الاهتمام بمظاهر الأزمة أم بأسبابها؟

بقلم : نصر شمالي

يبدو أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية سوف تستمر متصاعدة إلى أجل غير محدّد، مضيفة إلى مئات الملايين المهدّدين بالهلاك جوعاً مئات ملايين أخرى، فعلى سبيل المثال هناك 30 مليون أفريقي مهدّدون بالهلاك جوعاً، وفي حال ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 20 في المائة فإنّ 100 مليون إنسان من مختلف أنحاء العالم سوف يلتحقون بعالم الجياع، ويصبح مثل هذا التطور المرعب مفهوماً عندما نعرف أنّ هناك مليار إنسان لا يتجاوز دخل الفرد منهم دولاراً واحداً في اليوم، وهناك ثلاثة مليارات من البشر لا يزيد الدخل ليومي للفرد منهم عن دولارين! (أنظر مقالة علي ماجد / "الحياة"/26/7/2008).

التحليل الاقتصادي بلغة الطبيب الشرعي!

غير أنّ الخمس البشري الثري، المليار الذهبي المرفّه، الذي يقصدونه حصراً وتحديداً عندما يتحدّثون عن "المجتمع الدولي"، لا يبدو مهتمّاً جدّياً وبصورة كافية بالمصير الرهيب الذي يهدّد أربعة أخماس سكّان الأرض، مع أنّ رفاهه ما كان ليتحقق لولا هؤلاء، فشعوب الدول الثرية قادرة على تحمّل الأزمة، حيث أكثر ما يشغل بال الأميركيين عموماً في أزمة الطاقة هو ضمان حركة سياراتهم، فالحصول على المواد الغذائية في "المجتمع الدولي"، أي في دول الخمس البشري، لا يحتاج إلى أكثر من 20 في المائة من دخل الفرد أو الأسرة، كما يذكر علي ماجد في مقالته، أمّا في الدول الفقيرة، التي تعامل من قبل سادة العصر كوسط بين الكائنات الأدنى والأعلى، فإنّ تكاليف الغذاء تستهلك من 60 إلى 80 في المائة من دخل الأسرة، من دون الحديث عن كفاية هذا الغذاء أو عدم كفايته كمّاً ونوعاً!

لكنّ المحللين الاقتصاديين عموماً، إلاّ ندرة منهم، يتحدّثون عن الأزمة الغذائية وضحاياها مثلما يتحدّث الأطباء الشرعيون عن أداة قتل وعن قتيل: "ثقب بعمق كذا في الجمجمة، أحدثته آلة حادة من نوع كذا وكذا، أدت إلى كسر في كذا وتهتّك في كذا نجمت عنهما الوفاة"! أي مجرّد كلام لا يغيّر شيئاً في مصير الضحية ولا علاقة له بالأهمّ في الموضوع وهو: من القاتل وما هي دوافع القتل!

إشارات مقتضبة متلعثمة إلى المجرم!

إنّ المحلّلين الاقتصاديين، المكتبيين المرّفهين، الذين اكتسبت عقولهم وقلوبهم برودة جليدية مخيفة بفضل عطايا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والهيئات الاقتصادية المتفرّعة عن هيئة الأمم، هيئة "المجتمع الدولي" المحدود المحدّد، وبفضل سخاء حكوماتهم الظالمة أيضاً، هؤلاء المحلّلين يعرضون ظروف الأزمة الغذائية العالمية مثل المحامين الذين يدافعون عن مجرم جريمته ثابتة، فينهمكون في إعداد التقارير والمرافعات المخاتلة، الطويلة والمملّة والمنهكة، بهدف تضليل العدالة وتيئيس الضحايا!

في معرض استعراض ظروف الأزمة الغذائية العالمية يتحدّث المحلّلون الاقتصاديون عن ارتفاع أسعار النفط، والأسمدة، وازدياد الطلب على الوقود الحيوي، وانخفاض سعر صرف الدولار، والتقلبات المناخية وتلوث البيئة، وعن اجتياح المباني السكنية العشوائية للأراضي الزراعية في الدول الفقيرة، وعن حظر تصدير المواد الغذائية لصالح المستهلكين المحليين في بعض الدول الأقوى، وعن المضاربات والمراهنات التجارية في سوق  الأغذية الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، وعن السياسات الزراعية في البلدان الفقيرة التي لا تهتم بالقطاع الزراعي وتشجّع على تصدير المحاصيل! ويتحدّثون أيضاً عن تزايد عدد سكان العالم، وعن ازدياد طلب الصين والهند على المواد الغذائية! صدّقوا أو لا تصدّقوا وتذكّروا فقط ما تستهلكه كلاب وقطط "المجتمع الدولي"، مجتمع المليار الذهبي السيد،  من كميّات غذائية خرافية تكفي سكان الصين والهند! إنهم يعرضون عوامل كثيرة من هذا النوع، تماماً كما يفعل الأطباء الشرعيون في معاينتهم لجثّة الضحية! غير أنّ بعضهم قد يشير إشارة سريعة، غامضة ومتلعثمة، إلى الشركات متعدّدة الجنسيات وإلى البيوت المالية الدولية الرّبوية التي تسيطر على قطاعات الزراعة العالمية وعلى الأسواق الغذائية الدولية، إضافة إلى سيطرتها على مصادر الطاقة النفطية وغير النفطية، وعلى الموارد الطبيعية عموماً في العالم أجمع، وإضافة إلى تحكّمها بوسائط ووسائل النقل والتوزيع عبر القارات، ناهيكم عن تحكّمها بسياسات الدول الثرية والفقيرة! إنّها إشارات مقتضبة، خجولة ومتواطئة، أو خجولة لأنّها متواطئة، تطلق في الحدود التي لا يتجاوزها أمين عام هيئة الأمم "المتّحدة بالإكراه" وأمثاله من الشخصيات الدولية!

تقويض الاكتفاء الذاتي للبلدان الفقيرة!

ولكن، ألا يكفي الحديث عن الهيمنة العالمية شبه الكاملة للشركات متعدّدة الجنسيات،خاصة النفطية التي أنجبت الإدارة الأميركية الحالية، وعن هيمنة البيوتات المالية العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعن تواطؤ الحكومات والهيئات الرسمية بعسكرييها ومدنييها في عمليات استعباد الأمم الفقيرة ونهبها، كي نرى المجرم محدّداً، والجريمة محدّدة؟ ما الفائدة من استعراض جميع الظروف والعوامل والمظاهر الأخرى التي هي جميعها محصّلة لما فعله المجرم؟ ما الفائدة في شرح الطبيب الشرعي لكيفية حدوث وفاة الضحية، وعدم الإشارة إلى القاتل والاهتمام بأداة القتل الصماء العمياء الجامدة؟

لقد قوضت سياسات تحرير التجارة، في عالم يحكمه المرابون بالاحتكار والحديد والنار، قدرة البلدان الفقيرة على تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي الضروري، ومن جهة أخرى قال الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، في مؤتمر قمة الثماني الذي انعقد مؤخّراً، أنّ مشكلة ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الغذائية عموماً هي مشكلة سعرية لا مشكلة عجز عن تلبية الطلب، وأكّد أنّ 75 في المائة من أسباب ارتفاع أسعار هذه المواد يعود إلى استخدامها كوقود حيوي (خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) فإذا كان الحال كذلك، وهو كذلك حقّاً، فلماذا اللف والدوران، والاهتمام بمظاهر الأزمة أكثر من أسبابها؟ ألا يهدف ذلك إلى إشاعة حالة من اليأس والقنوط والضياع والاستسلام؟ أليس الصحيح هو التركيز على المسبّب وملاحقته بلا هوادة في كلّ بقعة من بقاع الأرض؟

             [email protected]

 

   

 

Hosted by www.Geocities.ws

1