سامي السّراج رجل السيف والقلم

بقلم: نصر شمالي

 

 

        من الراحلين رجال كبار طواهم النسيان أو كاد بعد أن أهملتهم الذاكرة الرسمية، وخاصة منهم أولئك الذين خاضوا معارك الأمة جميعها، من أولها إلى آخرها، خلال النصف الأول من القرن العشرين، والمجاهد الكبير الأستاذ سامي السّراج واحد من النسق الأمامي لأولئك الرجال، حيث لو راجعنا السيرة الجهادية والسياسية لفيصل الأول ويوسف العظمة وإبراهيم هنانو وشكري القوتلي، وجميع أقرانهم في بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، فسوف نجد سامي السّراج دائماً بينهم أو على مقربة منهم، حاضراً في ساحات القتال وميادين السياسة والصحافة، ومتوارياً في مخابئ المدن ومجاهل البوادي، أو مكبّلاً في المنافي والسجون ومعسكرات الاعتقال.

 

         لقد حدث قبل أشهر أنني حضرت لقاء ضم عدداً من الأصدقاء، في منزل الدكتور كمال خلف الطويل بدمشق، وإذا باسم سامي السّراج يتردّد فجأة، فما كاد يطرق سمعي حتى استنفرت كل خليّة في كياني، وانتصب رسمه على الفور أمام عين خيالي بكل مهابته! توجهت إلى صاحب الدعوة الدكتور كمال وسألته: سامي السّراج قريبك؟ أجاب:     هو عمّ والدتي، وبمثابة جدّي... هل تعرفه؟

 

        أحمد سامي السّراج! من لا يزال يعرف اسمه ووجهه، وأسماء ووجوه أمثاله؟ أليس غيابهم عن الذاكرة الجمعية نقصاً في شخصية الأمة؟ وما هي شخصية الأمة إن لم تكن ذاكرتها في نقصها وكمالها؟ أما العزاء فهو أن الله يعرف المجاهدين الأبرار اسماً اسماً، ووجهاً وجهاً!

 

        عدت بالذاكرة إلى العامين 1959-1960. كان سامي السّراج مديراً للمركز الثقافي في مدينة حماة، وكنّا نحن الشبّان روّاد المركز نتابع محاضراته ومداخلاته بشغف، وفي الجلسات الحرّة، التي تضمّ حلقات ضيقة، كنا نلتف حوله محدّقين مستمعين بكل جوارحنا، بينما هو يروي أخبار وقائع النصف الأول من القرن العشرين كما عاشها، من أواخر العهد العثماني وحتى قيام دولة الوحدة المصرية السورية!

 

        قال الدكتور كمال أنه والأسرة جمعوا أوراق سامي السّراج، وكلفوا الدكتورة خيرية قاسمية، أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة دمشق، بإعدادها كي تصدر في كتاب. لقد بدأت معرفتي بالدكتور كمال، المغترب في الولايات المتحدة منذ أكثر من ربع قرن، عبر الدورة السنوية للمؤتمر القومي العربي التي انعقدت في الجزائر في نيسان/ إبريل 2000، وهو جاء إلى المؤتمر بصفته عربياً فلسطينياً مغترباً، وهاأنا أكتشف بعد أكثر من سنتين أن والدة صديقي الجديد حموية من آل السّراج، وأن قرينته حمصية، أما الأهم فهو أن سامي السّراج شقيق جدّه الأستاذ الأديب محمد علي السّراج؛ وهاأنا أجد من أتحدث معه عن المجاهد الكبير الذي لم أعد أجد منذ عقود طويلة من أتحدّث معه عنه! لقد كان كمال طفلاً في الثامنة من العمر حين توفى سامي السّراج عام 1960، أما أنا فكنت شاباً في السابعة عشرة، وهذا يعطيني ميزة تجاهه! غير أن ميزته تبقى الأقوى، حيث كانت في حوزته أوراق سامي السّراج، وهي أوراق عظيمة الأهمية حقاً.

 

       بالفعل، صدر الكتاب الذي يضم أوراق سامي السّراج عن "دار الأهالي" في تشرين الأول/ أكتوبر 2003، وما أن وقعت النسخة الطازجة بين يدي (336 صفحة من القطع الكبير) حتى غرقت في قراءتها، وانتهيت منها بسرعة قياسية، خلال أيام قليلة! لقد كان دافعي الأول هو التواصل مع الرجل المجاهد الذي عرفته عن كثب قبل ثلاثة وأربعين عاماً،  ثم انقطع كل اتصال، ما عدا استحضاره في الذاكرة من حين لآخر، غير أن الدافع الذاتي الشخصي، العاطفي، تحوّل بسرعة إلى وطني وقومي وإنساني، فقد وجدتني أطالع وثائق ضرورية نحتاجها في حياتنا الراهنة، من أجل تصحيح معلوماتنا، وتشذيب قناعاتنا، وتصويب أدائنا!

 

        بالإضافة إلى السوية اللغوية والأدبية الرفيعة، الساحرة، التي صاغ بها السراج موضوعاته، وجدتني أمام عرض واقعي، موضوعي، بليغ وعميق ومقتضب، يغطي مساحات زمنية وجغرافية وبشرية واسعة ومتنوعة تصعب الإحاطة بها، غير أنه أحاط بها بصورة كافية! ويا لها من تعليقات وملاحظات وشروحات، بالغة التواضع وشديدة الدقة، تبقى عظيمة الفائدة في كل زمان ومكان! لقد عرض أوضاع حكام العهد العثماني في نهاياته، مثلاً، عرضاً ينطبق على الحكام العرب في أيامنا هذه، وعرض أخبار موقعة ميسلون واحتلال دمشق، ومواقف بعض القوى والشخصيات الأجنبية والعربية، كأنما هو يتحدث عن موقعة البصرة واحتلال بغداد. لقد ذكر أن هناك من أقنع الفرنسيين، قبل احتلالهم لسورية، أن الشعب سوف يستقبلهم بالورود والرياحين... إلخ!

 

        منذ انخراطه شاباً يافعاً في التنظيمات السرية لجمعية "العربية الفتاة"، أواخر العهد العثماني، تفرّغ سامي السّراج تفرغاً تاماً للجهاد، متحرراً بالكامل من قيود الزمان والمكان، والأسرة والهموم الشخصية، فهو ابن البلد البارّ، المتفاني، في أي قطر عربي حلّ به ما بين النيل والفرات. لقد كانت إقامته في سورية أقصر من إقامته في أي قطر عربي آخر، وكانت إقامته في مدينته حماة أقصر من إقامته في أي مدينة سورية أخرى، وهو كان يتنقل بفعل أسباب عامة قاهرة تفرض عليه دائماً ولا يختارها بحريته أبداً؛ وأينما حلّ تجده جاهزاً على الفور للانخراط في العمل القومي المتاح، فهو الكادر المتميز الضليع بشؤون العمل السّري في الجمعيات السرية، وهو الكاتب الكبير الذي تستقطب مقالاته الغزيرة في الصحف العربية اهتمام أعلى المستويات الرسمية العربية والأجنبية، وهو السياسي المستقيم والمفكر المبدئي الذي يستمع إليه الملك فيصل الأول والرئيس مصطفى النحاس والرئيس شكري القوتلي بمنتهى الجدّية والاهتمام، وهو المقاتل في التشكيلات المسلحة ضدّ المستعمرين الفرنسيين والإنكليز، وهو الحاضر في شرقي الأردن حين تأسيس الإمارة، وصاحب الرأي والموقف بصدد ملابسات ذلك التأسيس، وهو المجاهد في فلسطين، والسجين في معسكر الصرفند الإنكليزي أثناء انتفاضة عام 1936، وهو الشخصية المحبوبة، المرموقة، في الأوساط السياسية والصحفية والأدبية والفنية المصرية، صديق الشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والصحفي الكبير حبيب جاماتي والفنان محمد عبد الوهاب، وخصم رئيس الوزراء إسماعيل صدقي الذي اعتقله ورحّله من مصر باعتباره وفدياً! غير أن ذلك كله ترافق مع حياة بالغة التواضع، ليس فيها عموماً سوى الستر وما يسدّ الرمق، فقد كان عفيفاً نظيف اليد، لا يتطلع إلى المناصب وقد كانت متاحة له، ولا يخطر التملك في باله، فلا بيت ولا أسرة، مع أن ذلك كان في متناوله لو أراد، لقد كان سامي السراج من ذلك النوع النادر من الرجال الذين لا خصوصيات لهم سوى خصوصيات الوطن والأمة!

 

        وعندما عاد سامي السّراج إلى مسقط رأسه حماة، بعد عقود أربعة من التجوال الجهادي، كان في ذروة تألقه، وكان ذلك من حسن حظ شبانها اليافعين، وأنا منهم، حيث كنا نلتف حوله  ونرنو إليه وهو يتحدث كأنما نرنو إلى كوكب بعيد لا يطال! ولا تسل عن فرحتنا حين استضاف السّراج في المركز الثقافي الشاعر المهجري الخالد الياس فرحات، لنستمع إليه وهو يلقى قصيدته الشهيرة: قالت الأفعى لأمريكا اسمعي/ إن تقليدك لي عين الشطط/ أين مني أنت يا من سمّها/ بغية التمويه بالشهد اختلط / أنا لا أنكر أني حيّة/ رضي العالم عني أم سخط/ أنا لا يهتف بالسلم فمي/ ويدي ترسم للحرب خطط/ أنا لا أنصر لصاً إن من / ينصر اللص من اللص أحط/ أنت فيك السمّ لا حصر له/ وأنا السمّ بنابيّ فقط!

 

لقد أضفى سامي السّراج على حياتنا، نحن الشبان الصغار، الكثير من الجدية والأمل. لقد جعلها ثرية وجميلة خلال العامين 1959- 1960. غير أنه شدّ الرحال فجأة كعادته، وانطلق إلى الأبدية، تاركاً في نفوسنا أثراً طيباً لا يمحى!  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1