صدحت الأبواق فانهارت أسوار أريحا!

بقلم : نصر شمالي

أصبح الانتشار العسكري الأميركي العالمي عبأً ثقيلاً على كاهل الولايات المتحدة، والسبب الأول في تحوّله إلى عبء يعود إلى فقدانه الكثير من جدواه الاقتصادية، فالحرب من وجهة نظر الإدارات الأميركية هي باب رئيسي من أبواب التجارة، وتكاد تنعدم المبرّرات الأخرى للتسلّح والحروب الأميركية، حيث لم تواجه الولايات المتحدة تهديداً خارجياً طوال تاريخها، بل هي التي كانت تختلق الأسباب لشنّ الحروب ضدّ الغير في البلاد البعيدة، فعلى سبيل المثال رفضت حكومة الصين في القرن التاسع عشر السماح للأميركيين بإدخال الأفيون إلى بلادها فاعتبر الرئيس الأميركي حينئذ، في تصريح رسمي، موقفها معاد للحضارة والتجارة لأنّها إمبراطورية بربرية عدوانية غير مسيحية لا تعترف بحقوق الأمم فيها..الخ! وقد شنّت الحرب ضدّ الصين لصالح تجًار الأفيون، وشنّت الحرب أيضاً ضدّ الدول العربية المغاربية جميعها لأنّها لم تمنح سفن الأفيون الأميركية التسهيلات المطلوبة بأسعار بخسة! فإذا انتقلنا إلى أيامنا الحالية نتساءل: ما علاقة الولايات المتحدة بقضية النظام العراقي، مثلاً، ديكتاتوري أم ديمقراطي، كي تأتي من قارتها البعيدة بحجة تغيير النظام، فتحتل العراق وتدمّره تدميراً شاملاّ وتتمسّك بالبقاء فيه؟ الجواب: إنّها تجارة النفط مثل تجارة الأفيون تمارس في ميادين الحرب!

 غير أنّ ما استجدّ بصورة قاطعة منذ احتلال العراق، وبفضل المقاومة العراقية، هو أنّ تكاليف الحرب لم تعد تتناسب مع الجدوى التجارية بل صارت تفوقها بأضعاف مضاعفة، وهاهي الولايات المتحدة مثقلة بالقروض التي حصلت عليها من الأجانب لتمويل الحرب، وهاهي تتطلع إلى التطورات المعاكسة لمصالحها الأنانية في القوقاز ومنطقة بحر قزوين حائرة في أمرها وفي ما ينبغي عليها فعله!

لقد أخذت الولايات المتحدة على عاتقها، بعد الحرب العالمية الثانية، مسؤولية نشر جيوشها وقواعدها في العالم كامتياز عسكري وسياسي واقتصادي وتجاري، غير أنّ هذا الامتياز بدأ يتحوّل مؤخّراً إلى عبء بعد أن اضمحلت فاعليته الاقتصادية والتجارية، وبما أنّ الكيان الإسرائيلي هو القاعدة العسكرية الأميركية/الأطلسية الأهمّ في العالم فإنّ أثر ذلك التحوّل الاضمحلالي سوف يظهر فيه أكثر من غيره، فإذا قال الرئيس الإيراني، مثلاً، أنّ الكيان الإسرائيلي سوف يزول قريباً فلا بدّ أن تكون مثل هذه التحوّلات الاضمحلالية في الشبكة العسكرية الأميركية والسياسية إحدى خلفيات قوله، ونحن نعلم أنّ المرتزق الشقيّ ريتشارد بيرل، أحد أعضاء عصابة المحافظين الجدد الأميركية، شدّد في لقائه عام 1996 مع شبيهه نتانياهو على ضرورة أن تستعدّ "إسرائيل" للاكتفاء الذاتي بعد احتلال العراق، وتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، وقيام الشرق الأوسط الأميركي الجديد، وقد كان نتانياهو حينئذ رئيساً لما يسمّى مجلس الوزراء الإسرائيلي!

في مقالة نشرتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية قبل حوالي عام، تحت عنوان "إسرائيل تحوّلت إلى عبء"، قال الكاتب يونتان روزمبلوم أنّ:  "الصفقة التاريخية التي ربطت بين يهود أميركا و"إسرائيل" منذ عام 1948 كانت واضحة: "إسرائيل" ستوفّر ليهود أميركا شعوراً بالفخر والثقة بيهوديتهم، وفي المقابل يقومون بإغداق الأموال والدعم الاقتصادي والسياسي عليها، غير أنّ "إسرائيل" لم تعد كما كانت مصدراً لاعتزاز اليهود الأميركيين، وهم لا يسارعون كما كانوا إلى المشاركة في الهوية التي توفّرها لهم"! وقد حاول روزمبلوم جاهداً تجنّب الإشارة إلى وظائف "إسرائيل" التي ترتّبها عليها الصفقة مع واشنطن، وليس مع يهود أميركا في حدّ ذاتهم، لكنّه لم يستطع تجاهل ما جاء في استطلاع قام به أستاذان أميركيان يهوديان، وأعلنت نتائجه، وجاء فيه أنّ من جملة الأسباب التي تبعد الأجيال اليهودية الأميركية الجديدة هو أنّ هذه الأجيال تعتبر "إسرائيل" دولة قمعية كولونيالية (استعمارية/استيطانية) مثل دولة الفصل العنصري الزائلة في أفريقيا الجنوبية! (معاريف/30/9/2007).

في الحقيقة، ليست القضية أنّ "إسرائيل" قمعية كولونيالية، ولذلك تحوّلت إلى عبء، وبدأ انفضاض حتى شرائح يهودية عنها، بل قضية اضمحلال الجدوى الاقتصادية التجارية لقاعدة عسكرية هي الأولى بين القواعد الأميركية/الأطلسية في العالم! وجدير بالذكر أنّ الاستطلاع جرى بعد الفشل الهائل والانكفاء الإسرائيلي المدوّي أمام صمود المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله عام 2006 ( أجرى الاستطلاع المختصان الاجتماعيان ستيفان كوهين وآري كلمان) ومن قبله الفشل المماثل للقوات الأميركية في العراق، وأيضاً عقب الفشل في احتواء أو تدمير قطاع غزّة! فلو نجح الأميركيون في تحقيق أهدافهم الاقتصادية في العراق، ولو نجح الإسرائيليون في إبادة المقاومة اللبنانية، وفي احتواء أو تدمير قطاع غزّة، بما يترتّب على ذلك من جدوى اقتصادية هائلة، لكانت نتائج الاستطلاع اليهودي الأميركي معكوسة بالتأكيد، مهما كان الدّمار البشري والمادي الذي سيلحق بالعرب، ومهما كان عدد القتلى الأميركيين والإسرائيليين، حتى لو بلغ عشرات الألوف!

غير أنّ "أبواق أريحا" تصدح اليوم في جورجيا، حيث مني الكيان الإسرائيلي المتنمّر المستهتر بنكسة لا مثيل لها، فقد أخذ الإسرائيليون على عاتقهم، بتكليف أميركي طبعاً، إمداد ودعم الحرب الجورجية ضدّ إقليمي أوستينيا وأبخازيا، بل إدارة الحرب نيابة عن حلف شمال الأطلسي ولصالحه ضدّ روسيا، على اعتبار أنّ الإسرائيليين أعضاء في الإدارة الجورجية بهوياتهم الأصلية الإسرائيلية! فكان انهيار مغامرتهم الشريرة نكسة خطيرة للإستراتيجية الأميركية/الأطلسية وهم في جملتها، وهي نكسة تجارية اقتصادية، في المقام الأول، تؤكد مرة أخرى وأخرى اضمحلال الفاعلية الاقتصادية التجارية للقوات الحربية الباغية!

في القصص التوراتية أنّ أبواق المحاصرين لأريحا صدحت فانهارت أسوارها واقتحموها! هكذا تنسب المعجزة/الأسطورة الانهيار إلى الصوت! غير أنّ المفترض منطقياً أنّ الأبواق صدحت كإشارة لقوى كامنة في المدينة كي تفتح أبوابها من الداخل، حيث أزفت لحظة الاقتحام وانهيار الأسوار (بالمعنى المجازي) بعد أن أصبح الوضع الداخلي مخترقاً ومتهتّكاً وضعيفاً بما يكفي للانهيار، وليس من ريب في أنّ هذا عين ما يحدث للكيان الإسرائيلي، وإذا كان لا يزال يبدو متماسكاً فبفضل النظام الرسمي العربي قطعاً!

             [email protected]

 

       

Hosted by www.Geocities.ws

1