العالم يجتاز المسافة الفاصلة بين عصرين!

بقلم : نصر شمالي

على مدى الثمانية آلاف عام الماضية تقريباً، يمكن القول أنّ العالم البشري انتقل مرّات قليلة من عصر إلى عصر، فهو انتقل من حياة المشاعة البدائية، التي لا أسماء فيها ولا عناوين، إلى الحياة المجتمعية التي بدأت تتحدّد فيها الأسماء والملامح والعناوين، وإن بصورة أميل إلى الغموض (عصر جلجامش، مثلاً؟). ثمّ انتقل العالم إلى حياة الرقّ والعبودية، مع بدء التدوين والتأريخ للأسف، وهي الحياة التي دامت أكثر من ألف عام، والتي اشتدّت قسوتها في أواخر الأزمنة الفرعونية المعبديّة ومثيلاتها، وبلغت ذروتها في الاستطالة اليونانية/الرومانية لتلك الأزمنة (عصر سبارتاكوس؟). وبعدها، في القرن السابع الميلادي وبقيادة العرب، انتقل العالم إلى حياة التوحيد والتكافؤ والتجارة الطليقة المنظمة والصناعة الحرفية المحرّرة، التي دامت أقلّ من ألف عام، من القرن السابع إلى السادس عشر، وهو العصر الذي تميّز بالحركة الأممية الطليقة الشيّقة والحرّية العذبة الساحرة (عصر السندباد؟). ثمّ جاء هذا العصر الأوروبي الأميركي الحالي الذي تلخّصه قصة شايلوك الشكسبيرية وتكشف طبيعة الحياة فيه (عصر هيروشيما والقنابل النووية؟)!

لقد كان الانتقال من عصر إلى عصر يتحقّق دائماً بعد اجتياز مساحة قاحلة تفصل عادة بين عصرين (هي المساحة التي يجتازها العالم اليوم؟) وكانت تقود عملية الانتقال دائماً أقوام تجسّد المعاناة البشرية أكثر من غيرها، بحيث تجعلها معاناتها الأشدّ، إضافة إلى موقعها الجغرافي المناسب، أكثر استعداداً من غيرها لقيادة عملية الانتقال، غير أنّ الانتقال لا يتحقّق بظهور القيادة الكفؤة والموقع الجغرافي المناسب أولاً، بل بدخول العالم المساحة القاحلة أولاً، أي بنضج الظروف الموضوعية الأمميّة وتوفّر الشروط التاريخية أولاً، وهو ما يبدو بوضوح أنّ العالم يشهده اليوم، مثلما شهده في القرن السابع ومثلما شهده في القرن السادس عشر!

إنّ حياة المجتمعات ونظمها الاجتماعية ترتبط بحقبة زمنية تاريخية محدّدة، فهي تولد في نطاق الحقبة المعيّنة وتموت وتندثر بانتهائها، فالمجتمع والنظام يصيبهما ما يصيب الإنسان الفرد تماماً، فيتوقفان ويكفّان عن مواصلة الحياة، ويضمحلاّن ويفنيان، بسبب الكوارث سواء أكانت من صنع الطبيعة أو من صنع الإنسان، وقبل ذلك وبعده بسبب قانون الوجود الذي لا يسمح أبداً لأيّ فرد أو مجتمع أو نظام أن يكون ثابتاً وخالداً، فالمجتمع، أو النظام، لا بدّ وأن يندثر بزوال ضرورات وجوده القديمة وظهور ضرورات جديدة تفرض تحوّله إلى آخر! ويتحقّق التحوّل بتبدّل المكوّنات الجزئية للمجتمع والنظام، وبزوال ملامحه القديمة وتغيّر حجمه، وبالتالي تغيّر علاقاته القديمة ونمط حياته القديم تلقائياً!

إنّنا إذا ما تأمّلنا في تاريخ هذا العصر الشايلوكي الحالي فسوف نرى بوضوح كيف تبدّلت أكثر من مرّة مكوّناته الجزئيّة وملامحه العامة، وحجمه ونمط حياته، عبر مراحل حياته المحدّدة بحوالي خمسة قرون: من القرصنة اللصوصية وقطع طرق التجارة الدولية، إلى الغزو والحرق والاستعمار والإبادة والاستيطان في جميع القارات، إلى تركيم ثروات البشرية المادية والمعنوية في مراكزه واحتكارها بالقوة، إلى فرض علاقات اقتصادية دولية قوامها الصيرفة والربا والمقامرة! وقد ترافق ذلك كلّه مع تطوّر قطاعات الإنتاج المادي من مرحلة المانيفاتورة، إلى الآلة البخارية، فالصناعات الميكانيكية بمحركات الديزل، والكهرباء، ثم الصناعات الإلكترونية والتكنتروتينية (الحواسيب) التي نعيشها اليوم! إنّه التطوّر الرائع على الصعيد الصناعي المادي مترافقاً ومتلازماً مع التطوّر المروّع على الصعيد السياسي الإنساني! وينبغي أن لا يخامرنا أدنى شكّ في أنّ التطوّر المادي والفكري العالمي هو محصّلة تجارب ومعاناة وخبرة جملة المجتمعات البشرية في جميع العصور السابقة، وينبغي أن نكتشف ونصل في التحليل الأخير إلى أنّ المركبات الفضائية، مثلاً، هي أيضاً محصّلة جهد وكدح ذلك الإنسان الأفريقي والآسيوي الذي شوّه مظهره وسمّم حياته قادة هذا النظام العالمي الشايلوكي، ففكرة التلفزة واستحضار صورة الغائب البعيد، وفكرة التحليق في الفضاء وبلوغ النجوم، تعودان إلى الإنسان الأفريقي والآسيوي الذي تخيّل الكرة البلّورية وبساط الريح في عصر السندباد!

إنّ مأساة الإنسان المعاصر تتلخص في هذا التناقض المريع بين التطور المادي وبين التطور السياسي، فالنظام السياسي العالمي السائد منذ قرون تبنّى بحماسة سياسة نظام الرقّ والعبودية في العصر اليوناني/الروماني البائد القديم، بينما كان يتوجب عليه تبنّي السياسة الدولية للعصر العربي الذي سبقه، وأن يكون استمراراً متطوّراً ومتقدّما له وليس لغيره من العصور الأسبق! وهكذا، فإذا كان النظام السياسي العالمي الحالي قد شكّل ارتداداً سياسياً قسريّاً فظّاً إلى عصر الرقّ والعبودية فإنّ واجب البشرية أن تصحّح هذا الخلل التاريخي الخطير، بالعودة سياسياً إلى علاقات القرن السابع وما بعده، أي إلى حيث يقول القانون الدولي أنّ الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط، وأن لا فضل لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى، أي بتجنّب الشرور والآثام!

لقد دخل العالم اليوم مرحلة من الاضطراب الشديد الخطير الذي يعصف بمختلف فروع الحياة، وهذا يشير إلى ضرورة تغيير البنى الفوقية السياسية والحقوقية الدولية بما يتفق مع التغيير الذي حدث وانتهى في البنى المادية التحتية الدولية، فليس ممكناً أبداً استمرار قادة مرحلة النفط في قيادة مرحلة التكنترون، مثلما لم يكن ممكناً أبداً استمرار قادة مرحلة الطاقة البخارية في قيادة مرحلة الطاقة النفطية! كذلك ليس ممكناً أبداً استمرار العلاقات السياسية والتجارية الشايلوكية الدولية في عالم بلغت فيه البشرية هذا الحجم عدداً، وهذا التكامل على مدار الساعة تواصلاً مباشراً، وهذا التراكم والتكافؤ في الخبرات والمهارات أممياً، وفوق ذلك هذا الخطر الذي يهدّد كوكب الأرض بمن عليه بيئياً!

 ولكن، من الآن وحتى يتحقق التغيير السياسي والحقوقي الفوقي الدولي، سوف يعصف الاضطراب أكثر فأكثر كلّما أوغلت البشرية في تقدّمها، حاثّة الخطى لاجتياز المسافة القاحلة الموحشة الفاصلة بين عصرين بشريين، وإنّ من واجب البشرية (والعرب في مقدّمتها باعتبارهم من الأكثر تضرّراً وبفضل موقعهم الجغرافي) أن تعمل ما بوسعها لاختصار زمن الانتقال، أي لاختصار العذاب والتكاليف، وهذا ممكن بالطبع، والمقاومة إحدى أهمّ وسائله!

 [email protected]

    

Hosted by www.Geocities.ws

1