مجمّع رأسمالية الكوارث يلعق جراحه!

بقلم : نصر شمالي

 

القادة الأميركيون، وهم في معظمهم من رجال المال والأعمال، ينظرون إلى العالم كأنّما هو غابة لهم مطلق الحرية في اجتياحها وإلى الشعوب كأنّما هي فرائس ينبغي صيدها والتهامها! لقد ورثوا هذه النظرة عن أجدادهم الأوروبيين، خاصة الإنكليز، لكنّهم طوّروها ودفعوا بها إلى آفاق من النجاح لم تخطر ببال أجدادهم، فالمجمّع الرأسمالي الدولي الذي يقوده الأميركيون اليوم ينهض على الكوارث العظمى، الطبيعية والمصنّعة، ليجني من ورائها أرباحه الفاحشة، وإلاّ فكيف نفهم احتفاءهم  بأحداث أيلول/سبتمبر 2001 كأنما هي حدث رائع ومفرح رغم تظاهرهم بالغضب! وكيف نفهم احتفاءهم بتدمير العراق وفرحهم به كعمل ديمقراطي! وكيف نفهم احتفاءهم واغتباطهم بكوارث إعصار  تسونامي الرهيب الذي وصفته كونداليزا رايس بالحدث الطيب المفيد! وبالطبع فإنّ البشرية عموماً تنظر من جهتها إلى هؤلاء الرأسماليين كوحوش مفترسة تلتهم لحوم البشر، فلا تخدعها شعاراتهم الفخمة ومظاهرهم الخارجية المسالمة المتحضّرة، ولا تخفى عليها مخالبهم وأنيابهم المموهّة بالحركات الرقيقة والكلمات المعسولة!

لقد سارعت إدارة الرئيس بوش إلى استغلال أحداث أيلول/ سبتمبر كأنما هي على موعد معها! كان سلوكها مريباً منذ اللحظات الأولى، وبدت كأنّما هي مستعدّة سلفاً ولديها خطتها المعدّة مسبقاً للتعامل مع الكارثة، فانطلقت على الفور "عمليات مكافحة الإرهاب" في العالم، قبل أن تتضح بصورة كافية حقيقة ما حدث، مستغلّة أبشع استغلال الخوف الذي سيطر على الأميركيين! لقد كانت تلك الأحداث كارثة نموذجية وفرصة عظيمة لتحويل الحرب ضدّ "الإرهاب" إلى حرب عالمية، وإلى جعل هذه الحرب صناعة مزدهرة تحقق أرباحاً فاحشة، فبدا " المجمّع الحربي الصناعي" الأميركي الذي يضمّ عتاة الرأسماليين السلفيين وقد دبّت فيه الحياة وعادت إليه الروح من جديد، فاستنفر الشركات الخاصة، ووضع المال العام تحت تصرّفها، وأطلقها في ركاب الجيوش الأميركية للإسهام في محاربة "الشرور" المنتشرة في جميع أنحاء العالم، فكان احتلال أفغانستان كما لو أنّه عملية استطلاع، ثمّ كان احتلال العراق المقرّر منذ أوائل التسعينات كخطوة أساسية أولى على طريق تحقيق قرن أميركي عالمي سمته الأولى هي "الفوضى الخلاّقة" والحروب المفتوحة المرعيّة والمسيطر عليها مسبقاً!

في عملية احتلال العراق اعتمد الأميركيون نظرية " الصدمة والرعب"! لقد أعلنوا عن ذلك قبل أن تنطلق العمليات الحربية، فهم كانوا على ثقة تامة من أنّ النتائج سوف تكون في صالحهم ولذلك لم يأبهوا وأعلنوا خططهم الحربية مسبقاً، ولم لا وهم، كما أشرنا، ينظرون إلى العالم كغابة موحشة وإلى الشعوب كفرائس لا تعقل؟ لقد أرادوا من تطبيق هذه النظرية السيطرة منذ اللحظات الأولى على إرادة العراقيين وأحاسيسهم ومداركهم وجعلهم عاجزين عن القيام بأي فعل أو ردّة فعل، تماماً مثلما الأضواء المبهرة والضجة تفعلان فعلهما في الفرائس! غير أنّ المفاجأة العظمى لم تقتصر على امتصاص العراقيين لأهوال صدمة الرعب التي عبّرت عن نفسها بذلك المقدار الهائل من القصف العملاق والدمار الشامل، بل تجاوزته ببدء الهجوم العراقي المعاكس على الفور! لقد كانت تلك لحظة تاريخية قرّرت نتائج الحرب في غير صالح الأميركيين سواء أطالت أم قصرت، وهي اللحظة التي لن ينساها العالم أبداً، لأنّها بالفعل أسست لنظام دولي جديد سوف ينهض إن عاجلاً أو آجلاً على أنقاض هذا النظام الدولي الأميركي القائم!

إنّ الأميركيين الذين فشلت خطتهم في تطبيق نظرية الصدمة والرعب قد وقعوا في شرّ أعمالهم، فبدلاً من أن يسيطروا على إرادة العراقيين سيطر العراقيون على إرادتهم، وهاهو بول بريمر ممثلهم في العراق ينتقل إلى البند الثاني من الخطة الحربية الأميركية وينفذها آلياً، وهو البند الذي يتضمن عملية معالجة العراقيين بالصدمة الاقتصادية كخطوة حربية تالية، علماً أنّ هذه العملية لا يمكن تنفيذها قبل نجاح العملية الأولى (الصدمة والرعب) فانطلق بريمر في عمليات الخصخصة الشاملة، وإطلاق التجارة الحرة إلى أقصى مدى، وتخفيض الضرائب بنسبة 15%، وتخفيض حجم أجهزة الدولة..الخ، وذلك كلّه كان مجدياً وضرورياً للوحوش الرأسماليين لو أنّ العراقيين استسلموا، أمّا وأنهم بدأوا هجومهم المعاكس فوراً فإنّ إجراءات بريمر الإدارية والاقتصادية الإجرامية جاءت في صالح المقاومة وفي غير صالح المحتلين الذين صعقتهم  صدمة الرعب العراقية التي لم يحسبوا لها حساباً قط!

لقد كان الأميركيون يتطلعون إلى عراق مخصخص، تديره حكومة عراقية مخصخصة، وتحفظ النظام فيه قوات مسلّحة عراقية مخصخصة، وهو ما لا يزالون يحاولونه حتى اليوم، وذلك كلّه حسب توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المؤسستان الربويتان الأميركيتان/الأوروبيتان، وهي التوصيات التي تلحّ دوماً على تنفيذ ثلاثة إجراءات في البلد الذي يسقط في براثنهما: الخصخصة لمعظم القطاعات والمرافق الحكومية، ووقف تدخّل الدولة أي خصخصتها في الواقع، والخفض الحاد للإنفاق الاجتماعي عموماً في ميادين التربية والصحة والضمان ودعم المواد الضرورية لعامة الناس! وبما أنّ توصيات هذين المصرفين مكروهة ومرفوضة في جميع أنحاء العالم فقد تقرّر تحقيقها بالاحتلال العسكري!

 أخيراً ينبغي القول أنّ ما فشلت رأسمالية الكوارث في تحقيقه في العراق حققته في أماكن أخرى، في البلقان مثلاً حيث تشكّل أشلاء الاتحاد اليوغسلافي السابق نموذجاً لنجاحها، وفي مناطق أخرى آسيوية وأفريقية، بل في الولايات المتحدة بالذات بعد إعصار نيو أورلينز! فقد اتسعت سوق العمل وتدفقت الأرباح بفضل مثل هذه الكوارث، ففي إقليم كوسوفو وفي تيمور الشرقية مثال حيّ على النجاح غير العادي الذي بلغ ذروته بخصخصة حكومتيهما، غير أنّ العراق أفقد مثل هذه النجاحات الرأسمالية قيمتها وبهجتها، ليس لأنّه فضح خفاياها القذرة فحسب، بل لأنّه أيضاً أضاع أجزاء كبيرة من عائداتها في حربه، حيث على أرضه يترنّح رأسماليو الكوارث وهم يلعقون جراحهم!

 

 

 

   

Hosted by www.Geocities.ws

1