وظيفة السينما السياسية وجذورها الأولمبية!

بقلم : نصر شمالي

تزعم مرجعيات المركزية الأوروبية/الأميركية، الثقافية والفنية، أنّ العهد الإغريقي القديم، قبل الميلاد، هو الرحم الذي أنجب فنّ التمثيل! وفي زعمها الآخر المتعلّق بانتساب أوروبا إلى الإغريق والإغريق إلى أوروبا(وهذا تلفيق طبعاً) وزعمها اقتصار الفعل الحضاري على أوروبا، تنفي هذه المرجعيات أن تكون لفنّ التمثيل أية صلة مسبقة بالمصريين والسوريين والعراقيين والحجازيين واليمنيين القدامى، فهذه الأقوام وغيرها من الأقوام التي شكّلت روافد ومكونّات الأمة العربية الإسلامية (المتبلورة والناهضة كأمة متكاملة في العصر العربي الإسلامي العالمي) لا تستحقّ سوى الاحتقار إن لم يكن التجاهل التام! والحال أنّ  هيكل الأولمب الإغريقي الذي نهض كمجمّع للآلهة اليونانية كان تقليداً وتكراراً لهياكل الأقوام التي ذكرناها، أي أنّه (بل والتجربة الإغريقية بمجملها) لم يظهر من فراغ، فهو امتداد لتجارب تلك الأقوام ظهر على تخومها الجغرافية والديموغرافية، أما أوروبا الشرقية والشمالية والغربية والوسطى فقد كانت مجاهل غارقة في الظلمات البدائية، ولسوف تبقى كذلك إلى ما بعد أكثر من ألفي عام تلي انهيار دولة الإغريق، وعندما تنهض أوروبا العنصرية الجديدة، ابتداءً من أوائل القرن السادس عشر، سوف تتجاهل أيضاً نهوض العصر العربي الإسلامي على مدى حوالي ألف عام قبلها، ولسوف تصنّفه قروناً من "تحكّم البداوة العربية" بشعوب جنوب شرق المتوسط! أي التحكّم بالغساسنة والمناذرة وأمثالهما في المشرق والمغرب، الذين كانوا جميعهم شركاء في التحضير لانتصار الدعوة الإسلامية، من أسلم منهم ومن لم يسلم! ولسوف تصنّف هذه الشعوب مجالاً حيوياً جغرافياًً وبشرياً للأوروبيين واليهود الصهاينة في عهود ما قبل الإسلام، وينبغي العمل على إعادتها إلى ما كانت عليه، لمصلحة هذه الشعوب أيضاً حسب زعمهم! ولسوف يوافقها بعض مثقفينا، ويا للعار، ويتطوعّون بحماسة لإشاعة تلفيقاتها، كما نسمعهم يتشدّقون اليوم!

لقد كانت الآلهة في العهود الوثنية القديمة خليطاً من السادة الأحياء والأصنام الجماد التي تجسّدهم، وكان مفروضاً على عامة الناس الخضوع لها خضوعاً تاماً، ولم تكن الدعوات الدينية في وجهها الدنيوي، والتي تبلورت واستمرّت منذ العهد الإبراهيمي (1900-1700 ق م) وبلغت ذروتها بانتصار الإسلام في القرن السابع، سوى نضال المجتمعات البائسة المستعبدة ضدّ الأسياد الطغاة، أمّا الكعبة الإبراهيمية فكانت بيت الله المتعالي على الشرك والتجسيد وقد نهض في مواجهة مجمّعات الآلهة الوثنية في العواصم العبودية! غير أنّ الوثنية اجتاحت الكعبة لاحقاً، وحوّلتها إلى مجمّع لأصنام جميع أقوام منطقة المتوسط، يعودون إليها في أسواق مكّة المزدهرة لفضّ خلافاتهم وإبرام اتفاقاتهم التجارية وغيرها، فصار نجاحها في مكّة الحجازية النائية مثار الاهتمام السياسي ومحطّ الأطماع التجارية، وصارت الكعبة مدعاة للتقليد غير الناجح عموماً، فكان الأولمب الإغريقي وغيره من محاولات تقليدها والقيام بوظائفها!

إنّ المشروع السياسي/التجاري الإغريقي، الذي لم ينجح في تقليد الكعبة ومجاراتها في وظائفها الأممية السلمية، انكفأ واقتصر على مجرّد حكايات وتمثيليات خرافية محورها الأساسي تلك الآلهة القاسية المحاربة، الضجرة اللاهية، المحتشدة في هيكل جبل الأولمب! وجدير بالذكر أنّ اليونان القديمة، في عصرها الذهبي، حيث عاش كبار الفلاسفة من أمثال أرسطو وأفلاطون وهوميروس، كان يسكنها 35 ألفاً من السادة الأحرار و300 ألفاً من العبيد، والديمقراطية الإغريقية كانت للأقلية طبعاً، أمّا الأكثرية المملوكة كالدواب تماماً، والتي تعدّ عشرة أضعاف عدد الأقلية، فكانت بكلمة واحدة كالعبيد الأفارقة في أميركا! ولذلك ليس غريباً أن نرى العالم اليوم مقسّم عن سابق تصميم وتصوّر إلى خمس بشري ذهبي وأربعة أخماس بشرية تفنى في خدمته!

لقد أمسك الكاتب الروسي الكبير تولستوي بالجذر الذي تستند إليه الوثنية العبودية الرأسمالية المعاصرة، عندما تحدّث عن روايات مسرح شكسبير خاصة، وعن مرامي الطبقة الاجتماعية التي ترعاها، فقد سعت هذه الطبقة وما زالت إلى إحلال الأدباء والفنانين محلّ الأنبياء والرسل، وإلى إحلال الأعمال الأدبية والفنية محلّ الكتب المقدّسة، وإلى إحلال دور العرض المسرحي، ثمّ السينمائي لاحقاً، محلّ دور العبادات السماوية، فكان التعظيم إلى حدّ التهويل للإلياذة والأوديسة وكاتبيهما ومن سار على نهجيهما حتى يومنا هذا!

لسنا هنا في معرض النقد والمقارنات، بل نريد الإشارة تحديداً إلى التوظيف الإجرامي للآداب والفنون في خدمة الآلهة الوثنية القديمة التي أعيد الاعتبار إليها وإلى عقيدتها العبودية في هذا العصر، وأول هذه الآلهة هو رأس المال الإمبراطور، وقد بلغ هذا التوظيف اللئيم أقصى مداه بظهور دور العرض السينمائي والروايات الممثّلة المصوّرة، المتحرّكة الناطقة، والملوّنة المجسّمة، التي تخلب الألباب حقاً، والتي اتسعت خشبة مسرحها لتشمل جميع الأمكنة، أمّا مدينة هوليوود ومدينة والت ديزني فليستا سوى تطويراً هائلاً لمجمّع الآلهة الأولمبي الإغريقي القديم في خدمة نظام العبودية العالمي المعاصر، وأمّا الأبرياء السذّج المستمتعين برواياتهما السينمائية، وكذلك السخفاء المترهّبون في محراب الفنّ للفنّ، والفنّ للحياة، فقد غدوا أداة من أدوات هذه اللعبة الجهنّمية المدمّرة بعد أن كانوا هدفاً من أهدافها!   

إنّ تاريخ السينما ودورها الإجمالي موظّف في الغالب لخدمة أوثان هذا العصر(بما فيها السينما العربية في معظم إنتاجها وأجهزة العرض العربية في معظمها) ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش الابن اعتبر السينما أحد خطوط المواجهة الرئيسية في حربه ضدّ الأمم المظلومة المتهمة بالإرهاب، فقد شكّل منذ بدايات عهده لجنة فنّية من أربعين خبيراً مهمّتها بلورة سبل الدعم التي يمكن أن تقدّمها هوليوود لجبهات الحرب العسكرية الأميركية، واختار لرئاسة اللجنة جاك فالانتيي رئيس جمعية الصور المتحرّكة، وقد نضجت فكرة اللجنة السينمائية المحاربة بعد شهرين من أحداث 11/9/2001، وذلك في اجتماع في "بيفرلي هيلز" ضمّ كارل روف كبير مستشاري الرئيس السياسيين والقيادي في الحزب الجمهوري، ومجموعة من خبراء صناعة السينما، وقد عرض روف خلال الاجتماع سبعة موضوعات موكولة إلى قطاع السينما تعطيها إدارة بوش الأولوية وتريد أخذها في الاعتبار عند الانطلاق، وجرى اختيار الممثلين جورج كلوني وبات دامون وجوليا روبرتس وبراد بيت للقيام بزيارة قاعدة عسكرية أميركية في تركيا، فكانت تلك إحدى البدايات السينمائية الحربية المبكّرة في عمليات التمهيد لاحتلال العراق!

  [email protected]

 

Hosted by www.Geocities.ws

1