الشعب الفلسطيني يتخطّى نخبه العليا!

بقلم : نصر شمالي

 

على مدى حوالي  ثلاثة عقود من الزمن، بعد عام 1948، أوكلت الإدارة الأميركية إلى الجيش الإسرائيلي مهمة العدوان على الدول العربية القريبة والبعيدة كلّما اقتضى الأمر ذلك ، ومهمة الاشتباك مع الجيوش العربية جميعها أو بعضها كلّما اقتضى الأمر ذلك أيضاً، وعندما بدأ الجيش الإسرائيلي هذه المهمة بعد الحرب العالمية الثانية، بتوجيه وإشراف الأميركيين، كانت معظم الأقطار العربية لا تزال خاضعة للاستعمار الأوروبي المباشر وشبه المباشر وغير المباشر، وكانت الولايات المتحدة التي ورثت المنطقة العربية تتطلع إلى كنس الاستعمار الأوروبي القديم والحلول محلّه بوسائل وأشكال أخرى جديدة، وكان ذلك يقتضي ترويض حكومات المستعمرات العربية المستقلة حديثاً، وتهيئتها وتأهيلها لأخذ مواقعها في الوضع الإقليمي الأميركي الجديد، وبالطبع كان دور الجيش الإسرائيلي ضرورياً وحاسماً في عمليات الترويض والتهيئة والتأهيل، حيث سيأخذ النظام الرسمي العربي على عاتقه بعد ترويضه وتأهيله مهمة خطّ الدفاع الأول عن المنطقة العربية التي يعتبرها الأميركيون من ممتلكاتهم، وهذه المهمة الرسمية العربية الدفاعية لصالح الأميركيين تتلخص في ضبط الأمة العربية وإبقائها ضعيفة ممزّقة لا حول لها ولا قوّة، أمّا الكيان الصهيوني، الذي هو جيش مموّه بشعب مصطنع، فيتحوّل إلى مهمة خطّ الدفاع الثاني عن المصالح الأميركية، ليتحرّك عندما يعجز النظام الرسمي العربي عن ضبط الأمور سواء في مواجهة الانتفاضات والثورات والمقاومات الشعبية أو في مواجهة نظام رسمي عربي أقدم على التمرّد وحاول الخروج على الترتيبات الأميركية والانحياز للجماهير العربية، وأمّا الولايات المتحدة بالذات فقد أخذت على عاتقها، ومعها حلف شمال الأطلسي، مهام خطّ الدفاع الثالث والأخير! تلكم هي اللوحة التي رسمت للمنطقة العربية من قبل الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية، فإلى أين آلت الأوضاع الآن بناء على ذلك، وبعد حوالي ستين عاماً، خاصة في فلسطين التي تقرّر تدمير شعبها وتحويل بلاده إلى قاعدة ومنطلق للعمليات العدوانية؟

لقد نجح الإسرائيليون على مدى العقود الثلاثة المذكورة في إنجاز مهامهم إلى حدّ كبير جداً، خاصة بعد أن أخرجوا مصر من ميدان الصراع ونالوا اعتراف نظامها باغتصابهم لفلسطين وبحلولهم محلّ الفلسطينيين، وبعد أن تحوًل هذا النظام إلى حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وكان المتوقّع بعد ذلك أن ينجح النظام الرسمي العربي في القيام بدوره كخطّ دفاع أول عن الترتيبات والمصالح الأميركية الصهيونية في البلاد العربية، غير أنّ ما حدث هو أنّ هذا النظام عجز عن القيام بواجباته المشينة في قمع الانتفاضات والمقاومات الشعبية والتمرّدات الرسمية، خاصة في فلسطين، فهبّ الجيش الإسرائيلي في أكثر من مناسبة لنجدة النظام الرسمي العربي لكنّه فشل بدوره، في الثمانينات والتسعينات ضدّ الفلسطينيين واللبنانيين، فكان أن اضطرّت الولايات المتحدة لدخول ميدان الصراع بنفسها مباشرة، وبصفتها خطّ الدفاع الثالث والأخير، واختارت العراق كبوابة للدخول المباشر تسمح لجيوشها باجتياح البلاد العربية جميعها كما قدّرت وتوقّعت، وهاهي اليوم تتعثّر وتتخبّط مثخنة بالجراح، عاجزة عن التعامل مع ورطتها وعاجزة عن الخروج منها، بل صارت تعوّل لتحسين وضعها في العراق على ما يمكن أن يحققه الإسرائيليون والنظام الرسمي العربي من نجاح على الجبهات الأخرى، الفلسطينية واللبنانية والسورية!

لقد كان أغرب ما في الأمر أنّ الحلقة الفلسطينية الأضعف في سلسلة الدفاع أو الهجوم العربي برزت على أنّها الأقوى، وهي ما زالت تبرهن يوماً بعد يوم على أنّها الأقوى، حيث صمد الشعب الفلسطيني صموداً أسطورياً في مواجهة آلة التدمير الشامل الإسرائيلية الأميركية على مدى الربع قرن الأخير، ليس هذا فحسب بل أخذ وضعية الهجوم متخطّياً نخبه السياسية العليا ومتقدّماً عليها، وهي النخب التي انضمت إلى النظام الرسمي في جامعة الدول العربية تحت اسم منظمة التحرير الفلسطينية!

 لقد تخلّت جامعة الدول العربية، وقيادة منظمة التحرير ضمنها ومعها، عن فلسطين المحتلة عام 1948 وقبلت التفاوض حول إمكانية إقامة "دولة" على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ووافقت على إيقاف الكفاح المسلّح قبل اليقين من أنّهم سوف يعطونها "الدولة" المسخ التابعة للإسرائيليين في حال قيامها! وبينما الحال كذلك شاهدنا الشعب الفلسطيني البطل يهبّ عن بكرة أبيه في انتفاضة أطفال الحجارة أواخر الثمانينات، فيقلب الموقف العام رأساً على عقب، وينجح في إرغام العدو على خوض معركة لا يتحكّم ببداياتها ولا بمساراتها ولا بمدّتها ولا بنتائجها، الأمر الذي يحدث لأول مرة في تاريخ الصراع العربي/الإسرائيلي! ثم رأينا الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية وما بعدها وهو يفقد توازنه ويتحوّل إلى بوليس مثقل بالعتاد يطارد منهكاً الأطفال في الشوارع والأزقة الفلسطينية، ثمّ رأيناه وهو يستخدم دباباته وطائراته لاغتيال ثائر فلسطيني واحد، فتحوّلت بذلك الدبابة أو الطائرة الإسرائيلية الأميركية إلى مجرّد مسدّس! فأية خيبة أميركية إسرائيلية أعظم من هكذا خيبة، وأيّ هوان أميركي إسرائيلي أشدّ من هكذا هوان؟

إنّ الجيش الإسرائيلي، طليعة الجيوش الأميركية والأطلسية في المنطقة، الذي واجه الجيوش العربية النظامية مجتمعة، ونجح في ترويض وتأهيل النظام الرسمي العربي لصالح الولايات المتحدة وضدّ أمته، والذي يحظى اليوم بالدعم الكامل من هذا النظام الرسمي العربي، يقف متردّداً خائباً أمام المقاومة الشعبية الحرّة في فلسطين ولبنان، وقد بدا عاجزاً عن الاستفادة من أسلحته الحديثة الفتاكة التي لطّختها دماء الأطفال في غزّة ومخيماتها وفي الضفة ومخيماتها، أما السر في هذا الانقلاب الاستراتيجي الإقليمي فهو تخطّي الشعب الفلسطيني وقواعده الشابة الباسلة المقاتلة للنخب العليا التي ربطت مصيرها بمصير النظام الرسمي العربي الخانع!

[email protected]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Hosted by www.Geocities.ws

1