشامل لمجرّد وجود "طابور خامس" يتحرّك في الظلام، ولا لمجرّد أخطاء هذا الفريق السياسي أو ذاك، ولا لمجرّد أنّ حكوماتها منحازة إلى طبقة الأثرياء على حساب الفقراء، ولا لأنّها ملكية أو جمهورية، مستبدّة أو ديمقراطية، يسارية أو يمينية وقومية أو إسلامية، فمثل هذه الظواهر موجودة في جميع البلدان، إنّها تتعرّض لخطر الدمار الشامل لأنّ حكوماتها الرئيسية شريك في عمليات التدمير والإلحاق والإبادة، كما رأينا في العراق وفي فلسطين، وكما نرى اليوم في قطاع غزّة تحديداً بوضوح ما بعده وضوح، فهي مثلها مثل الأميركيين والإسرائيليين تطالب الفلسطينيين بالاستسلام طوعاً للوحش الإسرائيلي الاستيطاني كي يبتلعهم، أو يتعرّضوا لعمليات القتل والتدمير لإرغامهم على الاستسلام، بموافقتها وبمشاركتها، فلماذا تفعل الحكومات العربية ذلك، وكيف حدث أنّها أصبحت تفعل ذلك، كما أظهرت في اجتماع وزراء الخارجية؟

الانصهار العضوي في الاستراتيجية الأميركية!

سوف نقتصر في الإجابة على ذكر مثال واحد، هو مثال حكومة مصر، البلد الأكبر بعدد سكانه، والأقوى بجيشه، والأغنى بتجربته ومؤسساته وبثرواته الأزلية الثابتة، لا الطارئة العابرة كتلك التي ينعم ببعض من فتاتها أثرياء النفط تاركين معظمها للأعداء، فقد بدأ الاختراق الأميركي الصهيوني العظيم لمصر في عقد السبعينات الماضي عبر الحكومة المصرية، عندما أعلن السادات أنّ 90 بالمائة من أوراق المنطقة في حوزة واشنطن، أي أنّ واشنطن هي سيّدة المنطقة العربية ومالكتها! وبالطبع لم يكن ذلك صحيحاً بالرغم من قوة النفوذ الأميركي في المنطقة، بل كان تبريراً للانصهار العضوي في الاستراتيجية الأميركية الصهيونية، كما هو حال أثرياء النفط، تذرّع به شخص غير سويّ، لا يستحقّ مركز الرئاسة الذي احتله بالمصادفة، ويريد أن يبقى فيه على صورة مخجلة لإمبراطور مقدّس منعّم من أباطرة ما قبل الميلاد!

أوضاع الشعب المصري لا تقلّ سوءاً!

 لقد ذهب السادات بعيداً جدّا على طريق حلمه المريض الذي غذّاه أمثال "عزيزه" هنري كيسنجر، ففرّط دفعة واحدة بأهم مرتكزات الدولة المصرية، واستبدل رجالها المخلصين الشرفاء بالأوباش واللصوص والانتهازيين والخونة، وسلّم مفاصلها ومفاتيحها للاستخبارات الأميركية، ابتداءً بأمنه الشخصي! ولم يكتف بذلك، وإمعاناً منه في الحصول على دعم أميركي صهيوني مطلق لنظامه الغريب البغيض، توجّه إلى المستوطنين الإسرائيليين المجرمين زائراً ومتنازلاً  عن فلسطين لهم نيابة عن الفلسطينيين! وعلى الرغم من مقاومة الشعب المصري العظيم وامتناعه عن قبول الاستسلام والتبعية والتطبيع، وعلى الرغم من مصرع السادات الحالم بطول العمر والاستئثار بالحكم وراثياً، فإنّ ذلك لم يحل دون مضي خلفه على الطريق نفسها وإن بصورة أقلّ مباشرة واستفزازاً، ولم يحل دون تجريد الشعب المصري شيئاً فشيئاً من أسباب قوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بحيث غدا لا يملك أكثر من إعلان غضبه وشجبه، سواء بصدد أوضاعه الداخلية المروّعة أو بصدد ما يتعرّض له أشقاؤه في فلسطين والعراق وغيرهما، فهو غدا شبه أعزل لا يختلف وضعه في كثير من الوجوه عن أوضاع أشقائه الذين احتلّت بلدانهم إن لم يكن أسوأ وأخطر!

القوات المصرية في العمليات الأميركية!

منذ عام 1979، أي منذ ثلاثين عاماً، وضعت واشنطن حكومة مصر على قائمة "المساعدات" العسكرية الأميركية، مثلها مثل الكيان الإسرائيلي، ثمّ قامت بشطب الديون المترتّبة عليها ما بين العامين 1982و1989، وبتنظيم "مساعدات" عسكرية على شكل منح، من دون أية شروط لتسديدها، وذلك مقابل إسهام الحكومة المصرية في دعم الاستراتيجية الأميركية الصهيونية في بلادنا! وبالفعل،منذ عام 1979وحتى عام 2006، وصل حجم "المساعدات" العسكرية والاقتصادية لحكومة مصر مبلغ 60 مليار دولار، أما الهدف الرئيسي فهو: "تحديث الجيش المصري وتزويده بالمعدات التي تمكنه من المشاركة في العمليات الحربية الأميركية وفي المساهمة في الدفاع عن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط"! كما جاء في مذكرة أميركية رسمية قدّمت للجنة الاعتمادات والمخصصات الأجنبية في الكونغرس! وفي هذا السياق فتحت الحكومة المصرية الأجواء للطائرات الحربية الأميركية منذ عام 2001، أي ضدّ العراق، وصرّحت على وجه السرعة بعبور 861 بارجة حربية (عدد مرّات العبور) في العام نفسه، مع تأمين الحماية، وأرسلت قوات عسكرية مصرية إلى إقليم دارفور السوداني، وإلى البوسنة وأفغانستان وغيرهما، وقامت بتدريب رجال الشرطة والدبلوماسيين العراقيين في العام 2004، الخ، وفي العام 2006 صرّح مسؤولون أميركيون ومصريون أنّ الجيش المصري "أصبح أكثر استعداداً ولديه معدات أفضل للدفاع عن الأراضي المصرية وللمشاركة في عمليات حفظ السلام في المنطقة"!

مساعدة الضباع على التهام الفلسطينيين!

 بالطبع، بعد اختراق مصر وما تبعه وترتّب عليه عربياً، صارت الحكومات العربية تعتبر تدمير قطاع غزّة، واستئصال المقاومة الفلسطينية، مهمة أساسية من مهامها "لحفظ السلام" في المنطقة، هذا "السلام" الذي يتحقق بمساعدة ضباع الاستيطان الإسرائيلي على التهام الفلسطينيين صغاراً وكباراً، أحياءً وأمواتاً، فمقابل كلّ فلسطيني من جميع الأعمار والأجناس هناك ضبع إسرائيلي يهمّ بالتهامه، حيث كشف استطلاع إسرائيلي أنّ 80 بالمائة من الإسرائيليين مع المضي في تدمير غزّة وإزالتها وسكّانها من عالم الوجود، أمّا البقية الإسرائيلية الأقلّ تطرّفاً فلعلها تريد الاحتفاظ بالفلسطينيين عبيداً أو خدماً مأجورين، أو قوّة عمل عضلية رخيصة في أفضل الأحوال!

                [email protected]

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1