تركيا العلمانية تنتصر لأصولها العثمانية

بقلم:  نصر شمالي

 

واظبت تركيا الرسمية على تأكيد علمانيتها وديمقراطيتها وأوروبيّتها طيلة أكثر من ثمانين عاماً، وفي سبيل حسم مسألة انتمائها للعصر الحالي لم تتردّد في تقديم أعظم التضحيات، ليس التراثية والروحية فحسب، بل السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً، ولم تتردّد في وضع قواتها المسلحة في صالح جبهات الحرب الأوروبية الأميركية، حتى أنّها انضمت رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي،غير أن قادة العصر الأوروبي الأميركي الصهيوني واظبوا من جهتهم على تجاهل تضحياتها وتطلعاتها الرسمية، ولم يسمحوا لها بتجاوز حدّ معين في اقترابها منهم!

إنّ الشعب التركي، مثله مثل أي شعب آخر من شعوب الرابطة العثمانية البائدة، لم ولن يمانع في اللحاق بركب الحضارة الأوروبية الأميركية، خاصة ما يتعلق بإنجازاتها العلمية، ولم ولن يرفض الإصلاحات السياسية الحديثة التي تنظم العلاقات الداخلية بين قوى المجتمع المختلفة، غير أن ما فات قادته، وقادة الشعوب المظلومة عموماً، هو أنّ الإدارات الأوروبية والأميركية لا تريد لهم ذلك، فالتحديث والحداثة بجميع معانيهما هما احتكار لبلدان الشمال، يعمل بهما هناك ولا يسمح بالعمل بهما جدّياً في بلدان الجنوب، حيث ينبغي أن يقتصر تعاطي التحديث والحداثة على القشور، وأن ينحصر استعمال القشور بالنخب المتفرنجة فقط، فبلدان الجنوب يجب أن تبقى مجرّد حقول للمواد الأولية الرخيصة، ومجرّد أســـواق استهلاكية لمنتجات الشمال الغالية، وشعوبها مجرّد مجتمعات ناقصة، تابعة، يسهل التحكّم بها واستغلالها إلى حدّ إفنائها إذا اقتضت المصلحة ذلك! وبما أنّ الحال كذلك فعلاً، فقد كان لا بدّ لقيادات الشعب التركي أن تدرك أخيراً، بعد صبر طويل جميل، أنّ المسألة ليست مسألة نوايا طيبة ورغبات بريئة، بل هي أعقد وأخطر من ذلك بما لا يقاس، فبدأت العودة المتأنّية المتمهّلة إلى روح الشعب التاريخية الحبيسة، وبدأت محاولات إطلاق هذه الروح العامة وإن بحذر مفهوم، كما رأينا في الموقف الشعبي التركي من احتلال العراق أولاً، ثمّ من تدمير وإبادة فلسطين وشعبها ثانياً!

      إنّ العرب، على الأخص في سورية والعراق، معنيّون تماماً بمصير الشعب التركي الذي تربطنا به أوثق الصلات الروحية والتاريخية، إضافة إلى الجوار الجغرافي والهموم المشتركة، فما يجمعنا معه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً أكبر بكثير جداً مما يمكن أن يفرّقنا، بل إننا بأمس الحاجة إلى وقوفه معنا، مثلما هو بأمس الحاجة لوقوفنا معه، حيث تتوفّر لمثل هذا الموقف المتبادل جميع الأسس الذاتية والموضوعية المصيرية،غير أننا، بدلاً من الانشغال الجدّي العملي  بالحقائق والوقائع التاريخية الخطيرة العظمى، التي أودت بنا جميعاً وما زالت على مدى القرون الخمسة الماضية، مازلنا ننشغل باجترار أخبار مظالم بعض الحكام العثمانيين، وهي المظالم التي لا تختلف عن مظالم بعض الحكام العرب قبل العهد العثماني وبعده حتى يومنا هذا، والتي يوجد مثلها، أكثر أو أقل، عند جميع الأمم من دون استثناء، وفي جميع العصور أيضاً من دون استثناء!

  غير أنّ الأمر لم يقتصر على مجرّد اجترار أخبار المظالم، بل ذهب إلى حدّ اعتبار العهد العثماني عهداً استعمارياً، وإلى حدّ إطلاق صفة الإمبراطورية، أي الإمبريالية،على الرابطة العثمانية، وهي الدولة اللامركزية استناداً إلى المنهج الإسلامي في الحكم، بغضّ النظر عن مدى التقيّد أو عدم التقيّد بهذا المنهج في هذه الفترة أو تلك! ثم إنّ الاستعمار مصطلح أوروبي محض، له فلسفته وتطبيقاته الثابتة التي تقرّ عقيدياً ومبدئياً استغلال وإدارة الأمم القاصرة، وتقرّ إبادتها عندما تقتضي الضرورات ذلك، وهذا غير موجود في العقيدة العثمانية وفي سياساتها الثابتة!

      لقد ترتّبت على الخلط الفظيع بصدد المسألة العثمانية توصيفات ومفاهيم خاطئة تحوّلت مع الزمن، وبفعل الدعايات الاستعمارية، إلى ما يشبه القناعات العامة، وعلى سبيل المثال فإنّ الأتراك، وليس غيرهم من شعوب الرابطة، هم الذين حكموا على الدولة العثمانية بالزوال، أي أنّ عدوّها الداخلي الأول كان تركيّاً، فهل نحن ضدّ الأتراك أم ضدّ الدولة العثمانية؟ وإذا كنّا ضدّ الدولة ألا يعني ذلك أننا ندين لأولئك الأتراك الشجعان في تحرّرنا منها؟ أمّا إذا كنّا ضدّ الأتراك تحديداً فهذا يعني أنّهم أعداؤنا مثلما هم أعداء تلك الدولة، وأننا ضحيّتهم مثلما هي ضحيّتهم!

ومثال آخر، فقد ناضل روّاد الحركة القومية العربية في البداية من أجل تطوير الرابطة العثمانية التي هي دولتهم، ثمّ بدأوا يلحّون على اللامركزية في مواجهة الحركة الطورانية (القومية التركية المتأوربة) الصاعدة وليس قبلها،ثمّ انتقلوا إلى التفكير بالاستقلال القومي بعد تفاقم أوضاع الرابطة/الدولة أخيراً، وبروز عوامل انهيارها من داخلها وخارجها، وقد ترتّب على انهيارها احتلال الأوروبيين لبلدان المشرق العربي، وهو الاحتلال الذي تأخّر مئات الأعوام بفضل صمود الرابطة العثمانية، غير أنّ هذا الاحتلال الاستعماري الصهيوني أصبح في نظر البعض، ويا للعجب، بداية خلاص ونهوض واستقلال العرب، علماً أنّ روّاد الحركة القومية العربية في أكثريتهم، ومنهم من أعدمه جمال باشا، لم ينظروا أبداً إلى المسألة من هذه الزاوية الخاطئة وبهذه الطريقة المشوّشة المبهمة!

      على أية حال، فإنّ هذا الخلط والإبهام والتشويش، إذا كان مبرراً ومفهوماً في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وما نجم عنها من انقلابات مدوّخة حقاً، فإنّ استمراره لم يعد مبرّراً ولا مفهوماً اليوم، ولا يجوز أبداً أن يستمر تاريخ الهيمنة الأوروبية على بلادنا مقترناً في أذهاننا بتواريخ الاحتلال العسكري الأوروبي المتأخّر للمشرق، بينما ثغورنا البحرية (مضيق جبل طارق وباب المندب ومضيق هرمز ) أغلقت أوروبياً (وليس عثمانياً أو تركيّاً) منذ أوائل القرن السادس عشر، فكان هذا الحصار وهذا الظلام المستمرّ حتى يومنا هذا، الحصار الأوروبي الأميركي الصهيوني، وليس العثماني أو التركي، فالرابطة العثمانية شملها الحصار والظلام بعربها وأكرادها وأتراكها!

 وجدير بالذكر أنّ الدولة العثمانية حاولت على مدى أربعة قرون كسر الحصار المضروب على العالم العربي والإسلامي، وفتح الثغور المغلقة، وتحرير طرق التجارة الدولية البحرية المصادرة من قبل قطّاع الطرق الأوروبيين، وبالتالي تبديد الظلام الدامس الشامل، لكنها فشلت وإن هي صمدت في خطوط دفاعية أدنى، وبينما الحال كذلك فعلاً دأب بعض العرب على تحميل الرابطة العثمانية، وليس الغرب الصهيوني، مسؤولية مآسينا وتخلّفنا طيلة خمسة قرون (تماماً مثلما يتّهمون اليوم المقاومة بأنّها سبب مآسينا وتخلّفنا، حيث السبب يجب أن يكون دائماً ذاتياً مصدره دونيّتنا المتأصّلة!) لكنّنا سوف نجاريهم، ونسألهم: أليست صورة نظام حكم الدولة العثمانية، ليس في آخر عهدها بل طيلة القرون الخمسة التي هي عمرها تقريباً، وكما صوّره خصومها تعسّفاً، هي صورة نظامنا الرسمي العربي؟ وما الذي كان سيتغيّر في الأساسيات، حسب رؤيتهم هم للسلطة العثمانية، لو أنّ السلاطين العثمانيين الأتراك كانوا عرباً أقحاحاً؟ تأمّلوا في أشكال وأقوال وأفعال الحكّام العرب، ثمّ أجيبوا! بالطبع هي مماحكات مريبة وباطلة علمياً من أساسها!

      ولكن، لقد مضت الدولة العثمانية وانقضت، وزالت من الوجود إلى الأبد ولن تتكرّر بالتأكيد، فما معنى الإصرار على التصعيد المستمر ضدها كأنما هي خطر قائم داهم؟ الجواب: إنّها الحملة الأزلية المستمرة المخاتلة تستهدف حضارتنا الإسلامية بحجة النيل من العثمانيين، وهذه الحملة تشمل تلقائياً القومية العربية أيضاً، وتشمل كلّ قومية تنتسب إلى الحضارة العربية الإسلامية، فما هو الفارسي أو التركي أو الكردي أو العربي (المسلم والمسيحي) من دون الحضارة العربية الإسلامية؟ ماذا يملك تاريخيا، على صعيد الحياة المعيشة وليس الآثار الدارسة،ً غير ما ورثه عنها؟

 أخيراً، أليست مواقف الرئيس المحترم رجب طيّب أردوغان، المعروفة التي لسنا بحاجة لإيرادها، خير دليل يؤكّد ما ذهبنا إليه؟ وهل لاحظتم كيف اكفهرّت وجوه البعض وانعقدت ألسنته أمام ما بدا كأنّه انتصار تركيا لأصولها؟

 

                [email protected]

 

  

 

Hosted by www.Geocities.ws

1