حكاية بناء دول قابلة للهدم!

بقلم : نصر شمالي

 

تبرز ظاهرة تفكيك الدول، بتفجيرها من داخلها، كواحدة من أبرز الظواهر التي يشهدها العالم بصورة أكثر حدّة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، ويذكر أنّ دول حوالي ثلث سكان الأرض تعرضت وتتعرض اليوم لخطر التفكيك والتقويض، وتعزى قابلية هذه الدول للتفكك، أو الهدم، أو الانهيار إلى أسباب داخلية في المقام الأول: الفقر والجريمة والتطرف والتعصب الديني والعرقي وفشل الدولة وعجزها عن أداء وظائفها الداخلية والخارجية..الخ، وينقل الأستاذ سمير التنير في مقالته (عن الدولة الفاشلة – السفير – 25/6) فكرة أوروبية/ أميركية تقول أنّ الدولة "الفاشلة" ليس لها الحق في الوجود، لأنها فقدت قدرتها على ممارسة وظائفها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وأصبحت خطراً ليس على مجتمعها وحده بل على العالم، لأنّ الدولة الفاشلة تمهّد الطريق لظهور الحركات الإرهابية التي تهدف إلى القضاء على الدول الناجحة، ولذلك تعطي الولايات المتحدة وغيرها من الدول (الناجحة) نفسها الحق في التدخّل السياسي والعسكري، للمحافظة على أمن المجتمع الدولي وسلامته (وبالطبع فإنّ المقصود بالمجتمع الدولي هو مجتمعات الدول الناجحة)! كذلك ينقل الكاتب رأياً معاكساً للمفكّر الأميركي نعّوم تشومسكي الذي يقول: " الدولة الفاشلة مصطلح صاغه الأميركيون بعد تراجع استخدام بعض المصطلحات الأخرى، مثل الدولة الإرهابية والدولة المارقة، وما إلى ذلك من مصطلحات صاغها الأميركيون بقصد تعبئة الآراء والجهود ضدّ الدول التي لا تتفق سياساتها مع وجهة النظر الأميركية"! والطريف أنّ تشومسكي يطبّق معايير الفشل على الدولة الأميركية ليجدها دولة فاشلة بدورها! فهي لا تحترم القوانين الدولية إذا تعارضت مع مصالحها الخاصة، وهي تلجأ إلى استخدام قوتها العسكرية للتدخل في شؤون الدول الأخرى دون مبرر سوى ما تعتبره خطراً محتملاً ضدّ أمنها وسلامتها، فتتخذه ذريعة لشنّ حرب عدوانية تسمّيها حرباً وقائية (أواستباقية) وذلك دون أن تعير أيّ اهتمام للرأي العام العالمي، وهي تعارض الاتفاقيات الدولية لدرء الأخطار البيئية التي تهدّد العالم أجمع، وهي تفرض قوانين تحدّ من الحريات الفردية الأميركية، كما فعلت بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 .. الخ!

غير أنّ هذا التوصيف الدقيق والهام يبقى ناقصاً نقصاً فادحاً عندما يعرض مصطلحات "الدولة الإرهابية والمارقة والفاشلة" كأنّما هي اختراع جديد لتبرير العدوان ضدّ الدول التي تعارض السياسة الأميركية، لأنّ مثل هذه المصطلحات موجودة منذ بدأ العصر الأوروبي الأميركي نهوضه أواخر القرن الخامس عشر أوائل السادس عشر، فقد خاطب خليفة فاسكو دو غاما في قيادة الأسطول البرتغالي جنوده قائلاً:"هذه الخدمة الجليلة التي سنقدّمها للرب بطردنا العرب من هذه البلاد، وبإطفائنا شعلة أمّة محمد بحيث لا يندلع لها هنا بعد ذلك لهيب، وإنني لعلى يقين أننا لو انتزعنا تجارة "ملقا" من أيدي العرب لأصبحت كلّ من القاهرة ومكّة أثراً بعد عين، ولامتنعت عن البندقية تجارة التوابل كلّها ما لم يذهب تجّارها إلى البرتغال لشرائها من هناك"! إنّ روح هذا الخطاب سوف تلازم العصر الأوروبي/الأميركي في جميع مراحله وعواصمه حتى يومنا هذا (حيث بلغ هذا العصر نهاياته) ولا يتسع المجال هنا طبعاً لعرض ما يؤكّد أنّ هذه الروح العنصرية العدوانية توحّد خطابات وممارسات جميع قادة هذا العصر على مدى خمسة قرون، وآخرها خطابات بوش وساركوزي، خاصة في الكنيست الإسرائيلي!

 لكننا نذكر هنا أنّ الأميركيين قبل أكثر من قرن كانوا يتحدّثون عن "أمركة العالم"! قال روزفلت: "إنّ قدرنا هو أمركة العالم..تكلّموا بهدوء واحملوا عصا غليظة وعندئذ يمكن أن تتوغّلوا بعيداً"! وقال السناتور بيفريدج:"لقد جعل الله منّا أساتذة العالم كي ننشر النظام حيث تسيطر الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم كي نتمكّن من إدارة الشعوب البربرية والهرمة، وقد اختار الله الشعب الأميركي دون سائر الأجناس كشعب مختار (يقصد الأنكلوسكسون اللوثريين تحديداً) لكي يقود العالم"! وعندما تحقّق للأميركيين ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وصاروا قيادة العالم العليا المستبدّة منذ عام 1945، وضعوا العالم أجمع تحت جناحهم، ورتّبوا أوضاعه الإجمالية حسب هواهم، بوساطة صنيعتهم هيئة الأمم وتفرعاتها، وبوساطة صنيعتهم حلف شمال الأطلسي وتفرعاته، وبوساطة صنيعتهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتفرعاتهما، وقد نهضت الدول حسب رؤيتهم سواء أكانت صديقة أم معادية، فهي بنيت كي تكون قابلة للانهيار فوق سكانها جميعاً إذا ما اقتضت مصلحتهم ذلك، وبسبب التطورات السلبية الخطيرة الأخيرة في أوضاع العالم، في جميع جوانب حياته، بدأ الأميركيون يضعون خططاً بعيدة المدى لمصلحتهم وحدهم وعلى حساب العالم أجمع، ويمكن الاطلاع على جانب منها في كتاب زبيغنيو بريجنسكي (العصر التكنتروني/بين عصرين) الصادر قبل حوالي أربعين عاماً، والمكرّس للحديث عن عالم بلا دول، عالم من القرى بالضبط، تقوده وتضبط أوضاعه مراكز جبارة (أميركية طبعاً) وأنّه عالم تسوده الفوضى المنظّمة المضبوطة المسلّم بفوضاها كواقع موضوعي (الفوضى الخلاّقة!).

 لقد ذهب الأميركيون بعيداً جداً في هذا الاتجاه، فبعضهم يردّد بخشوع مخيف:"ليبارك الله أميركا وليذهب العالم إلى الجحيم"! وعلى هذا المنوال خاطب مناحيم بيغن الجنود الإسرائيليين قائلاً:"أنتم الإسرائيليون لا ينبغي أن تكونوا رؤوفين حين تقتلون عدوكم..ينبغي أن لا تشفقوا عليه ما دمنا لم نقض بعد على ما يسمّى بالثقافة العربية ولم نبن بعد على أنقاضها حضارتنا نحن"!

 غير أنّ الدول التي رعوا عمليات بنائها كي تكون قابلة للتقويض حين يريدون تقويضها لم تستجب سوى جزئياً لإرادتهم، في البلقان وفي بعض أنحاء أفريقيا، ثمّ كانت نكستهم الكبرى في العراق فاضطرب برنامجهم، بصدد قيادتهم لعالم بلا دول، اضطراباً عظيماً، بل لعلّه فشل تماماً، حيث نشهد اليوم الصمود الأسطوري للمقاومة العربية والإسلامية، والصعود السريع المذهل والرائع للدول الناهضة!

[email protected]

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1