ما الذي يحدث في أميركا؟

بقلم : نصر شمالي

عندما يتحدّث المحلّلون السياسيون في بلادنا عن الأزمة الشاملة العظمى التي تعصف اليوم بالولايات المتحدة نجدهم، في معظمهم، يركّزون على الانعكاسات الخارجية لهذه الأزمة، خاصة انعكاساتها على بلادنا المنكوبة، ونجدهم، حتى وهم يدقّقون في تفاصيلها الداخلية، يسعون من وراء ذلك، بالدرجة الأولى، إلى التأكّد من أثرها في السياسة الخارجية الأميركية، بالحدّ من شرورها التي أنهكت الحياة الأممية عموماً،غير أنّ مثل هذا التركيز، المفهوم والمبرّر مرحلياً وميدانياً، يبقى ناقصاً نقصاً فادحاً إن لم يشمل البعد الاستراتيجي التاريخي العالمي، والبنيوي الداخلي الأميركي، لأنّ هذه الأزمة ليست سوى المظهر الرئيسي لأزمة النظام الرأسمالي العالمي عموماً، تبرز في الميدان الرئيسي من جغرافيته وديموغرافيته، أي في الولايات المتحدة أرضاً ومجتمعاً، ولا مجال للفصل، فإذا كنّا نعوّل على تغييرات بنيوية إيجابية في النظام العالمي فينبغي أن نعوّل في الوقت نفسه على تغييرات مثلها في الولايات المتحدة!

منذ بدايات القرن العشرين، وعلى مدى أربعة عقود تقريباً، كانت للحكومات الأميركية كلمتها المسموعة التي لا يمكن تجاهلها في الشؤون الدولية عموماً، وعلى مدى العقود الستة التالية الماضية احتل الأميركيون مركز القيادة العليا التي تأمر فتطاع، وقد رأينا كيف ارتكبت هذه القيادة جريمة العصر عندما فرضت على هيئة الأمم تأسيس الكيان الصهيوني الإرهابي (عام 1948) بصفته دولة وشعباً ووطناً، مع أنّه ليس كذلك على الإطلاق، ويقاس على فعلها هذا ما ارتكبته من جرائم مروّعة في جميع القارات والبلدان، فما هي القاعدة المادية الرئيسية التي استندت إليها الإدارة الأميركية في فرض سياساتها على العالم طيلة القرن الماضي؟ لقد كان القطاع المادي الرئيسي الذي استمدّت منه الحكومات الأميركية المتعاقبة قوّتها المتفوّقة ومكانتها المتميّزة هو قطاع النفط ومشتقاته وميادينه السلمية والحربية، فاحتكار النفط حلّ محلّ احتكار الفحم والبخار والبارود، وأنتج علاقاته الربوية البديلة، وقياداته العدوانية ، وحروبه الشاملة المفتوحة، التي صارت تجارية تستحقّ الافتعال بسبب خصائص النفط المنتجة والمثمرة في ميدان الصناعات الحربية!

غير أنّ السيادة السياسية للاحتكار النفطي، في واشنطن خاصة، تبدو وقد شارفت اليوم  على الاضمحلال وأنّها سوف تتجه قريباً نحو الزوال، مثلما اضمحلّ وزال احتكار الفحم والبخار والبارود ابتداءً من الحرب العالمية الأولى مخلياً الساحة الدولية لبديله النفطي، ولعلّ حكومة بوش الابن هي آخر إدارة أميركية يشكّل الاحتكار النفطي المحرّك الرئيسي لسياساتها الداخلية والخارجية، ويعود السبب في ذلك إلى عاملين رئيسيين: الأول، هو نمو قطاعات مادّية جديدة (في البلدان الصناعية الثرية خاصة) نمواً كافياً لنهوضها وصمودها وفرض حضورها في مواجهة الاحتكار النفطي، مثل قطاع التكنترون وتفرعاته التي لا تعدّ ولا تحصى، واستقطاب هذه القطاعات الجديدة المتقدّمة لمئات ملايين البشر العاملين فيها والمستفيدين منها، بفضل نظافتها العملية والبيئية، وبفضل علاقاتها وأهدافها الأكثر عقلانية، وربّما إنسانية! ثانياً، تناقض مصالح مليارات البشر مع سياسات قادة القطاع النفطي/الحربي، خاصة في مراحله الأخيرة المروّعة المجنونة، التي أنهكت كوكب الأرض بمن عليه، بعد أن لطّخته بالدماء، وسمّمته بالغازات، وأحرقته بالقنابل! إنّ احتكار النفط يستميت إلى حدّ ارتكاب أفظع الجرائم دفاعاً عن مكانته، غير أنّ ذلك يبدو مستحيلاً في نهاية الأمر، وليس ثمّة شكّ في أنّ أهمّ عوامل تقويض هيمنته موجودة في الولايات المتحدة قبل غيرها وربّما أكثر من غيرها!

إنّ بنداً رئيسياً في برنامج الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما يتضمّن العمل على تحقيق الانفكاك عن النفط، وإحداث تحوّلات عميقة في الاقتصاد الأميركي، بحيث يتحقق أيضاً الاعتماد تدريجياً على الطاقة أو الطاقات المتجدّدة، البديلة للنفط، واضعاً كارثة الاحتباس الحراري في المقام الأول، فهذه الكارثة لن تستثني الولايات المتحدة طبعاً! وفي هذا الاتجاه يتطلع برنامج أوباما إلى: "اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء استيرادنا لنفط الشرق الأوسط وفنزويلا خلال عشر سنوات" (أنظر مقالة وليد خدوري/ صحيفة "الحياة"/ 25/1/2009) وجدير بالذكر أنّ الولايات المتحدة تستهلك يومياً حوالي 20 مليون برميل، أي حوالي ضعفي إنتاج المملكة السعودية، وما يعادل حوالي ثلث الاستهلاك العالمي! ويأمل الرئيس الجديد في إنتاج نحو مليون سيارة هجينة تستهلك غالوناً واحداً لكلّ 150 ميلاً بحلول العام 2015! وهو يقترح تخصيص ثمانية مليارات دولار لدعم برامج إنتاج الطاقة البديلة، وستة مليارات لترشيد استهلاك الطاقة، وعشرين ملياراً من إعفاءات الضرائب لمن يستخدمون الطاقة البديلة، وأحد عشر ملياراً لتقوية قطاع الكهرباء..الخ!

يتطلّع الرئيس أوباما إلى تحسين تقنية التخلّص من النفايات النووية، وإلى ربط شبكة الكهرباء بطاقة الرياح والشمس في بعض الولايات، وغيره كثير مما يشابه ذلك، وما يتطلع إليه الرئيس الجديد ليس جديداً بل طرحه الرؤساء الذين سبقوه، لكنّ الفارق هو أنّهم عموماً كانوا يتراجعون أمام هيمنة احتكار القطاع النفطي، بينما هو جاء على أنقاض إدارة نفطية مهزومة ومكروهة في الولايات المتحدة وخارجها، وأنّه يبدو مدعوماً بقوى مادية واجتماعية جديدة، لكننا لا ندري إن كانت قد أصبحت كافية لصموده وتغلّبه على المعارضة الشرسة التي ستتصدّى له، وفي مقدّمتها معارضة الاحتكار النفطي، وبالطبع فإنّ القوى الجديدة الصاعدة هي التي تقف وراء المظاهرات الأميركية الضخمة التي شجبت الحرب ضدّ العراق ولبنان وأخيراً غزّة، الأمر الذي لا يخلو من دلالة إيجابية تخصّنا نحن العرب، وينبغي أن نستشرف أثرها في المدى البعيد إن لم يكن المتوسّط، على الأقلّ من حيث اختلاف النوايا الجديدة قياساً بالنوايا الاستئصالية لأباطرة النفط!

خلاصة القول: إنّ ما يحدث في الولايات المتحدة اليوم هو بداية تغيير بنيوي مادي واجتماعي، وبالتالي سياسي، ونحن والعالم عموماً معنيّون بهذا التغيير ذي الأثر الأممي المؤكّد، والذي سرّعت الأزمة في بدايته ويمكن أن تسرّع في مساره، فالعجز الأميركي يفوق اليوم ألف مليار دولار، والرهان ينهض على نجاح مئات الألوف من الأميركيين المنهمكين ليس في أبحاث توفير الطاقة البديلة فقط، بل في تسريع عملية التغيير البنيوي التاريخي العميق، بما يترتّب عليها من تغيير شامل للعلاقات الداخلية فالخارجية!

                          [email protected]

 

   

Hosted by www.Geocities.ws

1