تغيير النظام العالمي لا ترميمه وتجميله!

بقلم : نصر شمالي

يكثر الحديث في هذه الأيام عن اقتراب نهاية هيمنة القطب الواحد في الإدارة الدولية وعن اقتراب العودة إلى التعدّدية، ويظهر الكثيرون احتفاءهم بعودة التعدّدية التي افتقدوها بعد زوال الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يعني أنّ هناك من يرى مأساة العالم في الإدارة التي تحكمه وليس في النظام المفروض عليه، فيقلب الوضع الدولي رأساً على عقب، جاعلاً سبب المأساة نتيجة وأحد مظاهرها ونتائجها سبباً!

لقد سلّم الكثيرون بأزلية وسرمدية هذا النظام العالمي الأوروبي/الأميركي مثلما يسلّمون بمشرق الشمس ومغربها وبالعمليات الحسابية الرقمية ونتائجها، وذلك نتيجة اعتمادهم طرق البحث الأوروبية/الأميركية، وتسليمهم المسبق باستنتاجاتها التاريخية التي تجعل أوروبا مركز جميع العصور البشرية، بل تجعل شعوبها هي وحدها "البشرية" المنتجة "للحضارة"، أمّا خارجها فلا يوجد غير البربرية والظلام، وهذا التسليم الذي يبرز واضحاً في جميع الميادين العلمية والأدبية والفنية الحديثة في البلدان التابعة هو حالة مروّعة لا تقلّ خطراً وبؤساً عن حالة التسليم السلفية اللاعقلانية التي تلوذ بمظاهر وأدوات ما قبل ألف عام، بل هي الوجه الآخر لها، فلا فرق في المحصّلة بين ذلك الفنّان التشكيلي بلحيته الكثّة وهيئته الرثّة، المتسلّح بريشة "الشخبطة" الحديثة، وبين ذلك السلفي بلحيته الكثّة وهيئته الرثّة، المتسلّح بسواك الأسنان القديم، ففي الحالتين نجد استعارة لمظاهر وأدوات يعطيها قيمتها وضرورتها مكان آخر وزمان آخر، والمسألة تغدو مهزلة مأساوية عندما يستخدم المظهر وتستخدم الأداة في غير مكانهما وزمانهما! وهكذا وجدت الأمم نفسها، خاصة أمتنا العربية/الإسلامية، واقعة بين مطرقة المركزية الأوروبية العنصرية الموغلة في مادّيتها وسندان السلفية اللاعقلانية الموغلة في غيبوبتها، فخسرت الأمة إلى حدّ كبير هيئاتها العلمية والأدبية والفنّية التي انحاز معظمها إمّا إلى المطرقة وإمّا إلى السندان!

غير أنّ النظام العالمي الأوروبي/الأميركي المهيمن ليس الأول وليس الأخير في تاريخ البشرية، فهو نهض على أنقاض العصر العربي الإسلامي العالمي، الذي دام حوالي عشرة قرون يتجاهلون وقائعها الأممية بوقاحة لا مثيل لها، وهو التجاهل الذي لا يمكن أن يستقيم معه تاريخ البشرية بمجمله، بينما تراهم يستحضرون الخرافات التلمودية من مراحل ما قبل التاريخ الميلادي ويتعاملون معها كوقائع معاصرة ملموسة! ولقد نهض العصر الحالي ونظامه العالمي بالضبط في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر: بسقوط غرناطة واكتشاف أميركا عام 1492، وباكتشاف رأس الرجاء الصالح والطريق إلى الخليج العربي والهند عام 1497، وبرحلة ماجلان وحسم مسألة كروية الأرض ما بين العامين 1518-1521! إنّها ثلاثون عاماً حاسمة وفاصلة بحزم مابين عصرين عالميين، ما قبلها من أحداث وقع في نطاق العصر العربي الإسلامي العالمي سواء أكان حدثاً سلبياً أم إيجابياً، وما بعدها وقع في نطاق العصر الأوروبي/الأميركي العالمي الجديد سواء أكان الحدث سلبياً أم إيجابياً!

لقد كانت الحروب الفرنجية (الصليبية)، التي وقعت خلال النصف الأول من الألف الميلادية الثانية، من حروب العصر العربي الإسلامي العالمي، فهي من شاكلة الحروب المغولية والتتارية وإن تميّزت عنها بتطاولها وبتأسيسها للعصر الأوروبي العالمي التالي، وهي مثل الحروب اليابانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي هي من حروب العصر الأوروبي/الأميركي وإن نشبت ضدّه وهدّدت مراكزه! وفي القرن السادس عشر استكملت الرابطة العثمانية نهوضها، لكنها لم تعد تشكّل استمراراً للعصر العربي الإسلامي العالمي البائد، مثلما كان حال الفاطميين والأيوبيين والمماليك قبلها، بل صارت عهداً من عهوده تطاول في الزمان والمكان ضمن العصر التالي العالمي الأوروبي/الأميركي، أي أنها صارت عهداً عربياً إسلامياً محتوىً من قبل العصر العالمي الجديد، ومحسوباً عليه بغضّ النظر عن ولائه أو عدم ولائه لهذا العصر الجديد! فلو أنّ العثمانيين نجحوا في الحيلولة دون سقوط غرناطة، ودون الالتفاف حول أفريقيا والاستيلاء على طرق التجارة الدولية واحتكارها، ودون السيطرة على حوض المحيط الهندي العظيم، حوض الثروات الأزلية وعمق العصور البشرية، ولو أنهم نجحوا في الحفاظ على مكانة العواصم العربية الإسلامية في العالم، إذن لكانوا شكّلوا استمراراً للعصر العربي الإسلامي العالمي، كالفاطميين والأيوبيين والمماليك الذين كانت عهودهم كذلك حقاً (بعيداً عن التصنيفات العرقية والمذهبية السخيفة الحديثة!) فكان وضع الرابطة العثمانية، والحال كذلك، وضعاً دفاعياً محضاً عن عصر عالمي مضى وانقضى ولا يمكن له أن يعود أو يتجدّد بالملامح والأدوات والعلاقات ذاتها، بل بالجوهر ذاته وبالعقيدة السياسية الإنسانية ذاتها إنّما بملامح وعلاقات وأدوات جديدة، وهذا ما لم يحصل لسوء حظّ البشرية! وينبغي القول أنّ دفاع الرابطة العثمانية عن الوجود الأولي للعرب والمسلمين كان باسلاً حقاً قبل أن تخترق وينخرها الفساد!

بعد أن فصل الأوروبيون حوض المحيط الهندي عن مراكز القيادة العالمية العربية الإسلامية حسم الوضع لصالحهم ونهض عصرهم، وبدأت البنى الفوقية والتحتية العالمية تتكون انطلاقا من بلادهم، ممهّدة لسيادة عقيدة سياسية جديدة (فاوستية) عبودية الجوهر، وصارت الأنظمة الدولية تنهض وتتبدّل محتفظة بهذه العقيدة، وصار واضحاً أنّ عقيدة التوحيد والحرية، والتكافؤ والمساواة، التي سادت كقاعدة طوال عشرة قرون بغضّ النظر عن الاستثناءات المخالفة، قد مضى عصرها وانقضى!

ولكن هاهي البشرية اليوم، بعد خمسة قرون من المعاناة الرهيبة على أيدي الأوروبيين والأميركيين، تتطلع إلى نظام عالمي نظيف من الاحتكار الشايلوكي، والتمييز العنصري، وعمليات الإبادة والاستيطان، وهاهي أمم حوض المحيط الهندي وفي جملتها العرب والمسلمين تتأهّب لمثل هذا التغيير، لكنّ قياداتها الفكرية والسياسية والأدبية والفنية تبدو كأنّما هي ليست مؤهلة بعد، لأنّها ليست مدركة بعد طبيعة النظام السائد وطبيعة النظام المنشود، فهي في معظمها تتحدّث عن إنهاء هيمنة القطب الواحد والعودة إلى التعدّدية كحلم أسمى، وتتطلع إلى تفعيل دور هيئة الأمم من دون أن يخطر في بالها إلغاء حقّ النقض (الفيتو)، وإلغاء ديمومة العضوية في مجلس الأمن لدول دون دول، كمظاهر صارخة للاحتكار والعنصرية والعبودية! إنّها تريد ترميم وتجميل النظام العالمي الأوروبي/الأميركي، الذي انصهرت فيه فلا يخطر ببالها سواه، بينما شعوبها وأممها تتطلع إلى تغييره!

       [email protected]

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1