تعميم نمط الحياة بالقروض أمميّاً!

بقلم : نصر شمالي

ينهض نظام الحياة في الولايات المتحدة الأميركية بمجمله على الاستدانة أو الاقتراض، فجميع الأفراد العاديين ينهض نظام حياتهم على الاستدانة والاقتراض وبطاقات الائتمان أو الاعتماد، وكذلك حال المؤسسات التجارية الصغيرة والشركات التجارية أو الصناعية المتوسطة و الاتحادات الصناعية أو التجارية أو المالية العملاقة، أي أنّ كلّ فرد في الولايات المتحدة دائن ومدين في الوقت نفسه، بالكامل وطيلة الحياة، بحيث ترتب على ذلك طراز ربوي أناني مادّي من التفكير العام والثقافة العامة والعلاقات العامة، وحيث لا أحد يستطيع أن يكون مواطناً أميركياً دون أن يكون دائناً ومديناً في الوقت نفسه، فإذا لم يكن كذلك خرج من الحياة العامة، أو من بيته إلى الرصيف على الأقلّ، فلا مناص من الادخار في المصرف، والاقتراض من المصرف، والاستهلاك بتغطية تؤمّنها بطاقات المصرف! إنّه نمط حياة يحكم الربا علاقاته في أدقّ تفاصيلها، وينعكس حكم الرّبا، بالطبع، على الأرواح والنفوس والعقول فيصوغها على صورته وشاكلته، أرواحاً ونفوساً وعقولاً مكرّسة لعبادة المال! ونحن إذا أخذنا بما يقال عن فظاعة وخطورة شمولية الأنظمة السياسية الحاكمة فلا ريب أنّ النظام الأميركي هو أكثرها شمولية وخطورة وفظاعة، لكنه ينجح في تمويه وإخفاء حقيقته، إلى حين فقط، بالبحبوحة الفائضة التي يحققها عن طريق ابتزاز الأمم الأخرى ونهبها!

غير أنّ اقتصار نظام الحياة الأميركية ونمطها وثقافتها على الولايات المتحدة وحدها لا يكفي، فقد رأى قادتها وكهنتها أنّ الحفاظ عليه وضمان استمراره في بلادهم يقتضي تعميمه أمميّاً، وهكذا انطلقوا منذ عشرات السنين، بعد انتصارهم وحدهم في الحرب العالمية الثانية، يجهدون في هذا الاتجاه، إلى أن بلغوا في السنوات الأخيرة مرحلة البدء بتعميم "الليبرالية الجديدة" التي تستهدف الأفراد العاديين في العالم، والتي خلاصتها تحرير الأسواق الدولية من أية رقابة أو قيد، وإضعاف الحكومات بإضعاف تدخّلها في شؤون الأسواق، وإطلاق حرّية رأس المال ليجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه غير آبه لأيّة حدود جغرافية أو سياسية أو وطنية أو قومية، فالأمم جميعها بأفرادها ينبغي أن تخضع للوثن المستبدّ المعبود في الولايات المتحدة، الذي هو رأس المال!

لقد اصطدم مشروع تعميم الليبرالية الجديدة، في عهد بوش الابن تحديداً، بسلسلة من العقبات الأممية الموضوعية التي بدا التغلّب عليها مستحيلاً، فالأمم ليست من السذاجة بحيث تقتنع أنّ عدم تدخّل الدولة في شؤون الأسواق وفي حركة رؤوس الأموال هو في صالحها ويحقّق نموّها وتطوّرها، بل هي تعي جيداً أنّ مثل هذا الانفلات سيجردّها من وسائل أمنها وحمايتها ويجعلها فريسة سهلة لضباع الرأسمالية المتوحشة،وللتغلّب على ممانعة الأمم ورفضها للمشاريع الليبرالية الجديدة لجأت إدارة بوش إلى الحرب والاحتلال، وهي فعلت ذلك، ويا للغرابة، بالاعتماد على دولتها ودول حليفاتها، خلافاً لما تبشّر به بصدد إضعاف دور الدول في الحياة الأممية، فكانت المغامرات الحربية الفاشلة في أفغانستان والعراق ولبنان، التي توقعوا أن تمكّنهم نتائجها من الإمساك بعنق العالم والتحكّم به كما يشاؤون، وإذا بهذه المغامرات وقد تحوّلت إلى بالوعة عملاقة، مثل الثقب الكوني الأسود، تمتصّ بشراهة لا مثيل لها كميّات هائلة من الكتلة النقدية الدولية الأميركية وتمضي بها إلى حيث الظلام والعدم! وهكذا توالت العواصف المالية التي بلغت إحدى ذراها وليس نهايتها بالإعصار والانهيار المالي الحالي الذي ضعضع أسس النظام المالي الأميركي/الدولي! غير أنّ ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ المغامرات الحربية الأميركية ونتائجها ليست هي الأزمة ولا صانعتها، بل هي أحد أشدّ مظاهر التعبير عنها حدّة وفظاعة في بعدها التاريخي العالمي الذي لا يقتصر على الولايات المتحدة وحدها!

 لقد سرّعت المغامرات الحربية الفاشلة في فضح أزمة النظام الربوي العالمي الفاسد المستعصية، وعجّلت في تفاقمها واستفحالها، وبرهنت أنها أزمة نوعية نهائية، لا دورية روتينية عابرة كما يدبّج خبراء وكتبة النظام الرأسمالي العالمي، فيشبّهونها بأزمة عام 1929ومثيلاتها! إنّ ما نشاهده اليوم هو مظهر من مظاهر احتضار نظام عالمي فاسد مضمحل فقد ضرورته التاريخية، وأصبحت بناه الفوقية، الثقافية والحقوقية والسياسية..الخ، معوّقاً لنمو وتطور الحياة البشرية، بل مهدّداً خطيراً لها، فبينما يحتاج العالم، بملياراته البشرية المتزايدة وبموارده الاقتصادية المتناقصة، إلى مزيد من النظام والتنظيم، بل إلى نظام وتنظيم حقيقيين جديدين نظيفين، تدعو الليبرالية الجديدة إلى مزيد من الانفلات والفوضى، وهي لا تتردد في وصف الفوضى بالخلاّقة، أي المبدعة والمنتجة! وإنه لمن الواضح أن الليبراليين الجدد لا يضيرهم ولا يمانعون في هلاك مئات الملايين بل مليارات البشر مقابل استمرار نظامهم وضمان مصالحهم!

حتى الأمس القريب كانت الليبرالية الرأسمالية، الأميركية/الأوروبية، تبدو مكتفية بتقييد الدول الأخرى عن طريق إغراقها بديون البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكانت تنزعج عندما تنجح دولة من الدول المدينة في سداد ما عليها من قروض بالكامل، كما نجحت ماليزيا والجزائر على سبيل المثال، فالقروض هي الأصفاد التي تمكّنها من استعباد الدول والهيمنة على مجمل جوانب الحياة فيها بحيث يغدو القرض وفوائده ثانوياً قياساً بذلك، غير أنّ التطورات البشرية والبيئية الهائلة أضعفت هذا الأسلوب في الهيمنة على العالم واستدعت تطويره، فكانت إستراتيجية الليبرالية الجديدة القاضية بتفتيت الدول، وإضعاف دور الحكومات في ضبط قطاعات المال والأعمال، وتدمير كل رابطة وطنية أو قومية أو أممية، بإشاعة تقديس الحرية الفردية، والتظاهر كذباً بالحرص على حقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير..الخ، وذلك كلّه تمهيداً لتعميم نظام الاستدانة والاستقراض الأميركي على العالم أجمع كأفراد أولاً، إنّما بسلبياته من دون إيجابياته، إن كانت له إيجابيات بالمعايير الإنسانية!

 ولكن هاهي إستراتيجية الليبراليين الجدد تتهاوى في كلّ مكان، وهاهي حكومة الولايات المتحدة بالذات تتدخل بقوة في قطاعات المال والأعمال الأميركية، بل تلجأ إلى إجراءات التأميم في القطاع المصرفي الأميركي، الأمر الذي يذكّرنا بالاتحاد السوفييتي، ويجعلنا نعود ونتساءل عمّا إذا كانت الولايات المتحدة توشك أن تدخل مرحلة البيريسترويكا الخاصة بها!  

 [email protected]

 

Hosted by www.Geocities.ws

1