الأزمة الدولية في فلسطين المحتلة

بقلم : نصر شمالي

تصريحات إيهود أولمرت بعد استقالته، بصدد ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية والجولان،وقيام دولة فلسطينية، وبصدد ترسيم الحدود نهائياً وتوقيع اتفاقات سلام مع الدول العربية (إيديعوت أحرونوت 29/9/2008) هي تصريحات لا قيمة لها في حدّ ذاتها، إنما قيمتها في دلالاتها، لأنّ هذا المرتزق وأمثاله لا رأي لهم في قضايا الحرب والسلم، فهم مجرّد أدوات طيعة في أيدي أسيادهم، ولأنً القاعدة الصهيونية في فلسطين المحتلة ليست سوى موجة في مدّ الاستعمار وجزره، وهو ما لم يشر إليه أولمرت من قريب أو بعيد، متجاهلاً تماماً أزمة النظام العالمي التي لا قيمة لتصريحاته سوى أنّها تؤكّدها من دون أن تذكرها!

إنّ تصريحات أولمرت تستدعي العودة قليلاً إلى الأمس القريب، قبل استفحال أزمة الولايات المتحدة والنظام الدولي بالصورة التي هي عليها اليوم، ومن دون التوقّف عند أولمرت بالذات الذي كان من عتاة العاملين ميدانياً على تهويد القدس، بل العودة إلى زيارة قديمة للولايات المتحدة قام بها الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو، ففي تلك الزيارة فوجئ مرافقوه بالتصرفات الحمقاء لليهود الأميركيين الصهاينة الذين التقوهم، وقد سألهم الفرنسيون: "أين تقع إسرائيل؟" أجابوا: "إنّها في كلّ بلد"! فلمّا سألوهم: "هل هناك جنسية إسرائيلية؟" كان جوابهم: "كلا، هناك جنسية يهودية"! وعندما تساءل الفرنسيون: "هل نستنتج أنّ أيّ يهودي فرنسي أو ألماني أو أميركي يستطيع الذهاب إلى "إسرائيل"، والإقامة فيها كأنّه في بلده، وحمل السلاح وقتل العرب؟"! كان الجواب: "نعم سيكون الأمر كذلك بالضبط، لأنّنا لسنا كغيرنا من البشر، فنحن ننشئ أمة لم تستقرّ على حال نهائية بعد، ونحن لا نحدّد حدودنا إلاّ وفقاً لمصالحنا فحسب، ولا تهمّنا الأنظمة السياسية ولا الحدود التي رسمها غيرنا"! فلمّا حاول الدبلوماسيون الفرنسيون فهم الصلة بين الشتات اليهودي و"إسرائيل" تلقوا إجابة واحدة: "الشتات اليهودي هو إسرائيل وإسرائيل هي الشتات اليهودي"! هكذا كان يتكلّم أمثال أولمرت حتى الأمس، غير أنّ ذلك التعنّت والصلف والمنطق الأحمق اليهودي الصهيوني، الذي أذهل الفرنسيين، ما كان ليظهر ويصمد لحظة واحدة لولا أنّ الكيان الإسرائيلي "مخلوق إجباري" أوجدته واشنطن ووضعته تحت حمايتها، بحيث أصبح "أيّ موقف معاد للولايات المتحدة معاد لإسرائيل" كما كتب مراسل صحيفة معاريف في واشنطن ذات مرة، وحيث الوجود الإسرائيلي القوي مصلحة أميركية على الصعيد الدولي! وكان موشي شاريت رئيس الوزراء الأسبق قد صرّح لصحيفة "عل همشمار" الإسرائيلية (في 5/8/1952) أنّ يهود الولايات المتحدة لا يمكن أن يساعدوا "إسرائيل" في حال نشوب نزاع بينها وبين واشنطن "فالمشاركة الفعالة ليهود أميركا في بقاء دولتنا متفوّقة يتحقّق على أساس اندماج سياستنا الإسرائيلية في السياسة العالمية لواشنطن، ولن يساعدنا إخوتنا من وراء البحار إذا لم نخضع لرغبة حكومتهم"!

من جهة أخرى فإنه لمن الضروري التمييز بين الصهيونية الأميركية الأعلى غير اليهودية وبين الصهيونية اليهودية الأدنى، فالدعم المالي الأميركي للكيان الإسرائيلي لا يتحقق إلاّ بإرادة الحكومة الأميركية وفي نطاق مصالحها، والمنظمات الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة لا تتخذ مواقف صهيونية إسرائيلية بل مواقف صهيونية أميركية مؤيّدة للكيان الإسرائيلي، حيث الموقف الإسرائيلي الصهيوني يفرض عليها الإقامة المستقرة في فلسطين المحتلة، لكنها لا تفعل ذلك بل تكتفي بتقديم الدعم المالي والسياسي! وعلى ذكر الدعم المالي (التبرعات تحديداً وليس الدعم الحكومي الأميركي) فإنّ التبرعات تحسم من الضريبة المترتبة على المتبرّعين للخزينة الأميركية، وبالتالي فإنّ أيّ تبرّع هو عبارة عن تبرّع تقدّمه هذه الخزينة، خاصة عندما يكون المتبرّع مليونيراً، والقوانين الأميركية تسمح بمثل هذه التبرعات، أي ليس ثمة أيّ عبء مالي إضافي على المليونير المتبرّع، وبهذه الطريقة المخاتلة تتجنب الحكومة الأميركية غضب دافع الضرائب الأميركي في حال قدّمت المساعدات المالية باسمها مباشرة، وتساعد أصدقاءها الحكّام العرب بأن تجنّبهم الحرج!لكنّ الأمر لا يقتصر على التبرّعات الأميركية المالية المخاتلة للكيان الإسرائيلي، ولا على المخصصات المالية الرسمية الضخمة التي تقدّم للإسرائيليين في نطاق برنامج المعونة الأميركي الخارجي، والذي بلغت حصة الإسرائيليين منه حتى اليوم حوالي التسعين مليار دولار، بل تحرص واشنطن على إظهار قاعدتها بمظهر الدولة الطبيعية، فتقدّم لها المصانع لتشغيل الأيدي العاملة، ولتشجيع استمرار القوى البشرية الاستيطانية وإشعارها أنها منتجة في حدّ ذاتها، ثمّ تتكفّل واشنطن نفسها بتصريف المنتوجات فاتحة أمامها أسواقها الخاصة! والأغرب من ذلك في لعبة الخداع هذه أنّ وزارة الحرب الأميركية، التي تزوّد معظم بلدان العالم بالسلاح، تتظاهر أنّها بحاجة للمنتوجات العسكرية الإسرائيلية، وتسمح باستيرادها إلى الولايات المتحدة، في الوقت الذي تساعد فيه الإسرائيليين على توسيع قاعدة صناعاتهم الحربية!

إنّ الإسرائيليين يدركون أنّ مصيرهم مرتبط بحاجة واشنطن إلى وجودهم في فلسطين وبدعمها المستمرّ لهذا الوجود، وأنّ مساعداتها لا تأتي بسبب ضغط اللوبي اليهودي، ولا لأنّهم "واحة ديمقراطية"، بل بسبب الحاجة إليهم كقاعدة تنهك العرب والأفريقيين والآسيويين، والأوروبيين أيضا، وإنً بنسب متفاوتة! وهكذا فكلما تراجعوا في أداء وظائفهم العدوانية ضعفت قيمتهم في نظر واشنطن، وبناء على ذلك ينبغي أن ننظر إلى ما يمكن أن يترتّب على اضطرار واشنطن إلى إرسال جيوشها إلى العراق حيث تتعثّر وتتخبط، فهذا مؤشّر على تقهقر دور القاعدة الإسرائيلية في بلادنا، أضف إلى ذلك الحدث العظيم الخطورة والدلالة في عجز الإسرائيليين عن إلحاق الهزيمة بحزب الله اللبناني، وعجزهم عن إلحاق الهزيمة بقطاع غزة!

اليوم، هاهي الأزمة المستعصية التي لا حلّ لها تضرب نخاع هذا النظام العالمي الفاسد المجرم، وتبلغ مستويات لم تبلغها من قبل أبداً، إنّها تعصف بواشنطن وحلفائها وأتباعها عصفاً لا قبل لهم به، فإذا كان هذا حال المركز الإمبراطوري للنظام العالمي فكيف سيكون حال قواعده وأطرافه وأتباعه؟ الجواب نجده في تصريحات أولمرت التي بدأنا بها، في دلالاتها الدولية وليس في إشاراتها الإقليمية، فهذا المرتزق غير المطمئن لسلامة السفينة الأميركية، ولقدرتها على مواجهة العاصفة، يهيّئ قومه لأسوأ الاحتمالات التي يمكن أن تعكسها الأزمة الدولية على الوضع في فلسطين المحتلة!

  [email protected]

       

  

Hosted by www.Geocities.ws

1