نمط الحياة الأميركية لا يقبل التفاوض!

بقلم : نصر شمالي

يجتاز الأميركيون بسياراتهم،على طرقاتهم، مسافات تبلغ كلّ عام أكثر من عشرين مليار كيلومتر! لقد كان عدد السيارات العاملة في العالم كلّه عام 1973 حوالي 300 مليون سيارة، منها 200 مليون في الولايات المتحدة، أي أنّ 5 في المائة من البشرية تمتلك ثلثي السيارات و95 في المائة تمتلك الثلث، ولذلك ليس غريباً أنّ حصة الولايات المتحدة من مجمل استهلاك النفط في العالم تزيد عن 33 في المائة!

 غير أنّ الظواهر العجيبة في نمط الحياة الأميركية، النمط المتميّز والمتعالي إلى حدّ السّفه والفجور، لا تقتصر على ذلك الذي أشرنا إليه بل تتعدّاه إلى ما هو أخطر، فهذه الدولة العظمى المتغطرسة، التي أفقدها تفوّق قوّتها العسكرية صوابها، تستهلك أكثر بكثير جدّاً مما تنتج، فلو أنّها تسدّد نفقات حياتها الباذخة المتلافة من إنتاجها لصمت الآخرون رغم عدم قناعتهم (من الناحية الأخلاقية على الأقلّ!) لكنّها تجبر كسرها وتسدّ عجزها بممارسة الابتزاز وفرض الأتاوات معتمدة على سيفها، خاصة في ميدان النفط، الذي هو الدماء السارية في شريانات الحياة المعاصرة، تستمرّ به وتموت من دونه!

 إنّ الولايات المتحدة تسيطر إلى حدّ كبير جدّاً على مادّة النفط (المادة النبيلة كالدماء والمهانة كسقط المتاع!) منذ استخراجها وحتى استهلاكها، خاصة النفط العربي الذي هو أعظم الانتاج العالمي كمّاً، وأفضله نوعاً، وأرخصه سعراً! فبعد حرب عام 1973 وارتفاع أسعار النفط زادت أرباح الشركات النفطية الأميركية، والأميركية المختلطة المتعدّية للجنسيات، بنسبة 71 في المائة، مع أنّ حجم مبيعاتها لم يرتفع أكثر من 10 في المائة، أمّا الشركات الستّ الأميركية الخالصة فقد حققت خلال تلك الفترة دخلاً إجمالياً بلغ 50 مليار دولار، وأرباحاً صافية بلغت 6 مليارات! وفي الوقت نفسه امتلأت الخزّانات النفطية الأميركية العملاقة بفائض هائل، وبأسعار زهيدة لا تستحقّ الذكر، كاحتياطي استراتيجي لصالح الأمن القومي! غير أنّه لم يكن هناك ما يحول دون المتاجرة به بأعلى الأسعار وملء الخزانات من جديد بأقلّ الأسعار، حيث للولايات المتحدة أسعارها الخاصة المخفّضة عند الدول العربية المنتجة للنفط!

لقد حاولت الحكومات العربية في ذلك العام، 1973، نيل الحدّ الأدنى من العدالة والحق والكرامة والحرية، في نطاق الاستراتيجية الأميركية وبما لا يتعارض معها، لكنّ متطلّبات نمط الحياة الأميركية الباذخ الشره لم يكن ليسمح بذلك أبداً، وقد تصدّى السناتور والتر فولبرايت، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، لتلك المحاولة قائلاً: "إنّ العرب المنتجين للنفط لا يملكون سوى قوة عسكرية متواضعة في عالم اليوم، وهم مثل وعول ضعيفة في غابة كبيرة مليئة بالوحوش الكاسرة، وعلينا أن نذكّرهم بذلك من موقع الأصدقاء، وأنّهم سوف يتحمّلون مسؤولية المخاطر الرهيبة التي يعرّضون أنفسهم لها إذا هدّدوا فعلاً التوازن الاقتصادي والاجتماعي للبلدان الصناعية الكبرى، وفي مقدمتها خصوصاً الولايات المتحدة"!

لقد كان محرّماً على العرب، ولا يزال، تحقيق التكامل بين الثروة النفطية والثروة البشرية والجغرافية العربية وبقية فروع الاقتصاد الأخرى، فالنفط العربي يمكن أن يشكّل الرافعة لنهوض جميع فروع الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأمة العربية كلّها، كما هو الحال في البلدان الصناعية الكبرى التي أشار إليها أولبرايت، أمّا عائدات مبيعاته في حدّ ذاتها، والتي تتحكّم الولايات المتحدة بحجمها ومصيرها وأوجه صرفها، فلا يمكن أن تشكّل الرافعة المطلوبة، وبينما يتحوّل الدولار النفطي في البلدان الصناعية الكبرى إلى آلاف الدولارات، عبر آلاف المنشآت والقطاعات العملاقة المختلفة الاختصاصات والوظائف، فإنّه في البلاد العربية  يبقى مجرّد دولار استهلاكي ترفيهي، ومجرّد ثروة عابرة مهدّدة بالتآكل والاضمحلال والضياع في أية لحظة!

في العام 1974 بلغت ثروة  دول الأوبك جميعها 140 مليار دولار، وكانت حصة الدول العربية النفطية منها 60 ملياراً، غير أنّ هذا الرقم الذي يبدو ضخماً جداً كان يعادل فقط 14 في المائة من الدخل الوطني الياباني! وفي العام 1999 بلغ الناتج الإجمالي المحلّي لجميع الدول العربية حوالي 54 مليار دولار، وهو ناتج أقلّ من دخل إسبانيا لوحدها! فالنفط في إسبانيا له شأن آخر غير شأنه في الجزائر أو في السعودية، وموقع إسبانيا بين بلدان المليار الذهبي من البشر المتميّزين مختلف تماماً عن موقع البلاد العربية المصنّفة بين الأكثرية من الشعوب "البربرية" وفي أسفل سلّمها! وعندما حاول العراق الخروج على هذه القاعدة العنصرية، وتشكيل سابقة سوف ينال تكرارها وشيوعها من نمط الحياة في الولايات المتحدة وحليفاتها، قرّروا القضاء عليه قضاءً مبرماً بمساعدة أشقائه التعساء!

لقد أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان، في ثمانينات القرن الماضي، أنّ نمط الحياة الأميركية غير قابل للتفاوض! ومن دون أدنى ريب فإنّ المعني الأول بالحفاظ على نمط الحياة الجنوني هذا هو النفط، والنفط العربي تحديداً، فهذا النفط يمدّ نمط الحياة الأميركية بأسبابه من جهة، ويثري شركات الولايات المتحدة النفطية ثراء فاحشاً من جهة ثانية، ويمكّن حكومتها من الإمساك بخناق العالم وتطويعه من جهة ثالثة!

 لم تغيّر في هذا الاتجاه الأميركي الثابت الاضطرابات التي بدأت تعصف بالاقتصاد الدولي، ولا بوادر قدوم أزمة طاقة عالمية، حيث صار استهلاك 6 براميل نفط في اليوم لا يقابله سوى اكتشاف برميل واحد في ميادين التنقيب، وهكذا ما كادت حكومة جورج بوش النفطية تصل إلى البيت الأبيض، مطلع العام 2001، حتى انهمكت في دراسة الخرائط العراقية، وفي تحديد المواقع العراقية التي ستنهض عليها المنشآت النفطية الأميركية العملاقة، بعد احتلال العراق الذي يقدّر مخزونه النفطي الإجمالي بأكثر من 400 مليار برميل!

 لقد بدأوا استعداداتهم العملية لاحتلال العراق، بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس، منذ شهر آذار/مارس 2001 تحديداً، أي بعد حوالي شهرين من تولّيهم السلطة! وبالطبع كان هاجسهم الحفاظ على نمط الحياة الأميركية غير القابل للتفاوض والتغيير كما قال ريغان، وهو الهاجس الأول لجميع الرؤساء الأميركيين حتى يومنا هذا، ولا تستثنى منه الإدارة الأميركية الجديدة أيّاً كانت أصول رئيسها وأيّاً كانت قناعاته كفرد، بل لعلّه سيكون أشدّ عتوّا في البرهنة على تمسّكه بنمط الحياة الأميركية ودعمه والحفاظ عليه، حيث هو بأمسّ الحاجة لتأكيد ولائه وجدارته!

   [email protected]

         

Hosted by www.Geocities.ws

1