من سيبلور عالم ما بعد الأزمة؟

بقلم : نصر شمالي

تداولت أجهزة الإعلام الأميركية والأوروبية خبراً مفاده أنّ ولاية كاليفورنيا قريبة من الانهيار بسبب الأزمة المالية/الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة وبالعالم عموماً! فقبل حوالي شهرين وجّه حاكمها إلى وزير الخزانة الأميركي رسالة جاء فيها أنّ كاليفورنيا خسرت مليارات الدولارات بسبب أزمة القروض، وأنّ الأزمة تحول دون الحصول على السيولة اللازمة لتسديد النفقات الجارية للمدارس ولدفع أجور أجهزة الأمن، وغير ذلك، وأنّها مبدئياً بحاجة لسبعة مليارات دولار من أجل تغطية نفقات الأيام المقبلة! وتتركّز أزمة كاليفورنيا، بالدرجة الأولى، في التدهور الشديد لعائدات الضرائب (حسب صحيفة "التايمز" البريطانية) وذلك بسبب انهيار السوق العقاري وقضية الرهن العقاري التي أطلقت الأزمة في الولايات المتحدة والعالم!   وجدير بالذكر أنّ هذه الولاية هي أعظم الولايات الأميركية ثراءً وأكثرها اكتظاظاً بالسكان، كما أنّها تصنّف، في حدّ ذاتها، على أنها ثامن اقتصاد في العالم، وقد عرف عنها، بسبب ثرائها وحجم سكانها وتنوّعهم الكبير، نزعتها الاستقلالية (إن لم نقل الانفصالية) الكامنة، وتململها من الأعباء الاقتصادية الاتحادية ومن الهيمنة السياسية المركزية، ولذلك فقد ألمحت وسائل الإعلام إلى مسألة ما إذا كان الوقت قد حان لتحقّق كاليفورنيا "خلاصها" أو "نجاتها" من قبضة الولايات المتحدة الأميركية التي تخنقها!

ولكن، إذا كان هذا هو حال كاليفورنيا فكيف هو حال الولايات المتحدة عموماً؟ تقول أوساط اجتماع منتدى دافوس الذي انعقد مؤخّراً أنّ الولايات المتحدة التي كانت معيار مزاج الاستهلاك العالمي، وكانت الفاعل الأول في توجهات رؤوس الأموال الدولية، هي الآن في حالة معقّدة من فقدان التوازن، ومن انعدام الثقة بين المستهلك والمؤسسات المالية على اختلافها (كما تشرح دراسة قدّمت إلى المنتدى من قبل معهد البحوث الأميركي "كونفرانس بورد"). وبما أنّ الأزمة العالمية انطلقت من الولايات المتحدة فقد كان طبيعياً أن تتوجه الأنظار إليها وإلى ما يحدث فيها، ولقد كانت واضحة في المنتدى مظاهر عدم الثقة في التقارير المالية الأميركية الواردة منها، فإذا كان حال الولايات المتحدة كذلك فماذا سيفعل أصحاب المال والأعمال والإدارة والسياسة في العالم، الأثرياء والحكّام الذين اجتمعوا في دافوس، والذين اعتادوا العمل خلف واشنطن وبقيادتها على مدى ستين عاماً مضت؟

لقد عقد منتدى دافوس لقاءه السنوي (27/1/2009) تحت عنوان: "بلورة عالم ما بعد الأزمة"! غير أنّ أحداً، كما يبدو، لا يعرف شيئاً عن مسارات هذه الأزمة ومضاعفاتها ومدّتها، بصورة قاطعة أو منطقية على الأقل، بل هناك مجرّد تصوّرات هي في أغلبها أقرب إلى التكهّنات والتمنّيات! ومع ذلك فليس بين المجتمعين في دافوس من يريد التخلّي عن مكابرته، والاعتراف أنّها أزمة تاريخية، وجودية، تتناول عصراً بكامله هو العصر الأوروبي الأميركي، ونظاماً دولياً بمجمله هو النظام الرأسمالي الربوي!

 لقد كان الأصح، والمنطقي، والعملي الواقعي، أن يجتمع منتدى دافوس تحت عنوان: "أسباب الأزمة الكونية وكيفية خروج البشرية منها"! أي أن يكون اجتماع مراجعة تاريخية، ونقد ذاتي، ونزوع إلى العدالة المستبعدة، غير أنّ الحضور، وهم في معظمهم من النخبة الثرية العالمية، لم يأبهوا سوى لأزمة نظامهم ومصير أموالهم وأعمالهم وسلطاتهم، وهذا طبيعي ومتوقع منهم باعتبارهم سبب الأزمة عن سابق تصميم وتعمّد، وبالتالي سبب شقاء الإنسان في كلّ مكان، وإنّه لمن دواعي العجب أنّ يتصدّى هؤلاء لبلورة عالم ما بعد الأزمة التي هم سببها، كما تقول منظمة "آتاك" غير الحكومية، ففي مقدّمة الحضور كان أصحاب المصارف الأميركية والأوروبية، من أمثال "ليمان براذرز" و "مورغان ستانلي" و "مورغان تشيس" و "كريدي سويس" و "نستلة" ..الخ! ومن المعروف أنّ الأميركي من هذه المؤسسات تسبّب في نشوب أزمة الرهن العقاري وفي تصديرها إلى العالم، وأنّ الأوروبي منها، مثل مصرف "يو بي أس" السويسري، المصنّف الأول عالمياً في ميدان الاستثمارات الخاصة، خسر خمسين مليار دولار وسرّح ستة آلاف من موظّفيه! إنّ هؤلاء هم دعاة الليبرالية الجديدة، واقتصاد السوق، والعولمة، وتفتيت الأمم وتدميرها عندما تقتضي مصالحهم ذلك، حيث أداروا ظهورهم لكلّ شأن اجتماعي إنساني، وانهمكوا في مضاعفة أحجام مدّخراتهم، وفي ركوب طريق المغامرات والاستثمارات غير المأمونة، فكيف لا يأخذ منتدى دافوس، لو أنّه كان منصفاً، هذه المسائل الأساسية بعين الاعتبار قبل البحث في "بلورة عالم ما بعد الأزمة"؟

لقد أصابت الأزمة  بالهلع شرائح اجتماعية عريضة في جميع القارات والبلدان، خاصة في أوروبا التي لحقت بها أضرار فادحة، والتي تخشى شعوبها تنصّل حكوماتها من مسؤولياتها الاجتماعية بصدد إعانات البطالة، حيث الهمّ الأول اليوم لهذه الحكومات هو "إنقاذ مؤسسات المال الأوروبية ودعم القطاعات الصناعية الأوروبية" وإن على حساب المجتمع العريض! فالحكومات التي أصبحت منذ زمن طويل في خدمة أصحاب المال والأعمال منصرفة اليوم بكل إمكانياتها لإقالة المصارف والصناعات من عثراتها على حساب مجتمعاتها، وإذا كان الحال هكذا في الولايات المتحدة وأوروبا، وبقية الدول السبع الثرية، فإنّ المتوقّع إهمال الأوضاع المأسوية في الدول الفقيرة، والتراجع عن الوعود والتعهّدات التي أقرّتها الدول الثرية لصالح الدول الفقيرة، وأيضاً التراجع عن دعم برامج الدول النامية التي وضعتها هيئة الأمم! وكيف لا والتوقعات تقول أنّ الصدمة التي أعقبت الأزمة ستؤدي في أوروبا إلى حالة من التقشف تشبه تلك التي شهدتها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل يمكن أن تشبه الحالة التي تعيشها الدول النامية!

يتلخّص المشهد الاقتصادي العالمي اليوم في: تراجع النمو عموماً، وبروز شبح البطالة على أوسع نطاق (عدد العاطلين عن العمل سيقترب من 300مليوناً في نهاية العام) ووصول المصارف تباعاً إلى حافة الانهيار، وشيوع الفقر في الشمال مثل الجنوب، وتعرّض البيئة للمزيد والمزيد من الأخطار القاتلة! وكلّ هذا وغيره يحدث في جوّ من انعدام الثقة وغموض الحلول وضعف اليقين! وبينما الأثرياء في دافوس السويسرية يناقشون كيفية إنقاذ أموالهم وحكوماتهم من براثن الأزمة العالمية ، ويصرّون على المضي في طريق العولمة  والليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، وكلّ ما من شأنه تعزيز وديمومة سيطرتهم وهيمنتهم مهما كان الثمن الذي ستدفعه البشرية فادحاً، كان الرئيس الفنزويلي تشافيز يعلن في ملتقى البرازيل، المناهض لأثرياء دافوس، أنّه حان الوقت لكي يغادر يساريّو العالم الخنادق، ولكي يشنّوا هجوماً سياسياً/ أيديولوجياً، لأنّ الرأسمالية العالمية هي المسؤولة عن المأساة والفقر والبطالة المتنامية!

                [email protected]

 

 

 

 

 

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1