دحض خرافة التفوّق العنصري!

بقلم : نصر شمالي

جنّ جنون الحكومات الغربية لأنّ موسكو وضعت حدّاً لعربدة الحكومة الجورجية، التي استهواها لعب دور مخلب القط الأطلسي ضدّ الاتحاد الروسي، فانبرت تصف العمليات الروسية بأفظع الأوصاف، مع أنّها لا تستحقّ الذكر قياساً بما يتعرّض له الفلسطينيون على مدار الساعة وطيلة عقود من الزمن! كذلك راحت تطالب الروس بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل العدوان الجورجي، مع أنّ الوضع الجورجي الراهن لا يستحقّ الذكر أيضاً قياساً بوضع العراق الذي احتلته القوات الأميركية بكامله، ودمّرته تدميراً شاملاً، دون أيّ وجه حقّ يبرّر لها فعل ما فعلته، وهاهي بعد خمس سنوات تعزّز احتلالها له بالاتفاقيات الجائرة، ولا تخفي نيّتها البقاء فيه إلى الأبد إن أمكن، فما سرّ هذا الاختلاف في موقف الغرب الأطلسي من بلد إلى بلد ومن شعب إلى شعب؟

كتاب نادر عظيم الأهمية!

لقد أصدرت جامعة كامبردج في المملكة المتحدة البريطانية، في العام 2004، كتاباً هامّاً للأستاذ جون هوبسون عنوانه: "الجذور الشرقية للحضارة الغربية"! وهو كتاب مكرّس لفضح السرّ في اختلاف الموقف الغربي، ولدحض خرافة "الغرب الأصلي، النقي، العقلاني، الليبرالي، الديمقراطي، الذي لا تتدخّل حكوماته في الاقتصاد، والذي صنع نهضته محلّياً وذاتياً منذ عهد الإغريق القدامى قبل التاريخ وحتى يومنا هذا، الأمر الذي يعطيه الحق بالوصاية على الشرق المتخلّف، الاستبدادي، اللاعقلاني، المتواكل، البربري، البدائي، الذي توقف عقله عن النموّ، فكان وسطاً بين الإنسان والحيوان! غير أنّ هوبسون يؤكد في كتابه أنّ الشرق بقي متفوّقاً على الغرب حتى مطلع القرن التاسع عشر! وأنّ مقولة المركزية الأوروبية مقولة خاطئة لأسباب كثيرة، منها أنّ الغرب والشرق كانا متصلين أساساً ودائماً، من خلال العولمة ومنذ عام 500م، وأنّ الشرق الذي كان أكثر تقدّماً طيلة مابين 500-1800 هو من قام بدور مهم في تمكين الحضارة الغربية الحديثة من نهضتها! وجدير بالذكر أنّ هوبسون مؤلف هذا الكتاب هو حفيد جون هوبسون الذي اعتمد لينين على مؤلفاته في نقد النظام الرأسمالي والإمبريالي، وقد أحسنت دار "مكتبة الشروق الدولية" بترجمتها لكتاب الحفيد هوبسون وإصداره في العام 2006، فهو كتاب نادر عظيم الأهمية لمن يريد أن يقرأ بصورة صحيحة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء معاناة البشرية التي لا تطاق، والتي بلغت ذروتها في زمننا هذا!

الروس لا يستحقون ما يملكونه!

نعود إلى ما بدأنا به فنقول أنّ الغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة يبيح لنفسه في إقليم كوسوفو اليوغسلافي وفي إقليم تيمور الإندونيسي ما لا يبيحه للعرب في فلسطين والعراق ولروسيا في القوقاز ولإندونيسيا في تيمور ولصربيا في كوسوفو، غير آبه للاعتبارات الجغرافية والديموغرافية التي لا تبرّر تدخّله أبداً وتبرّر تدخّل العرب والروس تماماً، فعلى أيّ أساس تنهض هذه السياسة الغربية الأطلسية التي "تكيل بمكيالين" كما يقال؟ إنها تقوم على أساس المركزية الأوروبية/الأميركية التي تقول أنّ البشر غير متساوين لا في الكفاءات ولا في الحقوق ولا في الواجبات! وكمثال على ذلك نأخذ تصريح الذئبة مادلين أولبرايت في العام الماضي 2007، حيث قالت: "إنّ روسيا تمتلك ثروات طبيعية هائلة بصورة غير عادلة"! أي أنّ روسيا لا تستحق ما تملكه وأنّ من العدل الاستيلاء عليه من قبل الغرب الأطلسي! وقد علّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حينه على تصريحها بالقول: " إنّ البعض يفكّر في كيفية الوصول إلى احتياطيات روسيا النفطية بما فيها احتياطياتها في سيبيريا الشرقية، لكنّ روسيا ليست العراق (يقصد: غير قابلة للاحتلال) وتملك من الوسائل والقوة ما يكفي للدفاع عن مصالحها على أراضيها أو في مناطق أخرى من العالم"! (الصحف/19/10/2007). وهكذا فإنّ تصريح أولبرايت وردّ بوتين عليه في العام 2007، يفسّر لنا تماماً سرّ عربدة جورجيا، الموعودة بالانضمام إلى الحلف الأطلسي، وإقدامها المدهش على مغامرتها العسكرية هذا العام 2008، فهذه المغامرة أريد لها أن تكون تجربة لإمكانية اختراق الاتحاد الروسي، والوصول إلى نفط سيبيريا الشرقية، والاستيلاء عليه تحقيقاً للعدالة الأوروبية الأميركية التي تقول أنّ الروس والعرب والإندونيسيين وغيرهم من الأمم الأخرى لا يستحقون ما يملكونه!

الخرائط الجغرافية والتعالي العنصري!

يقول هوبسون الحفيد في كتابه المذكور أنّ النظرة الغربية العامة المتعالية ترى عدم أهمية الشرق، وتؤكّد ذلك حتى "خريطة العالم" الجغرافية الموضوعة من قبل المركزية الأوروبية والمعتمدة في جميع البلدان في جميع القارات، فهذه الخريطة وضعت بالطريقة التي تجعل مساحات الشمال الغربي تحتل ثلثيها، ومساحة الجنوب الشرقي تحتل الثلث فقط! وهكذا فبينما تعادل مساحة اسكندينافيا ثلث مساحة الهند، مثلاً، فإنّها على الخريطة العنصرية تظهر في حجم الهند! أمّا غرينلاند فيبدو حجمها ضعف حجم الصين مع أنّ حجم الصين يعادل أربعة أضعاف حجم غرينلاند! ولتصحيح ما رآه تمييزاً وتفضيلاً عنصرياً لأوروبا أعدّ الأستاذ آرنو بيترز عام 1974 خريطة سمّيت باسمه، وجعلت بلدان العالم تبدو بحجمها الطبيعي، فصار الجنوب يظهر على حقيقته أكبر بكثير قياساً بأوروبا، الأمر الذي أدى إلى هبوب عاصفة أوروبية عنصرية ضدّ خريطة بيترز، وإلى التمسّك بالخريطة العنصرية الشائعة!

ما الردّ المناسب على التمييز والاحتكار؟

لقد انطلقت اليوم في أنحاء عديدة من العالم عمليات نهوض تكتلات دولية اقتصادية وسياسية نزيهة، مثل كتلة شنغهاي، وكتلة آسيان، وكتلة البحر الكاريبي وأميركا الجنوبية عموماً، وكتلة بحر قزوين الخماسية..الخ، وليس من ريب أنّ هذه الانطلاقة المتأنية، الواثقة، التي تحققت بفضل التراكم الهائل لخبرات الشعوب ومعاناتها الطويلة، هي التي سوف تؤسس لنظام دولي عادل، نظيف من التمييز والاحتكار، ويبدو أنّ نهوض مثل هذا النظام صار ممكناً، غير أنّ ما يؤرّقنا نحن العرب هو أنّ جامعة الدول العربية ما زالت غير معنية بحركة التكتلات الناهضة التي تشهدها المناطق والبلدان الأخرى، رغم المعاناة الأشدّ لأمتها ورغم المواجهات الأعظم لمقاومتها، فهي تبدو مصرّة على الاستمرار في خدمة المركزية الأوروبية/الأميركية العنصرية دون قيد أو شرط!

 [email protected]

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1