قاعدة الأمة سليمة والقمة فاسدة!

بقلم : نصر شمالي

على الرغم من جميع مظاهر الهوان السطحي الرسمي وليس الشعبي، والضعف المادي وليس المعنوي، ظلت الجماهير العربية على مدى القرن الماضي تناضل وتحارب دفاعاً عن وحدة بنيتها التحتية، ومن أجل صدّ الاعتداءات التي نالت من بنيتها الفوقية واستولت على معظمها إن لم نقل كلّها! إنّ الأمة ممثلة بالمقاومة غير الرسمية وغير الفوقية تواصل النضال اليوم بإصرار أكبر من أجل استرداد بناها الفوقية المسلوبة، أي لاستكمال وحدتها القائمة إنّما الناقصة! وما علينا للتأكّد من هذه الحقيقة سوى إيلاء الاهتمام الكافي لمواقف وأداء المواطن العادي في الأقطار العربية التي ترسّخ فيها نهج المقاومة.

لقد تبعثرت البنى الفوقية العربية وتغرّبت سياسياً وحقوقياً وإدارياً، وتحوّلت إلى حارس للتجزئة الجغرافية، غير أنّ البنى التحتية بقيت محتفظة بقوة بجميع شروط الوحدة الأخرى، ولسان حالها يردّد مع الشاعر القروي: "وما ضرّنا إن لم يك العرب وحدة/ وقد جمّعتنا في الجهاد المقاصد/ أصابع كفّ المرء في العدّ خمسة/ ولكنّها في مقبض السيف واحد! ليس هذا وحسب، بل إنّ الأمة رغم خسارتها المؤقتة لبناها الفوقية، حقّقت رصيداً ضخماً من الثروة البشرية النوعية المتجانسة في خصائصها والموحّدة في همومها وآمالها، وهي ثروة لا تقلّ في مستواها عمّا عند الأمم الثرية المتقدّمة في ميادين العلوم الحديثة، بل حقّقت فوائض كبيرة من الأدمغة المتخصّصة في أبسط العلوم وأعقدها، وإن ذهب معظمها مؤقتاً إلى البلدان الثرية حيث تتوفّر مجالات توظيفها، فأضيفت بذلك إلى الثروات الأخرى المنهوبة، وما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ هذه الفوائض من الأدمغة تحققت بفضل إصرار الأمهات والآباء على تأهيل الأبناء بالرغم من معاكسة الظروف المادية والسياسية، وفعالية التخريب والدسائس والاعتداءات الخارجية، وأيضاً بغضّ النظر عن دور الحكومات العربية سلباً أم إيجاباً، وعند الحديث عن دور الأسرة العربية في تأهيل أبنائها علمياً وقومياً يتوجّب التوقف بكلّ الإجلال أمام عظمة تضحيات الأم الفلسطينية تحديداً، التي صمدت صمود الجبابرة أمام عمليات التشريد والتجويع، والاستئصال والاستيطان، في حرّ وقرّ المخيّمات، ونجحت في تأهيل أبنائها بنسب عالية وبكفاءات عالية، بحيث لا يمكن التمييز بين كفاءات الفلسطينيين في جميع الميادين وكفاءات الأميركيين والإسرائيليين!

إنّنا إذا ما عدنا إلى الصور الفوتوغرافية في العام 1948،ودقّقنا في تلك الجموع الفلسطينية التي يسربلها الشقاء، على دروب المنافي في الخارج وتحت مخالب وأنياب قطعان الاحتلال في الداخل، فسوف نرى الفوارق الصارخة الهائلة بين المستوطنين والفلسطينيين، من الناحية المادية ومن حيث المظهر الخارجي والأدوات المستعملة، تلك الفوارق بين مستوطن مدعوم بعلوم الغرب وثرائه كلّه وفلسطيني لا يملك قوت يومه، فإذا تمعّنا في الصور الفوتوغرافية سوف نلمس عظمة المعجزة التي حقّقتها الأم الفلسطينية، قبل غيرها من أفراد الأسرة، في مواجهة رهيبة ضدّ وحوش الاستئصال الذين لا يعترفون أصلاً بوجود الفلسطينيين، ويضعونهم تحت مطرقة الإبادة على مدار الساعة كي يصبحوا غير موجودين فعلاً!

إنّ حوالي عشرة عقود من السنين الماضية، التي لم تتوقّف خلالها لحظة واحدة عمليات الإبادة ضدّ الفلسطينيين ولم يغب طيلتها لحظة واحدة خطر الفناء والزوال الماثل، برهنت أنّ الإنسان الفلسطيني والعربي عموماً يمتلك طاقة روحية وذهنية جبّارة، خلاّقة ومبدعة، وأنّه لا ينقص في شيء عن الإنسان الأوروبي والأميركي سوى غياب الشرط السياسي، وهو الشرط الذي يتوفرّ عادة بسرعة قياسية مذهلة في لحظة تاريخية مناسبة، ويحقّق توفّره مباشرة تقريباً جميع شروط النهوض الأخرى!

 وكانت اللجنة الإنكليزية/ الأوروبية التي شكّلها رئيس الوزراء البريطاني كامبل بنرمان، في العام 1907، قد درست ميدانياً وضع الوطن العربي الكبير، ووضع أمّته "الواحدة" باعتراف اللجنة، وأعدّت تقريراً يدعو لحرمان العرب من الشرط السياسي، وقد جاء فيه ما يلي: "كيف يكون وضع المنطقة (الوطن العربي) إذا توحّدت فعلاً آمال وأهداف أمّتها، وإذا توجّهت هذه الرقعة كلّها في اتجاه واحد؟ وماذا لو دخلت إليها الوسائل الفنّية الحديثة وإنجازات الثورة الصناعية الأوروبية؟ وماذا لو انتشر التعليم في أوساط هذه الأمة؟ وما الذي سوف يحدث إذا ما تحرّرت هذه المنطقة وتمكّنت من استغلال ثرواتها الطبيعية من قبل أهلها؟"! وقد أجاب التقرير على هذه التساؤلات بما يلي: "إنّ الخطر على كيان الإمبراطوريات الاستعمارية كامن في هذه المنطقة، في توحيد اتجاهات سكّانها، وفي تجمّعها واتحادها حول عقيدة واحدة وهدف واحد"! ومنعاً لذلك دعا التقرير الحكومات الاستعمارية: "للعمل على استمرار وضع المنطقة المجزّأ المتخلّف كما هو، وعلى إبقاء أمتها على ما هي عليه من تفكّك وجهل وتأخّر, وعلى محاربة اتحاد جماهيرها ومنع ترابطها بأيّ نوع من أنواع الترابط: الفكري أو الروحي أو التاريخي، وعلى إيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها عن بعضها ما أمكن"! واقترح التقرير الإنكليزي، "لدرء الخطر عن الاستعمار العالمي" حسب تعبيره، إلى: "العمل على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن الجزء الآسيوي.. بإقامة حاجز بشري، قويّ وغريب، على الجسر البرّي الذي يربط آسيا بأفريقيا، بحيث يشكّل قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة..الخ"!

لقد أعدّ تقرير بنرمان في العام 1907، وبعد عشر سنوات، في نهاية الحرب العالمية الأولى، انهارت الرابطة العثمانية، وأبرمت اتفاقية سايكس/بيكو التجزيئية، وصدر وعد بلفور، بالاتفاق مع الأميركيين، الذي نصّ على إقامة: "الحاجز البشري القوي الغريب، الصديق للاستعمار والعدو لسكان المنطقة"! ومنذ ذلك التاريخ بدأت عمليات الاستيلاء على البنى الفوقية العربية من الأوساط الحاكمة والقائدة ودمجها في بنية إدارات النظام الدولي الاستعماري، فتحقّق ذلك إلى حدّ كبير وفسدت أوساط القمة على نطاق واسع فعلاّ، أمّا قاعدة الأمة فقد عجزوا عن اختراقها وتمزيقها وتبديدها، بتدمير مكوّناتها وخصائصها التاريخية، كما أوصت لجنة بنرمان وغيرها، لكنّهم ما زالوا يحاولون وقد اشتدّ سعارهم بسبب صمودها ومناعتها!

                     [email protected]

    

Hosted by www.Geocities.ws

1